الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ١

الشيخ جعفر السبحاني

الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ١

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-047-9
الصفحات: ٥٨٤

والإخبار بدخول وقتها ، بل هو من الألفاظ التي شرعت لإيقاظ النائم ، فهو كألفاظ التسبيح الأخير الذي اعتاده الناس في هذه الأعصار المتأخرة عوضا عن الأذان الأوّل. ثم قال : وإذا عرفت هذا ، هان عليك ما اعتاده الفقهاء من الجدال في التثويب هل هو من ألفاظ الأذان أو لا ، وهل هو بدعة أو لا؟ (١)

٧. نقل ابن قدامة عن إسحاق أنّه بعد ما نقل رواية أبي محذورة قال : هذا شيء أحدثه الناس ، وقال أبو عيسى : هذا التثويب الذي كرهه أهل العلم وهو الذي خرج منه ابن عمر من المسجد لما سمعه. (٢)

٨. ما استفاض من أئمّة أهل البيت من كونها بدعة : روى الشيخ الطوسي بسند صحيح عن معاوية بن وهب قال : سألت أبا عبد الله عن التثويب الذي يكون بين الأذان والإقامة؟ فقال : « ما نعرفه ». (٣)

٩. والذي تبيّن لي من دراسة ما ورد حول الأذان : أنّ عائلتين استغلّتا ما روي عن جدّهم عبد الله بن زيد وأبي محذورة فعَمِدتا بنشر ما نُسِبَ إلى جدهما لما فيه من فضيلة للعائلة ، ولو لا ذلك لم يكن لهذين الأمرين ( تشريع الأذان بالرؤيا والتثويب في أذان صلاة الفجر ) انتشار بهذا النحو الواسع ، ولأجل ذلك ربّما يرتاب الإنسان فيما نقل عن جدهما ، وقد عرفت وجود رواة في أسانيد الروايات يُنسَبون إلى هاتين العائلتين.

١٠. انّ الفصل الأوّل والفصل الثاني يشهد على أنّه سبحانه هو الإله في صفحة الوجود وأنّ ما سواه سراب ما أنزل الله به من سلطان.

وثالث الفصول ، يشهد على أنّ محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رسوله ، الذي بعثه لإبلاغ

__________________

١. سبل السّلام في شرح بلوغ المرام : ١ / ١٢٠.

٢. المغني : ١ / ٤٢٠.

٣. الوسائل : ٤ / ٦٥٠ الباب ٢٢ من أبواب الأذان والإقامة ، الحديث ١ ، ولاحظ أحاديث الباب.

١٦١

رسالاته وإنجاز دعوته.

ففي نهاية ذلك الفصل يتبدّل نداوة وإعلانه من الشهادة ، إلى الدعوة إلى الصلاة التي فرضها والتي بها يتّصل الإنسان بعالم الغيب ، وفيها يمتزج خشوعه ، بعظمة الخالق ، ثمّ الدعوة إلى الفلاح والنجاح ، وخير العمل التي تنطوي عليها الصلاة.

وفي نهاية الدعوة إلى الفلاح وخير العمل ، يعود ويذكر الحقيقة الأبدية التي صرّح بها في أوّليات فصوله ويقول : الله أكبر ، الله أكبر ، لا إله إلاّ الله ، لا إله إلاّ الله.

هذه هي حقيقة الأذان وصورته والجميع سبيكة واحدة أفرغتها يد التشريع السماوي في قالب جمل ، تحكي عن حقائق أبدية ، تصدّ الإنسان عن الانكباب في شواغل الدنيا وملاذّها.

هذا ما يحسّه كل إنسان واع منصت للأذان ، ومتدبّر في فصوله ومعانيه ، ولكن هنا حقيقة مرّة لا يمكن لي ولا لغيري إخفاؤها ـ بشرط التجرّد عن كل رأي مسبق ، أو تعصّب لمذهب ـ وهو أنّ المؤذّن إذا انحدر من الدعوة إلى الصلاة ، والفلاح وخير العمل ـ في أذان صلاة الفجر ـ إلى الإعلان بأنّ الصلاة خير من النوم ، فكأنّما ينحدر من قمة البلاغة إلى كلام عار عن الرفعة والبداعة ، يُعلِن شيئا يعرفه الصبيان ومن دونهم ، يصيح ـ بجد وحماس ـ على شيء لا يجهله إلاّ من يجهل البديهيات ، لأنّ إعلانه بأنّها خير من النوم ، أشبه بمن يُعلن في محتشد كبير بأنّ الاثنين نصف الأربعة.

هذا هو الذي أحسسته عند ما تشرفت بزيارة بيت الله الحرام عام ١٣٧٥ ه‍ وأنا أستمع للأذان في الحرمين الشريفين ، ولم تزل تجول في ذهني ومخيّلتي أنّ هذا الفصل ليس من كلام الوحي وانّما أُقحم لسبب من الأسباب ، بين فصول الأذان ، فهذا ما دعاني إلى البحث والتنقيب في هذا الموضوع.

١٦٢

خاتمة المطاف

بدعة تلو بدعة

إنّ تاريخ الأذان والإقامة حافل بالبدع ، وقد تصرفت فيه يد المبدعين لغايات استحسانية لا يعرّج إليها في التشريع ، وإليك بعض ما أحدث فيه بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

١. الأذان الثاني يوم الجمعة

جرت السيرة في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والشيخين على إقامة الأذان حينما يصعد الإمام على المنبر لإلقاء الخطابة ، ولما كثر الناس في عهد الخليفة الثالث أمر بأذان ثان وهو الأذان عند دخول الوقت على المأذنة ، وهذا هو المعروف بالأذان الثاني للخليفة. وقد روي عن الشافعي من أنّه استحب أن يكون للجمعة أذان واحد عند المنبر. (١)

إذا كان الأذان من الأمور التوقيفية فليس ليد التشريع البشري التصرف فيه بزيادة أو نقيصة وكان في وسع الخليفة أن يقوم بعلاج الموقف من وجه آخر ، وهو إعلام الناس بالوسائل التي لا تمت إلى التشريع الإسلامي بصلة مكان أن يأمر المؤذن بأذان آخر لم يكن من ذي قبل.

__________________

١. المجموع : ٣ / ١٣٢.

١٦٣

والعجب انّ الفقهاء أنفسهم اختلفوا فيما يتعلّق بأذاني الجمعة من أحكام وأيّهما المعتبر في تحريم البيع الوارد في قوله سبحانه ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ). (١)

٢. وقد استحدث علماء الكوفة من الحنفية بعد عهد الصحابة تثويبا آخر ، وهو زيادة الحيعلتين ـ أي عبارة « حي على الصلاة ، حي على الفلاح » ـ مرّتين بين الأذان والإقامة في الفجر ، واستحسنه متقدّمو الحنفية في الفجر فقط ، وكره عندهم في غيره ، والمتأخّرون منهم استحسنوه في الصلوات كلّها ـ إلاّ في المغرب لضيق الوقت ـ وذلك لظهور التواني في الأمور الدينية ، وقالوا : إنّ التثويب بين الأذان والإقامة في الصلوات يكون بحسب ما يتعارفه أهل كلّ بلد بالتنحنح ، أو الصلاة الصلاة ، أو غير ذلك.

٣. استحدث أبو يوسف جواز التثويب لتنبيه كل من يشتغل بأمور المسلمين ومصالحهم كالإمام والقاضي ونحوهما ، فيقول المؤذن بعد الأذان :

السلام عليك أيّها الأمير ، حي على الصلاة ، حي على الفلاح ، الصلاة يرحمك الله. وشارك أبا يوسف في هذا الشافعية وبعض المالكية ، وكذلك الحنابلة إن لم يكن الإمام ونحوه قد سمع الأذان ، واستبعده محمد بن الحسن ، لأنّ الناس سواسية في أمر الجماعة وشاركه في ذلك بعض المالكية. (٢)

__________________

١. الجمعة : ٩.

٢. الموسوعة الفقهية : ٢ / ٣٦١ ، مادة أذان.

١٦٤

٥

حذف الحيعلة من الأذان

قد تقدّم منّا أنّ البدعة في الأذان بإدخال التثويب ليس فريدا في بابه ، بل له نظير آخر ، وهو : حذف « حيّ على خير العمل » من فصول الأذان والإقامة ، وذلك لغاية أن لا يكون الإعلان به في الأذان سببا في تثبيط العامة عن الجهاد ، لأنّ الناس إذا عرفوا أنّ الصلاة خير العمل ، لاقتصروا عليها وأعرضوا عن الجهاد.

وهذا بعين الله إطاحة بالتشريع وتصرّف فيه ، بتفلسف تافه. فان المشرّع كان واقفا على هذا المحذور ، ومع ذلك أدخله في الأذان.

قال القوشجي ـ وهو من متكلّمي الأشاعرة ـ ناقلا عن الخليفة الثاني أنّه قال على المنبر :

ثلاث كنّ على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنا أنهى عنهنّ وأحرّمهنّ وأعاقب عليهنّ : وهي متعة النساء ، ومتعة الحج ، وحيّ على خير العمل. (١)

وقد أطبقت الشيعة على كونه جزءا من الأذان ، وعلى ذلك جروا ، من العهد النبوي إلى يومنا هذا ، وصار ذلك شعارا لهم. وإنّ كثيرا من المؤرّخين يكنّون عن

__________________

١. علاء الدين القوشجي ( المتوفّى عام ٨٧٩ ه‍ بالقسطنطينية ) : شرح التجريد : ٤٨٤. اقرأ ترجمته في كتابنا « بحوث في الملل والنحل ج ٢ ـ ط. بيروت.

١٦٥

الشيعة بمن يحيعلون أي الذين يقولون : « حيّ على خير العمل ».

قال أبو الفرج الأصفهاني ( ٢٨٤ ـ ٣٥٦ ه‍ ) في « مقاتل الطالبيين » في مقتل الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن أمير المؤمنين عليه‌السلام : أنّه استولى على المدينة ، وصعد عبد الله بن الحسن الأفطس المنارة التي عند رأس النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند موضع الجنائز ، فقال للمؤذّن : أذّن بـ « حي على خير العمل ». (١).

وقال الحلبي : ونقل عن ابن عمر وعن الإمام زين العابدين عليّ بن الحسين عليه‌السلام أنّهما كانا يقولان في أذانيهما بعد « حيّ على الفلاح » : « حيّ على خير العمل ». (٢)

( أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ ). (٣)

__________________

١. مقاتل الطالبيين : ٢٩٧.

٢. السيرة الحلبية : ٢ / ٣٠٥.

٣. الأنعام : ٩٠.

١٦٦

٤

القبض

بين البدعة والسنة

١٦٧
١٦٨

حكم القبض

في الصلاة

إنّ قبض اليد اليسرى باليمنى ممّا اشتهر ندبه بين فقهاء أهل السنّة.

فقالت الحنفية : إنّ التكتف مسنون وليس بواجب ، والأفضل للرجل أن يضع باطن كفّه اليمنى على ظاهر كفّه اليسرى تحت سرّته ، وللمرأة أن تضع يديها على صدرها.

وقالت الشافعية : يسنّ للرجل والمرأة ، والأفضل وضع باطن يمناه على ظهر يسراه تحت الصدر وفوق السرّة ممّا يلي الجانب الأيسر.

وقالت الحنابلة : إنّه سنّة ، والأفضل أن يضع باطن يمناه على ظاهر يسراه ، ويجعلها تحت السرة.

وشذّت عنهم المالكية فقالوا : يُندَب إسدال اليدين في الصلاة الفرض ، وقالت جماعة أيضا قبلهم ، منهم : عبد الله بن الزبير ، وسعيد بن المسيب ، وسعيد بن جبير ، وعطاء ، وابن جريج ، والنخعي ، والحسن البصري ، وابن سيرين ، وجماعة من الفقهاء. وهو مذهب الليث بن سعد إلاّ انّه قال : إلاّ أن يطيل القيام فيعيى أي يتعب فله القبض.

١٦٩

والمنقول عن الإمام الأوزاعي التخيير بين القبض والسدل. (١)

وذهب محمد عابد مفتي المالكية بالديار الحجازية إلى أنّ السدل والقبض سنّتان من رسول الله وانّ المؤمن إذا طال عليه القيام وهو مسدل ، قبض وقال بأنّ السدل أصل والقبض فرع. (٢)

وأمّا الشيعة الإمامية ، فالمشهور أنّه حرام ومبطل ، وشذّ منهم من قال بأنّه مكروه ، كالحلبي في الكافي. (٣)

ومع أنّ غير المالكية من المذاهب الأربعة قد تصعّدوا وتصوبوا في المسألة ، لكن ليس لهم دليل مقنع على جوازه في الصلاة ، فضلا عن كونه مندوبا ، بل يمكن أن يقال : إنّ الدليل على خلافهم ، والروايات البيانية عن الفريقين التي تبيّن صلاة الرسول خالية عن القبض ، ولا يمكن للنبي الأكرم أن يترك المندوب طيلة حياته أو أكثرها ، وإليك نموذجين من هذه الروايات : أحدهما عن طريق أهل السنّة ، والآخر عن طريق الشيعة الإمامية ، وكلاهما يبيّنان كيفية صلاة النبي وليست فيهما أيّة إشارة إلى القبض فضلا عن كيفيته.

القبض بدعة محدثة

إنّ القبض بدعة محدثة ظهرت بعد رحيل الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعمادنا في هذا السبيل حديثان صحيحان :

أحدهما مروي عن طرق أهل السنّة ، والآخر من طرق الإمامية ، والحديثان

__________________

١. الفقه على المذاهب الخمسة : ١١٠.

٢. لاحظ رسالة مختصرة في السدل للدكتور عبد الحميد بن مبارك : ٥.

٣. جواهر الكلام : ١١ / ١٥ ـ ١٦.

١٧٠

دليلان قاطعان على أنّ سيرة النبي وأهل بيته عليهم‌السلام جرت على السدل في الصلاة ، وانّ القبض ابتدع بعد رحيله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ألف : حديث أبي حميد الساعدي

روى حديث أبي حميد الساعدي غير واحد من المحدّثين ، ونحن نذكره بنص البيهقي ، قال : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ : فقال أبو حميد الساعدي : أنا أعلمكم بصلاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قالوا : لِمَ ، ما كنت أكثرنا له تبعا ، ولا أقدمنا له صحبة؟! قال : بلى ، قالوا : فأعرض علينا ، فقال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا قام إلى الصلاة رفع يديه حتى يحاذي بهما مَنْكبيه ، ثم يكبّر حتّى يقرّ كل عضو منه في موضعه معتدلا ، ثم يقرأ ، ثم يكبّر ويرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه ، ثم يركع ويضع راحتيه على ركبتيه ، ثم يعتدل ولا ينصب رأسه ولا يقنع ، ثم يرفع رأسه ، فيقول : سمع الله لمن حمده ، ثم يرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه حتى يعود كل عظم منه إلى موضعه معتدلا ، ثم يقول : الله أكبر ، ثم يهوي إلى الأرض فيجافي يديه عن جنبيه ، ثم يرفع رأسه فيثني رجله اليسرى فيقعد عليها ويفتح أصابع رجليه إذا سجد ، ثم يعود ، ثم يرفع فيقول : الله أكبر ، ثم يثني برجله فيقعد عليها معتدلا حتى يرجع أو يقرّ كل عظم موضعه معتدلا ، ثم يصنع في الركعة الأخرى مثل ذلك ، ثم إذا قام من الركعتين كبّر ورفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه كما فعل أو كبّر عند افتتاح صلاته ، ثم يصنع مثل ذلك في بقية صلاته ، حتى إذا كان في السجدة التي فيها التسليم أخّر رجله اليسرى وقعد متورّكا على شقّه الأيسر ، فقالوا جميعا : صدق هكذا كان يصلّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. (١)

__________________

١. سنن البيهقي : ٢ / ٧٢ ، ٧٣ ، ١٠١ ، ١٠٢ ؛ سنن أبي داود : ١ / ١٩٤ ، باب افتتاح الصلاة ، الحديث ٧٣٠ ـ ٧٣٦ ؛ سنن الترمذي : ٢ / ٩٨ ، باب صفة الصلاة ؛ مسند أحمد : ٥ / ٤٢٤ ؛ وابن خزيمة في صحيحه ، باب الاعتدال في الركوع ، برقم ٥٨٧.

١٧١

والذي يوضح صحّة الاجتماع به الأمور التالية :

١. تصديق أكابر الصحابة (١) لأبي حميد يدلّ على قوة الحديث ، وترجيحه على غيره من الأدلّة.

٢. أنّه وصف الفرائض والسنن والمندوبات ولم يذكر القبض ، ولم ينكروا عليه ، أو يذكروا خلافه ، وكانوا حريصين على ذلك ، لأنّهم لم يسلّموا له أوّل الأمر أنّه أعلمهم بصلاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل قالوا جميعا : صدقت هكذا كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصلّي ، ومن البعيد جدا نسيانهم وهم عشرة ، وفي مجال المذاكرة.

٣. الأصل في وضع اليدين هو الإرسال ، لأنّه الطبيعي فدلّ الحديث عليه.

٤. هذا الحديث لا يقال عنه إنّه مطلق وأحاديث تقيّده ، لأنّه وصَفَ وعدّد جميع الفرائض والسنن والمندوبات وكامل هيئة الصلاة ، وهو في معرض التعليم والبيان ، والحذف فيه خيانة ، وهذا بعيد عنه وعنهم.

٥. بعض من حضر من الصحابة ، ممّن روي عنه أحاديث القبض ، فلم يعترض ، فدلّ على أنّ القبض منسوخ ، أو على أقل أحواله بأنّه جائز للاعتماد لمن طوّل في صلاته ، وليس من سنن الصلاة ، ولا من مندوباتها ، كما هو مذهب الليث بن سعد ، والأوزاعي ، ومالك. (٢)

قال ابن رشد : والسبب في اختلافهم انّه قد جاءت آثار ثابتة ، نقلت فيها صفة صلاته ـ عليه الصلاة والسلام ـ ولم ينقل انّه كان يضع يده اليمنى على اليسرى. (٣)

__________________

١. منهم : أبو هريرة ، وسهل الساعدي ، وأبو أسيد الساعدي ، وأبو قتادة الحارث بن ربعي ، ومحمد بن مسلمة.

٢. رسالة مختصرة في السدل : ١١.

٣. بداية المجتهد : ١ / ٩٩.

١٧٢

بقي هنا سؤال وهو انّه قد اشتهر أنّ المالكية لا تقول بالقبض وانّ إمامهم مالكا كرهه ، وقال في المدونة : كره مالك وضع اليد اليمنى على اليسرى في الفريضة وقال : لا أعرفه في الفريضة ، مع أنّه روى في « الموطأ » حديث القبض حيث روى عن سهل بن سعد ، كما روى مرسل عبد الكريم ابن أبي المخارق البصري أنّه قال : من كلام النبوة : إذا لم تستح فافعل ما شئت ، ووضع اليدين إحداهما على الأخرى في الصلاة يضع اليمنى على اليسرى ، وتعجيل الفطر ، والاستيفاء بالسحور. (١)

قلت : إنّ كتاب الموطأ ، كتاب رواية ، والإمام ربما ينقل ولا يفتي على وفقه ، فلذلك ترى في « المدونة » فتاوى تخالف ما رواه في « الموطأ » ومن كان ملمّا بفقهه ، يرى أنّ بين ما دوّن من فتاواه وما رواه في « الموطأ » ، اختلافا في موارد كثيرة.

قد أشار الدكتور عبد الحميد في رسالة السدل إلى مواردها. (٢)

وعلى كلّ تقدير فقوله : « لا أعرفه في الفريضة » دليل صريح في أنّ عمل أهل المدينة على خلافه ، إذ قوله : « لا أعرفه » ، معناه لا أعرفه من عمل الأئمة الذين هم التابعون الذين تلقّوا العلم عن الصحابة.

هذا هو الحديث الذي قام ببيان كيفية صلاة النبي وقد روي عن طريق أهل السنّة ، وقد عرفت وجه الدلالة ، وإليك ما رواه الشيعة الإمامية.

ب : حديث حمّاد بن عيسى

روى حمّاد بن عيسى ، عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال : « ما أقبح بالرجل أن يأتي عليه ستون سنة أو سبعون سنة فما يقيم صلاة واحدة بحدودها تامة » قال

__________________

١. الموطأ : ١ / ١٥٨ ، باب وضع اليدين إحداهما على الأُخرى في الصلاة ، الحديث ٤٦ ، ٤٧.

٢. رسالة مختصرة في السدل : ٦ ـ ٧.

١٧٣

حمّاد : فأصابني في نفسي الذل ، فقلت : جعلت فداك فعلّمني الصلاة ، فقام أبو عبد الله مستقبل القبلة منتصبا فأرسل يديه جميعا على فخذيه قد ضمّ أصابعه وقرّب بين قدميه حتى كان بينهما ثلاثة أصابع مفرجات ، واستقبل بأصابع رجليه ( جميعا ) لم يحرفهما عن القبلة بخشوع واستكانة ، فقال : الله أكبر ، ثم قرأ الحمد بترتيل ، وقل هو الله أحد ، ثم صبر هنيئة بقدر ما تنفس وهو قائم ، ثم قال : الله أكبر ، وهو قائم ثم ركع وملأ كفيه من ركبتيه مفرّجات ، وردّ ركبتيه إلى خلفه حتى استوى ظهره ، حتى لو صبت عليه قطرة ماء أو دهن لم تزل لاستواء ظهره وتردّد ركبتيه إلى خلفه ، ونصب عنقه ، وغمض عينيه ثم سبح ثلاثا بترتيل وقال : سبحان ربي العظيم وبحمده ، ثم استوى قائماً ، فلما استمكن من القيام قال : سمع الله لمن حمده ، ثم كبّر وهو قائم ، ورفع يديه حيال وجهه ، وسجد ، ووضع يديه إلى الأرض قبل ركبتيه وقال : سبحان ربي الأعلى وبحمده ، ثلاث مرات ، ولم يضع شيئا من بدنه على شيء منه ، وسجد على ثمانية أعظم : الجبهة ، والكفّين ، وعيني الركبتين ، وأنامل إبهامي الرجلين ، والأنف ، فهذه السبعة فرض ، ووضع الأنف على الأرض سنّة ، وهو الإرغام ، ثم رفع رأسه من السجود فلمّا استوى جالسا قال : الله أكبر ، ثم قعد على جانبه الأيسر ، ووضع ظاهر قدمه اليمنى على باطن قدمه اليسرى ، وقال : أستغفر الله ربي وأتوب إليه ، ثم كبّر وهو جالس وسجد الثانية ، وقال كما قال في الأولى ولم يستعن بشيء من بدنه على شيء منه في ركوع ولا سجود ، وكان مجنّحا ، ولم يضع ذراعيه على الأرض ، فصلّى ركعتين على هذا.

ثم قال : « يا حمّاد هكذا صل ، ولا تلتفت ، ولا تعبث بيديك وأصابعك ، ولا تبزق عن يمينك ولا ( عن ) يسارك ولا بين يديك ». (١)

__________________

١. الوسائل : ٤ ، الباب ١ من أبواب أفعال الصلاة ، الحديث ١. ولاحظ الباب ١٧ ، الحديث ١ و ٢.

١٧٤

ترى أنّ الروايتين بصدد بيان كيفية الصلاة المفروضة على الناس وليست فيهما أيّة إشارة إلى القبض بأقسامه المختلفة فلو كان سنّة لما تركه الإمام في بيانه ، وهو بعمله يجسّد لنا صلاة الرسول ، لأنّه أخذه عن أبيه الإمام الباقر ، وهو عن آبائه ، عن أمير المؤمنين ، عن الرسول الأعظم ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ فيكون القبض بدعة ، لأنّه إدخال شيء في الشريعة وهو ليس منه.

دليل القائلين بلزوم القبض

ثم إنّ للقائل بالقبض أدلّة نأخذ بدراستها :

إنّ مجموع ما يصحّ الاستدلال به على أنّ القبض سنّة في الصلاة لا يعدو عن روايات ثلاث (١) ١. حديث سهل بن سعد. رواه البخاري.

٢. حديث وائل بن حجر. رواه مسلم ونقله البيهقي بأسانيد ثلاثة.

٣. حديث عبد الله بن مسعود. رواه البيهقي في سننه وغيره.

وإليك دراسة كل حديث :

١. حديث سهل بن سعد

روى البخاري عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد ، قال : « كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل اليد اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة » قال أبو حازم : لا

__________________

١. وللقبض أدلة أخرى غير صحيحة كما هو المفهوم من كلام الإمام النووي في شرحه على صحيح مسلم : ٤ / ٣٥٨ ، وسيوافيك الكلام فيها.

١٧٥

أعلمه إلاّ ينمي ذلك إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. (١)

قال إسماعيل (٢) : ينمي ذلك ولم يقل ينمي.

والرواية متكفّلة لبيان كيفية القبض إلاّ أنّ الكلام في دلالته بعد تسليم سنده. ولا يدل عليه بوجهين :

أوّلا : لو كان النبي الأكرم هو الآمر بالقبض فما معنى قوله : « كان الناس يؤمرون »؟ أو ما كان الصحيح عندئذ أن يقول : كان النبي يأمر؟ أو ليس هذا دليلا على أنّ الحكم نجم بعد ارتحال النبي الأكرم حيث إنّ الخلفاء وأمراءهم كانوا يأمرون الناس بالقبض بتخيّل أنّه أقرب للخشوع؟ ولأجله عقد البخاري بعده بابا باسم باب الخشوع. قال ابن حجر : الحكمة في هذه الهيئة أنّه صفة السائل الذليل ، وهو أمنع عن العبث وأقرب إلى الخشوع ، كان البخاري قد لاحظ ذلك وعقّبه بباب الخشوع.

وبعبارة أخرى : انّ الأمر بالقبض دليل على أنّ الناس كانوا يصلّون على وجه السدل في عصر النبي وشيئا بعد عصره ، ثمّ حدثت الفكرة فأمروا الناس به.

وثانيا : أنّ في ذيل السند ما يؤيد أنّه كان من عمل الآمرين ، لا الرسول الأكرم نفسه حيث قال :

قال إسماعيل : « لا أعلمه إلاّ ينمي ذلك إلى النبي » بناء على قراءة الفعل

__________________

١. فتح الباري في شرح صحيح البخاري : ٢ / ٢٢٤ ، باب وضع اليمنى على اليسرى ، صحيح مسلم : ٢ / ١٣ ، باب وضع يده اليمنى على اليسرى ، ورواه البيهقي في السنن الكبرى : ٢ / ٢٨ ، الحديث ٣ ، باب وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة.

٢. المراد : إسماعيل بن أبي أويس شيخ البخاري كما جزم به الحميدي. لاحظ فتح الباري : ٥ / ٣٢٥.

١٧٦

بصيغة المجهول.

ومعناه أنّه لا يعلم كونه أمرا مسنونا في الصلاة غير أنّه يعزى وينسب إلى النبي ، فيكون ما يرويه سهل به سعد مرفوعا.

قال ابن حجر : ومن اصطلاح أهل الحديث إذا قال الراوي : ينميه ، فمراده : يرفع ذلك إلى النبي. (١)

هذا كلّه إذا قرأناه بصيغة المجهول ، وأمّا إذا قرأناه بصيغة المعلوم ، فمعناه أنّ سهلا ينسب ذلك إلى النبي ، فعلى فرض صحّة القراءة وخروجه بذلك من الإرسال والرفع ، يكون قوله : « لا أعلمه إلاّ. » معربا عن ضعف العزو والنسبة ، وأنّه سمعه عن رجل آخر ولم يسمّ.

قال ابن حجر في « فتح الباري » : هذا حديث تكلّم في رفعه ، فقال الداني : هذا معلول لأنّه ظن من أبي حازم ، وقيل بأنّه لو كان مرفوعا لما احتاج إلى قوله : « لا أعلمه ». (٢)

٢. حديث وائل بن حجر

وروي بصور :

الصورة الأولى للحديث :

روى مسلم ، عن وائل بن حجر : أنّه رأى النبي رفع يديه حين دخل في الصلاة كبّر ، ثم التحف بثوبه ، ثم وضع يده اليمنى على اليسرى ، فلمّا أراد أن

__________________

١. المصدر نفسه : هامش رقم ١.

٢. فتح الباري : ٤ / ١٢٦.

١٧٧

يركع أخرج يديه من الثوب ، ثم رفعهما ، ثم كبّر فركع. (١)

والاحتجاج بالحديث احتجاج بالفعل ، ولا يحتج به إلاّ أن يعلم وجهه ، وهو بعد غير معلوم ، لأنّ ظاهر الحديث أنّ النبي جمع أطراف ثوبه فغطّى صدره به ، ووضع يده اليمنى على اليسرى ، وهل فعل ذلك لأجل كونه أمرا مسنونا في الصلاة ، أو فعله لئلاّ يسترخي الثوب بل يلصق الثوب بالبدن ويتّقي به ـ نفسه ـ عن البرد؟ والفعل أمر مجهول العنوان ، فلا يكون حجّة إلاّ إذا علم أنّه فعله بما انّه فعل مسنون في الصلاة.

وهناك احتمال آخر وهو انّ عمل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان للتحرز عن سدل الثوب في الصلاة.

اخرج الترمذي عن أبي هريرة قال : نهى رسول الله عن السدل في الصلاة. قال في اللسان : السدل هو إسبال الرجل ثوبه من غير أن يضم جانبيه بين يديه فإن ضمه فليس بسدل ، وقد رويت الكراهة فيه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. (٢)

إنّ النبيّ الأكرم صلّى مع المهاجرين والأنصار أزيد من عشر سنوات ، فلو كان ذلك ثابتا من النبي لكثر النقل وذاع ، ولما انحصر نقله بوائل بن حجر ، مع ما في نقله من الاحتمالين.

__________________

١. صحيح مسلم : ١ / ١٣ ، الباب ٥ من كتاب الصلاة ، باب وضع يده اليمنى على اليسرى ، وفي سند الحديث « همام » ولو كان المقصود ، هو همام بن يحيى فقد قال ابن عمار فيه : كان يحيى القطّان لا يعبأ بـ « همام » وقال عمر بن شيبة : حدثنا عفان قال : كان يحيى بن سعيد يعترض على همام في كثير من حديثه. وقال أبو حاتم : ثقة في حفظه. لاحظ هدى الساري : ١ / ٤٤٩.

وفيه أيضا : محمد بن جحادة ، وقد أشار النووي في شرحه على صحيح مسلم وقال فيه محمد بن جحادة وسكت.

٢. سنن الترمذي : ٢ / ٢١٧ ، الحديث ٣٧٨.

١٧٨

الصورة الثانية للحديث :

أخرج النسائي والبيهقي في سننهما بسندين مختلفين عن وائل بن حجر ، قال : رأيت رسول الله إذا كان قائماً في الصلاة قبض بيمينه على شماله. (١)

وفي لفظ البيهقي : إذا قام إلى الصلاة قبض على شماله بيمينه ، ورأيت علقمة يفعله. (٢)

والاستدلال بالحديث رهن صحّة السند وتمامية الدلالة.

أمّا السند فالشيخان وإن نقلاه بسندين مختلفين لكنّهما يشتركان في وجود عبد الله في كلا السندين ، وفي سنن النسائي : « أنبأنا عبد الله » ، وفي سنن البيهقي : « أنبأنا عبد الله بن جعفر » ، والمراد هو عبد الله بن جعفر بن نجيح السعدي ، وكفى في ضعفه ما نقله عبد الله ابن الإمام أحمد عن أبيه : كان وكيع إذا أتى على حديثه جزّ عليه ، وقال في موضع آخر ينقل عن أبيه عن مشايخه انّه قال : ما كنت أكتب من حديثه شيئا بعد أن تبيّن أمره.

وقال الدوري عن ابن معين : ليس بشيء.

وقال أبو حاتم : سأل يزيد بن هارون عنه ، فقال : لا تسألوا عن أشياء.

وقال عمرو بن علي : ضعيف.

وقال أبو حاتم : منكر الحديث جدا ، يحدث عن الثقات بالمناكير.

إلى أن قال :

وقال النسائي : متروك الحديث.

__________________

١. سنن النسائي : ٢ / ٩٧ ، باب وضع اليمين على الشمال في الصلاة.

٢. سنن البيهقي : ١ / ٢٨ ، باب وضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة.

١٧٩

وقال مرة : ليس بثقة. (١)

وأمّا الدلالة : فلانّه من المحتمل انّ الحديث هو صورة أخرى من الحديث الأوّل ، والفرق هو انّ الحديث الأوّل اشتمل على زيادة دونه ، حيث جاء في الصورة الأولى التحف بثوبه ثمّ وضع يده اليمنى على اليسرى وقد مرّ انّ ظاهر الحديث انّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جمع أطراف ثوبه فغطى به صدره ووضع يده اليمنى على اليسرى لئلا يسترخي الثوب بل يلصق الثوب بالبدن ويقي به نفسه عن البرد أو يتحرّز عن إسبال الثوب ، وبما انّ الفعل مجهول العنوان لا يحتج به ما لم يعرف وجهه.

على أنّ في نفس الحديث شهادة على أنّ القبض لم يكن رائجا في الصدر الأوّل ، وذلك لأنّه جاء في الحديث : « رأيت علقمة يفعله » فلو كان القبض أمرا رائجا بين الصحابة والتابعين لما كان وجه لنسبة هذا الفعل الرائج إلى علقمة راوي الحديث عن وائل ، وهذا يدلّ على أنّه كان أمرا غير رائج ولذلك نقله علقمة.

الصورة الثالثة للحديث :

أخرج النسائي بسنده عن وائل بن حجر انّه قال : قلت : لا. إلى صلاة رسول الله كيف يصلّي ونظرت إليه ، فقام فكبر ورفع يديه حتّى حاذتا أذنيه ، ثمّ وضع يده اليمنى على كفه اليسرى والرسغ والساعد. (٢)

وأخرجه أيضا البيهقي في سننه بنفس اللفظ. (٣)

والاحتجاج بالرواية رهن صحّة السند والدلالة.

__________________

١. تهذيب التهذيب : ٥ / ١٧٤ برقم ٢٩٨.

٢. سنن النسائي : ٢ / ٩٧ ، باب موضع اليمين من الشمال في الصلاة.

٣. سنن البيهقي : ٢ / ٢٨ ، باب وضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة.

١٨٠