الإمام الصادق عليه السلام - ج ١

الشيخ محمّد حسين المظفّر

الإمام الصادق عليه السلام - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد حسين المظفّر


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٤
الصفحات: ٢٦٨
الجزء ١ الجزء ٢

فمن ثمّ لا يصحّ لدينا من تلك الفرق التي نسبت إلى المرجئة إلاّ الجهميّة أصحاب جهم بن صفوان لصراحة اعتقادهم بما ذكرناه عنهم ولإجماع المؤلّفين.

كما أنه قد رووا في لعن المرجئة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما نحن براء من تبعته مثل قوله : لعنت المرجئة على لسان سبعين نبيّا ، قيل : من المرجئة يا رسول الله؟ قال : الذين يقولون : الايمان كلام (١).

والخلاصة : أن المرجئة كانت ولا شكّ في ذلك العهد ، كما أنها كانت وهي ذات فرق ، ويجمعها في الاعتقاد ما ذكرناه من كفاية القول في الايمان وإن لم يكن عمل يطابق ذلك الاعتقاد ، بل حتّى لو كان العمل على نقيض ذلك القول ، ولسنا في حاجة إلى الغور في تشعّباتها وخصوصيّات ما اعتقدته تلك الشعب لجواز ألاّ نصيب شاكلة الهدف ، ونحن في فسحة من الوقوع في أمثال هذه المزالق ، نسأله تعالى العصمة من الخطأ ، والأمان من العثار.

٢ ـ المعتزلة :

لا نشكّ في أن الاعتزال وليد عصر الصادق عليه‌السلام ، وفي ذلك العصر نشأ وشبّ ، وذلك حين اعتزل عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء وغيرهما حوزة الحسن البصري فنبذوهم بهذا اللقب ، وما قيل من أنه وليد عصر أمير المؤمنين عليه‌السلام حينما اعتزل سعد بن أبي وقاص وابن عمر وأسامة بن زيد حروب أمير المؤمنين فلا وجه له ، لأن ذلك الاعتزال لم يكن اعتزالا مذهبيّا على أساس في الرأي أو شبهة في الدين ، وما كان إلاّ انحرافا عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ولذا لم يكن اسم الاعتزال معروفا في ذلك العهد ، ولا سمّي هؤلاء بالمعتزلة في ذلك

__________________

(١) الفرق بين الفرق ص ١٩٠ ..

٤١

اليوم ، ولا أن المعتزلة ينتمون إلى أولئك في المذهب.

والمعتزلة افترقت فرقا كثيرة بعد أن اتفقت على الاعتزال ، وليس في يومنا الحاضر أحد معروف النسبة إليه على ما أحسب ، والذي يجمع عقيدة الاعتزال ما نقله صاحب « الفرق بين الفرق » ص ٩٤ عن الكعبي في مقالاته : إن المعتزلة أجمعت على أن الله عزّ وجل شيء لا كالأشياء ، وأنه خالق الأجسام والاعراض ، وأنه خلق كلّ ما خلقه من لا شيء ، وأن العباد يفعلون أعمالهم بالقدر التي خلقها الله سبحانه وتعالى فيهم ، قال : وأجمعوا على أن الله لا يغفر لمرتكبي الكبائر بلا توبة.

هذا ما حكاه عن الكعبي في القول الجامع في الاعتقاد لفرق المعتزلة ، ونكتفي به عن الكلام عمّا يعتقدون ، ولسنا بصدد التمحيص لنضع هذا الكلام في ميزان النقد ، ونتعرّف صحة ما صوّبه صاحب الفرق نحو هذا الزعم كما دعانا هذا لإغفال ما ينسبه إليهم ابن حزم والشهرستاني وصاحب الفرق من الأقوال الكثيرة.

ثمّ اننا بعد هذا لا نتبسّط في البحث عن فروع ذلك الأصل ، وما يمتاز به كلّ فرع منها في الاعتقاد فيما يزيد على الجامع ، فإن التبسّط خروج عن الخطّة الموسومة ، مع اننا لا نأمن من العثار.

وهل القدريّة هم هؤلاء المعتزلة؟ أو هم نفس الأشاعرة؟ ذلك موضع الشكّ ، لأنّا إن أردنا من القدريّة من يقول : بأن أفعال العباد مخلوقة لهم وأنها من صنعهم وتقديرهم وإنما خلق الله فيهم قوّة وقدرة بها يفعل العباد أعمالهم فهم المعتزلة ، على ما نقل عنهم من القول الجامع السابق ، ولا يكونون على هذا نفس الأشاعرة ، لأن الأشاعرة على العكس من ذلك يرون أن الأفعال كلّها من صنع الله تعالى وتقديره دون العبد.

٤٢

وإن أردنا من القدريّة من يقول بأن القدر خيره وشرّه من الله تعالى فيكونون حينئذ هم الأشاعرة يقينا.

وقد روى الشهرستاني عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : القدريّة مجوس هذه الأمّة ، وقوله : القدريّة خصماء الله في القدر. (١)

ولا ندري ـ إن صحّت الرواية ـ أين يتوجّه هذا الذمّ الصريح ، والسمة الفاضحة.

٣ ـ الشيعة :

كان التشيّع على عهد صاحب الشريعة الغرّاء وسمّى بعض الصحابة بالشيعة من ذلك اليوم ، أمثال سلمان وأبي ذر والمقداد وعمّار وحذيفة وخزيمة وجابر وأبي سعيد الخدري وأبي أيوب وخالد بن سعيد بن العاص وقيس بن سعد وغيرهم (٢).

والشيعة لغة : ـ الأتباع والأنصار والأعوان ، وأصله من المشايعة ـ المطاوعة والمتابعة ، ولكن هذا اللفظ اختصّ بمن يوالي عليّا وأهل بيته عليهم‌السلام (٣).

وأوّل من نطق بلفظ الشيعة قاصدا به من يتولّى عليّا والأئمة من بنيه هو صاحب الشريعة سيد الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد جاءت عنه في ذلك عدّة أحاديث (٤).

__________________

(١) انظر الملل والنحل المطبوع على هامش الفصل : ١ / ٥٠ ـ ٥١ ..

(٢) الاستيعاب في أبي ذر ، والدرجات الرفيعة للسيد علي خان في ترجمة سلمان ، وروضات الجنّات نقلا عن كتاب الزينة لأبي حاتم الرازي ، وشرح النّهج : ٤ / ٢٢٥ ، وخطط الشام لمحمّد كرد علي : ٥ / ٢٥١ ـ ٢٥٦ ..

(٣) القاموس ولسان العرب ونهاية ابن الأثير ومقدّمة ابن خلدون ص ١٣٨ إلى كثير غيرها ..

(٤) راجع في ذلك الصواعق بعد الآية الثامنة والآية العاشرة من الآيات الواردة في فضل ..

٤٣

وأما فرق الشيعة فهي كثيرة ، وقد أنهتها بعض كتب الملل والنحل إلى أكثر ممّا نعرفه عنها ، فذكرت فرقا كثيرة ، ورجالا تنسب الفرق إليهم ، أمثال الهشاميّة نسبة إلى هشام بن الحكم ، والزراريّة نسبة إلى زرارة بن أعين ، والشيطانيّة نسبة إلى مؤمن الطاق محمّد بن النعمان الأحول ، واليونسيّة نسبة إلى يونس بن عبد الرحمن ، إلى غيرها ، والحقّ اننا من أهل البيت وأهل البيت أدرى بما فيه لا نعرف عينا ولا أثرا لهذه الفرق ، ولا للبدع التي نسبت لهؤلاء الرجال.

وإنّ من نظر في كتب الحديث وكتب الرجال للشيعة عرف أن هؤلاء من خواصّ الأئمة الذين يعتمدون عليهم ويرجعون الشيعة إليهم ، ولو كان لهم آراء ومذاهب لا يرتضيها الأئمة لسخطوا عليهم وأبعدوهم عنهم ، ومن سبر ما جاء عنهم في الرجال الذين انتحلوا البدع لعلم أن هؤلاء برآء مما نسبوه إليهم ، فإنهم برءوا من ابن سبأ ولعنوه وحذّروا من بدعه ، وبرءوا من المغيرة بن سعيد حين صار يكذب على الباقر عليه‌السلام ويدّعي الأباطيل ، كما برىء الصادق عليه‌السلام من أبي الخطّاب وجماعته ، ومن أبي الجارود وكما قالوا في بني فضال : خذوا ما رووا ودعوا ما رأوا ، وكما برىء الحجّة المغيب من جماعة خلطوا في الدين وادّعوا أنهم أبوابه ، إلى غير هؤلاء (١) ولو كان مثل هؤلاء الصفوة على مثل تلك الضلالات التي نسبت إليهم لكان نصيبهم من الأئمة نصيب غيرهم من الضالّين البراءة منهم والذمّ واللعن لهم.

نعم كانت للشيعة فرق قبل عصر الصادق عليه‌السلام وبعده وقد ذهبت ذهاب أمس الدابر ، ولم يبق منها اليوم شيء معروف إلاّ ثلاث فرق :

__________________

اهل البيت ، ونهاية ابن الأثير في قمح ، والدرّ المنثور للسيوطي في تفسير قوله تعالى : « إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات اولئك خير البريّة » إلى نظائرها من الكتب ..

(١) انظر في ذلك كلّه غيبة الشيخ الطوسي طاب ثراه ..

٤٤

١ ـ الإماميّة : وهم القائلون بإمامة الاثنى عشر ، وولادة الثاني عشر ووجوده اليوم حيّا ويترقّبون كلّ حين ظهوره.

٢ ـ الزيديّة : وهم الذين يرون إمامة زيد وكلّ من قام بالسيف من بني فاطمة ، وكان مجمعا للخصال الحميدة.

٣ ـ الاسماعيليّة : وهم الذين يجعلون الامامة بعد الصادق عليه‌السلام في ابنه إسماعيل دون موسى وبنيه عليهم‌السلام.

هذا ما بقي من فرق الشيعة ظاهرا يعرف منذ عهد بعيد حتّى الزمن الحاضر ، وأما ما كان منهم في الزمن الماضي ، فقد بحث عنه النوبختي في كتابه « فرق الشيعة » وليس اليوم منها فرقة معروفة عدا ما ذكرناه.

والذي يهمّنا ذكره من بينها هو ما كان في أيام الصادق عليه‌السلام وإن لم يبق اليوم منهم نافخ ضرمة.

الكيسانيّة : *

فمن فرق الشيعة في عهد الصادق عليه‌السلام ( الكيسانيّة ) وهم الذين قالوا بإمامة محمّد بن الحنفيّة ، وقد اختلفوا في سبب تسميتهم بهذا الاسم ، وهم ينتهون إلى فرق :

فرقة قالت بأن محمّدا ، هو المهدي ، وهو وصيّ أمير المؤمنين عليه‌السلام وليس لأحد من أهل بيته مخالفته ، وأن مصالحة الحسن عليه‌السلام لمعاوية كانت بإذنه ، وخروج الحسين عليه‌السلام أيضا بإذنه ، كما أن خروج المختار

__________________

(*) اننا نستند على الكثير ممّا نذكره عن الكيسانيّة إلى كتاب فرق الشيعة ، والملل والنحل ، والفرق بين الفرق ..

٤٥

طالبا بالثأر أيضا بإذنه ، وفرقة قالت بإمامته بعد أخويه الحسنين عليهما‌السلام ، وإنه هو المهدي وبذلك سمّاه أبوه ، وإنه لم يمت ولا يموت ولا يجوز ذلك ، ولكنه غاب ولا يدري أين هو ، وسيرجع ويملك الأرض ، ولا إمام بعد غيبته إلى رجوعه وهم أصحاب ابن كرب ويسمّون « الكربيّة ».

وفرقة قالت : بأنه مقيم بجبال رضوى بين مكّة والمدينة ، وهو عندهم الإمام المنتظر.

وفرقة قالت : بأنه مات والامام بعده ابنه عبد الله ، ويكنّى أبا هاشم وهو أكبر ولده ، وإليه أوصى أبوه ، وسميّت هذه الفرقة « الهاشميّة » بأبي هاشم ، وهذه الفرقة قالت فيه كما قالت الفرق الاول في أبيه ، بأنه المهدي وأنه حيّ لم يمت بل غلوا فيه وقالوا إنه يحيي الموتى ، ولكن لمّا توفي أبو هاشم افترقت أصحابه إلى فرق.

وكان من الكيسانيّة رجال لهم ذكر ونباهة ، منهم كثير عزّة وله بذلك شعر يروى.

وكان منهم السيد إسماعيل الحميري الشهير. وله أيضا شعر يشهد بما نسبوه إليه ، ولكنه عدل عن ذلك إلى القول بإمامة الصادق عليه‌السلام بعد أن ناظره الصادق وأقام الحجّة عليه ، وله في العدول والذهاب إلى إمامة الصادق شعر مذكور.

ومنهم حيّان السّراج ، وقد دخل يوما على الصادق عليه‌السلام فقال له أبو عبد الله : يا حيّان ما يقول أصحابك في محمّد بن الحنفيّة؟ قال : يقولون : إنه حيّ يرزق ، فقال الصادق عليه‌السلام : حدّثني أبي عليه‌السلام : إنه كان فيمن عاده في مرضه وفيمن غمضه وأدخله حفرته وزوّج نساءه وقسّم ميراثه ، فقال : يا أبا عبد الله إنّما مثل محمّد في هذه الأمّة كمثل عيسى بن مريم شبّه أمره

٤٦

للناس ، فقال الصادق عليه‌السلام : شبّه أمره على أوليائه أو على أعدائه؟ قال : بل على أعدائه ، فقال عليه‌السلام : أتزعم أن أبا جعفر محمّد بن علي عليهما‌السلام عدوّ عمّه محمّد بن الحنفيّة؟ فقال : لا ، ثمّ قال الصادق عليه‌السلام : يا حيّان إنكم صدفتم (١) عن آيات الله وقد قال تبارك وتعالى « سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون » (٢).

وقال بريد العجلي (٣) : دخلت على الصادق عليه‌السلام فقال لي : لو سبقت قليلا لأدركت حيّان السرّاج ، واشار إلى موضع في البيت ، فقال : كان هاهنا جالسا ، فذكر محمّد بن الحنفيّة وذكر حياته ، وجعل يطريه ويقرضه ، فقلت له : يا حيّان أليس تزعم ويزعمون ، وتروي ويروون : لم يكن في بني إسرائيل شيء إلاّ وهو في هذه الأمّة مثله؟ قال : بلى ، فقلت : هل رأينا ورأيتم ، وسمعنا وسمعتم بعالم مات. على أعين الناس ، فنكحت نساؤه وقسّمت أمواله ، وهو حيّ لا يموت؟ فقام ولم يردّ عليّ شيئا (٤).

والكيسانيّة من الفرق البائدة ، ولا نعرف اليوم قوما ينتسبون إليها.

الزيديّة :

ومن الفرق التي تنسب إلى التشيّع ( الزيديّة ) نسبة إلى زيد بن علي بن الحسين عليهما‌السلام ، لأنهم قالوا بإمامته.

__________________

(١) أعرضتم ..

(٢) إكمال الدين للصدوق طاب ثراه ص ٢٢ ، ورجال الكشي ص ٢٠٣ ، والآية في سورة الأنعام : ١٥٧ ..

(٣) من أصحاب الصادق ومشاهير ثقاتهم ..

(٤) رجال الكشى في ترجمة حيّان ص ٢٠٢ ..

٤٧

وزيد عليه‌السلام ما ادّعى الامامة لنفسه بل ادّعتها الناس له ، وما دعاه للنهضة إلاّ نصرة الحقّ وحرب الباطل ، وزيد أجلّ شأنا من أن يطلب ما ليس له ، ولو ظفر لعرف أين يضعها ، وقد نسبت بعض الأحاديث ادّعاءه الإمامة لنفسه ، ولكن الوجه فيها جليّ ، لأن الصادق عليه‌السلام كان يخشى سطوة بني أميّة ، ولا يأمن من أن ينسبوا إليه خروج زيد ، وإن قيامه بأمر منه ، فيؤخذ هو وأهله وشيعته بهذا الجرم ، فكان يدفع ذلك الخطر بتلك النسبة ، ولو كان زيد كما تذكره هذه الأحاديث لم يبكه قبل تكوينه جدّاه المصطفى والمرتضى عليهما وآلهما السّلام ، ولم تبلغ بهما ذكريات ما يجري عليه مبلغا عظيما من الحزن والكآبة ، كما هو الحال في آبائه عند ما يذكرون مقتله وما يجري عليه بعد القتل.

وكفى في إكبار نهضته وبراءته مما يوصم به بكاء الصادق عليه‌السلام عليه وتقسيمه الثائرين معه بالمؤمنين ، والمحاربين له بالكافرين.

وكيف يكون قد طلب الامامة لنفسه والصادق عليه‌السلام يقول : رحمه‌الله أما أنه كان مؤمنا وكان عارفا وكان عالما وكان صدوقا ، أما أنه لو ظفر لوفى ، أما أنه لو ملك لعرف كيف يضعها (١). ويقول : ولا تقولوا خرج زيد فإن زيدا كان عالما ، وكان صدوقا ، ولم يدعكم إلى نفسه ، إنما دعاكم إلى الرضا من آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) ولو ظفر (٣) لوفى بما دعاكم إليه ، وإنما خرج إلى سلطان مجتمع لينقضه (٤).

__________________

(١) رجال الكشي في ترجمة السيّد الحميري ص ١٨٤ ..

(٢) الرضا : كناية عن إمام الوقت من أهل البيت وإنما يكنّي عنه حذرا عليه من التصريح باسمه ..

(٣) ظهر : في نسخة ..

(٤) الوافي : عن الكافي ، كتاب الحجّة ، باب أن زيد بن علي مرضي : ١ / ١٤١ ..

٤٨

ويقول الرضا عليه‌السلام للمأمون : لا تقس أخي زيدا إلى زيد بن علي عليهما‌السلام فإنه كان من علماء آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غضب لله عزّ وجلّ فجاهد أعداءه حتى قتل في سبيله ، إلى أن يقول : إن زيد بن علي عليه‌السلام لم يدع ما ليس له بحق ، وإنه كان أتقى لله من ذلك ، إنه قال : أدعوكم للرضا من آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١).

ولم تكن هذه الصراحة من الرضا عليه‌السلام إلاّ لأن العهد عهد العبّاسيّين ويقول ابنه يحيى : رحم الله أبي كان أحد المتعبّدين قائما ليلة صائما نهاره جاهد في سبيل الله حقّ جهاده ، فقال عمير بن المتوكل البلخي : فقلت : يا بن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هكذا يكون الامام بهذه الصفة ، فقال : يا عبد الله إن أبي لم يكن بإمام ، ولكن كان من السادة الكرام وزهّادهم ، وكان من المجاهدين في سبيل الله ، قال : قلت : يا بن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إن أباك قد ادعى الامامة لنفسه وخرج مجاهدا في سبيل الله ، وقد جاء عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيمن ادّعى الامامة كاذبا ، فقال : مه مه يا عبد الله إن أبي كان أعقل من أن يدّعي ما ليس له بحق ، إنما قال : أدعوكم إلى الرضا من آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، عنّى بذلك ابن عمّي جعفرا عليه‌السلام ، قال : قلت : فهو اليوم صاحب فقه ، قال : نعم هو أفقه بني هاشم. (٢)

وهذا الحديث كما كشف عن منزلة زيد الرفيعة في الدين والفضيلة وبطلان ما نسبوه إليه ، فقد أثبت ليحيى مقاما عليّا في الورع والعلم والفقه.

والأحاديث عن نزاهة زيد عن تلك الدعوى وافرة جمّة ، فهو أتقى وأنقى من

__________________

(١) نفس المصدر ..

(٢) كفاية الأثر : ٣٠٤ ..

٤٩

أن يلوّث نفسه الطاهرة بدعوى الامامة ، وإنّما ادّعتها له بعض الناس بعد وفاته فعرفوا بالزيديّة لتلك المقالة.

والزيديّة فرق يجمعها القول : بأن الامامة في أولاد فاطمة عليها‌السلام ولم يجوّزوا ثبوت إمامة في غيرهم ، إلاّ أنهم جوّزوا أن يكون كلّ فاطميّ عالم زاهد شجاع سخيّ خرج بالسيف إماما واجب الطّاعة سواء كان من أولاد الحسن عليه‌السلام أو من أولاد الحسين عليه‌السلام ، ومن ثم قالت طائفة منهم بإمامة محمّد وإبراهيم ابني عبد الله بن الحسن بن الحسن عليه‌السلام (١) أحسب أن اشتراط الامامة في بني فاطمة إنما كان منهم فيمن يكون إماما بعد زيد ، لأن بعض الفرق منهم رأت ثبوت الامامة للشيخين كما ستعرف.

البتريّة :

فمن فرق الزيديّة ( البتريّة ) وهم أصحاب كثير النواء ، والحسن بن صالح بن حي ، وسالم بن أبي حفصة ، والحكم بن عيينة ، وسلمة بن كهيل ، وأبي المقدام ثابت الحدّاد ، وهم الذين دعوا إلى ولاية علي عليه‌السلام ثم خلطوها بولاية أبي بكر وعمر وأثبتوا لهما الامامة ، وطعنوا في عثمان وطلحة والزبير وعائشة. وقيل : سمّوا بالبتريّة لأن زيد بن علي قال لهم عند ما أخذوا يذكرون معتقداتهم : بترتم أمرنا بتركم الله ، وقيل : سمّوا بذلك لأنّهم منسوبون إلى كثير النواء وكان أبتر اليد (٢).

ولو صحّت هذه النسبة لكان الأصح فيها أن يقال ـ الأبتريّة ـ لا البتريّة.

__________________

(١) الملل والنحل المطبوع في هامش الفصل : ١ / ١٥٩ ..

(٢) منهج المقال للشيخ أبي علي الحائري في الألقاب ..

٥٠

السليمانيّة :

ومنهم ( السليمانيّة ) نسبة إلى سليمان بن جرير ، وكانوا يرون إمامة الشيخين ، ولكن يطعنون في عثمان وطلحة والزبير وعائشة ، وينسبونهم إلى الكفر ، ويرون أن الامامة شورى ، وتنعقد بعقد رجلين من خيار الأمّة ، وأجازوا إمامة المفضول مع وجود الأفضل وزعموا أن الأمّة تركت الأصلح في البيعة لما بايعوا أبا بكر وعمر ، وتركوا عليّا عليه‌السلام لأن عليّا كان أولى بالامامة منهما ، إلاّ أن الخطأ في بيعتهما لا يوجب كفرا ولا فسقا (١).

ومن هاهنا نستظهر أن ما ينسب إلى الزيديّة من الدعوى بأن الامامة لا تثبت في غير أولاد فاطمة إنما هو فيمن بعد زيد من القائمين بالسيف.

كما انّنا لا نعرف وجها في عدّ هاتين الفرقتين في عداد فرق الشيعة.

الجاروديّة :

ومنهم ( الجاروديّة ) نسبة إلى زياد بن المنذر أبي الجارود السرحوب الأعمى الكوفي ، وقد يسمّون السرحوبيّة ، وقيل : إن السرحوب اسم شيطان أعمى يسكن البحر فسمّي أبو الجارود به ، وكان أبو الجارود من أصحاب الباقر والصادق عليهما‌السلام ، ولمّا خرج زيد تغيّر ، وجاء عن الصادق عليه‌السلام لعنه وتكذيبه وتكفيره ومعه كثير النواء وسالم بن أبي حفصة وجاء فيه أيضا أعمى البصر أعمى القلب (٢).

والجاروديّة يرون أن الناس قصّروا في طلب معرفة الامام لأنه كان

__________________

(١) الفرق بين الفرق : ص ٢٣ ، والملل على الفصل : ١ / ١٦٤ ..

(٢) انظر ترجمته في كتب الرجال ..

٥١

بإمكانهم معرفته ، بل كفروا حين بايعوا أبا بكر ، فهم لا يرون إمامة الخلفاء الثلاثة ، بل يرون كفرهم ، حيث ادّعوا الامامة ولم يبايعوا عليّا عليه‌السلام. (١)

الصالحيّة :

وقيل : إن منهم ( الصالحيّة ) نسبة إلى الحسن بن صالح ، وقد عرفت انّهم من البتريّة ، لأن الحسن هذا من رجال البتريّة ، فلا وجه لعدّهم فرقة مستقلّة ، نعم هناك فروق طفيفة بينه وبين كثير النواء أوّل رجال البتريّة لا تستدعي أن تكون فرقته فرقة تباين البتريّة.

وقد ذكر الزيديّة النوبختي في كتابه ـ فرق الشيعة ـ على غير هذا النهج ، وزاد فيها : غير أننا رأينا أن ما سطّرناه أقرب إلى ما ذكرته كتب الملل والنحل ، فراجع إن طلبت الاستيضاح.

الإسماعيليّة :

ومن فرق الشيعة ( الإسماعيليّة ) وقد نشأ القول بإمامة إسماعيل أيّام الصادق عليه‌السلام ، إلاّ أنه كان من بعضهم على سبيل الظنّ لأن الامامة في الاكبر وإسماعيل اكبر اخوته ، مع ما كان عليه من الفضل ، فلمّا مات أيّام أبيه انكشف لهم الخطأ.

وأما من بقي مصرّا على إمامته فهم على فرق ، لأنّهم بين من أنكر موته في حياة أبيه عليه‌السلام ، وقالوا : كان ذلك على وجه التلبيس من أبيه على الناس ، لأنه خاف عليه فغيّبه عنهم ، وزعموا أن إسماعيل لا يموت حتّى يملك

__________________

(١) الفرق بين الفرق : ص ٢٢ ، والملل على هامش الفصل : ١ / ١٦٣ ..

٥٢

الأرض ويقوم بأمر الناس ، وأنه هو القائم ، لأن أباه أشار إليه بالامامة بعده ، فلمّا ظهر موته علمنا أنه قد صدق ، وأنه القائم لم يمت.

وبين من قال بموته وأن الامامة انتقلت الى ابنه محمّد ، لأن الامامة لا تكون إلاّ في الأعقاب ، ولا تكون في الاخوة إلاّ في الحسن والحسين عليهما‌السلام فلما مات إسماعيل وجب أن يكون الامام بعد جعفر عليه‌السلام محمد بن إسماعيل ، ولا يجوز أن يكون أحد من اخوة إسماعيل هو الامام ، كما لم يكن لمحمّد بن الحنفيّة حقّ مع علي بن الحسين عليهما‌السلام ، وأصحاب هذا القول يسمّون « المباركة » برئيس لهم يسمّى المبارك.

وأمّا ( الخطّابيّة ) أصحاب أبي الخطّاب محمّد بن أبي زينب الأسدي الأجدع فقد دخلوا في الفرقة التي قالت بإمامة محمّد بن إسماعيل بعد قتل أبي الخطّاب ، وهم من الأصناف الغالية ، وتشعّبوا على فرق والقرامطة منهم (١).

وكان أبو الخطّاب من أصحاب الصادق عليه‌السلام ، ولمّا بلغ الصادق أنه يكذب عليه طرده وتبرّأ منه ولعنه.

ثمّ أنه ادّعى النبوّة واولوهيّة جعفر بن محمّد عليهما‌السلام ، وأنه مرسل من قبله ، وظهرت منه ومن جماعته بدع وأهواء وإباحات ، ولمّا بلغ عيسى بن موسى عامل المنصور على الكوفة ما عليه أبو الخطّاب وجماعته وكانوا سبعين رجلا مجتمعين في مسجد الكوفة حاربهم فقتلهم جميعا ، فلم يفلت منهم إلاّ رجل واحد أصابته جراحات فعدّ في القتلى فتخلّص ، وحمل أبو الخطّاب أسيرا فقتله عيسى ابن موسى على شاطئ الفرات ، وصلبه مع جماعة منهم ثم أمر بإحراقهم فأحرقوا ، وبعث برءوسهم إلى المنصور فصلبها على باب مدينة بغداد ثلاثة أيام ، ثمّ

__________________

(١) فرق الشيعة : ص ٦٧ ، ٧٦ ..

٥٣

أحرقت (١).

الإماميّة :

ومن فرق الشيعة ( الإماميّة ) ويعرفون بالجعفريّة نسبة إلى جعفر بن محمّد عليهما‌السلام ، لأنه المذهب الذي ينسبون إليه ، وسيأتي أنه كيف صار مذهبا دون سائر الأئمة وكلّهم مذهب في الأحكام.

والإماميّة هم الذين يرون الامامة في الاثنى عشر : علي ، والحسن والحسين ، وعلي بن الحسين ، ومحمّد بن علي ، وجعفر بن محمّد ، وموسى بن جعفر ، وعلي ابن موسى ، ومحمّد بن علي ، وعلي بن محمّد ، والحسن بن علي ، وابنه المهدي المغيب الذي يترقّبون ظهوره كلّ حين صلوات الله عليهم أجمعين.

ويعتقدون أن إمامتهم بالنصّ الصريح الجلي من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الله عزّ شأنه ، وأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نصّ على خلافة علي أمير المؤمنين وإمامته كما نصّ على اخوّته ووصايته ، وكان النصّ منه في مواطن عديدة ، منها يوم الغدير ، كما أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخبر بأسماء الخلفاء والأئمة الذين هم بعد أمير المؤمنين عليه‌السلام واحدا بعد آخر ، على نحو ما ذكرناه من أسمائهم ، وأكّدوا ذلك النصّ من بعضهم على بعض ، فنصّ علي على الحسن ، والحسن على الحسين ، والحسين على ابنه علي ، وهكذا الأب على ابنه إلى أن انتهت إلى ابن الحسن المنتظر ، كما أنهم يعتقدون حياته ووجوده بعد ولادته عام ٢٥٥ ، ليلة النصف من شعبان ، وأنه تغيب فرقا من فراعنة عصره ، وأنه هو المهدي الذي يملأ الأرض قسطا وعدلا بعد ما ملئت ظلما وجورا. (٢)

__________________

(١) فرق الشيعة : ص ٦٩ ..

(٢) ذكر كثير من أهل السنّة الامام المهدي وأنه ابن الحسن العسكري واعترفوا بوجوده وأنه الموعود ..

٥٤

ويعتقدون أيضا في هؤلاء الأئمة أنهم معصومون عن الذنب وعن الخطأ والنسيان والغفلة كما في نبيّنا وجميع الأنبياء عليهم‌السلام وأن علمهم ليس باكتسابي وإنما هو إلهامي ووارثة من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يورثه الأب لابنه والأخ لأخيه كما في الحسن للحسين ، ولمّا كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وارث علم الأنبياء والمرسلين ، وعنده علم الأوّلين والآخرين ، كان أمير المؤمنين واجدا لهذا العلم كلّه ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنا مدينة العلم وعليّ بابها ، ولغير ذلك من الأحاديث وآي الكتاب (١) وورث أولاده الأئمة هذا العلم جميعه.

ويعتقدون فيهم أيضا أنهم عبيد لله سبحانه مخلوقون له ، مرزوقون منه ليس لهم تصرّف في شيء من أمر العباد من حياة أو موت ، وعطاء أو منع وشيء سوى ذلك ، إلاّ باذن منه تعالى على حدّ ما كان عليه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في شأن الخليقة ، وقد جاء في الكتاب عن عيسى عليه‌السلام « ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله ».

واستدلّوا على ذلك كلّه بالبراهين العقليّة ، وبالأخبار والآثار ، وقد يأتي شيء من هذا طيّ هذا السفر.

كما استدلّوا على النصّ عليهم بالخصوص ، بالوارد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من طرق الفريقين من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الأئمة من قريش وانهم

__________________

به ، انظر مطالب السؤل ، والحجّة لابن عرب ، ولواقح الأنوار ، والتذكرة ، وشرح الدائرة ، والفصول المهمّة ، وفرائد السمطين ، الى غيرها ، بل ادّعى بعضهم مشاهدته والاجتماع به ..

(١) كتبت رسالة عن حديث الثقلين ودلالته على عصمة الأئمة وعلمهم بكلّ شيء ، وقد أخرجتها المطابع ، ورسالة في علم الامام وكيفيّته وعسى أن نتوفّق لطبعها ..

٥٥

اثنى عشر (١) وانهم من ولد عليّ وفاطمة عليهما‌السلام ، وتسميتهم بأسمائهم واحدا بعد آخر. (٢)

هذا فضلا عن الاستدلال على الامامة باللطف ، وانحصارها فيهم لو كان ثمّة إمام تجب إمامته وطاعته ومعرفته.

والاماميّة ترجع إلى هؤلاء الأئمّة في أحكام الدين ، فما ثبت عن النبيّ أو عنهم أخذوا به ، وما اختلفت فيه الأخبار أعملوا فيه قواعد التعادل والتراجيح ، حسبما هو مقرّر عندهم في أصول الفقه.

وعندهم من الأدلّة على الأحكام غير الكتاب والسنّة الاجماع وحكم العقل القطعي ، وعند فقدان الأدلّة الأربعة يرجعون إلى الأصول العملية ، حسبما تقتضيه المقامات وهي قواعد فقهيّة عامّة تثبت بالأدلّة.

ويرون أن الأحاديث المرويّة عنهم من السنّة ، لأنهم حملة علم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحفّاظ شريعته ، فما عندهم فهو عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا عن اجتهاد ورأي منهم ، والسنّة أحد الأدلّة الأربعة في استنباط الأحكام الفرعيّة ، والأدلّة الأربعة كما أشرنا إليها : الكتاب ، والسنّة ، والإجماع ، والعقل ، والبيان عن حجّيّتها وكيفيّة الرجوع إليها مذكور في كتب أصول الفقه.

وأمّا اعتقادهم في الله تعالى شأنه ، فهو أنّه سبحانه شيء لا كالأشياء ليس بجسم ولا صورة ، ولا تقع عليه الرؤية في الدنيا ولا الآخرة ، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ، وأن صفاته عين ذاته ، وأنّه تعالى عادل لا يظلم أحدا من عبادة لقبح الظلم بحكم العقل ، وأنّه خلق الأشياء لا من شيء.

__________________

(١) مسلم من صحيح جابر ، ومسند أحمد : ٥ / ٨٩ و ٢ / ٢٩ و ١٢٨ ، والصواعق : الفصل الثالث من الباب الأول ، والسيوطي في تاريخ الخلفاء ص ٥ ، إلى غيرهم ..

(٢) ينابيع المودّة : ص ٤٢٧ و ٤٣٠ و ٤٤٢ ، وكفاية الأثر ، والمقتضب والكنز وغيرها ..

٥٦

وأمّا اعتقادهم في نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو أنّه معصوم من الخطأ والزلل والنسيان والغفلة والذنوب الكبائر والصغائر ، وأنّه ما ارتكب شيئا منها قبل النبوّة ولا بعدها ، وأنه مرسل إلى العالم كلّه وهكذا اعتقادهم في الرسل والأنبياء من جهة العصمة.

ويرون أن الامامة من الاصول ويجب إثباتها بالأدلّة العقليّة عدا النصوص النقليّة ، ومن البراهين العقليّة قاعدة اللطف.

وأمّا المعاد فيعتقدون فيه أن الله جلّ اسمه يعيد الناس للحساب بتلك الأجسام التي كانت في الدنيا ، وهي التي تنعّم في الجنان ، أو تعذّب في النيران.

وأمّا أفعال العباد فيعتقدون أنها أمر بين أمرين لا جبر ولا تفويض أي أنّ الله تعالى لم يجبر الخلق على أفعالهم حتى يكون قد ظلمهم في عقابهم على المعاصي ، بل لهم القدرة والاختيار فيما يفعلون ، ولا فوّض الله إليهم خلق أفعالهم حتى يكون قد خرج من سلطان قدرته على عباده ، بل له الحكم والأمر وهو قادر على كلّ شيء ومحيط بالعباد.

وربّما يهيّىء الله تعالى للعبد أسباب الطاعة والهداية ، كما يصدّ عنه أسباب العصيان والضلالة ، لطفا منه بعبده ، وهذا ما نسمّيه بالتوفيق.

وهذا بعض ما تعتقده الاماميّة في الوجود والوحدانيّة ، والصفات ، وفي النبوّة والامامة والمعاد ، وفي أفعال العباد.

وذكرنا لذلك كان استطرادا على سبيل الايجاز ، واستيفاء الكلام على هذه المعتقدات في كتب الكلام والاعتقاد.

والإماميّة اليوم هم السواد الأعظم من الشيعة في جميع الأقطار الاسلاميّة وكتبهم في العلوم كافّة من أوّل يوم ابتدأ فيه التأليف حتّى اليوم مبثوثة بين

٥٧

الامم يقرأها الحاضر والبادي ، والعالم والجاهل.

وليس اليوم غير الاماميّة ، والزيديّة ، والاسماعيليّة ، فرقة ظاهرة تعرف اللهمّ سوى بعض الفرق الغالية التي تنتمي إلى التشيّع.

ولمّا كان كلامنا عن الفرق التي كانت في عهد الصادق عليه‌السلام أهملنا عن بعض الفرق التي حدثت بعد الصادق عليه‌السلام أمثال الفطحيّة والناووسيّة والواقفيّة.

٤ ـ الخوارج :

ظهرت هذه الفرقة يوم صفّين بخدعة ابن العاص ، حين أشار على معاوية ـ وقد عجز عن المناهضة ـ برفع المصاحف ، والدعوة لتحكيمها ، فلمّا رفعوها مرقت طائفة من أصحاب أمير المؤمنين عليه‌السلام وقالوا هؤلاء يدعوننا إلى كتاب الله وأنت تدعوننا إلى السيف ، فعذلهم عن ذلك ، وحاول رجوعهم عن الاغترار بهذه الخدعة ، وقال لهم ويحكم أنا أعلم بكتاب الله ، فلم ينفع معهم عذل وردع ، ولا إقامة حجّة وبرهان ، بل قالوا لترجعن مالكا عن قتال المسلمين ، أو لنفعلنّ بك كما فعلنا بعثمان ، فاضطر إلى ارجاع مالك بعد أن هزم الجمع وولّوا الدبر ، فحملوه على التحكيم ، فأراد أن يبعث عبد الله بن عباس فأبوا إلاّ أن يبعث أبا موسى الأشعري ، فلمّا كان التحكيم قالت الخوارج : لم حكمت في دين الله الرجال؟ لا حكم إلاّ لله ، فمن هنا سمّوا ( المحكّمة ) وبعد أن رجع أمير المؤمنين من صفّين وهم مصرّون على المروق والعصيان اجتمعوا بحروراء قرب الكوفة فسمّوا ( الحروريّة ).

وكان آخر أمرهم أن قتل أمير المؤمنين بالنهروان من أصرّ منهم على المروق ، بعد أن أقام عليهم الحجج ، وقطع المعاذير ، وبعد أن عاثوا في الأرض فسادا ،

٥٨

وقتلوا خبابا أحد خيار الصحابة ، وبقروا بطون الحبالى.

ولم يستأصل تلك الروح استئصالهم بالنهروان ، وما زال في كلّ عصر وزمن قوم على ذلك الرأي والمروق ، وقد أزعجوا الملوك والولاة في تلكم الأعصر ، وكلّما فني قوم منهم نبغ آخرون ، وكانت الناس منهم على رهبة ووجل لما يلاقونه منهم من الفتك الذريع والعمل الفظيع ، والقسوة وانتهاك الحرمة ، وكانوا يحاربون الملوك والولاة عن عقيدة واطمئنان ، فمن ثمّ تجدهم يستبسلون ويحاربون بشجاعة ورباطة جأش ، فلا تقف الناس لهم وإن كانوا أضعافهم ، إذ لا يحملون عقيدة يناهضون بها تلك العقيدة ، ولكنهم إذا عرفوا من أنفسهم الضعف قوّضوا ليلا وبعدوا شاحطين ، ومن ذاك لا تسلم بلدة من وبالهم وسوء أعمالهم.

وكان لهم ظاهر نسك وعبادة ، وما زالوا يستميلون الهمج الرعاع بتلك المظاهر الصالحة ، ودعوى الخروج على سلطان الباطل ، والدعوة للعمل بالكتاب والسنّة ، وإن ناقضوا تلك المظاهر والدعاية بشدة الوطأة والعيث فسادا ، إلاّ أن السذّج من الناس ربما انخذعوا بظاهرة النسك والصلاح ، وقد خدعوا بهاتيك الظواهر الجميلة بعض أهل الكتاب ومن لا يعتقد صحّة دين الاسلام ، فضمّوهم إليهم ، وكاثروا بهم.

وقد ضعفت بعد ذلك شوكتهم ، وهدرت شقاشقهم ، واستراح الناس منهم برهة من الزمن ، ولكن ظهر لهم شأن أيّام الصادق عليه‌السلام فإنّ أحد رؤسائهم عبد الله بن يحيى الكندي ـ الملقّب بطالب الحق ـ نهض في حضرموت بعد ما استشار الأباضيّة في البصرة وأوجبوا عليه النهوض ، وشخّص إليه منهم أبو حمزة المختار بن عوف الأزدي وبلخ بن عقبة المسعودي في رجال من الأباضيّة ، وقد بايعه ألفان وبهم ظهر ، ولمّا كثر جمعه توجّه إلى صنعاء وكتب

٥٩

بذلك إلى من بها من الخوارج ، فجرت بينه وبين عاملها حروب انتصر فيها عبد الله واستولى على خزائن الأموال ، ثم استولى على اليمن ، فلمّا كان وقت الحجّ وجّه أبا حمزة وبلخا وأبرهة بن الصباح إلى مكّة والأمير عليهم أبو حمزة في ألف ، وأمره أن يقيم بمكّة إذا صدر النّاس ، ويوجّه بلخا إلى الشام ، فدخلوا مكّة يوم التروية وعليها وعلى المدينة عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك في خلافة مروان الحمار ، فكره عبد الواحد قتالهم وفزع الناس منهم فراسلهم عبد الواحد في ألاّ يعطّلوا على النّاس حجّهم ، وأنهم جميعا آمنون بعضهم من بعض حتّى ينفر الناس النفر الأخير ، فلمّا كان النفر الأخير نفر عبد الواحد وترك مكّة لأبي .. حمزة من غير قتال ، ولمّا دخل عبد الواحد المدينة جهّز له جيشا منها فالتقوا بقديد فكانت الدبرة على جيش المدينة والنصرة للشراة ، فبلغ قتلى أهل المدينة ألفين ومائتين وثلاثين رجلا ثم دخل بلخ المدينة بغير حرب ، ورحل عبد الواحد إلى الشام فجهّز مروان لهم جيشا عدده أربعة آلاف في فرسان عسكره ووجوههم ، ومعهم العدّة الوافرة ، وعليه عبد الملك بن عطية السعدي ، فلمّا بلغ الشراة توجّه جند الشام إليهم خفوا إليه في ستمائة وعليهم بلخ بن عقبة المسعودي فالتقوا بوادي القرى لأيام خلت من جمادي الاولى سنة ثلاثين ومائة فتواقفوا ثمّ كانت الدبرة على الخوارج فقتل بلخ والشراة ولم يبق منهم إلاّ ثلاثون ، فهربوا إلى المدينة ، وكان على المدينة المفضل الأزدي ، فدعا عمر بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطّاب الناس الحرب الشراة بالمدينة فلم يجبه أحد ، واجتمع عليه البربر والزنوج وأهل السوق ، فقاتل بهم الشراة فقتل المفضل وعامّة أصحابه وهرب الباقون ، فأقبل ابن عطيّة إلى المدينة وأقام بها شهرا ، وأبو حمزة بمكّة ، ثمّ توجّه إليه إلى مكّة فوقعت بينهما حرب شعواء قتلت فيها الشراة قتلا ذريعا وقتل أبو حمزة وأبرهة بن الصباح وأسر منهم أربعمائة ثم قتلوا كلّهم ، وصلب ابن عطيّة

٦٠