الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ١

الشيخ جعفر السبحاني

الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ١

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-047-9
الصفحات: ٥٨٤

٣

تقسيم البدعة إلى الحسنة والسيئة بدعة

قد سمعت من أنّ الخليفة سمّى عمله بدعة حسنة ، أو سمّى اجتماع الناس على إمامة أبيّ بن كعب ، بدعة حسنة ، فإذا كانت البدعة عبارة عن التدخل في أمر الشريعة ، فليس له إلاّ قسم واحد لا يثنّى ولا يكرر.

إنّ إقامة صلاة التراويح جماعة لا تخلو من صورتين :

الأولى : إذا كان لها أصل في الكتاب والسنّة ، فعندئذ يكون عمل الخليفة إحياء لسنّة متروكة ، سواء أراد إقامتها جماعة أو جمعهم على قارئ واحد ، فلا يصحّ قوله : « نعمت البدعة هذه » إذ ليس عمله تدخّلا في الشريعة.

الثانية : إذا لم يكن هناك أصل في المصدرين الرئيسين ، لا لإقامتها جماعة أو لجمعهم على قارئ واحد ، وإنّما كره الخليفة تفرّق الناس ، ولأجل ذلك أمرهم بإقامتها جماعة ، أو بقارئ واحد ، وعندئذ تكون هذه بدعة قبيحة محرّمة.

٤٢١

٤

بين السنة والبدعة

البدعة في الدين من كبائر المعاصي وعظائم المحرمات ، لأنّ المبتدع ينازع سلطان الله تبارك وتعالى في مجالي العقيدة والشريعة ويتدخّل في دينه فيزيد فيه وينقص منه افتراء على الله سبحانه.

فإذا دار أمر العبادة بين كونها سنّة أو بدعة فاللازم تركها ، لأنّ روح العبادة هو قصد التقرّب بإتيانها ولا يتمشّى قصد القربة بصلاة يحتمل كونها بدعة.

نحن نفترض أنّ ما سردناه من الأدلّة على عدم مشروعية التراويح جماعة ، لم يفد اليقين بأنّ صلاة التراويح بدعة لكنّها تورث الشك في مشروعيتها ، ومجرّد الشكّ فيها كاف في إلزام العقل بتركها ، إذ لا يجوز التعبّد بعمل مشكوك.

فاللازم على المسلم المحتاط إقامة نوافل شهر رمضان بين الأهل والعيال في البيوت فرادى عسى أن يقيض الله رجالا متحررين عن قيد التقليد ، يستنبطون الأحكام من الكتاب والسنّة من جديد ، وذلك ببناء نهضة علمية وثّابة تعالج الخلافات الفقهية من جذورها ، انّه خير مأمول وخير مجيب.

٤٢٢

١١

متعة الحجّ

٤٢٣
٤٢٤

المتعة وأقسامها

التمتّع بمعنى التلذّذ ، يقال : تمتّع واستمتع بكذا ومن كذا : انتفع وتلذّذ به زمانا طويلا ، والمتعة في مصطلح الفقهاء يستعمل في موارد ثلاثة :

١. متعة الحجّ الواردة في قوله سبحانه ( فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِ ). (١) وسيوافيك توضيحها.

٢. متعة الطلاق ، وهي ما تصل إلى المرأة بعد الطلاق من قميص وإزار وملحفة ، وإليه يشير قوله سبحانه ( لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ). (٢)

وهل هذه المتعة لخصوص من لم يسمّ لها صداق؟ أو لكلّ مطلقة سوى المختلعة والمبارأة والملاعنة؟ أو لكلّ مطلقة سوى المفروض لها إذا طلقت قبل الدخول فان لها نصف الصداق ولا متعة لها خلاف. (٣)

٣. متعة النساء ويسمّى بالزواج المؤقت ، وهي عبارة عن تزويج المرأة الحرّة الكاملة نفسها إذا لم يكن بينها وبين الزوج مانع ـ من نسب أو سبب أو رضاع أو

__________________

١. البقرة : ١٩٦.

٢. البقرة : ٢٣٦.

٣. مجمع البيان : ١ / ٣٤٠.

٤٢٥

إحصان أو عدّة أو غير ذلك من الموانع الشرعية ـ بمهر مسمّى إلى أجل مسمّى بالرضا والاتّفاق ، فإذا انتهى الأجل تبين منه من غير طلاق ، ويجب عليها مع الدخول بها ـ إذا لم تكن يائسة ـ أن تعتد عدّة الطلاق إذا كانت ممّن تحيض ، وإلاّ فبخمسة وأربعين يوما. والأصل فيه قوله سبحانه ( وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً ). (١)

والمتعة بالمعنى الأوّل والثاني مورد اتّفاق بين الفقهاء ، واختلفوا في المتعة بالمعنى الثالث ؛ فالشيعة الإمامية على حلّيّتها وعدم منسوخيتها ، وأكثر الجمهور على التحريم ، وسيوافيك التفصيل في المسألة الثانية عشر بإذن الله.

__________________

١. النساء : ٢٤.

٤٢٦

أقسام الحج الثلاثة

ينقسم الحجّ إلى أقسام ثلاثة : تمتع ، وقران ، وإفراد.

فلنبيّن هذه الأقسام على ضوء المذهب الإمامي ثمّ نردفه بتوضيحها وفقا لمذهب أهل السنّة.

أمّا التمتع في الفقه الإمامي فهو عبارة عن إحرام المكلّف من الميقات بالعمرة المتمتع بها إلى الحجّ ، ثمّ يدخل مكة فيطوف سبعة أشواط بالبيت ، ويصلّي ركعتي الطواف بالمقام ، ويسعى بين الصفا والمروة سبعة أشواط ، ثمّ يقصّر ، فإذا فعل ذلك فقد أحلّ من كلّ شيء أحرم منه ، فله التمتّع بأي شيء شاء من الأمور المحلّلة بالذات إلى أن ينشئ إحراما آخر للحجّ.

ثمّ ينشئ إحراما آخر للحج من مكة يوم التروية وإلاّ فيما يعلم معه إدراك الوقوف ، ثمّ يمضي إلى عرفات فيقف بها إلى الغروب ، ثمّ يفيض إلى المشعر الحرام فيقف به بعد طلوع الفجر ، ثمّ يفيض إلى منى ويرمي جمرة العقبة ، ثمّ يذبح هديه ، ثمّ يحلق رأسه ، ثمّ يأتي مكة ليومه أو من غده ، فيطوف للحج ويصلّي ركعتين ، ثمّ يسعى سعي الحجّ ، ثمّ يطوف طواف النساء ويصلّي ركعتيه ، ثمّ يعود إلى منى ليرمي ما تخلّف عليه من الجمار الثلاث ، يوم الحادي عشر ، والثاني عشر. (١)

وأمّا الإفراد فهو أن يحرم من الميقات أو من حيث يصحّ له الإحرام منه

__________________

١. تحرير الأحكام : ١ / ٥٥٧.

٤٢٧

بالحجّ ، ثمّ يمضي إلى عرفات فيقف بها ، ثمّ يقف بالمشعر الحرام ، ثمّ يأتي منى فيقضي مناسكه بها ، ثمّ يأتي إلى مكة يطوف بالبيت للحج ويصلّي ركعتين ويسعى للحجّ ويطوف طواف النساء ويصلي ركعتين ، فيخرج من الإحرام فيحل له كلّ المحرمات.

ثمّ يأتي بعمرة مفردة من أدنى الحلّ.

وأمّا القران فهو نفس حجّ الإفراد ـ عند الإمامية ـ إلاّ أنّه يضيف إلى إحرامه سياق الهدي ، وإنّما يسمّى بالقران لسوقه الهدي فيقرن حجّه بسوقه. فالقران والإفراد شيء لا يفترقان إلاّ في حال واحدة ، وهي انّ القارن يسوق الهدي عند إحرامه ، وأمّا من حجّ حجّة الإفراد فليس عليه هدي أصلا.

إنّ التمتع فرض من نأى عن المسجد الحرام وليس من حاضريه ، ولا يجزئه غيره مع الاختيار.

وأمّا القران والإفراد فهو فرض أهل مكة وحاضريها.

وحدّ حاضري المسجد الحرام الذين لا متعة عليهم من كان بين منزله ومكة دون ٤٨ ميلا من كلّ جانب ، ويعادل ٨٨ كيلومترا. (١)

والحاصل : انّ من نأى عن مكة أكثر من ٤٨ ميلا لا يجوز له إلاّ التمتع.

وأمّا القران والإفراد فهما فرض أهل مكة ومن كان بينه وبينها دون ٤٨ ميلا ولا يجوز لهما غير هذين النوعين.

ثمّ إنّ من وظيفته التمتع لا يجوز أن يعدل إلى غيره ، إلاّ لضيق وقت أو حيض ، فيجوز العدول حينئذ إلى الإفراد على أن يأتي بالعمرة بعد الحجّ. وحدّ الضيق هو انّه إذا اعتمر لا يتمكّن من الوقوف بعرفة عند الزوال.

__________________

١. ربما قيل ١٢ ميلا ، فيعادل ٢٢ كيلومترا.

٤٢٨

ولا يجوز لمن فرضه القران أو الإفراد كأهل مكة وضواحيها أن يعدل إلى التمتع إلاّ مع الاضطرار ، كخوف الحيض المتوقّع. هذه هي صور أقسام الحجّ الثلاثة ، ويتلخص الكلّ في الأمور التالية :

١. انّ حجّ التمتع للنائي عن مكة وحجّ الإفراد والقران لغير النائي.

٢. لا يجوز للمتمتع أن يعدل إلى غيره إلاّ عند الضرورة ، وهكذا للمفرد والقارن إلاّ عند الضرورة.

٣. انّ حجّ الإفراد والقران شيء واحد يفترقان في سوق الهدي وعدمه.

٤. لا يجوز التداخل بين إحرامين ، فلا يجوز لمن أحرم أن ينشئ إحراما آخر حتّى يكمل أفعال ما أحرم له.

٥. ويشترط في حجّ التمتع وقوعه في أشهر الحجّ ـ وهي : شوال ، وذو القعدة ، وذو الحجّة ـ وأن يأتي بالحجّ والعمرة في سنة واحدة ، ولو أحرم بالعمرة المتمتع بها في غير أشهر الحجّ لم يجز له التمتع بها. (١)

إلى هنا تمّ بيان صور الأقسام الثلاثة على مذهب الإمامية ، وإليك بيان أقسام الحجّ وفق مذهب أهل السنّة ، فنقول :

قالوا : من أراد الحجّ والعمرة جاز له في الإحرام بهما ثلاث كيفيات.

الأوّل : الإفراد ، وهو أن يحرم بالحجّ وحده ، فإذا فرغ من أعماله أحرم بالعمرة وطاف وسعى لها ويأتي بأعمال العمرة.

الثاني : القران ، وهو الجمع بين الحج والعمرة في إحرام واحد حقيقة أو حكما

__________________

١. راجع الشرائع : ١ / ١٧٤ ـ ١٧٧ ، تحرير الأحكام : ١ / ٥٥٧ ـ ٥٥٩ ، جواهر الكلام ، وغيرها من الكتب الفقهية للشيعة الإمامية.

٤٢٩

( وسيوافيك تفصيلهما ).

الثالث : التمتع ، وهو أن يعتمر أوّلا ثمّ يحجّ من عامه.

هذا إجمال الأقسام الثلاثة عند مذهب أهل السنّة ، وفي تفاصيلها اختلاف بينهم.

فالذي يهمنا أمران :

الأوّل : تفسير القرآن ، فالقران عند أهل السنّة هو الجمع بين الحجّ والعمرة في إحرام واحد ، وصفة القرآن عندهم أن يهل بالعمرة والحج معا من الميقات ويقول : اللهم إنّي أريد الحجّ والعمرة فيسّرهما لي وتقبّلهما مني ، فهي عندهم كحجّ التمتع إلاّ أنّه يهلّ بالعمرة والحجّ بنيّة واحدة ولا يتحلّل بين العمرة والحجّ.

وفي « المغني » لابن قدامة : إنّ الإحرام يقع بالنسك من وجوه ثلاثة :

١. تمتع ، وإفراد ، وقران.

فالتمتع أن يُهلّ بعمرة مفردة من الميقات في أشهر الحجّ ، فإذا فرغ منها أحرم بالحجّ من عامه.

والإفراد أن يهل بالحجّ مفردا.

والقران أن يجمع بينهما في الإحرام بهما أو يحرم بالعمرة ثمّ يدخل عليها الحجّ قبل الطواف ، فأي ذلك أحرم به جاز.

وأمّا الأفضل ، فاختارت الحنابلة انّ الأفضل هو التمتع ثمّ الإفراد ثمّ القران ، وممّن روي عنه اختيار التمتع : ابن عمر وابن عباس وابن الزبير وعائشة وحسن وعطاء وطاوس ومجاهد وجابر بن زيد والقاسم وسالم وعكرمة وهو أحد قولي الشافعي.

وروى المروزي عن أحمد : إن ساق الهدي فالقران أفضل ، وإن لم يسقه فالتمتع أفضل ، لأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قرن حين ساق الهدي ومنع كلّ من ساق الهدي من

٤٣٠

الحل حتّى ينحر هديه. (١)

هذا إجمال ما عليه المذاهب الأربعة ، ولعلّ الاختلاف بين المذهب الإمامي وسائر المذاهب في ماهية النسك الثلاثة ، قليل ، ولو كان هناك اختلاف فإنّما هو في موضعين :

١. في تفسير القرآن ، فحجّ القران عند الإمامية هو نفس حجّ الإفراد ، غير انّ المفرد لا يسوق الهدي والقارن يسوق.

٢. انّهم بتفسير القرآن بالجمع بين العمرة والحج ، جوّزوا ذلك بالصورتين التاليتين :

أ. أن يهلّ بالعمرة والحجّ معا من الميقات بنيّة الأمرين معا ، وهو الجمع الحقيقي.

ب : أن يهلّ بالعمرة فقط ثمّ بالحجّ قبل أن يطوف للعمرة أكثر الطواف.

قال ابن رشد : أمّا القران فهو أن يهلّ بالنسكين معا أو يهلّ بالعمرة في أشهر الحجّ ثمّ يردف ذلك بالحجّ قبل أن يحل من العمرة والقارن يلزمه الهدي إن كان آفاقيّا وإلاّ فلا.

وربّما يقال ويصحّ العكس عند أكثر الفقهاء بأن يحرم بالحجّ ثمّ يدخل العمرة عليه ، لكنّه مكروه عند الحنفية. (٢)

وأمّا الشيعة الإمامية فلا تجوّز القران بين الحجّ والعمرة بنيّة واحدة ، ولا إدخال أحدهما على الآخر.

إذا عرفت ذلك فتحقيق المقام رهن البحث في أمور :

__________________

١. المغني : ٣ / ٢٣٣.

٢. راجع : بداية المجتهد : ٣ / ٢٩٣ ـ ٣٠١ ، الهداية في شرح البداية : ١ / ١٥٠ ـ ١٥٤ ، المغني : ٣ / ٢٣٢ ، الفقه على المذاهب الأربعة : ١ / ٦٨٨ ـ ٦٩٥.

٤٣١

الأوّل :

في بيان الأحكام الواردة في الآية

يقول سبحانه ( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ ). (١)

الآية المباركة تتضمن أحكاما نشرحها حسب مقاطع الجمل.

١. إتمام الحج والعمرة لله

يقول سبحانه ( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ) فما هو المراد من الإتمام؟

إنّه سبحانه يأمر بإتمام الحجّ والعمرة ، والمراد من الإتمام في المقام وغيره هو إنجاز العمل كاملا لا ناقصا ، كما أنّ المراد من كون الإتمام لله ، كون العمل بعيدا عن الرياء والسمعة ، والذي يعرب عن كون المراد من الإتمام هو الإكمال ، أمران :

أ : أطلق الإتمام في القرآن الكريم وأريد به الإكمال ، كقوله سبحانه ( وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَ ) (٢) وقوله سبحانه : ( ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى

__________________

١. البقرة : ١٩٦.

٢. البقرة : ١٢٤.

٤٣٢

اللَّيْلِ ) (١) وقوله سبحانه ( وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ ) (٢) وقوله سبحانه ( وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ ). (٣)

ب : قوله سبحانه ( فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ ) أي منعكم حابس قاصر عن إتمام الحجّ فعليكم بما استيسر من الهدي ، فالجملة قرينة على أنّ المراد من الإتمام ، الإكمال.

وعلى ذلك جرى المفسرون في تفسير الجملة الآنفة الذكر ، قال الشيخ الطوسي : يجب أن يبلغ آخر أعمالها بعد الدخول فيها ، ثمّ عزاه إلى مجاهد والمبرد وأبي علي الجبائي. (٤)

وقال الرازي : إنّ الإتمام يراد به فعل الشيء كاملا وتامّا ، فالمراد الإتيان به بما جاء في ذيل الآية من حكم الحصر. (٥)

هذا هو المفهوم من الآية ، وأمّا تفسير الآية بأفراد كلّ واحد منهما بإنشاء سفر مستقل ، فممّا لا تدلّ عليه الآية.

نعم انّ العرب في عصر الجاهلية كانوا يفرّقون بين الحجّ والعمرة ، فكانوا يأتون بالعمرة في غير أشهر الحج وبالحجّ في أشهره ، وكانوا يفردون كلاّ عن الآخر ، وكانت سيرتهم على ذلك إلى أن أدخل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم العمرة في الحجّ حتّى أمر من لبّى بالحج في أشهر الحجّ وأحرم له ، أن يجعله عمرة ثمّ يتحلّل ويحرم للحج ثانيا ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « دخلت العمرة في الحجّ إلى الأبد » كما سيوافيك تفسيره.

__________________

١. البقرة : ١٨٧.

٢. التوبة : ٣٢.

٣. يوسف : ٦.

٤. التبيان : ١ / ١٥٤.

٥. تفسير الرازي : ٥ / ١٣٩.

٤٣٣

نعم روي ذلك مرفوعا عن أبي هريرة ، كما روي أنّ عمر كان يترك القران والتمتع ويذكر أنّ ذلك أتمّ للحجّ والعمرة وأن يعتمر في غير شهور الحجّ ، فان الله تعالى يقول ( الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ ) وروى نافع عن ابن عمر أنّه قال : « فرّقوا بين حجّكم وعمرتكم ». (١)

كما روي ذلك القول عن قتادة أنّه قال : « الاعتمار في غير أشهر الحج » (٢) ، ولعلّه أراد العمرة المفردة لا عمرة التمتّع التي لا تنفكّ عن الحجّ.

فظهر ممّا ذكرنا انّ المراد بإتمام الحجّ والعمرة لله هو إكمالهما على النحو المقدور ، فإن لم يمنع حابس يكمله بإتيان عامّة الأجزاء وإن حُصِر ، يخرج من الإحرام على النحو الذي سيوافيك ، وهو أيضا نوع من الإتمام.

وأمّا تفسير الإتمام بإنشاء السفر لكلّ من العمرة والحجّ ، فغير مفهوم من الآية ومخالف لسيرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث أمر أصحابه بإدخال العمرة في الحجّ وتبديل النيّة من الحجّ إلى العمرة ، وقد كان ذلك شاقّا على أصحابه ، لأنّهم كانوا قد أحرموا للحجّ على النحو الرائج في العصر السابق ، فمن حاول تفسير الآية بتفكيك العمرة عن الحجّ بإنشاء سفرين : أحدهما في أشهر الحجّ والآخر يعني : العمرة في غيره ، فقد فسّر الآية برأيه أوّلا ، وخالف سنّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثانيا.

٢. إذا أحصر بالعدو أو المرض

لمّا أمر سبحانه حجاج بيته بإتمام الحجّ والعمرة وإكمالهما ، حاول بيان وظيفة المحصر الذي يمنعه حابس عن إكمال الحجّ والعمرة ، فقال : ( فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا

__________________

١. تفسير الرازي : ٥ / ١٤٥.

٢. التبيان : ١ / ١٥٤.

٤٣٤

اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ).

أصل الحصر ، الحبس ، ومنه يقال للّذي لا يبوح بسرّه « حصر » لأنّه حبس نفسه عن البوح ، والمعروف انّ لفظ الحصر مخصوص بمنع العدو إذا منعه عن مراده وضيّق عليه ، وربما يستعمل في مطلق المانع ويقال : أحصر بالمرض وحصر بالعدو.

وعلى ذلك فالمحصر عليه التحلّل بالذبح ، ولا يتحلّل قبل الذبح كما قال سبحانه ( فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ) أي ما تيسّر منه ، وقيل الهدي جمع الهدية كالتمر جمع التمرة ، والمراد من الهدي ما يهدى إلى بيت الله عزّ وجلّ تقرّبا إليه ، أعلاه بدنة ، وأوسطه بقرة ، وأيسره شاة.

٣. لا يتحلّل قبل الذبح

إنّ المحصر يتحلّل بالذبح ، فلا يتحلّل من الإحرام حتّى ينحر أو يذبح. قال سبحانه ( وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ) وأمّا ما هو المراد من المحل؟ فهناك أقوال ثلاثة :

أ. الحرم فإذا ذبح به في يوم النحر أحل.

ب : الموضع الذي يصد فيه ، لأنّ النبي نحر هديه بالحديبية وأمر أصحابه ففعلوا مثل ذلك ، وليست الحديبية من الحرم.

ج : التفصيل بين المحصر بالعدو ، والمحصر بالمرض. فالأوّل يذبح في المحل الذي صدّ فيه ، وأمّا الثاني ينتظر إلى أن يذبح في يوم النحر.

٤٣٥

٤. حكم المريض ومن برأسه أذى

لمّا منع سبحانه حلق الرأس قبل بلوغ الهدي محلّه رخّص لفريقين وإن لم يذبحوا :

أحدهما : المريض الذي يحتاج إلى الحلق للمداواة.

والثاني : من كان برأسه أذى.

وقال ( فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ) فالمحرم المعذور يحلق رأسه قبل الذبح ، وفي الوقت نفسه يكفّر بأحد الأمور الثلاثة ، وكلّ واحد منها فدية ، أي بدل وجزاء من العمل الذي تركه لأجل العذر ، وهو أن يصوم أو يتصدّق أو يذبح شاة. وأمّا الصوم فيصوم ثلاثة أيّام ، وأمّا الصدقة فيتصدّق على ستة مساكين أو عشرة ، وأمّا النسك فيذبح شاة ، وهو مخيّر بين الأمور الثلاثة.

٥. التمتّع بالعمرة إلى الحجّ

يقول سبحانه ( فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ) ، كان كلامه سبحانه في المحصر ، والكلام في المقام في غير المحصر ومن حصل له الأمن وارتفع المانع كما يدلّ عليه قوله سبحانه ( فَإِذا أَمِنْتُمْ ) ، فعلى قسم من المكلّفين (١) إذا أتوا بالعمرة ثمّ أحرموا للحج فعليه ما تيسّر من الهدي في يوم النحر في أرض منى.

المراد من التمتع في ( فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِ ) هو التمتع

__________________

١. أي غير حاضري المسجد الحرام كما سيأتي في الآية.

٤٣٦

بمحظورات الإحرام بسبب أداء العمرة فيبقى متحلّلا متمتعا إلى أن يحرم للحج ، وعندئذ يجب عليه ما تيسّر من الهدي.

والآية تصرح بأنّ صنفا من المكلّفين ، وهم الذين فرض عليهم حجّ التمتع يحلّ لهم التمتع بعامة المحظورات إلى زمن إحرام الحجّ ، فاستنكار التمتع بين العمرة والحجّ ـ لأجل استلزامه تعرّس الحاج بين العمرة والحج ورواحة إلى المواقف ورأسه يقطر ماء ـ إطاحة بالوحي وتقديم للرأي على الوحي ، كما سيوافيك تفصيله.

وإنّما ذكر من أعمال الحجّ الكثيرة خصوص الهدي ، فقال ( فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ) مع أنّ من تمتّع بالعمرة إلى الحجّ فعليه الإحرام أوّلا ثمّ الوقوف في عرفة ، ثمّ الإفاضة إلى المشعر والمزدلفة ، ثمّ منها إلى منى ورمي الجمرات والذبح والحلق إلى غير ذلك.

أقول : إنّما خصّ ذلك بالذكر لاختصاص الهدي بحكم خاص ، وهو سبحانه بصدد بيان حكمه ، وهو انّه إذا عجز عن الهدي فله بدل ، بخلاف سائر الأعمال فإنّ ذاتها مطلوبة وليس لها بدل ، فقال سبحانه مبيّنا لبدل الهدي.

٦. الفاقد للهدي

بيّن سبحانه حكم من لم يجد الهدي ( فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ) أي انّه يصوم بدل الهدي ثلاثة أيّام في الحجّ وسبعة إذا رجع إلى موطنه على وجه يكون الجميع عشرة كاملة ، وأمّا أيّام الصوم فقد ذكرت في الكتب الفقهية ، وهي اليوم السابع والثامن والتاسع.

٤٣٧

٧. التمتع بالعمرة إلى الحجّ وظيفة الآفاقي

إنّه سبحانه أشار بأنّ التمتع بالعمرة إلى الحجّ فريضة من لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام ، وقال ( ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ) أي ما تقدّم ذكره حين التمتع بالعمرة إلى الحجّ ليس لأهل مكة ومن يجري مجراهم وإنّما هو لمن لم يكن من حاضري مكة ، وأمّا الحاضر فهو من يكون بينه وبينها دون ٤٨ ميلا ، من كلّ جانب على الاختلاف.

ثمّ إنّه سبحانه أتمّ الآية بالأمر بالتقوى ، أي العمل بما أمر والنهي عمّا نهى ، وذلك لأنّه سبحانه شديد العقاب ، فقال ( وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ ).

هذا هو تفسير الآية المباركة جئنا به ليكون قرينة واضحة على تفسير ما سنسرد من الروايات والأحاديث من احتدام النزاع بين النبي وأصحابه في كيفية الحجّ ودام حتّى بعد رحيله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

والمهم في المقام في إفادة المقصود هو الجملتان التاليتان :

١. ( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ).

٢. ( فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِ ).

فالأولى تدلّ على إكمالهما دون أفرادهما في الزمان ، كما أنّ الثانية تدلّ على لزوم التحلّل والتمتّع بين العملين.

* * *

٤٣٨

الثاني :

متعة الحجّ سنّة أبدية

تضافرت الروايات الصحاح على أنّ متعة الحجّ سنّة أبدية إلى يوم القيامة لا تتغيّر ولا تتبدّل ، بل تبقى بحالها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، ونذكر في ذلك ما رواه الشيخان ولا نتجاوز عنهما.

١. روى مسلم عن عمرة قالت : سمعت عائشة ( رضي الله عنها ) تقول : خرجنا مع رسول الله لخمس بقين من ذي القعدة ولا نرى إلاّ أنّه الحج حتّى إذا دنونا من مكة أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من لم يكن معه هدي إذا طاف بالبيت وبين الصفا والمروة أن يحل. (١)

٢. أخرج مسلم عن جابر رضي‌الله‌عنه انّه قال : أقبلنا مهلّين مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحجّ مفرد ، وأقبلت عائشة ( رضي الله عنها ) بعمرة ، حتّى إذا كنا بسرف عركت حتّى إذا قدمنا طفنا بالكعبة والصفا والمروة ، فأمرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يحل منّا من لم يكن معه هدي ، قال : فقلنا : حلّ ما ذا؟ قال : الحلّ كلّه ، فواقعنا النساء وتطيّبنا بالطيب ولبسنا ثيابنا وليس بيننا وبين عرفة إلاّ أربع ليال ، ثمّ أهللنا يوم التروية. (٢)

٣. أخرج مسلم عن جابر رضي‌الله‌عنه قال : خرجنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

١. صحيح مسلم : ٤ / ٣٢ ، باب وجوه الإحرام.

٢. صحيح مسلم : ٤ / ٣٥ ، باب وجوه الإحرام.

٤٣٩

مهلّين بالحج معنا النساء والولدان ، فلما قدمنا مكة طفنا بالبيت وبالصفا والمروة ، فقال لنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من لم يكن معه هدي فليحلل ، قال : قلنا : أيّ الحل؟ قال : الحلّ كلّه ، قال : فأتينا النساء ولبسنا الثياب ومسسنا الطيب ، فلمّا كان يوم التروية أهللنا بالحج. (١)

٤. أخرج مسلم عن عطاء ، قال : حدّثني جابر بن عبد الله الأنصاري أنّه حجّ مع رسول الله عام ساق الهدي معه ، وقد أهلّوا بالحجّ مفردا ، فقال رسول الله : « أحلّوا من إحرامكم فطوفوا بالبيت وبين الصفا والمروة وقصّروا وأقيموا حلالا ، حتّى إذا كان يوم التروية فأهلّوا بالحجّ ، واجعلوا التي قدمتم بها متعة » قالوا : كيف نجعلها متعة وقد سمّينا الحجّ؟ قال : « افعلوا ما آمركم به فانّي لو لا أنّي سقت الهدي لفعلت مثل الذي أمرتكم به ولكن لا يحلّ منّي حرام حتّى يبلغ الهدي محله ، فافعلوا ». (٢)

٥. أخرج مسلم عن جابر بن عبد الله قال : قدمنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مهلّين بالحجّ ، فأمرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن نجعلها عمرة ونحل ، قال : وكان معه الهدي فلم يستطع أن يجعلها عمرة. (٣)

٦. أخرج مسلم عن جابر بن عبد الله في حديث مفصّل انّه قال : لسنا ننوي إلاّ الحجّ ، لسنا نعرف العمرة ، حتّى إذا أتينا البيت معه استلم الركن ـ إلى أن يقول : ـ حتّى إذا كان آخر طوافه ( النبي ) على المروة ، فقال : « لو انّي استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي وجعلتها عمرة ، فمن كان منكم ليس معه هدي

__________________

١. صحيح مسلم : ٤ / ٣٦ ، باب وجوه الإحرام.

٢. صحيح مسلم : ٤ / ٣٧ ، باب وجوه الإحرام.

٣. صحيح مسلم : ٤ / ٣٨ ، باب وجوه الإحرام.

٤٤٠