الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ١

الشيخ جعفر السبحاني

الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ١

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-047-9
الصفحات: ٥٨٤

تمهيد

الأذان لغة وشرعا

ومكانة المؤذّن عند الله

الأذان لغة : الإعلام ، قال سبحانه ( وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ ) (١) أي إعلام منهما إلى الناس.

وشرعا : الإعلام بدخول وقت الصلاة المفروضة بألفاظ معلومة مأثورة على صفة مخصوصة ، وهو من خير الأعمال التي يتقرّب بها إلى الله تعالى ، وفيه فضل كثير وأجر عظيم.

أخرج الشيخ الطوسي في « التهذيب » عن معاوية بن وهب ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من أذّن في مصر من أمصار المسلمين سنة ، وجبت له الجنة ». (٢)

وأخرج أيضا عن سعد الإسكاف ، قال : سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول : « من أذّن سبع سنين احتسابا جاء يوم القيامة ولا ذنب له ». (٣)

__________________

١. التوبة : ٣.

٢. التهذيب : ٢ / ٢٨٣ ح ١١٢٦.

٣. التهذيب : ٢ / ٢٨٣ ح ١١٢٨.

١٢١

وأخرج الصدوق عن العرزمي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « أطول الناس أعناقا يوم القيامة ، المؤذّنون ». (١)

وأخرج أحمد بن محمد بن خالد البرقي في « المحاسن » عن جابر الجعفي ، عن محمد بن علي الباقر عليه‌السلام ، قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : المؤذّن المحتسب ، كالشاهر بسيفه في سبيل الله ، القاتل بين الصفّين ». (٢)

إلى غير ذلك من الروايات الحاثّة على نشر الأذان وقيام قاطبة الطبقات به ، وكراهة حصر الأذان بضعفائهم.

وعقدنا هذا البحث لبيان أمرين :

الأوّل : انّ تشريع الأذان كان إلهيّا لا مدخلية للإنسان فيه.

الثاني : دراسة تاريخ التثويب في الفجر وانّه ليس جزءا من الأذان وإنّما دخل فيه بتصويب البعض.

فيقع الكلام في مقامين :

__________________

١. ثواب الأعمال : ٥٢.

٢. المحاسن : ٤٨ برقم ٦٨.

١٢٢

المقام الأوّل

١

منزلة الأذان في التشريع الإسلامي

لم يشارك في تشريعه أيّ إنسان

إنّ الأذان والإقامة من صميم الدين وشعائره ، أنزله الله سبحانه على قلب سيّد المرسلين ، وإنّ الله الذي فرض الصلاة ، هو الذي فرض الأذان ، وإنّ منشأ الجميع واحد ولم يُشارك في تشريعه أيّ إنسان لا في اليقظة ولا في المنام ، وهذا شأن كلّ عبادة يعبد بها الإنسان خالقَه وبارئه ، ولم نجد في التشريع الإسلامي عبادة مشروعة قام الإنسان بوضعها ، ثمّ نالت إمضاء الشارع وتصويبه إلاّ في مواضع خاصة ثبتت من النبيّ المعصوم.

والذي يعرب عن ذلك انّ لجميع فصوله من التكبير إلى التهليل ، مسحة إلهية وعذوبة ، وسموّ المعنى وفخامته ، تثير شعور الإنسان إلى مفاهيم أرقى وأعلى وأنبل ممّا في عقول الناس ، فلو كان للأذان والإقامة مصدر غير الوحي ربّما لا تتمتع بهذه العذوبة ولا المسحة الإلهيّة.

وعلى ضوء ذلك فليس لمسلم إلاّ قبول أمرين :

١٢٣

أ : انّ تشريع الأذان والإقامة يرجع إلى الله سبحانه وانّه أوحى إلى عبده الأذان والإقامة ولم يكن لبشر دور في تشريعهما.

ب : كما أنّ أصل الأذان وحي إلهي أنزله الله على قلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهكذا كلّ فصل منه إيحاء إلى النبي فليس لأيّ إنسان أن ينقص منه فصلا أو يضيف إليه جزءاً.

١٢٤

٢

تاريخ تشريع الأذان

في أحاديث أهل البيت عليهم‌السلام

اتّفقت أئمة أهل البيت عليهم‌السلام على أنّ الأذان من الأمور العبادية ، له من الشأن ما لغيره من العبادات وأنّ المشرّع له هو الله سبحانه وقد هبط جبرئيل بأمر منه وعلّمه رسول الله ، كما علّمه رسول الله بلالا ، ولم يشارك في تشريعه بل ولا في تشريع الإقامة أحد ، فهذا من الأمور المسلّمة عند أئمّة أهل البيت ، وقد تضافرت عليه رواياتهم وكلماتهم نذكر في المقام نزرا يسيرا « ويكفيك من القلادة موضع عنقها ». (١)

١. روى ثقة الإسلام الكليني بسند صحيح عن زرارة والفضيل ، عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام قال : « لمّا أسري برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى السماء فبلغ البيت المعمور ، وحضرت الصلاة ، فأذّن جبرئيل عليه‌السلام وأقام فتقدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصفّ الملائكة والنبيّون خلف محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ».

٢. أخرج أيضا بسند صحيح ، عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : « لمّا

__________________

١. مثل يضرب لبيان كفاية القليل عن الكثير.

١٢٥

هبط جبرئيل بالأذان على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان رأسه في حجر علي عليه‌السلام ، فأذّن جبرئيل وأقام (١) ، فلمّا انتبه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : يا علي سمعت؟ قال : نعم (٢) قال : حفظت؟ قال : نعم. قال : ادع بلالا ، فدعا علي عليه‌السلام ؛ بلالا فعلّمه ». (٣)

٣. أخرج أيضا بسند صحيح عن عمر بن أذينة عن الصادق عليه‌السلام قال : ما تروي هذه ( الجماعة )؟ فقلت : جعلت فداك في ما ذا؟ فقال : في أذانهم. فقلت : إنّهم يقولون إنّ أبيّ بن كعب رآه في النوم. فقال : كذبوا فان دين الله أعزّ من أن يرى في النوم. قال : فقال له سدير الصيرفي : جعلت فداك فأحدث لنا من ذلك ذكرا. فقال أبو عبد الله ( الصادق ) عليه‌السلام : إنّ الله عزّ وجلّ لمّا عرج بنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى سماواته السبع إلى آخر الحديث الأوّل. (٤)

٤. وروى محمد بن مكي الشهيد في « الذكرى » عن فقيه الشيعة في أوائل القرن الرابع ـ أعني : ابن أبي عقيل العماني ـ أنّه روى عن الإمام الصادق عليه‌السلام : أنّه لعن قوما زعموا أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخذ الأذان من عبد الله بن زيد (٥) فقال : ينزل الوحي على نبيّكم فتزعمون أنّه أخذ الأذان من عبد الله بن زيد؟! » (٦).

__________________

١. لا منافاة بين الروايتين ، وكم نزل أمين الوحي بآية واحدة مرّتين ، والغاية من التأذين في الأوّل غيرها في الثاني ، كما هو واضح لمن تدبّر.

٢. كان علي عليه‌السلام محدّثا وهو يسمع كلام الملك. لاحظ صحيح البخاري : ٤ / ٢٠٠ ، وشرحه : إرشاد الساري : ٦ / ٩٩ وغيره ، باب رجال يُكلّمون من غير أن يكونوا أنبياء. روى أبو هريرة عن النبيّ أنّه قال : « لقد كان فيمن قبلكم من بني إسرائيل. ».

٣. الكافي : ٣ / ٣٠٢ ، باب بدء الأذان ، الحديث ١ و ٢.

٤. الكافي : ٣ / ٤٨٢ ح ١ ، باب النوادر. وسيأتي أنّه ادّعى رؤية الأذان في النوم ما يقرب من أربعة عشر رجلا.

٥. سيوافيك نقله عن السنن.

٦. وسائل الشيعة : الجزء ٤ / ٦١٢ ، الباب الأوّل من أبواب الأذان والإقامة ، الحديث ٣.

١٢٦

وليست الشيعة متفرّدة في هذا النقل عن أئمة أهل البيت ، فقد روى الحاكم وغيره نفس النقل عنهم ، وإليك بعض ما أثر في ذلك المجال عن طريق أهل السنّة.

٥. روى الحاكم عن سفيان بن الليل قال : لمّا كان من أمر الحسن بن علي ومعاوية ما كان ، قدمت عليه المدينة وهو جالس. قال : فتذاكرنا عنده الأذان ، فقال بعضنا : إنّما كان بدء الأذان رؤيا عبد الله بن زيد ، فقال له الحسن بن علي : إنّ شأن الأذان أعظم من ذاك ، أذّن جبرئيل عليه‌السلام في السماء مثنى مثنى ، وعلّمه رسول الله وأقام مرة مرة (١) فعلّمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. (٢)

٦. روى المتقي الهندي عن الشهيد زيد بن الإمام علي بن الحسين ، عن آبائه ، عن علي : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عُلّم الأذان ليلة أسري به وفرضت عليه الصلاة. (٣)

٧. روى الحلبي عن أبي العلاء ، قال : قلت لمحمد ابن الحنفية : إنّا لنتحدّث أنّ بدء هذا الأذان كان من رؤيا رآها رجل من الأنصار في منامه ، قال : ففزع لذلك محمد ابن الحنفية فزعا شديدا وقال : عمدتم إلى ما هو الأصل في شرائع الإسلام ، ومعالم دينكم ، فزعمتم أنّه إنّما كان من رؤيا رآها رجل من الأنصار في منامه ، تحتمل الصدق والكذب وقد تكون أضغاث أحلام ، قال : فقلت له : هذا الحديث قد استفاض في الناس. قال : هذا والله الباطل. (٤)

٨. روى المتقي الهندي عن مسند رافع بن خديج : لمّا أسري برسول

__________________

١. المروي عنهم عليهم‌السلام أنّ الإقامة مثنى مثنى إلاّ الفصل الأخير وهو مرة.

٢. مستدرك الحاكم : ٣ / ١٧١ ، كتاب معرفة الصحابة.

٣. كنز العمال : ١٢ / ٣٥٠ برقم ٣٥٣٥٤.

٤. السيرة الحلبية : ٢ / ٣٠٠ ـ ٣٠١.

١٢٧

الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى السماء أوحى إليه بالأذان فنزل به فعلّمه جبرئيل. ( الطبراني في الأوسط عن ابن عمر ) (١).

٩. ويظهر ممّا رواه عبد الرزاق بن همام الصنعاني ( ١٢٦ ـ ٢١١ ه‍ ) عن ابن جريج عن عطاء ، انّ الأذان كان بوحي من الله سبحانه. (٢)

١٠. قال الحلبي : ووردت أحاديث تدلّ على أنّ الأذان شرّع بمكة قبل الهجرة ، فمن تلك الأحاديث ما في الطبراني عن ابن عمر. ونقل الرواية الثامنة. (٣)

هذا هو تاريخ الأذان وطريق تشريعه أخذته الشيعة من عين صافية ، من أناس هم بطانة سنّة الرسول ، يروي صادق عن صادق حتى ينتهي إلى الرسول ، وأيّدته آثار أخرى كما عرفت.

__________________

١. كنز العمال : ٨ / ٣٢٩ برقم ٢٣١٣٨ ، فصل في الأذان.

٢. المصنّف : ١ / ٤٥٦ برقم ١٧٧٥.

٣. السيرة الحلبية : ٢ / ٢٩٦ ، باب بدء الأذان ومشروعيته.

١٢٨

٣

كيفيّة تشريع الأذان

عند أهل السنّة

قد ورد في روايات أهل السنّة حول كيفية تشريع الأذان أمور لا تصحّ نسبتها إلى الرسول الأعظم ، وحصيلة هذه الروايات ـ كما ستمر عليك تفاصيلها ـ ما يلي :

كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مهتما بأمر الصلاة جماعة ، ولكن كان متحيّرا في أنّه كيف يجمع الناس إلى الصلاة مع بُعْد الدار وتفرّق المهاجرين والأنصار في أزقّة المدينة ، فاستشار في ذلك في حل العقدة ، فأشاروا عليه بأمور :

١. أن يستعين بنصب الراية ، فإذا رأوها آذن بعضهم بعضا ، فلم يُعجبه.

٢. أشاروا إليه باستعمال القبع ، أيّ بوق اليهود ، فكرهه النبي.

٣. أن يستعين بالناقوس كما يستعين به النصارى ، كرهه أوّلا ثمّ أمر به فعمل من خشب ليضرب به للناس حتى يجتمعوا للصلاة.

٤. كان النبي الأكرم على هذه الحالة ، إذ جاء عبد الله بن زيد وأخبر رسول

١٢٩

الله بأنّه كان بين النوم واليقظة إذ أتاه آت فأراه الأذان ، وكان عمر بن الخطاب قد رآه قبل ذلك بعشرين يوما فكتمه ثمّ أخبر به النبي ، فقال : ما منعك أن تخبرني؟ فقال : سبقني عبد الله بن زيد فاستحييت ، فقال رسول الله : يا بلال قم فانظر ما يأمرك به عبد الله بن زيد فعلّمه ، فتعلّم بلال الأذان وأذّن.

هذا مجمل ما يرويه المحدّثون حول كيفيّة تشريع الأذان ، فتجب علينا دراسة متونه وإسناده وإليك البيان.

١٣٠

٤

استعراض ما روي في كيفية تشريع الأذان

في السنن

١. روى أبو داود ( ٢٠٢ ـ ٢٧٥ ه‍ ) قال : حدّثنا عباد بن موسى الختلي ، وزياد بن أيوب ، ـ وحديث عباد أتمّ ـ قالا : حدّثنا هشيم ، عن أبي بشر ، قال زياد : أخبرنا أبو بشر ، عن أبي عمير بن أنس ، عن عمومة له من الأنصار ، قال : اهتمّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للصلاة كيف يجمع الناس لها ؛ فقيل له : انصب راية عند حضور الصلاة ، فإذا رأوها آذن بعضهم بعضا ، فلم يعجبه ذلك ؛ قال : فذكر له القُنْع ـ يعني الشبّور ـ قال زياد : شبور اليهود ، فلم يعجبه ذلك ؛ وقال : « هو من أمر اليهود » قال : فذكر له الناقوس ، فقال : « هو من أمر النصارى ».

فانصرف عبد الله بن زيد ( بن عبد ربّه ) وهو مهتم لهمّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأُرى الأذان في منامه ، قال : فغدا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبره فقال ( له ) : يا رسول الله ، إنّي لبين نائم ويقظان ، إذ أتاني آت فأراني الأذان ، قال : وكان عمر بن الخطاب ـ رضي‌الله‌عنه ـ قد رآه قبل ذلك فكتمه عشرين

١٣١

يوما (١) ، قال : ثمّ أخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال له : « ما منعك أن تخبرني؟ » فقال : سبقني عبد الله بن زيد فاستحييت ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « يا بلال ، قم فانظر ما يأمرك به عبد الله بن زيد فافعله » قال : فأذّن بلال ، قال أبو بشر : فأخبرني أبو عمير أنّ الأنصار تزعم أنّ عبد الله بن زيد لو لا أنّه كان يومئذ مريضا ، لجعله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مؤذنا.

٢. حدّثنا محمد بن منصور الطوسي ، حدّثنا يعقوب ، حدّثنا أبي ، عن محمد بن إسحاق ، حدّثني محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي ، عن محمد بن عبد الله بن زيد بن عبد ربّه ، قال : حدّثني أبي : عبد الله بن زيد ، قال : لمّا أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالناقوس يعمل ليضرب به للناس لجمع الصلاة طاف بي ، وأنا نائم ، رجل يحمل ناقوسا في يده فقلت : يا عبد الله ، أتبيع الناقوس؟ قال : وما تصنع به؟ فقلت : ندعو به إلى الصلاة قال : أفلا أدلّك على ما هو خير من ذلك؟ فقلت ( له ) : بلى ، قال : فقال تقول :

الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر ، أشهد أن لا إله إلاّ الله ، أشهد أن لا إله إلاّ الله ، أشهد أنّ محمدا رسول الله ، أشهد أنّ محمدا رسول الله ، حيّ على الصلاة ، حيّ على الصلاة ، حيّ على الفلاح ، حيّ على الفلاح ، الله أكبر ، الله أكبر ، لا إله إلاّ الله.

قال : ثمّ استأخر عنّي غير بعيد ، ثمّ قال : وتقول إذا أقمت الصلاة :

الله أكبر ، الله أكبر ، أشهد أن لا إله إلاّ الله ، أشهد أنّ محمدا رسول الله ، حيّ

__________________

١. أفيصح في منطق العقل أن يكتم الإنسان تلك الرؤيا التي فيها إراحة للنبيّ وأصحابه عشرين يوما ، ثم يعلّل ذلك ـ بعد سماعها من ابن زيد ـ بأنّه استحيا؟! وأنا أجلّ الخليفة عن هذا المنطق ، مضافا إلى وجود التنافي بينه وبين الحديث الثاني.

١٣٢

على الصلاة ، حيّ على الفلاح ، قد قامت الصلاة ، قد قامت الصلاة ، الله أكبر ، الله أكبر ، لا إله إلاّ الله.

فلمّا أصبحت أتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبرته بما رأيت فقال : « إنّها لرؤيا حق إن شاء الله ، فقم مع بلال فالق عليه ما رأيت فليؤذّن به ، فإنّه أندى صوتا منك ». فقمت مع بلال ، فجعلت ألقيه عليه ويؤذّن به ، قال : فسمع ذلك عمر بن الخطاب وهو في بيته فخرج يجرّ رداءه ويقول : والذي بعثك بالحق يا رسول الله لقد رأيت مثل ما رأى ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « فلله الحمد ». (١)

ورواه ابن ماجة ( ٢٠٧ ـ ٢٧٥ ه‍ ) بالسندين التاليين :

٣. حدّثنا أبو عبيد : محمد بن ميمون المدني ، حدّثنا محمد بن سلمة الحرّاني ، حدّثنا محمد بن إسحاق ، حدّثنا محمد بن إبراهيم التيمي ، عن محمد بن عبد الله بن زيد ، عن أبيه ، قال : كان رسول الله قد همّ بالبوق ، وأمر بالناقوس فنُحِتَ ، فأُرى عبد الله بن زيد في المنام. إلخ.

٤. حدّثنا : محمد بن خالد بن عبد الله الواسطي : حدّثنا أبي ، عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن الزهري ، عن سالم ، عن أبيه : أنّ النبي استشار الناس لما يهمّهم إلى الصلاة ، فذكروا البوق فكرهه من أجل اليهود ، ثمّ ذكروا الناقوس فكرهه من أجل النصارى ، فأرى النداء تلك الليلة رجل من الأنصار يقال له : عبد الله بن زيد وعمر بن الخطاب.

قال الزهري : وزاد بلال في نداء صلاة الغداة : الصلاة خير من النوم ، فأقرّها

__________________

١. سنن أبي داود : ١ / ١٣٤ ـ ١٣٥ برقم ٤٩٨ ـ ٤٩٩ تحقيق محمد محيي الدين. والحديث حاك عن اطّلاع عمر بعد أذان بلال ، خلافا للحديث السابق.

١٣٣

رسول الله. (١).

ورواه الترمذي بالسند التالي :

٥. حدّثنا سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي ، حدّثنا أبي ، حدّثنا محمد بن إسحاق ، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي ، عن محمد بن عبد الله بن زيد ، عن أبيه قال : لمّا أصبحنا أتينا رسول الله فأخبرته بالرؤيا. إلخ.

٦. وقال الترمذي : وقد روى هذا الحديث إبراهيم بن سعد عن محمد بن إسحاق أتمّ من هذا الحديث وأطول ، ثم أضاف الترمذي : وعبد الله بن زيد هو ابن عبد ربّه ، ولا نعرف له عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيئا يصحّ إلاّ هذا الحديث الواحد في الأذان. (٢)

هذا ما رواه أصحاب السنن المعدودة من الصحاح أو الكتب الستة ، ولها من الأهمية ما ليس لغيرها من السنن كسنن الدارمي أو الدارقطني أو ما يرويه ابن سعد في طبقاته ، والبيهقي في سننه ، ولأجل تلك المكانة الخاصّة فصلنا ما روي في السنن المعروفة ، عمّا روي في غيرها.

فلندرس هذه الروايات متنا وسندا حتّى تتّضح الحقيقة ثمّ نذكر بقية النصوص الواردة في غيرها فنقول :

__________________

١. سنن ابن ماجة : ١ / ٢٣٢ ـ ٢٣٣ ، باب بدء الأذان ، برقم ٧٠٦ ـ ٧٠٧.

٢. سنن الترمذي : ١ / ٣٥٨ ـ ٣٦١ ، باب ما جاء في بدء الأذان برقم ١٨٩.

١٣٤

٥

تحليل مضمون الروايات

إنّ هذه الروايات غير صالحة للاحتجاج لجهات شتى :

الأولى : لا تتّفق مع مقام النبوّة

إنّه سبحانه بعث رسوله لإقامة الصلاة مع المؤمنين في أوقات مختلفة. وطبع القضية يقتضي أن يعلّمه سبحانه كيفية تحقيق هذه الأمنية. فلا معنى لتحيّر النبيّ أياما طويلة أو عشرين يوما على ما في الرواية الأولى التي رواها أبو داود ، وهو لا يدري كيف يحقّق المسئولية الملقاة على عاتقة ، فتارة يتوسّل بهذا ، وأخرى بذاك حتى يرشد إلى الأسباب والوسائل التي تؤمّن مقصوده ، مع أنّه سبحانه يقول في حقّه ( وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ) (١) والمقصود من الفضل هو العلم بقرينة ما قبله ( وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ).

إنّ الصلاة والصيام من الأمور العبادية وليسا كالحرب والقتال الذي ربّما كان النبي يتشاور فيه مع أصحابه ولم يكن تشاوره في كيفية القتال عن جهله بالأصلح ، وإنّما كان لأجل جلب قلوبهم كما يقول سبحانه :

__________________

١. النساء : ١١٣.

١٣٥

( وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ ). (١)

أليس من الوهن في أمر الدين أن تكون الرؤيا والأحلام والمنامات من أفراد عاديّين ، مصدرا لأمر عبادي في غاية الأهمية كالأذان والإقامة؟!.

إنّ هذا يدفعنا إلى القول بأنّ كون الرؤيا مصدرا للأذان أمر مكذوب على الشريعة. ومن القريب جدا أنّ عمومه عبد الله بن زيد هم الذين أشاعوا تلك الرؤيا وروّجوها ، لتكون فضيلة لبيوتاتهم وقبائلهم. ولذلك نرى في بعض المسانيد أنّ بني عمومته هم رواة هذا الحديث ، وأنّ من اعتمد عليهم انّما كان لحسن ظنّه بهم.

الثانية : أنّها متعارضة جوهرا

إنّ ما مضى من الروايات حول بدء الأذان وتشريعه متعارضة جوهرا من جهات :

١. إنّ مقتضى الرواية الأولى ( رواية أبي داود ) أنّ عمر بن الخطاب رأى الأذان قبل عبد الله بن زيد بعشرين يوما. ولكن مقتضى الرواية الرابعة ( رواية ابن ماجة ) أنّه رأى في نفس الليلة التي رأى فيها عبد الله بن زيد.

٢. إنّ رؤيا عبد الله بن زيد هو المبدأ للتشريع ، وأنّ عمر بن الخطاب لمّا سمع الأذان جاء إلى رسول الله وقال : إنّه أيضا رأى نفس تلك الرؤيا ولم ينقلها إليه استحياء.

٣. إنّ المبدأ لتشريع الأذان ، هو نفس عمر بن الخطاب ، لا رؤياه ، لأنّه هو

__________________

١. آل عمران : ١٥٩.

١٣٦

الذي اقترح النداء بالصلاة الذي هو عبارة أخرى عن الأذان.

روى الترمذي في سننه وقال : كان المسلمون حين قدموا المدينة. إلى أن قال : ـ وقال بعضهم : اتّخذوا قرنا مثل قرن اليهود ، قال : فقال عمر بن الخطاب : أو لا تبعثون رجلا ينادي بالصلاة؟ قال : فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا بلال قم فناد بالصلاة ، ـ أي الأذان. (١)

ورواه النسائي (٢) والبيهقي (٣) في سننهما.

نعم فسّر ابن حجر النداء بالصلاة بـ « الصلاة جامعة » (٤) ولا دليل على هذا التفسير.

٤. إنّ مبدأ التشريع هو نفس النبي الأكرم.

روى البيهقي :. فذكروا أن يضربوا ناقوسا أو ينوّروا نارا فأمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة. قال : ورواه البخاري عن محمد عن عبد الوهاب الثقفي ، ورواه مسلم عن إسحاق بن إبراهيم. (٥)

ومع هذا التناقض في النقل كيف يمكن الاعتماد على هذه النقول؟

٥. انّ عمر كان حاضرا عند نقل عبد الله بن زيد رؤياه للنبي ـ حسب الحديث الأوّل ـ ولكنّه كان غائبا حسب الحديث الثاني ، حيث خرج من بيته لمّا سمع أذان بلال بعد نقل عبد الله رؤياه.

__________________

١ و ٢ و ٣. سنن الترمذي : ١ / ٣٦٢ رقم ١٩٠ ؛ سنن النسائي : ٢ / ٣ ؛ سنن البيهقي ١ / ٣٨٩ في باب بدء الأذان ، الحديث الأوّل.

٤. السيرة الحلبية : ٢ / ٢٩٧.

٥. سنن البيهقي : ١ / ٣٩٠ ، الحديث ١.

١٣٧

الثالثة : انّ الرائي كان أربعة عشر شخصا لا واحدا

يظهر ممّا رواه الحلبي أنّ الرائي للأذان لم يكن منحصرا بابني زيد والخطاب ، بل ادّعى أبو بكر أنّه أيضا رأى نفس ما رأياه ، وقيل : سبعة من الأنصار ، وقيل : أربعة عشر (١) كلّهم ادّعوا أنّهم رأوا في الرؤيا الأذان ، وليست الشريعة شرعة لكل وارد ، فإذا كانت الشريعة والأحكام خاضعة لرؤيا كلّ وارد فعلى الإسلام السّلام.

الرابعة : التعارض بين نقل البخاري وغيره

إنّ صريح صحيح البخاري أنّ النبي أمر بلالا في مجلس التشاور بالنداء للصلاة وعمر حاضر حين صدور الأمر ، فقد روى عن ابن عمر : كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحيّنون الصلاة ، ليس ينادى لها ، فتكلّموا يوما في ذلك فقال بعضهم : اتّخذوا ناقوسا مثل ناقوس النصارى ، وقال بعضهم : بل بوقا مثل قرن اليهود ، فقال عمر : أو لا تبعثون رجلا ينادي بالصلاة؟ فقال رسول الله : يا بلال قم فناد بالصلاة. (٢)

وصريح أحاديث الرؤيا : أنّ النبي إنّما أمر بلالا بالنداء إذ قصّ عليه ابن زيد رؤياه ولم يكن عمر حاضرا وإنّما سمع الأذان وهو في بيته ، خرج وهو يجرّ ثوبه ويقول : والذي بعثك بالحق يا رسول الله لقد رأيت مثل ما رأى. (٣)

وليس لنا حمل ما رواه البخاري على النداء بـ « الصلاة جامعة » وحمل

__________________

١. السيرة الحلبية : ٢ / ٣٠٠.

٢. صحيح البخاري : ١ / ١٢٠ ، باب بدء الأذان.

٣. لاحظ الحديث رقم ٢.

١٣٨

أحاديث الرؤيا على التأذين بالأذان ، فإنّه جمع بلا شاهد أوّلا ، ولو أمر النبي بلالا برفع صوته بـ « الصلاة جامعة » لحلّت العقدة ثانيا ، ورفعت الحيرة خصوصا إذا كررت الجملة « الصلاة جامعة » ولم يبق موضوع للحيرة ، وهذا دليل على أنّ أمره بالنداء ، كان بالتأذين بالأذان المشروع. (١)

__________________

١. النص والاجتهاد : ١٣٧.

١٣٩

٦

مناقشة الأسانيد

ما ذكرنا من الوجوه الخمسة ترجع إلى دراسة مضمون الأحاديث وهي كافية في سلب الركون إليها. وإليك دراسة أسنادها واحدا بعد الآخر. وهي بين موقوف لا يتّصل سندها بالنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومسند مشتمل على مجهول أو مجروح أو ضعيف متروك ، وإليك البيان حسب الترتيب السابق.

أمّا الرواية الأولى التي رواها أبو داود فهي ضعيفة :

١. تنتهي الرواية إلى مجهول أو مجاهيل ، لقوله : عن عمومة له من الأنصار.

٢. يروي عن العمومة ، أبو عمير بن أنس ، فيذكره ابن حجر ويقول فيه :

روى عن عمومة له من الأنصار من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في رؤية الهلال وفي الأذان.

وقال ابن سعد : كان ثقة قليل الحديث.

وقال ابن عبد البر : مجهول لا يحتج به. (١)

وقال جمال الدين : وهذا ـ ما حدّث به في الموضوعين : رؤية الهلال والأذان ـ جميع ما له عندهم. (٢)

__________________

١. تهذيب التهذيب : ١٢ / ١٨٨ برقم ٨٦٧.

٢. تهذيب الكمال : ٣٤ / ١٤٢ برقم ٧٥٤٥.

١٤٠