الإمام الصادق عليه السلام - ج ١

الشيخ محمّد حسين المظفّر

الإمام الصادق عليه السلام - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد حسين المظفّر


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٤
الصفحات: ٢٦٨
الجزء ١ الجزء ٢

ولو لم يجد رعاة الجهل والجور والفجور أعضادا من أمثالهم وسكوتا عن أعمالهم ، لم تطمع نفوسهم بالانقياد إلى الهوى ، والاسترسال مع الشهوات ، ولم تطمح إلى الغضّ من كرامة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومنابذة رسالته ومحاربة عترته.

إنّ درس نفسيّات اولئك الأقوام وسبر أعمالهم تجسّم لك الغدر والخيانة والتحزّب للضلال على الهدى ، وللباطل على الحقّ ، حتى لتكاد أن تعجب كيف لم يندرس الحق ، وتنطمس أعلام الهداية إلى اليوم ، ما دام أنصار الحقّ في كلّ عصر ومصر قليلين جدّا « وقليل من عبادي الشكور ». (١)

وأين تغيب عن هذه الحقيقة ، ونظرة واحدة في عصرنا الحاضر تريك كيف تتمثل المنافسة بين الباطل والحقّ ، وتغلّب الأول بأنصاره على الثاني وأعوانه ، وليس الغريب ذلك إنّما الغريب أن يتّفق انتصار أرباب الحقّ في بعض الأعصار وينخذل الباطل ، ولو انتصر أبو الحسن والحسن على معاوية ، والحسين على يزيد لكان بدعا في الزمن دون العكس في الحال ، وما كان انتصار الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد تلك الحروب الدامية إلاّ إقامة للحجّة ، « ليحيى من حيّ عن بيّنة ، ويهلك من هلك عن بيّنة » (٢) ولو غلب الكفر على الاسلام لم يتمّ نوره ، ولا قامت حجّته.

إنّ الرسول الأمين جاء للناس بكلّ فضيلة وسعادة وخلق كريم وقد وقفوا دون أداء رسالته ، وتنفيذ دعوته ، وما رسالته إلاّ لخيرهم ، وما دعوته إلاّ لسعادتهم ، ولأيّ شيء أبت نفوسهم عن الاستسلام لتلك الفضائل غير مخالفتهم لها في السيرة والسريرة دأب البشر في كلّ عصر ، وهل خضع الناس لقبول تلك

__________________

(١) سبأ : ١٣ ..

(٢) الأنفال : ٤٢ ..

٢١

السعادة إلاّ بعد أن علا رءوسهم بالسيف ، وضرب خراطيمهم بالسوط ، وما أسرع ما انقلبوا على الاعقاب بعد انتقاله إلى حظيرة القدس ناكصين عن سنن الطريق ، حين وجدوا مناصا للعدول « وما محمّد إلاّ رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضرّ الله شيئا » (١).

بيد أن الأمويّة مخّضت عن أفذاذ ثبت الايمان في قلوبهم ، ونهضوا مع الحقّ حربا للباطل ، ولا عجب فإنه تعالى : « يخرج الحيّ من الميت » (٢) ولا شكّ أن اللعن لا يعمّهم ، والكتاب الكريم يقول : « لا يضرّكم من ضلّ إذا اهتديتم » (٣) « ولا تزر وازرة وزر اخرى » (٤) « من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها » (٥) « ما على المحسنين من سبيل » (٦).

* * *

__________________

(١) آل عمران : ١٤٤ ..

(٢) الأنعام : ٩٥ ..

(٣) المائدة : ١٠٥ ..

(٤) الأنعام : ١٦٤ ..

(٥) فصّلت : ٤٦ ..

(٦) التوبة : ٩١ ..

٢٢

بنو العبّاس

ساد ظلم الأمويّين الناس عامّة ، وما اختصّ بالأبرار ، ولا بعترة المختار صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فمقتهم آخر الأمر أهل السوء كما أبغضهم أهل الصلاح ، فقام الباكيان باك يبكي على دينه وباك يبكي على دنياه ، وصار الناس تتطلّب المهرب من جورهم ، وتريد الخلاص من حكمهم ، كانت أميّة تهدّد بلاد الاسلام كافّة بأهل الشام ، لأن الشام جندهم الطيّع الذي لا يحيد عن رأيهم ، ولا يتخلّف عن أمرهم ، وبأهل الشام واجتماعهم ملك معاوية مصر والعراق والحجاز ، مع ما في الحجاز والعراق من رجال الرأي والشجاعة الذين كان افتراقهم مطمعا للشام باجتماعهم ، وما ساق ابن زياد الكوفة على ابن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بغير الوعيد بأجناد دمشق والوعد بالمال ، وما تغلّب عبد الملك على العراقين والحرمين واستلبها من آل الزبير إلاّ بتلك الأجناد ، كانت الشام لا تعرف غير أميّة للملك بل للخلافة ، بل لكلّ دعوة وطاعة وما زالت أميّة مهيمنة على البلاد الوسيعة.

حتى إذا اختلف بنو أميّة بينهم وصار بعضهم يقتل بعضا اختلف أهل الشام باختلافهم ، وافترقت كلمتهم لافتراق القادة الذين ضلّلوهم وأضلّوا بهم.

ولمّا اختلفت كلمة الأمويّين اشرأبّت الأعناق لسلطانهم ، وطمعت

٢٣

النفوس في بلادهم ، ولكن من الذي يجهر بتلك الأماني والرعب من الشام آخذ بالقلوب ، وكيف ينسى الناس تلك القسوة والسطوة وجندهم أهل الشام ولم يطل العهد على حادثة الطف التي أظهر فيها الأمويّون فنون الارهاب وضروب اللؤم والانتقام ، ولا على واقعة الحرّة التي أبانوا فيها غرائب الخسّة والدعارة والهتك للحرمات والمحارم والسفك للدماء البريئة ، ولا على حصار البيت من يزيد مرّة ، ومن عبد الملك أخرى حتى رمته المجانيق وأضرموا فيه النار فهدموه ، ولا على قتل زيد وصلبه وإحراقه ، وقتل يحيى وصلبه ، والحوادث المثيرة التي أنزلوها بالناس ، من دون أن يجدوا حرمة لحريم ولا رادعا عن محرم ، فكأن النفوس والنفائس والأعراض والعروض لم تكن إلاّ طعمة لهم ، ومنفذا لشهواتهم ، فكيف والحال هذه يجهر ابن حرّة بعداء بني أميّة ، أو يتظاهر بالكيد لدولتهم.

نعم لم تأمل الناس من أحد أن ينتزع منهم التيجان ، ويسلبهم السلطان غير بني هاشم ، لأنهم أرباب ذلك العرش ، سواء كانت الخلافة بالنصّ أو القربى أو الفضيلة فصارت الناس تستنهضهم سرّا ، وتحثهم على الوثبة همسا.

غير أن في الهاشميّين رجالا كثيرة تصلح للرئاسة ، وتقوى على التدبير والسياسة ، أفيثب بهم ربّ الخلافة وربيب الامامة أبو عبد الله جعفر بن محمّد الصادق عليهما‌السلام ، أم عبد الله بن الحسن فاضل بني الحسن وشيخهم أم ابنه محمّد من جمع من المكارم كلّ خلّة ، أم أخوه ابراهيم أبي الضيم ، أم ابراهيم بن محمّد العبّاسي ، أم أخواه السفّاح والمنصور ، أرباب الهمم والشمم ، أم عبد الله بن معاوية الجعفري الذي أهّلته المفاخر والمكارم لذلك المقام ، أم سواهم وهم عدّة كاملة ، لو رشّح نفسه كلّ فرد منهم لتلك الزعامة لزانها بجميل خصاله.

٢٤

بيد أن الصادق عليه‌السلام لو تقدم لها لم يسبقه إليها أحد ، لفضله وكثرة شيعته ، ولكنه كان يدافع من يستحثّه ، ولا يجيب من يستنهضه.

ولمّا لم يجدوا عنده أملا للنهوض عدلوا عنه إلى غيره ، فتارة يبايعون محمّدا وفي طليعتهم أبوه وأخوه وينو الحسن وبنو العبّاس ، وأخرى يدعو أبو مسلم في خراسان للعبّاسيّين وأبو سلمة الخلاّل بالكوفة للرضا من آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وطورا يثب ابن جعفر في كوفان فلا يتمّ له أمر ، وتارة يظهر في فارس فلا يستقيم له شأن ، فيهرب إلى أبي مسلم في خراسان ، فكان كالمستجير من الرمضاء بالنار ، لأنّ حتفه كان على يديه ، ولم تمض برهة طويلة على تلك الأعاصير الهائجة ، والأجواء المضطربة ، حتى استقرّ الأمر في بني العبّاس.

تلك الأقدار هي التي طوحت بالأمر حتى جعلته في أحضان السفّاح والمنصور ، وإلاّ فمن الذي كان يحتسب أن الأخوين اللذين كانا يتنقّلان فى الأحياء يرويان للناس فضائل أبي الحسن ذريعة للاستعطاف والاستجداء واللذين بايعا ابن الحسن يوم اجتماعهم بالأبواء من دون تلكّؤ وأمل بالملك واللذين كانا تحت راية ابن جعفر وفي جنده يوم ظهر في فارس ينيلهما من وفره ، هما اللذين يتواليان على دسّت الحكم ، ويكونان السالبين لعروش أميّة ، ومن الذي كان يخال أن ابن جعفر فارس الوثبة يكون قتيل داعيتهما أبي مسلم ، وما هما إلاّ بعض جنده ، ومن الذي كان يظنّ أن ابن الحسن الذي أمّل نفسه وأمّلته الناس بالخلافة وبايعته على الموت يصبح وأخوه إبراهيم صريعين بسيف المنصور.

شاءت الأقدار ـ ومن يغلب القدر ـ أن يثب على كرسيّ الحكم بنو العبّاس ، وتصبح الدولة الامويّة أثرا بعد عين ، وخبرا بعد حسّ ، فلا أسف على من فات ، ولا فرح بالآت ، تذهب أمة فاجرة وتأتي دولة جائرة.

٢٥

ارتقى السفّاح منصّة الحكم فضحكت له الدنيا بعد تقطيب وأقبلت عليه بعد إدبار ، ولكن هل يسلم المرء ـ وإن أقبلت عليه الدنيا بأسرها ـ من نوازل الهم؟ أصبح ابن عبّاس بين همّين همّ تطهير البلاد من الأمويّين لتخلص له الأمّة ، وهمّ المنافسة على العرش من بني علي ، العرش الذي لم ترسخ أسسه بعد ، ولم تثبت قوائمه ، وما أسرع ما يميد إذا عصفت أعاصير الوثبات عليه ، ولم يسترح بعد من همّه الأوّل حتى أقلقه الثاني ، وكيف يأمن من العلويّين ، وأبو عبد الله الصادق عليه‌السلام إمام مفترض الطاعة عند شطر من هذه الامّة ، وعند كثير من أجنادهم الذين قلبوا بهم عروش بني مروان ، وهل قتلوا أبا سلمة الخلاّل إلاّ لأنهم أحسّوا منه أنه يريدها لبني علي ، وأن البيعة للسفّاح كانت بالغلبة عليه وإعجاله عليها.

وكيف يأمن ألاّ ينافسه العلويّون ومحمّد بن الحسن كانت له البيعة يوم الأبواء ، وهو الذي صفّق السفّاح والمنصور بيديهما على يده ، وهو الذي كان المؤهّل للعرش الذي وثبوا عليه ، وما زالت تلك الأماني تخالج نفسه ولأيّ شيء اختفى يوم ظهر السفّاح؟ أليس الليث قد يربض للوثبة؟

حاول ابن عبّاس أن يستريح من هذا الهمّ فأرسل خلف الصادق عليه‌السلام إلى الحيرة ليوقع به وإن لم يظهر ما يتخوّفه على سلطانهم ، فلما وصلها ضيّق عليه ، ولكن لمّا لم يجد عنده هاتيك المخاوف سرّحه إلى المدينة راجعا والهواجس تساوره.

ثمّ صار يتطلّب ابني عبد الله بن الحسن ، وهما مختفيان خوفا من بطشه وكلّما جدّ في العثور عليهما جدّا في الاختفاء.

انقضى دور السفّاح القصير والصادق عليه‌السلام وادع في المدينة وابنا الحسن خلف ستور الخفاء ، وما جاءت أيام المنصور إلاّ واشتدّ على العلويّين ،

٢٦

فما ترك الصادق يقرّ في دار الهجرة بل صار يجلبه إليه مرّة بعد أخرى ويلاقيه بالاساءة عند كلّ جيئة ، ويهمّ بقتله في كل مرّة ، وما زال معه على هذه الحال إلى أن قضى عليه بالسمّ.

وأما محمّد وإبراهيم فكان يفحص عنهما بكلّ ما أوتي من حول وحيلة فكان يعلن بالأمان لهما مرّة ، ويشتدّ على أبيهما وبني الحسن اخرى ، فلم تنفعه هذه الوسائل للوصول إليهما ، والعثور عليهما ، ثم حمل بني الحسن إلى العراق ، واستودعهم غياهب السجون ، حتى قضى أكثرهم بأشنع قتلة وما فتئ أن فوجئ بوثبة محمّد بالمدينة والبصرة ، وهذا ما كان يرقبه ويتذرّع بالوسائل لصدّه ، ويتخوّف عقباه ، غير أن القضاء غالب.

ملك بنو العبّاس فظهر مكرهم وغدرهم ، بايعوا ابن الحسن ثمّ جدّوا في طلبه وطلب أخيه للقضاء عليهما ، حاول ابن عبّاس أن يضعا يديهما بيده استسلاما ، وكيف يستسلمان وفي النفوس إباء وعزّة وآمال تؤيّدها الناس في طلب الوثبة ، وإن خمدت فيهما تلك الروح الوثّابة استفزّها الناس بالحثّ على النهضة ، فما زالوا بهما حتى وثبا بعد ذاك الاختفاء الطويل.

وما كانت تلك الغدرة من بني العبّاس ببني الحسن الوحيدة في سلطانهم ، غدر المنصور بأبي مسلم باني كيان دولتهم ، وقتلوا أبا سلمة الخلاّل وحبسوا يعقوب بن داود ، وقتلوا الفضل بن سهل ، وما سوى هؤلاء وكم همّوا بعليّ بن يقطين وجعفر بن محمّد الأشعث الوزيرين.

وغدر المنصور أيضا بعيسى بن موسى العبّاسي وعزله عن ولاية العهد وولّى مكانه ابنه المهدي ، وكانت الولاية لعيسى جعلها له المنصور بدلا عن بلائه في حرب محمّد وإبراهيم وقضائه عليهما وعلى نهضتها ، تلك النهضة التي أقلقت المنصور وجعلته يعتقد بزوال سلطانه.

٢٧

وغدر الرشيد بوزرائه البرامكة وبيحيى الحسني بعد الأمان ، وغدر الأمين بأخيه المأمون حين عزله عن العهد ، والمأمون بالرضا عليه‌السلام حين سمّه بعد بيعته بولاية عهده ، إلى ما لا يحصى ممّا كان منهم من غدرة وفجرة وإن أعظم غدر منهم ما كان مع بني الحسين عليه‌السلام ، كانت شيعة بني علي جند بني العبّاس في إزالة دولة بني مروان كما تقدم ، وكان شعارهم الطلب بثأر القتلى من أهل البيت ، وهل قتل بسيف الأمويّين غير الطالبيين؟ وهل لقى الشدّة والضيق من الامويين غير العلويين؟ ولئن لاقى سواهم من الهاشميّين شيئا من ذلك فلا يشبه ما حلّ بآل أبى طالب.

ندب العبّاسيّون الناس لطلب الثأر بل ندبهم الناس إليه ، وكانت هذه أمضى وسيلة لنيل إربهم ، فما استقرّت أقدامهم في حظيرة الملك إلاّ وراحوا يتتبعون آل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكأن العترة هم الذين جنوا في تلك الحوادث القاسية يوم الطفّ ، وسبوا عقائل النبوة ، وأنزلوا بزيد ويحيى وغيرهما هاتيك الفظائع المؤلمة ، وكأنّما القتلى والأسرى كانت من بني العبّاس والجناة عليهم العلويّون ، وكأن لم يكن العلويّون هم الذين نهض الناس انتقاما لهم ، وللأخذ بتراتهم.

ما انجلت الحوادث عن طرد الأمويّين إلاّ وأهل البيت صرعى تلك الحوادث بدلا من أن ينالوا العطف من بني العبّاس لما حلّ بهم من فواجع دامية من الأمويّين ، ولما ناله العبّاسيّون أنفسهم من الملك الفسيح بهم.

هكذا انجلت الغبرة بعد استلام العبّاسيّين أزمة الحكم ، فما نسيت الناس حوادث أهل البيت من الأمويّين حتى كانت المقارع على رءوسهم من بني العبّاس يتبع بعضها بعضا من دون رحمة ، ولا هوادة ، ولا فترة ، لما ذا هذا كلّه ، ولما ذا كان أهل البيت دون غيرهم بيت المصائب والنوائب؟ فلنبحث عن السبب في الفصل الآتي :

٢٨

ما جناية أهل البيت؟

هتف القرآن المجيد بآيات كثيرة في شأن أهل البيت ، آمرا بمودّتهم مخبرا عن طهارتهم ، حاثّا على الاعتصام بهم ، حاضّا على طاعتهم ، معلنا عمّا لهم من جزيل الفضل وعظيم المنزلة.

وأتبعه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طيلة حياته كاشفا عمّا جمعه آله من الفضائل ، وحبوا به من المفاخر ، يوجب تارة طاعتهم واتّباعهم ، ويلزم أخرى بمودّتهم ويعطف طورا للقلوب عليهم ويستميل مرّة النفوس إليهم إلى ما سوى ذلك. (١)

وما كان ذلك إلاّ لسعادة الناس أنفسهم ليأخذوا الدين من أهله والعلم من معدنه ، فكان الحقّ على الناس احترامهم ، والانقطاع إليهم والانصراف عن غيرهم.

كان أهل البيت ـ أعني عليّا والزهراء وابنيهما وأبناء الحسين عليهم‌السلام ـ مثالا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في شمائله وفضائله وخصاله وفعاله ، فمن أراد علم الرسول كانوا باب مدينته ، ومن أراد منطقه كانوا مظهر فصاحته وبلاغته ، ومن أراد خلقه وجدهم أمثلة سيرته ، ومن أراد دينه وجدهم مصابيح شريعته ،

__________________

(١) ذكرنا في كتابنا « الشيعة وسلسلة عصورها » بعض ما جاء في الكتاب والسنّة في شأن أهل البيت وفضلهم والدعوة الى ولائهم ..

٢٩

ومن أراد زهده وجد فيهم منهاج طريقته ، ومن أراد البرّ بعترته كانوا صفوة ذرّيته ، ومن أراد النظر إليه كانوا جمال صورته ، هكذا كان أهل البيت إن قستهم إلى صاحب البيت ، وهذا بعض ما كانوا فيه مثالا لشخصيّته الكريمة صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ومن كانت له عند الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ترة فمنهم الأخذ بترته ، أو كان له مع الاسلام عداء فهم للاسلام أقوم عدّته ، أو كان له مع الدين غضاضته فإنهم للدين أوقى جنّته ، أو كان له مع المعروف حرب فهم للمعروف أبناء دعوته أو كان له مع المنكر ولاء فهم أعداء خطّته.

وإن ذكر الخير كانوا أدلاّءه ، أو سار الفضل كانوا لواءه ، أو نشر العدل كانوا أخلاّءه ، أو خاض الناس في المفاخر كانوا أبعدهم قعرا وأثمنهم درّا ، أو تسابق أهل الفخر إلى المكارم كانوا أسبقهم جولة ، وأبعدهم شوطا ، وإن تنافسوا في الشرف كان عندهم الوقوف والاحجام ، فما من فضيلة إلاّ وإليهم مآلها ، ومنهم انتقالها.

فاذا كان أهل البيت كما وصفنا فكيف لا يقف معهم بنو أميّة موقف العدوّ اللدود ، والخصم العنود ، ألم يكن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد قتل منهم في الله من قتل ، فمتى يأخذون منه تراتهم ، ولو أغضوا عن حماة الاسلام ، ودعاة الدين لعاد النبيّ بدعوته ، كأنه لم يمت ولم يمت ذكره ، ولسار الاسلام وأحكامه ونظامه كما أراده الجليل تعالى والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولو وقفوا معهم موقف المحايد لعرف الناس فضل أهل البيت وبأن للعالم حقّهم ، ولما بقيت عندئذ لأميّة وسيلة لارتقاء منابر الاسلام ، وذريعة للاستيلاء على البلاد واسترقاق العباد.

ما برحت أميّة تظهر وتضمر العدل للرسول الأطهر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلا

٣٠

بدع لو كانت مواقفهم مع آل الرسالة تلك المواقف المشهودة ولو كانوا على غير ما عرفته الأيام منهم لكان ذلك بدعا من خلائقهم وأخلاقهم.

وأما بنو العبّاس ، فإنهم حين ملكوا الأمر ، وعبروا الجسر إلى مآربهم ، الجسر الذي أقاموه على أكتاف الشيعة ، ورفعوا أعمدته من جماجم أولئك السذّج ، عرفوا أن الحال إن هدأت سوف يحاسبهم الناس على الحقّ وموضعه والخلافة وأهلها ، لأنهم لم ينهضوا معهم إلاّ لهدم عروش أميّة ، وللأخذ بترات الدماء الزكيّة التي أريقت من غير جرم ، ولبناء خلافة الرضا من آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما قاموا وقاوموا لأن يقيموا عرشا لبني العبّاس دون بني علي فارتأى العبّاسيّون أن يفتكوا بالرجال الذين عبّدوا لهم السبل ، ووطّدوا لهم الطريق لاعتلاء أسرّة الحكم ، كأبي سلمة الخلاّل وغيره ، حذرا من ذلك الحساب ورأوا أن يضيّقوا على أبناء علي ، ويضعوا عليهم العيون والرصد ، خوفا من تلك النزعات التي تخالج نفوسهم أو يحملهم عليها الناس ، ورأوا أن يكمّوا أفواه الشيعة بالإرهاب خشية من ذلك السؤال والحساب.

فما كانت جناية أبناء عليّ لديهم إلاّ أنّهم أهل الحقّ والمقام ، وأهل البيعة والخلافة ، بالقرابة أو بالنصّ أو بالفضيلة.

ولم يكن شيء يدعوهم لإنزال الضربات بالعلويّين سوى أن العلويّين أجدر بالخلافة التي غلب عليها العبّاسيّون ، وأن العبّاسيّين لا يأمنون من وثباتهم ما برح لأبناء عليّ مكانة سامية بين الناس ، وما برح فيهم قروم تطمح إليهم الأنظار وتهوى إليهم القلوب ، فاتخذ العبّاسيّون الغضّ من كرامة آل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والفتك باولئك القروم ذريعة لميل النفوس وانكفاء الأهواء عنهم ، ولو حذرا من الفتك والبطش ، كما كان دأبهم الإرغام لمعاطس شيعة أهل البيت والتنكيل بهم ، لئلاّ تكون لهم قوّة وشوكة يستعين بها أهل البيت على النهضة.

٣١

والفرق بين الأمويّين والعبّاسيّين هو أن الذي دعا الأمويّين لحرب الهاشميّين شيئان : الانتقام من الرسول ، والتسلّق للزعامة ، والذي دعا العبّاسيّين : نيل العروش والذبّ عنها فقط ، دون أن يكون منهم حرب مع النبيّ وشريعته بقصد ، وإن كان حربهم لعلماء الشريعة حربا للشريعة وللصّادع بها.

ولو ألقيت نظرة مستعجلة على ما لقيه أهل البيت من أجل تقمّصهم بالفضائل لعرفت كيف تحارب الدنيا الدين ، وكيف انطبع الناس على حبّ الدنيا وحلفائها ، وعلى عداء الدين وحلفائه ، ولأبصرت أن بني العبّاس جروا في مضمار بني أميّة ، وإن سبقوهم شوطا بعيدا في حرب أهل البيت.

قتل بنو أميّة الحسين بن علي عليهما‌السلام في الطفّ ومعه صفوة زاكية من أهل بيته ، ونخبة صالحة من أصحابه ، حين وثب منكرا عليهم تلاعبهم بالدين حسب الأهواء ، وقتل بنو العبّاس الحسين بن علي بفخّ ومعه غرانيق من العلويّين عزّ على وجه الأرض نظيرهم ، حين نهض منكرا عليهم ما ارتكبوه من الأعمال التي أغضبوا بها الدين وأهله.

سمّ بنو أميّة من الأئمة ثلاثة : الحسن والسجّاد والباقر عليهم‌السلام ، وسمّ بنو العبّاس منهم ستة : الصادق والكاظم والرضا والجواد والهادي والعسكري عليهم‌السلام.

أرسل هشام بن عبد الملك على الباقر والصادق عليهما‌السلام إلى الشام لينال منهما سوء فحين حلاّ بالشام لم يجد بدّا من إكرامهما وتسريحهما إلى المدينة حذرا من أن يفتتن بهما الناس ، وأمّا بنو العبّاس فلم يتركوا إماما يقرّ في بيته ، أرسل السفّاح خلف الصادق ، وأرسل المنصور أيضا خلفه مرّات عديدة ، وأرسل الرشيد خلف الكاظم وحبسه ثمّ أطلقه ، ولم يطل العهد حتّى أرسل عليه مرّة أخرى ، فما خرج من الحبس إلاّ وهو قتيل السمّ ، ولا تسل عمّا ارتكبه معه حين

٣٢

إخراجه من السجن والنداء عليه على الجسر ، وأرسل المأمون خلف الرضا إلى طوس ، فما عاد إلى أهله بل عاجله بالسمّ وهو في خراسان ، وأرسل خلف الجواد ثمّ سرّحه من دون أن يأتي إليه بسوء ، وما قبض المعتصم زمام الأمر إلاّ وأرسل خلف أبي جعفر الجواد عليه‌السلام وحبسه ، وما أطلقه من السجن حتّى دبّر الحيلة في قتله بالسمّ ، وأرسل المتوكّل خلف أبي الحسن الهادي عليه‌السلام وجدّ في النيل من كرامته إلى أن هلك ، وما زال يلاقي من ملوك العبّاسيّين ضروب الأذى والتضييق ، يسجن مرّة ويطلق أخرى إلى أن سقاه المعتز السمّ ، وبقى ولده أبو محمّد الحسن عليه‌السلام في سامراء ، لا يأذنون له بالإياب إلى المدينة ، ولا يتركونه قارّا في بيته ، بل يحبسونه مرّة ويطلقونه أخرى ، إلى أن قضي بسمّ المعتمد ، وصار يفحص عن ابنه أبي القاسم حين علم أن له ولدا ابن خمس يريد أن يقبضه ليقضي عليه ، فتغيّب هاربا من جورهم وفتكهم حتى اليوم.

أباد الامويّون جماعة من العلويّين بالسمّ والحبس والقتل والصلب أمثال زيد ويحيى وفئة أخرى يوم الحرّة ، وعبد الله أبي هاشم بن محمّد بن الحنفيّة على قول وغيرهم ، وأين هؤلاء من تلك العدّة التي أبادها العبّاسيّون وكفى منهم قتلى فخ والعصابة التي قضوا في قعر السجون ، وما ارتقى العرش عبّاسي إلاّ وقتل جماعة من العلويّين.

هرب من جور الامويّين أمثال يحيى وعبد الله الجعفري وعدّة أخرى ولكن أنّى تقاس كثرة بالذين هربوا واختفوا خوفا من العبّاسيّين ، وأين أنت عن القاسم وأحمد ابني الامام الكاظم عليه‌السلام وعيسى بن زيد وغيرهم ، بل لم ينتشر العلويّون فى الأقطار النائية كالهند وايران إلاّ هربا من بني العبّاس وحذرا من بطشهم ، وكان الكثير منهم يخفي نسبه حذرا من ولاتهم.

٣٣

ولئن غدر الامويّون ببعض العلويّين والعبّاسيّين فقتلوهم سمّا فلا تسل عمّن غدر به العبّاسيّون من العلويّين ، ولو تصفّحت « مقاتل الطالبيّين » لعرفت ما ارتكبه منهم بنو العبّاس.

ولئن أحرق الامويّون بيوت أبناء الرسالة يوم الطف ، فلقد أحرق العبّاسيّون دار الصادق عليه وعلى عياله ، حتّى خرج الصادق إليها فأطفأها وقد سرت في الدهليز.

ولئن سلب الأمويّون بنات الرسالة يوم الطف ، فلقد أرسل الرشيد قائده الجلودي إلى المدينة ليسلب ما على الطالبيّات من حليّ وحلل ، فكان الجلودي أقسى من الجلمد في إمضاء ما أراده فلم يترك لعلويّة ولا طالبيّة حلّة ولا حلية.

وسيّر هشام بعد حادثة زيد كلّ علوي من العراق إلى المدينة وأقام لهم الكفلاء ألاّ يخرجوا منها ، وسيّر موسى الهادي بعد حدثة فخ كلّ علوي من المدينة إلى بغداد حتى الأطفال فأدخلوا عليه وقد علتهم الصفرة ممّا شاهدوه من الرعب والتعب والأحداث.

وهكذا لو أردنا أن نقايس بين أعمال الدولتين ، فلا نجد للامويّين حدثا في الإساءة لأهل البيت إلاّ وللعبّاسيّين مثله مضاعفا ، فكأنما اتخذوا تلك الخطّة مثالا لهم يسيرون عليها ، وزاد العبّاسيّون أن اختصّوا بأشياء من فوادحهم مع العلويّين لم يكن للامويّين مثلها ، كجعلهم العلويّين بالأبنية والاسطوانات حتّى جعل المنصور أساس بغداد عليهم ، ولا تنسل عمّن وضعه الرشيد في تلك المباني من الفتية العلوية البهاليل.

وقطع الرشيد شجرة عند قبر الحسين عليه‌السلام كان يستظلّ بها زائروه ، وهدم المتوكّل قبره وما حوله من الأبنية والبيوت ، وحرث أرض كربلاء وزرعها ليخفي القبر وتنطمس آثاره ، حتّى قيل في ذلك :

٣٤

تالله إن كانت أميّة قد أتت

قتل ابن بنت نبيّها مظلوما

فلقد أتته بنو أبيه بمثله

فغدا لعمرك قبره مهدوما

أسفوا على ألاّ يكونوا شاركوا

في قتله فتتبعوه رميما

ولقد كانت أيام بني أميّة ألف شهر وقد قتلوا فيها الأماثل من العلويّين ولو حسبت من بدء أيام بني العبّاس إلى ألف شهر لوجدت إن العبّاسيّين قد قتلوا من العلويين أضعاف ما قتله الأمويّون ، وما قتلوهم إلاّ وهم عالمون بما لهم من فضل وقربى ، وهذا موسى بن عيسى الذي حارب أهل فخ يقول عن الحسين صاحب فخ وأصحابه : هم والله أكرم خلق الله وأحقّ بما في أيدينا منّا ولكنّ الملك عقيم ، لو أنّ صاحب هذا القبر ـ يعني النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ نازعنا الملك ضربنا خيشومه بالسيف. (١)

على أن هذا الآثم الجريء اعترف بذنبه ، ولكنه لم يذكر الحقيقة كلّها لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والصفوة من آله لم يطلبوا الملك للملك ، وإنّما يطلبونه للدين وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولإزالة البدع والضلالات ولو طلبوا الملك للملك لما رشقنا الامويّين والعبّاسيّين بنبال اللوم على ما جنوه مع الطالبيّين ، وهل يلام الظافر بقرينه إذا تجالدا على السلطان.

أترى أن الحسين في نهضته ، وزيدا في وثبته ، ويحيى في جهاده ، والحسين بفخّ في دفاعه ، وأمثالهم من الطالبيّين أهل الدين والبصائر ، كانوا يضحّون بالنفس والنفائس لأجل السلطان ، وكيف يتطلّبون الدنيا محضا وهم دعاة الدين ، وأدلاّء الهدى ، ومصابيح الرشاد ، وكيف يتطلّبون الملك وهم يعلمون أن ما لديهم من قوّة لا يفوز بها الناهض بالظفر والنصر ، نعم ضحّوا بتلك النفوس

__________________

(١) مقاتل الطالبيّين في مقتل الحسين بن علي صاحب فخ ..

٣٥

الثمينة والنفائس لما عرفوه من أن الدين أنفس من نفوسهم ، ومن استغلى الثمن هان عليه البيع ، وهل عرف الناس الحقّ صراحا ، والدين يقينا ، إلاّ بعد تلك القرابين ، وهل ظهر الحقّ على الباطل في الحجّة والبرهان إلاّ بعد ذلك الفداء.

كانت واقعة الطفّ وتضحيات العلويّين مثالا لأرباب الدين وتعليما لرجال الحقّ عند المنافسة بين الهدى والضلال ، والحقّ والباطل ، ولم تدع عذرا لدعاة الدين عن الفداء في سبيل النصرة ، فإنهم بأعمالهم علّموهم كيف يكون الانتصار في هذه التضحية ، وكيف تكون الحياة في هذا الممات ، وإنّ تلك التجارب للجام الأفواه عن العذر بالعجز ، إذ ليس النصر لفوز العاجل وإلاّ فإن يوم الحسين وأيام العلويّين كانت أيام الظفر لأعدائهم ، ولكن ما عرف النّاس إلاّ بعد حين أن الظفر والفوز كانا لأولئك العلويين الناهضين الذين بذلوا ما لديهم في سبيل الدين ، وأن الخسران في الدنيا والدين لأعدائهم الظافرين في يومهم.

وبتلك الحوادث بانّ للعالم ما كان عليه أهل البيت من الدين والجهاد في إحياء الشريعة ، وما كان عليه أعداؤهم من الدنيا والحرب للدين ، واتضحت نوايا الفريقين ، وبانت أقصى غاياتهم من أعمالهم هاتيك ، وإلاّ فأيّ ذنب للطفل الرضيع وقد جفّ لبنه وذبلت شفتاه عطشا أن يقتل على صدر أبيه ، حتّى يتركه السهم يرفرف كالطير المذبوح.

وأيّ ذنب للأطفال الذين لم يحملوا السلاح ، ولم يلجوا حومة الحرب أن يذبحوا صبرا ، أو يداسوا بالخيل قسرا.

وأيّ ذنب للنساء عقائل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن تسبى على الهزل بعد السلب والسبّ الضرب ، ولما ذا تحمل من بلد لآخر كما تساق الإماء.

ولو أن الحسين ورهطه قد حاربوا طلبا للسلطان لما استحقّ بعد القتل أن

٣٦

يداس جسمه ويرفع على القناة رأسه ، وتسبى على المهازيل أهله ، أترى أن قطع الرءوس ، ورضّ الصدور والظهور بسنابك الخيل ، وسلب الجثث وتركها عارية ، وإبقاءها بالعراء بلا دفن ، وأخذ النساء أسارى ممّا يجازى به القتيل الناهض للملك والسلطان.

إنّ الذي يذر الملح على الجرح ، وينكأ القرحة ، ويزيد في النكبة أن القوم لم يفعلوا بالحسين وأهله تلك الفعلة النكراء الفظيعة عن جهل بمقامه ، واعتقاد بخروجه عن الدين ، بل إنهم ليعلمون أنه صاحب الدين ، وربّ الخلافة والامامة ، وسيّد شباب أهل الجنّة ، وريحانة الرسول ، بل يعلمون بكل ما له من سابقة وفضل.

وهكذا لو فتّشت عن الأمر في غير الحسين عليه‌السلام فإنك لتجد الحال في زيد ويحيى وأهل فخ ، وما سواهم من أمثال أهل البيت الذين كانوا طعمة للسيوف ، ومنتجعا للسمّ ، ووقفا على الحبوس ، كالحال في الحسين في المعرفة بهم والعمد على ظلمهم.

فلا بدع إذن لو وضح للعالم من تلك المواقف المشهودة ، والمشاهد المعلومة ، أن الحرب بين أهل البيت وبين أعدائهم من نوع حرب الفضيلة والرذيلة ، وأن الذين يريدون العروش لا يستطيعون نيلها إلاّ بمحاربة أهل البيت ومحوهم من صفحة الوجود ، لأنهم يعتقدون أنهم لا يصلون إلى الغاية ولأهل البيت شبح قائم ، وظلّ يتفيّؤه الناس ، فما كانت جناية أهل البيت إذن لدى الناس إلاّ أنهم أهل الدين ، وأرباب الفضائل ، فلا ترتقي الناس أرائك الخلافة وأهل البيت أكفاؤها الذين خلقت لهم وخلقوا لها تعرفهم الأمّة قياما بين أبناء الاسلام.

* * *

٣٧

المذاهب والنحل

كانت أيام أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام أيام نحل ومذاهب ، وآراء وأهواء ، وكلام وبحث ، وبدع وأضاليل ، وشبه وشكوك ، ونحن الآن نذكر أصول تلك الفرق والمذاهب موجزا ، جريا على السنن الذي درجنا فيه ، لأن التبسّط في البحث يخرجنا عن خطّة الكتاب ، وفي كتب الملل والنحل المعدّة لهذا الشأن بعض الاغناء.

اصول الفرق الإسلاميّة :

إنّ الأمّة الاسلاميّة قد افترقت ثلاث وسبعين فرقة كما أنبأ عن ذلك نبيّنا الصادق الأمين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله : ستفترق أمّتي على ثلاث وسبعين فرقة (١) ، وتلك من أعلام نبوّته وما أكثرها.

والذي نريد أن نبحث عنه في هذا الفصل هو ما كان من الفرق في عصر الصادق بارزا يعرف ، ونخصّ البحث في الأصول التي ترجع إليها الفرق المتشعّبة ، وقد نشير إلى بعض تلك الشعب بعد ذكر الأصل ، وذلك أقرب للقصد ، وأمسّ بالخطّة.

__________________

(١) سنن ابن ماجة : ٢ / ١٣٢١ ..

٣٨

إن جميع أصول الفرق الاسلاميّة ، التي إليها المرجع والمآل أربعة : المرجئة ، المعتزلة ، الشيعة ، الخوارج (١) فإن كلّ فرقة تنتمي إلى أحد هذه الأصول ، وأما الغلاة وإن رمتهم الفرق الأخرى بالكفر إلاّ أنهم أيضا من شعب هذه الأصول ـ ولو بزعمهم ـ فالكلام في هذه الأصول الأربعة عنوان البحث.

١ ـ المرجئة :

يمكننا أن نقول : إن المرجئة اليوم يقصد منها الأشاعرة فحسب ، وهم عامّة أهل السنّة في الاعتقاد في هذه الآونة ، إذ لم يبق على مذهب أهل الاعتزال في هذه الأزمنة أحد معروف.

كانت المرجئة قبل الأشعري فرقا متكثّرة ، وكلّها قسم من أهل السنّة المقابل للشيعة والخوارج ، غير أنه لمّا حدث مذهب الأشعري في الاعتقاد أصبح عنوان المرجئة عنوانا آخر لأهل السنّة ، أو للمذهب الأشعري بوجه عامّ ، قال الشهرستاني في الملل والنحل (٢) : « وقيل الارجاء تأخير علي عليه‌السلام عن الدرجة الأولى إلى الرابعة » انتهى. وهذا كما ترى هو ما عليه أهل السنّة أجمع.

وليس من قصدنا أن نبحث عن جهة اجتماع هذه العناوين في المذهب الأشعري أو افتراقها عنه ، وإنما القصد الأوّلي أن نعرف ما كان عليه المرجئة في ذلك اليوم ، وليس من شكّ بأن المرجئة في ذلك العهد كانت فرقا ومذاهب يجمعها قولهم بالاكتفاء في الايمان بالقول وإن لم يكن عمل ، حتّى لو ارتكب مدّعي الايمان من الجرائم والمآثم كلّ موبقة لما أخرجه ذلك عندهم عن ربقة

__________________

(١) فرق الشيعة لابي محمّد الحسن النوبختي : ١٧ ، وذكر ابن حزم في الفصل : ٢ / ٨٨ أنها خمسة بجعل أهل السنّة فرقة في قبال المرجئة والمعتزلة ..

(٢) المطبوع في هامش الفصل : ١ / ١٤٥ ..

٣٩

الايمان ، بل كان على ايمان جبرئيل وميكائيل ، ورجوا لهؤلاء مرتكبي الكبائر المغفرة ، ولعلّه من هنا سمّوا المرجئة أو من جهة أنّ الله تعالى أرجأ تعذيبهم ، من الارجاء ـ التأخير ـ أو لتأخيرهم عليّا عليه‌السلام عن الدرجة الأولى إلى الرابعة ، كما ينقله الشهرستاني.

إن أقصى ما يمكن استفادته في القول الجامع لفرق المرجئة هو ما أشرنا إليه ، وهو الذي تفيده كتب الفريقين ، التي تذكر اجتماع الفرق وافتراق النحل.

وهل كان أبو حنيفة ونظراؤه من المرجئة الماصريّة (١) وهم مرجئة أهل العراق ، والشافعي والثوري ومالك بن أنس وابن أبي ليلى وشريك بن عبد الله ونظراؤهم من المرجئة الذين يسمّون الشكاك ، أو البتريّة ، وهم أهل الحشو والجمهور العظيم المسمّون بالحشويّة؟ ذلك ما لا نستطيع البتّ به ، لأن كتب الفرق اختلفت في تلك النسب ، ولم تستند في تحقيق ما تقوله إلى مصدر صريح لنتعرّف صحّة الأقاويل ، فإن تعصّب أولئك المؤلّفين لنحلهم ومذاهبهم يجعل النحل الأخرى هدفا لهم ، وساعد على هذه الجناية رجال السلطات الزمنيّة في تلك العصور ، لأنهم إذا حاولوا ترويج فرقة أو محاربة أخرى استأجروا لهذا الغرض أقلاما ومحابر ، وخطباء ومنابر ، فمن هنا قد تضيع الحقيقة على من لا دراية له وتتبّع.

ولربما أوقعت تلك المؤلّفات كثيرا من الكتّاب في أشراك الخبط والخلط وصفوة القول ان الاعتماد على تلك الكتب في صحّة النسب ليس بالسهل ،

__________________

(١) الملل والنحل في هامش الفصل : ١ / ١٤٧ في كلامه على المرجئة الغسّانية ، وص ١٥١ في كلامه على رجال المرجئة ، وقد جاء في بعض المناظرات التي جرت مع أبي حنيفة خطابهم له بقولهم : بلغنا عنكم أيها المرجئة ، فلم ينكر أبو حنيفة هذه النسبة إليه ، انظر في ذلك تأريخ الخطيب : ١٣ / ٣٧٠ وما بعدها فإنك تجد فيها تفصيل نسبته إلى الارجاء ..

٤٠