الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ١

الشيخ جعفر السبحاني

الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ١

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-047-9
الصفحات: ٥٨٤

٣٢. أخرج الإمام أحمد بن حنبل بسنده عن عبد الله بن الزبير ، قال : لمّا قدم علينا معاوية حاجّا قدمنا معه مكة ، قال : فصلّى بنا الظهر ركعتين ، ثمّ انصرف إلى دار الندوة ، قال : نهض إليه مروان بن الحكم وعمر بن عثمان فقالا له : ما عاب أحد ابن عمك بأقبح ما عبتَه به ، فقال لهما : وما ذاك؟ قال : فقالا له : ألم تعلم أنّه أتمّ الصلاة بمكة؟ قال : فقال لهما : ويحكما وهل كان غير ما صنعت؟ قد صلّيتهما مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومع أبي بكر وعمر ، قالا : فان ابن عمك قد كان أتمّها وإن خلافك إيّاه له عيب.

قال : فخرج معاوية إلى العصر فصلاّها بنا أربعا. (١)

إلى هنا تمّ ما يدلّ من الأحاديث والآثار على أنّ القصر في السفر عزيمة وانّ الإتمام أحدوثة حدثت بعد رحيل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اجتهادا أو اتباعا للمصالح المقطعية ، ولا محيص لفقيه ، أمام مداومة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوّلا ، وهذه الروايات والآثار ثانيا من الخضوع لها والإخبات إليها.

نعم بقي علينا أن نستعرض أدلّة القول بأنّ القصر رخصة أو سنّة مؤكّدة لا عزيمة وهي أدلّة واهية للغاية لا يصحّ للفقيه أن يستند إليها إذا كان ملما باستنباط الحكم عن أدلّته.

أدلّة القائلين بأنّ القصر رخصة

استدلّ القائلون بعد الكتاب العزيز بأمور نذكرها تباعا.

أمّا الكتاب ، فقد مضى الكلام فيه حيث قلنا بأنّ الآية لا تدلّ على أحد القولين : الرخصة أو العزيمة ، بل هي بصدد بيان رفع توهّم الحظر حيث كان قصر

__________________

١. مسند أحمد : ٤ / ٩٤.

٣٤١

الصلاة مظنّة توهم انّه إيجاد نقص في الصلاة فبيّن سبحانه ( بأنّه لا جناح عليكم أن تقصروا من الصلاة ) وأين هذا من الدلالة على أنّ القصر رخصة؟!

إنّما المهم الروايات والآثار المروية.

١. أخرج مسلم عن يعلى بن أميّة ، قال : قلت لعمر بن الخطاب ( فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ) فقال : عجبت ممّا عجبت منه ، فسألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ قال : « صدقة منّ الله بها عليكم فاقبلوا صدقته ». (١)

وجه الدلالة : انّ المتصدّق عليه لا يجب عليه قبول الصدقة.

وأجاب الشوكاني عن الاستدلال المذكور بقوله : إنّ الأمر بقبولها يدلّ على أنّه لا محيص عنها وهو المطلوب. (٢)

وكان للشوكاني أن يرد على الاستدلال بوجه آخر أيضا ويقول : إنّ قياس صدقة الله وهديته ، على صدقات الناس وهداياهم قياس مع الفارق ، وذلك لأنّ المهدى إليه أو المتصدّق عليه لا يجب عليه قبول الهدية أو الصدقة إذا كان المتصدّق إنسانا مثله ، وأمّا إذا كان المتصدّق هو الله سبحانه فيجب قبولها ، وذلك لأنّ صدقة الله أمر امتناني ، وامتناناته سبحانه ليست أمورا اعتباطية ، بل هي ناشئة من الحكمة البالغة الإلهية ، فحيث يعلم الله بأنّ المصالح الذاتية للبشر تقتضي ذلك الامتنان يمنّ بها على العباد ، فيصير القبول أمرا مفروضا عليهم.

وربما يظهر من أحاديث أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام انّه يحرم رد صدقة الله ، حيث قال الصادق عليه‌السلام : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّ الله عزّ وجلّ تصدّق على مرضى أمّتي

__________________

١. شرح صحيح مسلم للنووي : ٥ / ٢٠٣ برقم ٤.

٢. نيل الأوطار : ٣ / ٢٠١.

٣٤٢

ومسافريها بالتقصير والإفطار ، أيسرّ أحدكم إذا تصدق بصدقة أن ترد عليه؟! ». (١)

وكأنّ في رد الصدقة نوع إهانة للمتصدّق ، وفي المقام ازدراء بالتشريع الإلهي.

٢. أخرج الدارقطني والبيهقي واللفظ للأوّل عن عبد الرحمن بن أسود ، عن عائشة قالت : خرجت مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عمرة في رمضان فأفطر وصمت ، وقصّر وأتممت ، فقلت : يا رسول الله بأبي وأمي ، أفطرت وصمت ، وقصّرت وأتممت؟ فقال : أحسنت يا عائشة. (٢)

قال الشوكاني : أخرجه أيضا النسائي والبيهقي بزيادة : « أنّ عائشة اعتمرت مع رسول الله من المدينة إلى مكة حتّى إذا قدمت مكة قالت : بأبي أنت وأمّي يا رسول الله أتممت وقصّرت » ، والاحتجاج بالرواية رهن صحّة السند أوّلا وإمكان الأخذ بالمضمون ثانيا.

أمّا السند ففيه العلاء بن زهير عن عبد الرحمن بن أسود بن يزيد النخعي ، عن عائشة. قال ابن حبان : كان يروي عن الثقات ما لا يشبه حديث الإثبات ، فبطل الاحتجاج به فيما لم يوافق الإثبات.

قال الدارقطني : وهذا اسناد حسن ، وعبد الرحمن قد أدرك عائشة ودخل عليها وهو مراهق وهو مع أبيه وقد سمع منها. (٣)

وقال أبو حاتم : دخل عليها وهو صغير ولم يسمع منها ، ومع هذا الاختلاف كيف يمكن الأخذ بقول راو لم يثبت سماعه من عائشة؟! وعلى فرض السماع فقد سمع وهو صغير أو مراهق.

ولأجل ذلك احتمل الدارقطني في « العلل » انّه مرسل كما نقله عنه

__________________

١. وسائل الشيعة : ١ / ١٧٥.

٢. سنن الدارقطني : ٢ / ١٨٨ ، السنن الكبرى : ٣ / ١٤٢.

٣. سنن الدارقطني : ٢ / ١٨٨ ، رقم ٤٠.

٣٤٣

الشوكاني في « نيل الأوطار ». (١)

والذي يزيد في الطين بلّة ، انّ الدارقطني تارة نقله عن عبد الرحمن عن أبيه عن عائشة ، وأخرى عن عبد الرحمن عن عائشة. (٢)

ونقل البيهقي عن أبي بكر النيسابوري انّه من قال عن أبيه في هذا الحديث فقد أخطأ. (٣)

هذا كلّه حول السند.

وأمّا المضمون فيلاحظ عليه أوّلا : أنّه جاء في حديث عائشة أنّها قالت : خرجت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عمرة رمضان إلخ ، وهذا ما يخالف التأريخ القطعي في سيرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقد جاء في السيرة الحلبية : « لا خلاف انّ عمرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم تزد على أربع ، أي كلّهن في ذي القعدة مخالفا للمشركين ، فإنّهم كانوا يكرهون العمرة في أشهر الحج ويقولون هي من أفجر الفجور. وأوّل تلك الأربعة عمرة الحديبية التي كانت في ذي القعدة التي صدّه فيها المشركون عن البيت.

وثانيها : عمرته من العام المقبل وهي عمرة القضاء وكانت في ذي القعدة.

وثالثها : عمرته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين قسم غنائم حنين وكانت من الجعرّانة وكانت في ذي القعدة.

ورابعها : عمرته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع حجة الوداع فإنّه أحرم لخمس بقين من ذي القعدة ، وقد قالت عائشة : اعتمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثلاثا سوى التي قرنها بحجة الوداع. (٤)

وعلى هذا فكيف يمكن الأخذ بمضمون الحديث مع أنّه لم يكن للنبي مع

__________________

١. نيل الأوطار : ٣ / ٢٠٢.

٢. سنن الدارقطني : ٢ / ١٨٨ برقم ٣٩ و ٤٠.

٣. السنن الكبرى : ٣ / ١٤٢.

٤. السيرة الحلبية : ٣ / ٣٤٠ ـ ٣٤١.

٣٤٤

زوجته أيّة عمرة في شهر رمضان؟!

قال في « البدر المنير » : إنّ في متن هذا الحديث نكارة ، وهو كون عائشة خرجت معه في عمرة رمضان ، والمشهور انّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يعتمر إلاّ أربع عمر ليس منهنّ شيء في رمضان بل كلّهن في ذي القعدة إلاّ التي مع حَجّته ، فكان إحرامها في ذي القعدة وفعلها في ذي الحجة ، وهذا هو المعروف في الصحيحين وغيرهما. (١)

وثانيا : أنّه كيف أتمّت عائشة وصامت مع أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه قصّروا وأفطروا ولم يكن عملها عمل يوم واحد ، بل كانت على ما يروى عبر الأيام من المدينة المنورة إلى مكة المشرفة ، وكانت القوافل تقطع المسافة بين البلدين في حوالي عشرة أيام ، فهل يعقل أن تخالف أمّ المؤمنين النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والصحابة وهي بمرأى ومسمع من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وغيره؟!

ولذلك قال ابن تيمية : هذا حديث كذب على عائشة ، ولم تكن عائشة تصلّي بخلاف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسائر الصحابة ، وهي تشاهدهم يقصرون ثمّ تتم هي وحدها بلا موجب.

كيف وهي القائلة : فرضت الصلاة ركعتين فزيدت في صلاة الحضر وأقرّت صلاة السفر؟! فكيف يظن بها انّها تزيد على فرض الله وتخالف رسول الله وأصحابه؟!! (٢)

٣. أخرج الدارقطني عن محمد بن منصور بن أبي الجهم ، حدّثنا نصر بن علي ، حدّثنا عبد الله بن داود ، عن المغيرة بن زياد الموصلي ، عن عطاء ، عن عائشة : انّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يتم الصلاة في السفر ويقصر.

__________________

١. نيل الأوطار : ٣ / ٢٠٢ ، نقلا عن البدر المنير.

٢. زاد المعاد : ١ / ١٦١ ونقله أيضا الشوكاني في نيل الأوطار : ٣ / ٢٠٣.

٣٤٥

ثمّ قال : المغيرة بن زياد الموصلي ليس بالقوي. (١)

٤. أخرج أبو داود الطيالسي ، قال : حدثنا يونس ، قال : حدّثنا أبو داود ، قال : حدّثنا طلحة قال : سمعت عطاء يحدث عن عائشة ، قالت : كلّ ذلك قد فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في السفر صام وأفطر. (٢) بناء على وحدة حكم الصلاة والصوم في السفر وإلاّ فالرواية أجنبيّة عن المقام.

ونقله الدارقطني بهذا الاسناد مع اختلاف طفيف في المتن ، ثمّ قال في آخره : طلحة ضعيف. (٣)

يلاحظ على الروايتين : أنّ السند لا يحتج به ، لما عرفت من أنّ المغيرة ليس بالقوي وطلحة ضعيف ، وعلى فرض صحّة الاحتجاج فلا يقاومان ما تضافر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قولا وفعلا على القصر ، كما لا يقاوم ما تضافر عن الصحابة من أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقصر طيلة عمره في السفر وقد مرت الروايات الدالّة عليه.

وأمّا الدلالة فلأنّ عائشة تروي فعل النبي وانّه كان يتم ولكن من المحتمل انّ إتمامه كان في صورة عدم اجتماع شرائط القصر في سفره ، وقد قرر في محلّه انّ العمل لا يحتج به حتّى يعلم وجهه ، والعمل في تينك الروايتين مجمل جدّا ، لاحتمال أن يكون الإتمام لأجل الرخصة في السفر أو لعدم وجود شرائط القصر.

ثمّ إنّ لابن حزم في « المحلى » كلاما جامعا حول هذه الروايات ، حيث قال :

أمّا الذي من طريق عبد الرحمن بن الأسود ، فانفرد به العلاء بن زهير الأزدي لم يروه غيره ، وهو مجهول.

وأمّا حديث عطاء ، فانفرد به المغيرة بن زياد لم يروه غيره ، وقال فيه أحمد بن

__________________

١. سنن الدارقطني : ٢ / ١٨٩.

٢. مسند الطيالسي : ٦ / ٢٠٩ ، ط دار المعرفة ، بيروت.

٣. سنن الدارقطني : ٢ / ١٨٩.

٣٤٦

حنبل : هو ضعيف كلّ حديث أسنده فهو منكر.

٥. ما رواه النووي في شرحه على صحيح مسلم وحيث قال : إنّ الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ كانوا يسافرون مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فمنهم القاصر ومنهم المتمم ومنهم الصائم ومنهم المفطر لا يعيب بعضهم على بعض. (١)

نقل ابن قدامة عن أنس ، قال : كنّا أصحاب رسول الله نسافر فيتمّ بعضنا ويقصر بعضنا ويصوم بعضنا ويفطر بعضنا فلا يعيب أحد على أحد ، ثمّ قال :

ولأنّ ذلك إجماع الصحابة رحمهم‌الله بدليل انّ فيهم من كان يتم الصلاة ولم ينكر الباقون عليه بدليل حديث أنس. (٢)

وقال الشوكاني : الحجة الثالثة على جواز الإتمام ما في صحيح مسلم وغيره ، انّ الصحابة كانوا يسافرون مع رسول الله فمنهم القاصر ومنهم المتم ، ومنهم الصائم ومنهم المفطر لا يعيب بعضهم على بعض. (٣)

يلاحظ عليه : بأنّه قد أخرج مسلم في باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر سبع روايات عن أبي سعيد الخدري وجابر بن عبد الله الأنصاري وأنس بن مالك ليس فيها أيّ أثر من القصر والإتمام ، بل الروايات تدور على الصوم والإفطار ، فلم يظهر لي مصدر ما نسب إلى أنس : « فيتم بعضنا ويقصر بعضنا ». (٤)

__________________

١. شرح صحيح مسلم للنووي : ٥ / ٢٠١ ، كتاب صلاة المسافرين وقصرها.

٢. المغني : ٢ / ١٠٩.

٣. نيل الأوطار : ٣ / ٢٠١ ـ ٢٠٢ ، وذكره النووي في شرح صحيح مسلم.

٤. لاحظ شرح صحيح مسلم للنووي : ٧ / ٢٣٧ باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر الحديث ٩٣ ، ٩٤ ، ٩٥ ، ٩٦ ، ٩٧ ، ٩٨ ، ٩٩ ولاحظ صحيح مسلم : ٣ / ١٤٣ ، باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر من كتاب الصوم.

٣٤٧

ونذكر نموذجا من هذه الروايات.

سئل أنس ( رض ) عن صوم رمضان في السفر ، فقال : سافرنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في رمضان فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم.

قال الشوكاني : ولم نجد في صحيح مسلم قوله : « فمنهم القاصر ومنهم المتم » وليس فيه إلاّ أحاديث الصوم والإفطار. (١)

ولنفرض صحّة ما عزي إلى صحيح مسلم لكن من أين ثبت انّ النبي اطّلع على فعلهم فأقرّهم عليه حتى يكون التقرير حجة علينا؟ وليس عمل الصحابي بمجرّده حجة ما لم يعلم كونه مستندا إلى قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعمله.

قال الشوكاني : إنّ إجماع الصحابة في عصره ليس بحجّة والخلاف بينهم في ذلك مشهور بعد موته. (٢)

إلى هنا تمّ ما يمكن أن يكون دليلا لجواز الإتمام في السفر ، وقد عرفت أنّ الجميع سراب لا ماء فلا يمكن أن يحتج بها أمام الروايات والآثار الهائلة ، التي رويت بطرق مختلفة تنتهي إلى الصحابة.

يقول ابن حزم : ورويناه أيضا من طريق حذيفة وجابر وزيد بن ثابت وأبي هريرة وابن عمر كلّهم عن رسول الله بأسانيد في غاية الصحة. (٣)

بقي هنا شيء آخر وهو التمسّك بعمل الصحابي والصحابية ، وإليك دراسته.

__________________

١ و ٢. نيل الأوطار : ٣ / ٢٠٢.

٣. المحلّى : ٤ / ٢٧١.

٣٤٨

الاحتجاج بفعل عثمان وعائشة

وربما يحتجّ على جواز الإتمام بفعل عثمان الذي أتمّ في مكة وفي منى مع أنّه كان مسافرا ومهاجرا عن مكة ومتوطّنا في المدينة.

يلاحظ على هذا الاحتجاج : أنّ فعل الصحابي ليس حجّة ما لم يستند إلى حديث صحيح عن رسول الله ، فإنّ الحجة هي فعل المعصوم لا فعل غيره.

أضف إلى ذلك انّه قامت الضجة ضد عثمان واستنكره كثير من الصحابة حتى استرجع عبد الله بن مسعود.

والذي يدلّ على أنّ عثمان أتمّ من عند نفسه من دون دليل صالح ، ما أخرجه مسلم عن الزهري عن عروة عن عائشة.

قال الزهري : فقلت لعروة : ما بال عائشة تتم في السفر؟ قال : إنّها تأوّلت كما تأوّل عثمان. (١)

ونقله ابن حزم في « المحلى » ، قال : قال الزهري ، فقلت لعروة : فما كان عمل عائشة ان تتم في السفر وقد علمت أنّ الله تعالى فرضها ركعتين ركعتين؟ قال : تأوّلت من ذلك ما تأوّل عثمان من إتمام الصلاة بمنى. (٢)

فلو كان لعثمان دليل على جواز الإتمام لاحتجّ به ولم يلجأ إلى التأويل ، وهذا دليل على أنّ القصر في السفر متعيّن ولكنّه أتمّ بمسوّغ خاص هو أعلم به.

وقد قام غير واحد ممّن يحاول تبرير فعل الخليفة وأمّ المؤمنين بنحت أعذار لهما!!

__________________

١. شرح صحيح مسلم : ٥ / ٢٠٢ ، كتاب صلاة المسافرين.

٢. المحلّى : ٤ / ٢٧٠.

٣٤٩

قال النووي : اختلف العلماء في تأويلهما :

١. فالصحيح الذي عليه المحقّقون أنّهما رأيا القصر جائزا والإتمام جائزا ، فأخذا بأحد الجائزين وهو الإتمام.

يلاحظ عليه : أنّه ليس بتأويل ، فلو كان هناك دليل على جواز الإتمام لكان عليه أن يحتجّ به من دون تأويل ، ولذلك أوّلوا فعل الخليفة وأمّ المؤمنين بوجوه أخرى ، أعني :

٢. انّ عثمان إمام المؤمنين وعائشة أمّهم فكأنّهما في منازلهما.

يلاحظ عليه : عزب عن المؤوّل انّ النبي أولى منهما بذلك ، فلما ذا تداوم على القصر؟!

٣. انّ عثمان تأهّل بمكة.

يلاحظ عليه : بمثل ما لوحظ على الوجه السابق ، فإنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سافر بأزواجه منهنّ مكية وقد قصّر.

٤. فعل ذلك من أجل الأعراب الذين حضروا معه لئلاّ يظنوا ان فرض الصلاة ركعتان أبدا حضرا وسفرا.

يلاحظ عليه : بما لوحظ على السابق بأنّ هذا المعنى كان موجودا في زمن النبي ، بل اشتهر أمر الصلاة في زمن عثمان أكثر ممّا قيل.

إلى غير ذلك من الوجوه التافهة التي لا يركن إليها الفقيه والتي نقلها الإمام النووي في شرحه وأبطل الكلّ إلاّ الوجه الأوّل ، وقد عرفت أنّه أيضا غير مبرر. (١)

__________________

١. شرح صحيح مسلم : ٥ / ٢٠٢ ، باب صلاة المسافرين وقصرها.

٣٥٠

وبذلك يعلم أنّ فعل الصحابية عائشة لا يكون دليلا مع أنّها الرواية بأنّه سبحانه فرض الصلاة ركعتين ركعتين في الحضر والسفر فأقرّت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر. (١)

إنّ لابن جرير الطبري كلاما حول فعل عائشة حيث روى في تفسير قوله تعالى ( وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ ) بسنده عن عمر بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق ، قال : سمعت أبي يقول : سمعت عائشة تقول : في السفر أتموا صلاتكم ، فقالوا : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصلّي في السفر ركعتين ، فقالت : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان في حرب وكان يخاف ، هل تخافون أنتم؟! (٢)

وعلّق عليه الشوكاني بقوله : قيل في تأويل عائشة أنّها إنّما أتمّت في سفرها إلى البصرة لقتال علي عليه‌السلام والقصر عندها إنّما يكون في سفر طاعة ـ إلى أن قال : ـ وأمّا تأوّل عائشة فأحسن ما قيل فيه ما أخرجه البيهقي بإسناد صحيح من طريق هشام بن عروة عن أبيه أنّها كانت تصلّي في السفر أربعا ، فقلت لها : لو صليت ركعتين ، فقالت : يا بن أختي إنّه لا يشق علي ، وهو دالّ على أنّها تؤوّل أنّ القصر رخصة وانّ الإتمام لمن لا يشق عليه أفضل. (٣)

__________________

١. شرح صحيح مسلم : ٥ / ٢٠٢.

٢. تفسير الطبري : ٤ / ١٥٥.

٣. نيل الأوطار : ٣ / ٢١٢.

٣٥١
٣٥٢

٩

إفطار المسافر

في شهر رمضان

٣٥٣
٣٥٤

الإفطار في السفر

اتّفقت كلمة الفقهاء على مشروعية الإفطار جوازا أو وجوبا في السفر تبعا للذكر الحكيم والسنّة المتواترة إلاّ انّهم اختلفوا في كونه عزيمة أو رخصة ، نظير الخلاف في كون القصر فيه جائزا أو واجبا.

ذهبت الإمامية تبعا لأئمّة أهل البيت عليهم‌السلام والظاهرية إلى كون الإفطار عزيمة ، واختاره من الصحابة : عبد الرحمن بن عوف وعمر وابنه عبد الله وأبو هريرة وعائشة وابن عباس ، ومن التابعين : علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم‌السلام وابنه محمد الباقر عليه‌السلام وسعيد بن المسيب وعطاء وعروة بن الزبير وشعبة والزهري والقاسم بن محمد بن أبي بكر ويونس بن عبيد وأصحابه (١).

وذهب جمهور أهل السنّة وفيهم فقهاء المذاهب الأربعة إلى كون الإفطار رخصة وإن اختلفوا في أفضلية الإفطار والصوم.

قال الجصّاص : الصوم في السفر أفضل من الإفطار ، وقال مالك والثوري : الصوم في السفر أحبّ إلينا لمن قوي عليه ، وقال الشافعي : إن صام في السفر أجزأه. (٢)

__________________

١. المحلّى : ٦ / ٢٥٨.

٢. أحكام القرآن : ١ / ٢١٥.

٣٥٥

وقال السرخسي : إنّ أداء الصوم في السفر يجوز في قول جمهور الفقهاء ، وهذا قول أكثر الصحابة ، وعلى قول أصحاب الظواهر لا يجوز ـ إلى أن قال : ـ إنّ الصوم في السفر أفضل من الإفطار عندنا.

وقال الشافعي : الفطر أفضل ، لأنّ ظاهر ما روينا من آثار يدلّ على أنّ الصوم في السفر لا يجوز ، فإن ترك هذا الظاهر في حقّ الجواز (١) بقي معتبرا في أنّ الفطر أفضل ، وقاس بالصلاة فإنّ الاقتصار على الركعتين في السفر أفضل من الإتمام فكذلك الصوم لأنّ السفر يؤثر فيهما ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّ الله وضع عن المسافر شطر الصلاة والصوم ». (٢)

وقال ابن قدامة : حكم المسافر حكم المريض في إباحة الفطر وكراهية الصوم وإجزائه إذا فعله ، وإباحة الفطر ثابتة بالنص والإجماع ، وأكثر أهل العلم على أنّه إن صام أجزأه ـ إلى أن قال : ـ والفطر في السفر أفضل. (٣)

وقال القرطبي : واختلف العلماء في الأفضل من الفطر أو الصوم في السفر ، فقال مالك والشافعي في بعض ما روي عنهما : الصوم أفضل لمن قوي عليه. وجعل مذهب مالك التخيير وكذلك مذهب الشافعي ، قال الشافعي ومن تبعه : هو مخيّر ولم يفضّل وكذلك ابن عليّة. (٤)

وهذه النقول وغيرها صريحة في اتّفاق الجمهور على جواز الإفطار في السفر لا على وجوبه مع اعتراف الشافعي بأنّ ظواهر الأدلّة هو المنع عن الصوم حيث

__________________

١. كذا في النسخة ولعلّ الصحيح : في حدّ الجواز.

٢. المبسوط للسرخسي : ٣ / ٩١ ـ ٩٢.

٣. الشرح الكبير في ذيل المغني : ٣ / ١٧ ـ ١٩.

٤. الجامع لأحكام القرآن : ٢ / ٢٨٠.

٣٥٦

قال : « لأنّ ظاهر ما روينا من الآثار يدلّ على أنّ الصوم في السفر لا يجوز ». (١) وإن كان ما نقله القرطبي وغيره عنه يخالفه.

وعلى كلّ تقدير ، فالمهم هو بيان ما يستفاد من الأدلّة من كون الإفطار عزيمة أو رخصة. وسيتضح إليك انّ الإفطار عزيمة يدلّ عليها الكتاب والسنّة.

__________________

١. المبسوط : ٣ / ٩١.

٣٥٧

١

الكتاب وصوم رمضان في السفر

قال سبحانه ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ). (١)

( أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ). (٢)

( شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ). (٣)

إنّ هذه الآيات المباركة تتضمّن أحكام الطوائف الأربع بعد التأكيد على أنّ الصوم ممّا كتب على المؤمنين كما كتب على الذين من قبلهم والكتابة آية الفرض

__________________

١. البقرة : ١٨٣.

٢. البقرة : ١٨٤.

٣. البقرة : ١٨٥.

٣٥٨

والوجوب غالبا ، وليس للمكلّف تركه ، فالله سبحانه يخاطب قاطبة المؤمنين بقوله : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ). فالصيام مكتوب على الإنسان بأشكال مختلفة من غير فرق بين المصحّ والمريض والمسافر والمطيق ، لكن يختلف امتثاله حسب اختلاف أحوال المكلّف ، لأنّه ينقسم حسب العوارض إلى الأصناف الأربعة ، ولكلّ صنف حكمه.

الفقيه كلّ الفقيه ما يكون بصدد فهم القرآن والسنّة سواء أوافق مذهب إمامه الذي يقلّده أم خالف ، غير انّ كثيرا من المفسرين في تفسير هذه الآيات حاولوا أن يطبقوها على مذهب إمامهم من دون أن يمعنوا النظر في مفردات الآية وجملها حتّى يخرجوا بنتيجة واحدة من دون اختلاف وقد عرفت أقوالهم.

فنقول : الآيات المتقدّمة تبيّن أحكام الأصناف الأربعة التي عرفت عناوينها ، وإليك بيان ما يستفاد من الآيات في حقّ هؤلاء.

١. الصحيح المعافى

إنّ قوله سبحانه ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) صريح في لزوم الصوم لمن شهد الشهر ، من غير فرق بين تفسير شهود الشهر بالحضور في البلد وعدم السفر ، أو برؤية الهلال ، فليس للشاهد إلاّ تكليف واحد وهو صوم الشهر كلّه إذا اجتمعت فيه الشرائط.

٢. المريض

٣. المسافر

وقد بيّن سبحانه حكم المريض والمسافر بقوله في موردين

٣٥٩

ـ ( فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ). (١)

ـ ( وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ). (٢)

والمقصود فهم ما تتضمّنه الجملة في الموردين من الحكم في حقّ المريض والمسافر ، فهل هو ظاهر في كون الإفطار عزيمة أو رخصة؟

والإمعان في الآية يثبت انّ الإفطار عزيمة ، وذلك بوجوه أربعة :

الأوّل : وجوب الصيام في العدّة ، آية لزوم الإفطار

إنّ معنى قوله سبحانه ( فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) أي « فعليه صيام عدّة أيام أخر » أو « يلزمه صيام تلك الأيام » ، وهذا هو الظاهر من أكثر المفسرين حيث يذكرون بعد قوله سبحانه ( فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) قولهم : عليه صوم أيّام أخر. وعلى ذلك فالمتبادر من الآية هو انّه يلزمه صيام تلك الأيّام ، أو على ذمّته صيامها ، هذا من جانب.

ومن جانب آخر : انّه إذا وجب صيام تلك الأيام مطلقا ، يكون الإفطار في شهر رمضان واجبا ، وإلاّ فلو جاز صومه ، لما وجب صيام تلك الأيام ( أَيَّامٍ أُخَرَ ) على وجه الإطلاق فإيجاب صيامها كذلك ، آية وجوب الإفطار في شهر رمضان.

الثاني : التقابل بين الجملتين يدلّ على حرمة الصوم

إذا كانت في الكلام جملتان متقابلتان فإبهام إحداهما يرتفع بظهور الأخرى ، وهذا ممّا لا سترة عليه ، وعلى ضوء هذا نرفع إبهام قوله ( أَوْ عَلى سَفَرٍ ) بالجملة الأخرى التي تقابله فنقول :

قال سبحانه في من شهد الشهر :

__________________

١. البقرة : ١٨٤.

٢. البقرة : ١٨٥.

٣٦٠