الإمام الصادق عليه السلام - ج ١

الشيخ محمّد حسين المظفّر

الإمام الصادق عليه السلام - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد حسين المظفّر


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٤
الصفحات: ٢٦٨
الجزء ١ الجزء ٢

أبا حمزة وأبرهة وعلي بن الحصين على شعب الخيف ، إلى أن أفضى الأمر إلى العبّاسيّين فأنزلوا أيام السفاح ، ثمّ أن ابن عطيّة خرج الى الطائف وقد بلغ عبد الله بن يحيى طالب الحقّ وهو بصنعاء ما آل إليه أمر أبي حمزة وجماعته فتوجّه الى حرب ابن عطيّة ، فشخّص ابن عطيّة إليه ، ولمّا التقوا قتل من الفريقين جمع كبير ، وترجّل عبد الله في ألف مقاتل ، فقاتلوا حتّى قتلوا كلّهم وقتل عبد الله ، وبعث ابن عطيّة رأسه الى مروان ، ثمّ أقام ابن عطيّة بحضر موت بعد ظفره بالخوارج ، فأتاه كتاب مروان بالتعجيل الى مكّة ليحجّ بالناس ، فشخّص الى مكّة متعجّلا مخفّفا في تسعة عشر فارسا ، فندم مروان وقال : قتلت ابن عطيّة سوف يخرج متعجّلا مخفّفا من اليمن ليدرك الحجّ فيقتله الخوارج ، فكان كما قال ، فإنه صادفه جماعة متلفّقة من الخوارج وغيرهم فعرفه الخوارج فحملوا عليه وقتلوه (١).

ثمّ لم يكن الخروج بعد هذا إلاّ عقيدة ورأيا من دون أن يكون لهم شأن في محاربة الملوك ، وما زال حتّى اليوم منهم أناس على ذلك المروق ، ومنهم قوم في عمان ، ولكن لا شأن لهم يرعى ولا سطوة تهاب.

والخوارج هم المارقون الذين أنبأ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمير المؤمنين عليه‌السلام بأنه سيحاربهم ويظفر بهم.

وكانوا فرقا كثيرة يجمعها القول بتكفير علي وعثمان والحكمين وأصحاب الجمل وكلّ من رضي بتحكيم الحكمين ، وتكفير مرتكبي الذنوب ، ووجوب الخروج على الامام الجائر ، كما حكاه في ( الفرق بين الفرق ) عن الكعبي ص ٥٥.

__________________

(١) انظر شرح النّهج : ١ / ٤٥٥ ـ ٤٦٣ تجد تفصيل ما أوجزناه ..

٦١

لكن حكى عن أبي الحسن الأشعري إنكار إجماعهم على تكفير مرتكبي الذنوب ، ونقل عنهم تفصيلا في ذلك ، وانتهوا في التفريع على هذا الأصل إلى فرق كثيرة ، ولكن أخنى عليها الدهر ، والموجودون اليوم منهم في عمان من الأباضيّة ، على ما يظهر منهم ويسمع عنهم.

الغلاة ومن خرج عن الاسلام ببعض العقائد :

قد ذكرنا في بدء هذا الفصل أن اصول الفرق الاسلاميّة أربعة ، ومنها تتفرّع الفرق جميعا ، وأن فرق الغلاة من فروع تلك الاصول ، فلا تجد أصلا إلاّ وله بعض الفروع الغالية.

وهكذا الشأن فيمن ينتحل شيئا كالتناسخ والحلول والتشبيه أو غير ذلك ممّا يرجع الى الكفر عند فرق المسلمين ، ولكن التهجّم عليهم بالكفر لما ينسب إليهم من الاعتقاد ليس بالأمر السهل ، فإن تكفير من يعترف بالشهادتين لا ينبغي أن يقدم عليه من له حريجة في الدين ، دون أن يعتمد على ركن وثيق وما دمنا في فسحة من ذلك فلا نلج هذا الباب ، ولا نلقي بأنفسنا من شاهق ثمّ نفحص عن سلّم النجاة ، ولا سيّما أن تلك الفرق التي رميت بالخروج عن ربقة الاسلام الصحيح بانتحالها بعض العقائد الباطلة قد أصبحت في خبر كان ، ولم يبق منها إلاّ شواذ لا مقام لهم يلحظ بين أبناء الاسلام ، ولا يخاف من تسرّب معتقداتهم الفاسدة بل أصبحوا يتكتّمون فيما يعتقدون حذرا من سطوة بني الدين في الحجج والبراهين وإبطال ما يدينون به أو نبزهم بالكفر والمروق عن الاسلام.

والحذر من سراية ذلك الداء الى أرباب الجهل أهمّ ما كان لدى الأوائل ممّن قاوم تلك البدع والضلالات بكلّ ذريعة ، ونحن اليوم في أمان من الانخداع

٦٢

بضلالات فرقهم الحاضرة ، فكيف ببدع هاتيك الفرق البائدة التي أصبحت دائرة العين والأثر.

شبه الإلحاد :

إنما الحذر اليوم من سراية شبه الإلحاد ، وشكوك عبدة الدهر وأبناء الطبيعة الذين تسول لهم أنفسهم التخلّص من قيود الدين بكلّ وسيلة ، تلك القيود التي تجعل الانسان في صفوف الملائكة والروحيّين ، وتخرجه عن الوحشيّة الكاسرة ، والشهوات الفاتكة ، كما تجعله في أمان من اعتداء أحد على أثمن ما يجده في هذه الحياة : النفس والعرض والمال ، كما تجعل الناس في أمان منه على نفائسهم تلك ، وتلك الحرّية التي ينشدونها ، والتي خرجوا بها عن ربقة أهل العقول والعفاف الى أسراب الوحوش وأرباب الخلاعة والدعارة هي التي خدعت بعض الشباب ، وجعلته يقع في تلك الفخاخ ، وتصيده هاتيك الشباك ، والشباب سريع الانجذاب الى الشهوات ونزع القيود المزعومة ، من دون أن يرجع الى رشده ويحكّم قبل الانخداع عقله.

* * *

٦٣

الإمامة

إن المسلمين على مذاهب في الإمامة بعد أن أجمعوا على وجوبها ، باعتبار أنّ الإمام هو الجامع لشتاتها ، والهادي لضلالها ، والناهض بها لنشر أعلام الشريعة ، وبثّ روح تعاليمها الحيّة.

ومن سياسة صاحب الشريعة وبدائع حكمة أمره بمعرفة الإمام ، حتّى أنه جعل « من مات ولم يعرف إمام زمانه ميتا على الجاهلية » (١) ، كأن لم يدخل في ربقة الاسلام.

فهذا الفرض لو عمل به المسلمون ، وقاموا بما يحتّمه الواجب من معرفته والاستماع لقوله بعد الوصول إليه لأصبحوا جيشا واحدا وقائدهم الإمام ، فلا يبقى عند ذاك امرؤ مسلم يجعل أحكام الدين ، أو يعلمها ولا يعمل بها ، ولا يبقى بلد في العالم لا تخفق عليه بنود الاسلام.

كانت الخلافة والإمامة ميدانا للسباق ، لا يقبض على ناصيتها إلاّ من حاز قصب السبق ، ولو بالدماء المراقة ، والحرمات المنتهكة ، بل حتّى لو كان الخليفة نفسه بعد استلامه زمام الحكم ما جنا خليعا لا يبالي بما فعل.

__________________

(١) هكذا الحديث في أصل الكتاب ولم نعثر عليه في الكتب الموجودة ، والذي عثرنا عليه هو هذا النص « من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية » كنز العمال : ١ / ١٠٣ ..

٦٤

غير أن الشيعة الإمامية كانت من العهد الأوّل لا تقيم وزنا لمثل هذه الخلافة ولا تعترف بمثل هذه الإمامة ، بل ترى أن الخليفة والإمام من كان جامعا لصفات الكمال كلّها ، عاريا عن خصال النقص جميعا ، عاملا بأوامر الشريعة في السرّ والعلن آمرا بها ، مرتدعا عن نواهيها فيما ظهر وبطن ناهيا عنها ، منصوصا عليه من صاحب الشريعة ، أو من الإمام قبله أمرا من الله سبحانه ، لأنه تعالى أنظر لعباده ، وأبصر بمن يصلح لهذا المنصب الخطير.

ولا ترى الإمام من قام بالناس بل الإمام من قامت الدلالة عليه ، ودلّت الاشارة إليه ، وإن قعد الناس عن اتباعه ، بل وإن قاموا في وجهه صدّا له عن أدائه فروض إمامته وواجبات زعامته.

وإن قعودهم عن طاعته أو قيامهم في معارضته لا تخدش في كفايته للنهوض بأعباء الإمامة ، بل حظّهم أخطئوه وسبيل هدى أضاعوه.

فالإمام ـ على ما تراه الإماميّة ـ هو الحامل لأعباء الإمامة قام أو قعد ، نطق أو سكت ، تقدّم للسباق أو تأخّر ، لأن إمامته ليست باللباس المستعار يلبسه إن استلبه من غيره ، ويتعرّى عنه إن استلبوه منه.

ولمّا كان الإمام هو الحجّة البالغة ، وجب عليه إعلام الناس بإمامته وإقامة الأدلّة عليها عند الحاجة الماسّة ، كما وجب على الامّة معرفته وطاعته إذا عرفوه.

وأما إقامته الدلالة على إمامته فبالتصريح مرّة وبالتلويح اخرى ، وكفى في الدلالة أن يدلي بالكرامات والمعجزات ، ويبدي من العلم ما يعجز الناس عن الحصول على مثله ، إلاّ أن تحجز السيوف دون بيانه ، ولكن أعماله وسجاياه ناطقة بمقامه وإن صمت لسانه.

والإمامة من الأبحاث التي ما زالت موضع الجدل والخصام بين المسلمين من

٦٥

يوم مضى صاحب الدعوة الاسلاميّة ، قلما ولسانا ، وسيفا وسنانا ، وإنما تبتني اسسها اليوم على أنقاض الماضي ، وهي اليوم وغدا كما كانت أمس الفارق بين الفرق ، مع وحدتهم في النبي والكتاب والقبلة ، وفي الفرق اليوم وأمس من ذوي العقول الراجحة والآراء السديدة رجال بإمكانها أن يجمعوها تحت لواء واحد ، كاشفين لهم الستار عمّا حدا بالامامة إلى التخالف والتنابز ، ويعرّفوها فوائد الالفة ، وينذروها سوء الفرقة ، ويلمسوها ما أنزله ذلك الخصام بالاسلام من الويلات والتدمير والشتات.

ولمّا كانت الامامة هي المفترق للطرق ، وجب أن يكون عندها اجتماع ذلك الافتراق ، فلو عرف الناس اليوم حقيقة الامامة ومن الامام ، لأوشك أن يهبّ ولو بعضهم إلى وحدة عندها مجتمع الفرق ، ولمّ الشتات ، في هذه الساعة العصيبة التي سادت فيها الفوضويّة وانشقاق الكلمة.

وإنّي لأحاول أن أرمز إلى بعض ما يجب في الامام ، وإن ذهبت كلمتي أدراج الرياح ، لا تسترعي انتباه غافل ، ولا هبة يقظان ، ولا يغيظني ذلك ما دام القصد صحيحا والغاية غالية ، وهي طلب مراضيه سبحانه.

أقول : إن النظام الذي جاء به خاتم الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نظام عامّ يجمع بين السيرتين ، سيرة المرء مع الخالق ، وسيرته مع المخلوق ، وإنّ من جاء بهذا النظام وجب أن يكون قديرا على تطبيقه وتنفيذه حتّى لو ثنيت له الوسادة ، فانبسطت دعوته على المعمورة جمعاء ، وخيّمت شريعته على العالم كلّه ، فالنبي عند تطبيق شريعته وتنفيذها يكون ذا سلطتين زمنيّة وروحيّة ، ولمّا دعاه الله إليه ، انتبهت الامّة إلى الضرورة التي دعته إلى عقد الامامة في حياته ، فرأوا أن القيام بوظائف صاحب الدعوة حتميّ ولا يقوم بها إلاّ إمام تكون له الزعامة العامّة على الامّة الاسلاميّة كلّها وتكون له السلطتان اللتان كانتا للرسول

٦٦

الأمين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإلاّ بقي ذلك النظام الكافل للسعادتين بلا تنفيذ ، فلا تتمّ الفوائد من تلك الجهود التي قاساها صاحب الرسالة.

فلمّا كانت الامامة على الامّة واجبة بحكم الضرورة ، فمن الأليق بتلك الوظيفة الكبرى؟ أترى الأليق بها من هو كصاحب الرسالة وصورة حاكية له في العلم والعمل ، ومهديّ في نفسه هاد لغيره ، يقوم بالحجّة فيقطع الحجج ، لا يعتري برهانه وهن ، ولا حجّته فلل ، إن طلب الناس منه المعجز في الفعل والقول استطاع الإتيان به من غير مطل وعناء ، وإن احتيج لقطع العذر من المسترشد أو المتعنّد على المجيء بالكرامة الباهرة قويّ عليها من دون كدّ وجهد ، يعلم كلّ ما جاء به صاحب الشريعة عاملا به ، يعرف القرآن تنزيله وتأويله ، مرتديا بجميل الخصال لا تفرّ عنه منها واحدة ، بل هو أفضل في كلّ خصلة من الناس كافة ، عاريا عن ذميم الصفات لا يرتدي منها واحدة ولو لحظة ، وجملة القول أنه المثال الصادق للرسول في جميع ملكاته وصفاته وخصاله وفعاله.

أو الأليق بها من لا يعرف هذه الخلال ولا تعرفه ، أو يتقمّص ببعض ويتعرّى عن بعض ، لا ريب في أنك سوف تقول : إن الأوّل أليق وأحقّ بهذا المنصب الرفيع ، وهل يقدم بصير على القول بأحقّيّة الثاني.

ولكني أحسبك تقول : إن الشأن كلّه في إثبات أمرين في هذا الباب الأول وجوب نصب إمام على هاتيك السجايا والمزايا ، الثاني وجوده جامعا لهذه الخلال والخصال في الامّة الاسلاميّة ، ولو ثبت لدينا أن الامام يجب أن يجمع هذه الصفات ، وأنه يوجد في الامّة ذلك الجامع ، لكان التخلّف عن القول بإمامته ، لأوامره عنادا محضا لا يرتضيه ذو دين وبصيرة.

فأقول : إني سأثبت لك هذين الأمرين ، راجيا أن تكون ممّن ألقى السمع

٦٧

وهو شهيد.

أمّا الدليل على الأول فموجزه : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان عليما بما صدع به ، لا يجهل ما يسأل عنه ، شريعته واحدة ليس فيها اختلاف ، وخالدة إلى يوم البعث ، حلال محمّد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة ، فلو ألقى الحبل على الغارب للامّة في ارتياد الامام القائم بوظائفه لألفينا الامّة جاهلة بأحكام الشريعة لا تعرف الحرام من الحلال ، ولا الحلال من الحرام إذ ليس لديها حكم فصل في علم الشريعة ترجع إلى قوله ، وحاكم عدل في إمضاء الحدود تخضع لأمره ، فتتشعّب لذلك إلى مذاهب ونحل ، وكلّ يقوم بالحجّة على صحّة رأيه ويقيم الأدلّة على صدق عقيدته كما كان ذلك كلّه حين اختار بعض الناس من أنفسهم لأنفسهم إماما وخليفة اختاروا خلفاء لا يعلمون جميع ما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويجهلون كثيرا ممّا يسألون عنه ، ولمّا كانوا بعد الاختيار لهم هم الحكم الفصل والحاكم العدل ، ولمّا لم يجد الناس عند هؤلاء القائمين بالأمر مطلوبهم في الحكومة والأحكام صار كلّ يبدي مذاهبه وآراءه ، وليس عند أحد حجّة قاهرة ، وبرهان نيّر يصدع به شبه تلك المذاهب ، وشكوك هذه الآراء ، وتعارضت النحل ، وكلّ ينسب ما لديه إلى الشريعة ، وما عنده إلى الدين ، فأين الحلال والحرام اللذان لا يتبدّلان إلى الساعة الأخيرة من هذا الوجود ، وأين الشريعة الواحدة الخالدة عمر الدهر ، وقد أصبح في الاسلام بعد نبيّه مشرّعون وشرائع ، وأديان ومذاهب.

ولمّا كان هذا التبديل والتحريف طارئا عن اختيار الناس لمن لا يعلم جميع ما جاء في الشريعة ليكون العالم والحاكم في ساعة واحدة ، يقطع حجج المتأوّلين وألسنة المتقوّلين بالبرهان مرّة وحدود الشفار اخرى فلا تخالفه الناس بعد ذاك ولا تختلف في الآراء والأهواء ، وجب على الامّة أن تختار لها إماما

٦٨

عالما بكلّ ما جاءت به الشريعة الأحمديّة ، عاملا في تنفيذ علمه ، عنده علم ما يسأل عنه ولديه الحجّة على إزالة الأوهام والأباطيل والجهالات والأضاليل ، لتبقى الشريعة الغرّاء على ما صدع بها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبد الدهر وحلاله وحرامه لا يتبدّلان مدى العمر ، فلا شرائع ولا مشرّعين ولا مذاهب ولا أديان.

ولكن أين للأمّة اختيار ذلك الحاكم العالم؟ ومن أين تعرفه؟ ولو عرفته فمن أين له اتفاق الكلمة عليه ، والناس مختلفو النزعات متباينو الأغراض؟

فوجب عليه تعالى أن ينصب لهم هذا الامام ، ويعرّفهم بواسطة الرسول ذلك الخلف العادل ، والعالم العامل ، لأن الله سبحانه أنظر لعباده ، وأدرى بمن يليق لهذا المنصب الخطير ، والمقام العظيم.

فاذا كان نصب الامام واجبا عليه تعالى استحال في العقول أن يهمل سبحانه الواجب فيما يصلح عباده ، ويهدي خليقته ، كما يستحيل على الرسول أن يترك التبليغ عنه تعالى بنصب هذا الامام ، ولو جاز عليه ترك هذا الواجب لجاز عليه غيره.

فمتى وجب الرسول وجب الامام ، ومتى بعث الله رسولا نصب الامام ، فلا رسول بلا إمام ، ولا شريعة بغير تفسير وتنفيذ.

وأمّا الدليل على الثاني وهو وجود هذا الامام فالأمر فيه سهل بعد ما تقدّم ، لأنا إذا اعتقدنا بوجوب نصب الامام على تلك الصفات وأنه قد نصبه الله تعالى لخلقه اعتقدنا أنه تعالى لا يجعله مجهول الاسم والنسب ويعسر على الامّة معرفته ، ولا نعرف في الامّة أئمة ادّعي فيهم ذلك وادّعوها لأنفسهم غير علي وبنيه عليهم‌السلام ، فلو لم يكونوا هم الأئمة لكانت الامامة وذلك الوجوب لغوا.

فلم يبق إذن إلاّ أن نعرف عنهم أنهم اولئك العلماء الذين لا يجهلون ،

٦٩

والعدول الذين لا يجورون ، أمّا العدل فلم يحكم منهم أحد غير أمير المؤمنين وشأنه لا يحتاج إلى إيضاح ، وأمّا العلم فآثارهم ناطقة به فتتبع تجد صدق ما قيل ويقال وهذا الكتاب بين يديك رشحة من ذلك العلم الغمر (١).

* * *

__________________

(١) إن شئت المزيد في بحث الإمامة فارجع إلى رسالتنا المطبوعة « الشيعة والإمامة » ..

٧٠

من هو الصادق؟

حقّا على الكاتب أن يعطي صورة إجمالية للمترجم له قبل أن يتغلغل في أعماق الترجمة ، لئلاّ يكون غريبا عن القارئ عند قراءته لكلّ فصل من حياته.

وهنا رأيت أن أنقل شطرا من آراء العلماء في كلماتهم عن الصادق جعفر عليه‌السلام ، لأنها تعبّر عن آراء أجيال في هذه الشخصيّة الكريمة ، وإليك شيئا منها : فهذا الذهبي (١) في ميزان الاعتدال ( ١ : ١٩٢ ) يقول عند ذكره للامام : « جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين الهاشمي أبو عبد الله أحد الأئمة الأعلام برّ صادق كبير الشأن ».

وممّا قاله النووي (٢) في تهذيب الأسماء واللغات ( ١ : ١٤٩ ـ ١٥٠ ) : « روى عنه محمّد بن إسحاق ، ويحيى الأنصاري ، ومالك ، والسفيانان ، وابن جريح ، وشعبة ، ويحيى القطّان ، وآخرون ، واتفقوا على إمامته وجلالته وسيادته ، قال عمرو بن أبي المقدام : كنت إذا نظرت إلى جعفر بن محمّد علمت أنه من سلالة النبيّين ».

__________________

(١) الحافظ المحدّث شمس الدين أبو عبد الله محمّد بن أحمد بن عثمان الدمشقي المولود عام ٦٧٣ ، والمتوفى عام ٧٤٨ ..

(٢) الحافظ أبو زكريا محي الدين بن شرف الدين المتوفى عام ٦٧٦ ..

٧١

وابن خلكان (١) يقول : « أحد الأئمة الاثنى عشر على مذهب الاماميّة ، وكان من سادات أهل البيت ، ولقّب بالصادق لصدقه في مقالته ، وفضله أشهر من أن يذكر ». وقال : « وكان تلميذه أبو موسى جابر بن حيّان الصوفي الطرطوسي (٢) قد الّف كتابا يشتمل على ألف ورقة تتضمّن رسائل جعفر الصادق وهي خمسمائة رسالة ، وقال : ودفن بالبقيع في قبر فيه أبوه محمّد الباقر ، وجدّه زين العابدين ، وعمّ جدّه الحسن بن علي عليهم‌السلام ، فلله درّه من قبر ما أكرمه وأشرفه ».

والشبلنجي (٣) في نور الأبصار ص ١٣١ يقول : « ومناقبه كثيرة تكاد تفوت حدّ الحاسب ، ويحار في أنواعها فهم اليقظ الكاتب » وقال : وفي حياة الحيوان الكبرى فائدة قال ابن قتيبة في كتاب أدب الكاتب : وكتاب الجفر كتبه الامام جعفر الصادق ابن محمّد الباقر ، فيه كلّ ما يحتاجون الى علمه الى يوم القيامة ، والى هذا الجفر أشار أبو العلاء بقوله :

لقد عجبوا لآل البيت لما

أتاهم علمهم في جلد جفر

فمرآة المنجم وهي صغرى

تريه كلّ عامرة وقفر

وقال محمّد الصبّان (٤) في كتابه إسعاف الراغبين المطبوع على هامش نور

__________________

(١) أحمد بن محمّد بن إبراهيم بن أبي بكر بن خلكان ولد بمدينة اربل قرب الموصل وانتقل إلى الموصل وسافر إلى حلب ودخل الديار المصرية وناب في القضاء عن السخاوي ، ثم ولّي القضاء بالشام عشر سنين وتوفي بدمشق عام ٦٨١ ، ترجم له في طبقات الشافعيّة : ٥ / ١٤ ، وفي فوات الوفيّات : ١ / ٥٥ ، والسيوطي في حسن المحاضرة : ١ / ٢٦٧ ، ومعجم المطبوعات : ١ / ٩٨ وغيرها ..

(٢) سوف نشير في حياته العلميّة إلى علم الصادق عليه‌السلام بالكيمياء وأخذ جابر عنه وشيء من حياة جابر ..

(٣) مؤمن بن حسن مؤمن المصري. وشبلنج قرية من قرى مصر ، اشتغل في طلب العلوم في الجامع الأزهر ولد في نيف و ١٢٥٠ ولم تذكر وفاته ..

(٤) محمّد بن علي الصبّان الشافعي الحنفي ولد بمصر ، ترجم له في معجم المطبوعات : ٢ / ١١٩٤ ..

٧٢

الأبصار ص ٢٠٨ : « وأمّا جعفر الصادق فكان إماما نبيلا. وقال : وكان مجاب الدعوة إذا سأل الله شيئا لا يتمّ قوله إلاّ وهو بين يديه ».

والشعراني (١) في لواقح الأنوار يقول : « وكان سلام الله عليه اذا احتاج الى شيء قال : يا ربّاه أنا أحتاج الى كذا ، فما يستتمّ دعاؤه إلاّ وذلك الشيء بجنبه موضوع ».

وسبط ابن الجوزي (٢) في تذكرة خواصّ الامّة ص ١٩٢ يقول : « قال علماء السير : قد اشتغل بالعبادة عن طلب الرئاسة » وقال : « ومن مكارم أخلاقه ما ذكره الزمخشري في كتابه ربيع الأبرار عن الشقراني مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : خرج العطاء أيام المنصور ومالي شفيع ، فوقفت على الباب متحيّرا وإذا بجعفر بن محمّد قد أقبل فذكرت له حاجتي ، فدخل وخرج واذا بعطائي في كمّه فناولني إيّاه ، وقال : إن الحسن من كلّ أحد حسن وأنه منك أحسن لمكانك منّا ، وأن القبيح من كلّ أحد قبيح وأنه منك أقبح لمكانك منّا ، وإنما قال له جعفر ذلك لأن الشقراني كان يشرب الشراب ، فمن مكارم أخلاق جعفر أنه رحّب به وقضى له حاجته مع علمه بحاله ، ووعظه على وجه التعريض ، وهذا من أخلاق الأنبياء ».

ومحمّد بن طلحة (٣) في مطالب السؤل ص ٨١ يقول : « وهو من عظماء أهل البيت وساداتهم ذو علوم جمّة ، وعبادة موفرة ، وأوراد متواصلة ، وزهادة

__________________

(١) أبو المواهب عبد الوهاب بن أحمد بن علي الأنصاري الشافعي المصري المعروف بالشعراني دخل القاهرة عام ٩١١ وبها توفى ، ترجم له في معجم المطبوعات : ١ / ١١٢٦ ..

(٢) أبو مظفر شمس الدين يوسف بن قزغلي الواعظ الشهير الحنفي المولود عام ٥٨٢ أو ٥٨١ والمتوفى عام ٦٥٤ في ٢١ ذي الحجّة ..

(٣) كمال الدين الشافعي المتوفى عام ٦٥٤ ..

٧٣

بيّنة ، وتلاوة كثيرة ، يتبع معاني القرآن الكريم ، ويستخرج من بحره جواهره ، ويستنتج عجائبه ، ويقسّم أوقاته على أنواع الطاعات ، بحيث يحاسب عليها نفسه ، رؤيته تذكّر الآخرة ، واستماع حديثه يزهد في الدنيا ، والاقتداء بهديه يورث الجنّة ، نور قسماته شاهد أنه من سلالة النبوّة ، وطهارة أفعاله تصدع بأنه من ذرّيّة الرسالة. وقال : وأمّا مناقبه وصفاته فتكاد تفوت عدد الحاصر ، ويحار في أنواعها فهم اليقظ الباصر ، حتّى أنه من كثرة علومه المفاضة على قلبه من سجال التقوى صارت الأحكام التي لا تدرك عللها والعلوم التي تقصر الأفهام عن الاحاطة بحكمها ، تضاف إليه ، وتروى عنه ».

وفي صواعق ابن حجر (١) : « ونقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان ، وانتشر صيته في جميع البلدان ».

وفي ينابيع المودّة (٢) طبع اسلامبول ص ٣٨٠ « ومن أئمة أهل البيت أبو عبد الله جعفر الصادق » وقال : « وكان من سادات أهل البيت » وقال : « وقال الشيخ أبو عبد الرحمن السالمي في طبقات المشايخ الصوفيّة : جعفر الصادق فاق جميع أقرانه من أهل البيت ، وهو ذو علم غزير ، وزهد بالغ في الدنيا ، وورع تامّ في الشهوات ، وأدب كامل في الحكمة ».

وإليك ما يقوله الحافظ أبو نعيم (٣) في حلية الأولياء ( ٣ : ١٩٢ ) : « ومنهم الامام الناطق والزمام السابق ، أبو عبد الله جعفر بن محمّد الصادق أقبل على العبادة

__________________

(١) المحدّث شهاب الدين أحمد بن حجر الهيثمي نزيل مكّة ..

(٢) هي للشيخ سليمان بن إبراهيم المعروف بخواجه كلان ، وكان فراغه من تأليفها تاسع شهر رمضان عام ١٢٩١ ..

(٣) أحمد بن عبد الله الاصبهاني المتوفى عام ٤٣٠ ..

٧٤

والخضوع ، وآثر العزلة والخشوع ، ونهى (١) عن الرئاسة والجموع » ثم روى عن عمرو بن أبي المقدام كلامه السابق ، وروى عن الهياج بن بسطام (٢) قوله : « وكان جعفر بن محمّد يطعم حتى لا يبقى لعياله شيء ».

ويقول ابن الصبّاغ المالكي (٣) في الفصول المهمّة : « كان من بين اخوته خليفة أبيه ووصيّه ، والقائم بالامامة من بعده برز على جماعته بالفضل وكان أنبههم ذكرا ، وأجلّهم قدرا ، نقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان ، وانتشر صيته وذكره في سائر البلدان » ، وقال في أخريات كلامه : « مناقب أبي عبد الله جعفر الصادق فاضلة ، وصفاته في الشرف كاملة ، وشرفه على جهات الأيام سائلة ، وأندية المجد والعزّ بمفاخره ومآثره آهلة ».

وهذا السويدي (٤) في سبائك الذهب ص ٧٢ يقول : « كان من بين اخوته خليفة أبيه ووصيّه ، نقل عنه من العلوم ما لم ينقل عن غيره ، وكان إماما في الحديث » وقال : « ومناقبه كثيرة ».

وفي عمدة الطالب (٥) ص ١٨٤ : « ويقال له عمود الشرف ، ومناقبه متواترة بين الأنام ، مشهورة بين الخاصّ والعامّ ، وقصده المنصور الدوانيقي بالقتل مرارا فعصمه الله منه ».

__________________

(١) هكذا في الأصل وفي كشف الغمّة عن الحلية « ولها » وكلّ منهما يناسب المقام ..

(٢) التميمي الحنظلي الهروي رحل إلى العراق وسمع علماء عصره ودخل بغداد وحدّث بها ، مات عام ١٧٧ ، ترجم له الخطيب البغدادي : ١٤ / ٨٠ ..

(٣) نور الدين علي بن محمّد بن الصبّاغ المالكي المولود عام ٧٨٤ والمتوفى عام ٨٥٥ ، ترجم له السخاوي في الضوء اللامع : ٥ / ٢٨٣ وذكر مشايخه وكتابه الفصول المهمّة في معرفة الأئمة وهم اثنى عشر ..

(٤) محمد أمين البغدادي ، وآل السويدي من البيوتات الرفيعة في بغداد حتّى اليوم وهو من رجال القرن الماضي ، وفرغ من كتابه في شوّال عام ١٢٢٩ ..

(٥) للنسّابة الشهير جمال الدين أحمد بن علي الداودي الحسني المتوفى عام ٨٢٨ ..

٧٥

والشهرستاني (١) في الملل والنحل : « وهو ذو علم غزير في الدين والأدب ، كامل في الحكمة ، وزهد بالغ وورع تامّ في الشهوات ، وقد أقام بالمدينة مدّة يفيد الشيعة المنتمين إليه ، ويفيض على الموالين أسرار العلوم ، ثم دخل العراق وأقام بها مدّة ما تعرّض للامامة قط (٢) ولا نازع أحدا في الخلافة ، ومن غرق في بحر المعرفة لم يطمع في شط ، ومن تعلّى إلى ذروة الحقيقة لم يخف من حط ، وقيل من آنس بالله توحّش عن الناس ، ومن استأنس بغير الله نهبه الوسواس ».

واليافعي (٣) في مرآة الجنان ( ١ : ٣٠٤ ) فيمن توفي عام ١٤٨ ، يقول : « وفيها توفي الامام السيد الجليل سلالة النبوّة ومعدن الفتوّة ، أبو عبد الله جعفر الصادق ، ودفن بالبقيع في قبر فيه أبوه محمّد الباقر ، وجدّه زين العابدين وعمّ جده الحسن ابن علي رضوان الله عليهم أجمعين ، وأكرم بذلك القبر وما جمع من الأشراف الكرام اولي المناقب ، وإنما لقّب بالصادق لصدقه في مقالته ، وله كلام نفيس في علوم التوحيد وغيرها ، وقد الّف تلميذه جابر بن حيّان الصوفي كتابا يشتمل على ألف ورقة يتضمّن رسائله وهي خمسمائة رسالة ».

والصدوق طاب ثراه (٤) يروي في أماليه المجلس ال ٤٢ عن سليمان بن داود

__________________

(١) أبو الفتح محمّد بن أبي القاسم كان فقيها متكلّما على مذهب الأشعري ، دخل بغداد عام ٥١٠ وأقام بها ثلاث سنين وكانت ولادته بشهرستان وبها توفى عام ٥٤٨ ، ترجم له في الوفيّات ومعجم الادباء وطبقات السبكي وروضات الجنّات ، ومفتاح السعادة وغيرها ..

(٢) يراد من الامامة هنا الامامة التي يعقدها الناس ، وإلاّ فهو إمام اجتمع عليه الناس أو تفرّقوا ، تعرّض للأمر أو صفح ..

(٣) أبو محمّد عبد الله بن سعد بن علي بن سليمان عفيف الدين اليافعي اليماني نزيل الحرمين المتوفى عام ٧٦٨ ..

(٤) محمّد بن علي بن بابويه القميّ المحدّث الجليل صاحب التآليف القيّمة الكثيرة البالغة نحوا من ٣٠٠ مؤلّف ، وقد ورد بغداد عام ٣٥٢ وسمع منه شيوخ الطائفة على حداثة سنّه ، ومات بالري عام ٣٨١ ..

٧٦

المنقري (١) عن حفض بن غياث (٢) انه كان إذا حدّثنا عن جعفر بن محمّد عليه‌السلام قال : « حدّثني خير الجعافرة ».

وروى الصدوق أيضا فيه مسندا عن علي بن غراب (٣) انه كان إذا حدّثنا عن جعفر بن محمّد قال : « حدّثنا الصادق عن الله ، جعفر بن محمّد ... ».

وروى أيضا في ال ٣٢ مسندا عن محمّد بن زياد الأزدي (٤) قال : سمعت مالك ابن أنس (٥) يقول : أدخل الى الصادق جعفر بن محمّد عليه‌السلام فيقدّم لي مخدّة ، ويعرف لي قدرا ، وكان لا يخلو من إحدى ثلاث خصال إمّا صائما وإما قائما وإما ذاكرا ، وكان من عظماء العبّاد واكابر الزهّاد ، الذين يخشون الله عزّ وجلّ وكان كثير الحديث ، طيّب المجالسة ، كثير الفوائد ، فإذا قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اخضرّ مرّة ، واصفرّ اخرى ، حتّى ينكره من يعرفه ، ولقد

__________________

(١) المعروف بابن الشاذكوني وهو ممن روى عن الصادق عليه‌السلام وعن رواته وكان من ثقات الرواة ..

(٢) الكوفي القاضي ، وسيأتي في الثقات من مشاهير رواة الصادق عليه‌السلام ، والظاهر أنه من أهل السنّة ..

(٣) ابن عبد العزيز وهو ممّن روى عن الصادق عليه‌السلام واستظهر بعض الرجاليين أنه من أهل السنّة إلاّ أن ابن النديم في الفهرست عدّه من مشايخ الشيعة الذين رووا الفقه عن الأئمة عليهم‌السلام ..

(٤) هو المعروف بابن أبي عمير وقد لقي الكاظم والرضا والجواد عليهم‌السلام ، حبسه الرشيد ليلي القضاء ، وقيل ليدلّه على مواضع الشيعة وأصحاب الكاظم عليه‌السلام ، وقيل ضرب أسواطا ونالت منه فلم يقر ، وقد رويت عنه كتب مائة رجل من أصحاب الصادق عليه‌السلام ، وله مصنّفات كثيرة ، وهو ممّن لا يروي إلاّ عن ثقة ، وقد أجمع العصابة على قبول مراسيله ، وهو من العصابة الذين أجمعوا على تصحيح ما يصحّ عنهم ، وقد اتفق الفريقان على وثاقته وعلوّ منزلته ، وقيل : إنما قبلوا مراسيله لأنه دفن كتبه يوم حبس فتلفت فروى ما علق منها في ذهنه ، فمن ثمّ قد ينسى الراوي وإن حفظ الرواية ، مات عام ٢١٧ ..

(٥) المدني أوّل المذاهب الأربعة ، وهو ممّن أخذ عن الصادق عليه‌السلام كما سيأتي في أصحاب الصادق عليه‌السلام ، وهو مذهب أهل الحجاز والنسبة إليه مالكي ..

٧٧

حججت معه سنة فلمّا استوت به راحلته عند الاحرام كان كلّما همّ بالتلبية انقطع الصوت في حلقه ، وكاد أن يخرّ عن راحلته ، فقلت : يا بن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا بدّ لك من أن تقول ، فقال : يا بن عامر كيف أجسر أن أقول لبّيك اللهمّ لبّيك ، وأخشى أن يقول عزّ وجل : لا لبّيك ولا سعديك.

وابن شهر اشوب (١) في كتابه المناقب في أحوال الصادق عليه‌السلام يروي عن مالك بن أنس أيضا قوله : ما رأت عين ولا سمعت اذن ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر الصادق فضلا وعلما وعبادة وورعا ، وزاد الصدوق في أماليه في ال ٨١ قوله : كان والله إذا قال صدق.

وقال أيضا : وذكر أبو القاسم البغار في مسند أبي حنيفة (٢) قال الحسن بن زياد : سمعت أبا حنيفة وقد سئل : من أفقه من رأيت؟ قال : جعفر بن محمّد ، لمّا أقدمه المنصور بعث إليّ فقال : يا أبا حنيفة إن الناس قد فتنوا بجعفر بن محمّد فهيّئ له مسائلك الشداد ، فهيّأت له أربعين مسألة ، ثم بعث إليّ أبو جعفر وهو في الحيرة فأتيته فسلّمت عليه ، فأورد إليّ المجلس فجلست ثم التفت إليه فقال : يا أبا عبد الله هذا أبو حنيفة ، قال : نعم أعرفه ، ثمّ التفت إليّ فقال : الق على أبي عبد الله من مسائلك ، فجعلت القي عليه فيجيبني فيقول : أنتم تقولون كذا ، وأهل المدينة يقولون كذا ، ونحن نقول كذا ، فربما تابعناكم ، وربما تابعناهم ، وربما خالفنا جميعا ، حتّى أتيت على الأربعين مسألة ، فما أخلّ منها

__________________

(١) محمّد بن علي المازندراني رشيد الدين من مشايخ الطائفة وفقهائها وكان شاعرا بليغا منشأ وله مصنّفات عديدة منها : معالم العلماء ، وكتاب أنساب آل أبي طالب ، وكتاب مناقب آل أبي طالب ، وهو الذي أشرنا إليه في الأصل ، وكثيرا ما نروي عنه في هذا الكتاب ..

(٢) النعمان بن ثابت ثاني المذاهب لأهل السنّة وهو أيضا ممّن أخذ عن الصادق عليه‌السلام ، والنسبة إليه حنفي ، وسيأتي الكلام عليه في أصحاب الصادق عليه‌السلام ..

٧٨

بشيء ، ثمّ قال أبو حنيفة : أليس أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس.

بل ان المنصور نفسه وهو من علمت كيف يحرّق الارّم (١) على أبي عبد الله عليه‌السلام قد ينطق بالحقّ ، عند ذكره أو مقابلته ، فيقول : هذا الشجي المعترض في حلقي من أعلم الناس في زمانه (٢) ويقول أخرى : وإنه ممّن يريد الآخرة.

لا الدنيا (٣) ويقول تارة : إنه ليس من أهل بيت نبوّة إلاّ وفيه محدّث ، وإن جعفر بن محمّد محدّثنا اليوم (٤) ويقول مخاطبا للصادق عليه‌السلام : لا نزال من بحرك نغترف ، وإليك نزدلف ، تبصر من العمى ، وتجلو بنورك الطخياء (٥) فنحن نعوم في سحاب قدسك ، وطامي بحرك (٦) ، ويقول لحاجبه الربيع : وهؤلاء من بني فاطمة لا يجهل حقّهم إلاّ جاهل لا حظّ له في الشريعة (٧).

ويقول إسماعيل بن علي بن عبد الله بن العبّاس : دخلت على أبي جعفر المنصور يوما وقد اخضلّت لحيته بالدموع ، وقال لي : ما علمت ما نزل بأهلك فقلت : وما ذاك يا أمير المؤمنين ، قال : فإنّ سيّدهم وعالمهم وبقيّة الأخيار منهم توفي ، فقلت ومن هو؟ قال : جعفر بن محمّد ، فقلت : أعظم الله أجر أمير المؤمنين وأطال لنا بقاءه ، فقال لي : إن جعفرا كان ممّن قال الله فيه « ثمّ اورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا » وكان ممّن اصطفى الله ، وكان من السابقين في

__________________

(١) كركع ـ الأضراس ، ولتولّد الحرارة فيها من حكّ بعضها ببعض يقال يحرقها ، وهو مثل يضرب لمن يبلغ به الغيظ شدّته لأن الحكّ من آثاره ..

(٢) كتاب الوصيّة للمسعودي ..

(٣) كشف الغمّة عن تذكرة ابن حمدون : ٢ / ٢٠٩ ..

(٤) الكافي : باب مولده عليه‌السلام : ١ / ٤٧٥ ، وبصائر الدرجات ، والمناقب ، والخرائج والجرائح ..

(٥) الليلة المظلمة ، ولعلّه كناية عن الأمور المشكلة التي لا يهتدي الناس إلى حلّها ..

(٦) بحار الأنوار : في أحوال الصادق عليه‌السلام : ٤٧ / ١٩٩ ..

(٧) مهج الدعوات لابن طاوس : ص ١٩٢ ، بحار الأنوار : ٤٧ / ١٩٩ ..

٧٩

الخيرات (١).

هذا وهو المنصور العدوّ الألدّ للصادق ، الذي كان مجاهدا في النيل من كرامته والقضاء عليه.

بل أن الملاحدة على كفرهم وعدائهم للاسلام ورجاله كانوا يعظّمونه ويعترفون له بغزارة العلم ، والميزة بالصفات الروحيّة والملكات القدسيّة ، أمثال ابن المقفّع وابن أبي العوجاء والديصاني وغيرهم ، فهذا ابن المقفع يقول : ترون هذا الخلق ـ وأومأ بيده الى موضع الطواف ـ ما منهم أحد أوجب له اسم الانسانيّة إلاّ ذلك الشيخ الجالس ، يعني الصادق عليه‌السلام ، وقال ابن أبي العوجاء : ما هذا ببشر ، وإن كان في الدنيا روحاني يتجسّد اذا شاء ويتروّح اذا شاء باطنا فهو هذا ، يعني الصادق عليه‌السلام. (٢)

وكان ابن أبي العوجاء اذا سأل أحد أصحاب الصادق عليه‌السلام عن شيء غامض واستمهله ، ثمّ أتاه بالجواب بعد حين واستحسنه ، قال : هذه نقلت من الحجاز.

وهكذا كان الديصاني مع أصحاب الصادق عليه‌السلام ، وما يقوله فيم يحملون إليه جوابه.

وهذه قطرة من غيث ممّا نطق به أهل الفضل في شأن الصادق عليه‌السلام مع اختلاف الزمن والبلد والذوق والرأي في القائلين ، اقدّمها أمام الدخول في حياته التفصيليّة لتعطيك صورة إجماليّة عن هذه الشخصيّة الفذّة ، فإن هذه الكلمات مع وجازتها تعلم القارئ عمّا لأبي عبد الله عليه‌السلام من فضيلة بل فضائل ، وعمّا له من آثار ومآثر.

__________________

(١) تأريخ اليعقوبي : ٣ / ١١٧ ..

(٢) الكافي : كتاب التوحيد منه ، باب حدوث العالم وإثبات المحدث : ١ / ٧٤ ..

٨٠