الإمام الصادق عليه السلام - ج ١

الشيخ محمّد حسين المظفّر

الإمام الصادق عليه السلام - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد حسين المظفّر


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٤
الصفحات: ٢٦٨
الجزء ١ الجزء ٢

يدخل الدنيا كلّها البيضة لا تصغر الدنيا ولا تكبر البيضة ، فأكبّ هشام عليه يقبّل يديه ورأسه ورجليه ، وقال : حسبي يا ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وانصرف الى منزله.

أقول : إن هذا الجواب صدر عن الإمام عليه‌السلام على سبيل الإسكات والإقناع ، والجواب البرهاني أن يقال : إن الله تعالى لا يقدر على مثل ذلك لأنه محال والمحال غير مقدور له ، كما أنه لا يقدر على إيجاد شريك له وعلى الجمع بين النقيضين والضدّين ، وهذا ليس من النقص في القدرة بل للنقص في المقدور ، لأن القدرة تحتاج الى أن يكون متعلّقها ممكنا في ذاته ، والفرق واضح بين النقص في القدرة والنقص في المقدور ، ولعلّ الديصاني لو أجيب بمثل هذا لما اقتنع به أو لما عقله.

وروي أن أمير المؤمنين عليه‌السلام سئل عن مثل ذلك ، فأجاب بأن الله لا ينسب إلى العجز ، والذي سألتني لا يكون ، وهذا هو الجواب الحقيقي ، ومفاده ما أوضحناه.

ثمّ إن الديصاني غدا على هشام ، فقال له هشام : إن كنت جئت متقاضيا فهاك الجواب ، فقال له : إني جئتك مسلّما ولم أجئك متقاضيا للجواب ، فخرج الديصاني عنه حتّى أتى باب أبي عبد الله عليه‌السلام فاستأذن عليه فأذن له ، فلمّا قعد قال له : يا جعفر بن محمّد دلّني على معبودي ، فقال له أبو عبد الله : ما اسمك؟ فخرج عنه ولم يخبره باسمه ، فقال له أصحابه : كيف لم تخبره باسمك؟ قال : لو كنت قلت له عبد الله كان يقول من الذي أنت له عبد؟

فقالوا : عد إليه وقل له يدلّك على معبودك ولا يسألك عن اسمك ، فرجع إليه وقال : يا جعفر بن محمّد دلّني على معبودي ولا تسألني عن اسمي ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : اجلس ، واذا غلام له صغير في كفّه بيضة يلعب بها

٢٠١

فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : يا ديصاني هذا حصن مكنون له جلد غليظ ، وتحت الجلد الغليظ جلد رقيق وتحت الجلد الرقيق ذهبة مائعة وفضّة ذائبة ، فلا الذهبة المائعة تختلط بالفضّة الذائبة ، ولا الفضّة الذائبة تختلط بالذهبة المائعة ، فهي على حالها لم يخرج منها خارج مصلح فيخبر عن صلاحها ، ولا دخل فيها مفسد فيخبر عن فسادها ، لا يدرى للذكر خلقت أم للانثى ، تنفلق عن مثل ألوان الطواويس أترى لهذا مدبّرا؟ قال : فأطرق مليّا ، ثمّ قال : أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، وأن محمّدا عبده ورسوله ، وأنك إمام وحجّة من الله على خلقه ، وأنا تائب ممّا كنت فيه (١).

مناظرته مع طبيب :

حضر أبو عبد الله عليه‌السلام مجلس المنصور يوما وعنده رجل من الهند يقرأ كتب الطبّ فجعل أبو عبد الله الصادق عليه‌السلام ينصت لقراءته ، فلما فرغ الهندي قال له : يا أبا عبد الله أتريد ممّا معي شيئا؟ قال : لا ، فإن معي ما هو خير ممّا معك ، قال : وما هو؟ قال : أداوي الحار بالبارد والبارد بالحار ، والرطب باليابس واليابس بالرطب ، وأردّ الأمر كلّه الى الله عزّ وجل ، وأستعمل ممّا قاله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واعلم أن المعدة بيت الداء وأن الحميّة هي الدواء ، واعوّد البدن ما اعتاد ، فقال الهندي : وهل الطبّ إلاّ هذا؟ فقال الصادق : أفتراني عن كتب الطبّ أخذت ، قال : نعم ، قال : لا والله ما أخذت إلاّ عن الله سبحانه ، فأخبرني أنا أعلم بالطبّ أم أنت؟ فقال الهندي : لا بل أنا ، فقال الصادق عليه‌السلام : فأسألك شيئا ، قال : سل.

__________________

(١) الكافي : كتاب التوحيد منه ، باب حدوث العالم وإثبات المحدث ..

٢٠٢

قال : أخبرني يا هندي لم كان في الرأس شؤن؟ (١) قال : لا أعلم ، قال : فلم جعل الشعر عليه من فوقه؟ قال : لا أعلم.

قال : فلم خلت الجبهة من الشعر؟ قال : لا أعلم ، قال : فلم كان لها تخطيط وأسارير؟ (٢) قال : لا أعلم ، قال : فلم كان الحاجبان من فوق العينين؟

قال : لا أعلم ، قال : فلم جعل العينان كاللوزتين؟ قال : لا أعلم ، قال : فلم جعل الأنف فيما بينهما؟ قال : لا أعلم ، قال : فلم كان ثقب الأنف في أسفله؟

قال : لا أعلم ، قال : فلم جعل الشفّة والشارب من فوق الفم؟ قال : لا أعلم ، قال : فلم احتدّ السنّ وعرض الضرس (٣) وطال الناب؟ قال : لا أعلم ، قال : فلم جعلت اللحية للرجال؟ قال : لا أعلم ، قال : فلم خلت الكفّان من الشعر؟ قال : لا أعلم ، قال : فلم خلا الظفر والشعر من الحياة؟ قال : لا أعلم ، قال : فلم كان القلب كحبّ الصنوبر (٤) قال : لا أعلم ، قال : فلم كانت الرئة قطعتين ، وجعل حركتها في موضعها؟ قال : لا أعلم ، قال : فلم كانت الكبد حدباء؟ قال : لا أعلم ، قال : فلم كانت الكلية كحبّ اللوبياء؟ قال : لا أعلم ، قال : فلم جعل طيّ الركبتين الى خلف؟ قال : لا أعلم ، قال : فلم تخصّرت القدم؟ (٥) قال : لا أعلم ، فقال الصادق عليه‌السلام : لكنّي أعلم ، قال : فأجبا.

__________________

(١) روى في البحار في شرح هذه المناظرة عن ابن سينا في التشريح أن الجمجمة مركّبة من سبعة أعظم أربعة كالجدران وواحد كالقاعدة والباقيان يتألّف منها العجف وبعضها موصول الى بعض بدروز يقال لها الشؤن. أقول : لعلّه يريد بالعجف : العظام الفصار ..

(٢) الأسارير : الخطوط ..

(٣) يراد منه الطواحن خاصّة ..

(٤) الصنوبر شجر لا يزال مخضرا وهو رفيع الورق وحبّه مستدير طويل ..

(٥) مخصر القدم : من تمسّ قدمه الأرض من مقدمها وعقبها ويخوى أخمصها مع دقّة فيه ..

٢٠٣

قال الصادق عليه‌السلام : كان في الرأس شؤن لأن المجوّف إذا كان بلا فصل أسرع إليه الصداع ، فاذا جعل ذا فصول كان الصداع منه أبعد وجعل الشعر من فوقه لتوصل بوصوله الأدهان الى الدماغ ويخرج بأطرافه البخار منه ، ويردّ الحرّ والبرد عليه ، وخلت الجبهة من الشعر لأنها مصبّ النور الى العينين (١) وجعل فيها التخطيط والأسارير ليحتبس العرق الوارد من الرأس الى العين قدر ما يميطه الانسان عن نفسه وهو كالأنهار في الأرض التي تحبس المياه ، وجعل الحاجبان من فوق العينين ليردّا (٢) عليهما من النور قدر الكفاية ، ألا ترى يا هندي أن من غلبه النور جعل يده على عينيه ليردّ عليهما قدر كفايتهما منه ، وجعل الأنف فيما بينهما ليقسم النور قسمين الى كلّ عين سواء ، وكانت العين كاللوزة ليجري فيها الميل بالدواء ويخرج منها الداء ولو كانت مربّعة أو مدوّرة ما جرى فيها الميل وما وصل إليها دواء ولا خرج منها داء ، وجعل ثقب الأنف في أسفله لتنزل منه الأدواء المتحدّرة من الدماغ ويصعد فيه الأراييح الى المشام ، ولو كان في أعلاه لما نزل منه داء ولا وجد رائحة ، وجعل الشارب والشفة فوق الفم لحبس ما ينزل من الدماغ الى الفم لئلاّ يتنغّص على الانسان طعامه وشرابه فيميطه عن نفسه ، وجعلت اللحية للرجال ليستغنى بها عن الكشف (٣) في المنظر ويعلم بها الذكر من الانثى ، وجعل السنّ حادّا لأنه به يقع العض ، وجعل الضرس عريضا لأنه به يقع الطحن والمضغ ، وكان الناب طويلا ليسند (٤) الأضراس والأسنان كالاسطوانة في البناء ، وخلا الكفّان من الشعر لأن بهما يقع

__________________

(١) فلو كان في الجبهة لحال دون النور ..

(٢) ليورد في نسخة ..

(٣) أي كشف العورة ..

(٤) وفي نسخة ليشدّ. والمعنى عليهما معا لا يختلف ..

٢٠٤

اللمس ، فلو كان فيهم شعر ما درى الانسان ما يقابله ويلمسه ، وخلا الشعر والظفر من الحياة لأن طولهما سمج يقبح وقصّهما حسن فلو كانت فيهما حياة لألم الانسان قصّهما ، وكان القلب كحبّ الصنوبر لأنه منكس فجعل رأسه دقيقا ليدخل في الرئة فيتروّح عنه ببردها لئلاّ يشيط الدماغ بحرّه (١) ، وجعلت الرئة قطعتين ليدخل (٢) بين مضاغطها (٣) فيتروّح عنه بحركتها ، وكانت الكبد حدباء لتثقل المعدة ويقع جميعها عليها فيعصرها ليخرج (٤) ما فيها من البخار ، وجعلت الكلية كحبّ اللوبياء لأن عليها مصبّ المني نقطة بعد نقطة ، فلو كانت مربّعة أو مدوّرة احتبست النقطة الاولى الى الثانية فلا يلتذّ بخروجها الحي ، إذ المني ينزل من فقار الظهر الى الكلية ، فهي كالدودة تنقبض وتنبسط ترميه أوّلا فأوّلا الى المثانة كالبندقة من القوس ، وجعل طيّ الركبة الى خلف لأن الانسان يمشي الى ما بين يديه فتعتدل الحركتان (٥) ولو لا ذلك لسقط في المشي ، وجعلت القدم مخصّرة (٦) لأن المشي اذا وقع على الأرض جميعه ثقل ثقل حجر الرحى ، فإذا كان على طرفه (٧) دفعه الصبي ، واذا وقع على وجهه صعب نقله على الرجل.

فقال له الهندي : من أين لك هذا العلم؟ فقال عليه‌السلام : أخذته عن آبائي عليهم‌السلام عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن جبرئيل عن ربّ

__________________

(١) لاتصال ما بين القلب والدماغ بالشرايين فاذا احترّ القلب احترّ الدماغ ..

(٢) أي القلب ..

(٣) وفي نسخة مساقطها ..

(٤) وفي نسخة فيخرج ..

(٥) وفي نسخة الحركات ..

(٦) متخصّرة في نسخة ..

(٧) وفي نسخة حرفه ..

٢٠٥

العالمين جلّ جلاله الذي خلق الأبدان والأرواح ، فقال الهندي : صدقت وأنا أشهد أن لا إله إلاّ الله وأن محمّدا رسول الله وعبده وأنك أعلم أهل زمانه (١).

تفضيل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

قال أبو خنيس الكوفي : حضرت مجلس الصادق عليه‌السلام وعنده جماعة من النصارى ، فقالوا : فضل موسى وعيسى ومحمّد سواء ، لأنهم عليهم‌السلام أصحاب الشرائع والكتب ، فقال عليه‌السلام : محمّد أفضل منهما عليهما‌السلام وأعلم ، ولقد أعطاه الله تبارك وتعالى من العلم ما لم يعط غيره ، فقالوا : آية من كتاب الله تعالى نزلت في هذا؟ قال عليه‌السلام : نعم قوله تعالى « وكتبنا له في الألواح من كلّ شيء » (٢) وقوله تعالى لعيسى : « وليبيّننّ لكم بعض الذي تختلفون فيه » (٣) وقوله تعالى للسيّد المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « جئنا بك شهيدا على هؤلاء ونزّلنا عليك الكتاب تبيانا لكلّ شيء » (٤) وقوله تعالى : « ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربّهم وأحاط بما لديهم وأحصى كلّ شيء عددا » (٥) فهو والله أعلم منهما ، ولو حضر موسى وعيسى محضرتي وسألاني لأجبتهما ، وسألتهما ما أجابا (٦).

أقول : إذا كان أمير المؤمنين باب مدينة علم الرسول وأولاده ورثة علمه فهم

__________________

(١) بحار الأنوار : ١٠ / ٢٠٧ ..

(٢) الأعراف : ١٤٥ ..

(٣) الزخرف : ٦٣ ..

(٤) النحل : ٨٩ ..

(٥) الجن : ٢٨ ..

(٦) بحار الأنوار : ١٠ / ٢١٥ / ١٥ ..

٢٠٦

إذن أعلم الناس كلّهم ، الأنبياء وغيرهم.

العدل بين النساء :

سأل رجل من الزنادقة أبا جعفر الأحول (١) فقال : أخبرني عن قول الله تعالى : « فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألاّ تعدلوا فواحدة » (٢) وقال تعالى في آخر السورة « ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كلّ الميل » (٣) فبين القولين فرق؟ فقال أبو جعفر الأحول : فلم يكن عندي جواب فقدمت المدينة فدخلت على أبي عبد الله عليه‌السلام فسألته عن الآيتين ، فقال : أمّا قوله « فان خفتم ألاّ تعدلوا فواحدة » فإنما عنى في النفقة ، وقوله « ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم » فإنما عنى في المودّة ، فإنه لا يقدر أحد أن يعدل بين امرأتين في المودّة ، فرجع أبو جعفر الى الرجل فأخبره ، فقال : هذا حملته من الحجاز (٤).

أقول : حاول هذا الزنديق أن يناقض بين الآيتين لأن الثانية جعلت العدل غير مستطاع ، ولكن هذا التناقض إنما يصحّ اذا كان متعلّق الآيتين واحدا ، وأمّا اذا كان متعلّق الاولى النفقة والثانية المودّة فلا تناقض بين العدلين.

رؤساء المعتزلة في البيعة لمحمّد :

دخل عليه أناس من المعتزلة ، وفيهم عمرو بن عبيد ، وواصل بن عطاء

__________________

(١) مؤمن الطاق وسنشير إليه في ثقات رواته ..

(٢) النساء : ٣ ..

(٣) النساء : ١٢٩ ..

(٤) بحار الأنوار : ١٠ / ٢٠٢ / ٦ ..

٢٠٧

وحفص بن سالم (١) وأناس من رؤساء المعتزلة ، وذلك حين قتل الوليد واختلف أهل الشام بينهم ، فتكلّموا وأكثروا ، وخطبوا فأطالوا ، فقال لهم الصادق عليه‌السلام : إنكم قد أكثرتم عليّ فأطلتم فأسندوا أمركم الى رجل منكم ، فليتكلّم بحجّتكم وليوجز ، فأسندوا أمرهم الى عمرو بن عبيد فأبلغ وأطال ، فكان فيما قال : قتل أهل الشام خليفتهم ، وضرب الله بعضهم ببعض وتشتّت أمرهم ، فنظرنا فوجدنا رجلا له دين وعقل ومروّة ومعدن لخلافة ، وهو محمّد بن عبد الله بن الحسن ، فأردنا أن نجتمع معه فنبايعه ثمّ نظهر أمرنا معه ، وندعو الناس إليه ، فمن بايعه كنّا معه وكان معنا ، ومن اعتزلنا كففنا عنه ، ومن نصب لنا جاهدناه ، ونصبنا له على بغيه ، ونردّه الى الحقّ وأهله ، وقد أحببنا أن نعرض ذلك عليك فإنه لا غناء لنا عن مثلك ، لفضلك وكثرة شيعتك.

فلما فرغ قال أبو عبد الله عليه‌السلام : أكلّكم على مثل ما قال عمرو؟

قالوا : نعم ، فحمد الله وأثنى عليه ، وصلّى على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ قال : إنّما نسخط اذا عصي الله فاذا اطيع الله رضينا ، أخبرني يا عمرو لو أن الامّة

__________________

(١) أمّا عمرو بن عبيد فهو بصري من تلامذة الحسن البصري ، وشهرته تغني عن تعريفه ، وهو ممّن لقي الصادق وروى عنه ، وسأله عن الكبائر فأجابه عليه‌السلام عنها مفصّلا ، وكانت ولادته عام ٨٠ ووفاته ١٤٤ ..

وأما واصل فشهرته أيضا تغني عن بيان حاله ، وكان بليغا فصيحا وهو من رؤساء المعتزلة ، وكان يلتغ بالراء ويتجنّبها في كلامه ، ولد عام ٨٠ ومات ١٣١.

وأمّا حفص فلم أظفر بترجمته غير أن في ميزان الاعتدال ذكر حفص بن سلم أبا مقاتل السمرقندي وقد طعن فيه.

قال أبو الفرج في المقاتل : كان اجتماعهم في دار عثمان بن عبد الرحمن المحزومي للمذاكرة في أمر من يقوم بالناس فرجّحوا محمدا قبل أن يغدوا على الصادق عليه‌السلام.

٢٠٨

قلّدتك أمرها فملكته بغير قتال ولا مؤونة فقيل لك : ولّها من شئت ، من تولّي؟

قال : كنت أجعلها شورى بين المسلمين ، قال : بين كلّهم؟ قال : نعم ، قال : بين فقهائهم وخيارهم؟ قال : نعم ، قال : قريش وغيرهم؟ قال : العرب والعجم ، قال : يا عمرو أتتولّى أبا بكر وعمر أو تتبرّأ منهما؟ قال : أتولاّهما ، قال : يا عمرو إن كنت رجلا تتبرّأ منهما فإنه يجوز لك الخلاف عليهما ، وإن كنت تتولاّهما فقد خالفتهما ، قد عهد عمر الى أبي بكر فبايعه ولم يشاور أحدا ، ثمّ ردّها أبو بكر عليه ولم يشاور أحدا ، ثمّ جعلها عمر شورى بين ستة ، فأخرج منها الأنصار غير اولئك الستة من قريش ، ثمّ أوصى الناس فيهم بشيء ما أراك ترضى به أنت ولا أصحابك ، قال : وما صنع؟ قال : أمر صهيبا أن يصلّي بالناس ثلاثة أيام ، وأن يتشاور اولئك الستة ليس فيهم أحد سواهم إلاّ ابن عمر يشاورونه وليس له من الأمر شيء ، وأوصى من بحضرته من المهاجرين والأنصار إن مضت الثلاثة أيام ولم يفرغوا ويبايعوا أن يضرب أعناق الستة جميعا ، وإن اجتمع أربعة قبل أن يمضي ثلاثة أيام وخالف اثنان ، أن يضرب أعناق الاثنين ، أفترضون بذا فيما تجعلون من الشورى في المسلمين؟ قالوا : لا ، قال : يا عمرو دع ذا ، أرأيت لو بايعت صاحبك هذا الذي تدعو إليه ، ثمّ اجتمعت لكم الامّة ولم يختلف عليكم منهم رجلان ، فأفضيتم الى المشركين؟

قالوا : نعم ، قال : فتصنعون ما ذا؟ قال : ندعوهم الى الاسلام فإن أبوا دعوناهم الى الجزية ، قال : فإن كانوا مجوسا وعبدة النار والبهائم وليسوا بأهل كتاب؟

قال : سواء.

قال عليه‌السلام : فأخبرني عن القرآن أتقرءونه؟ قال : نعم ، قال :

اقرأ : « قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرّمون ما حرّم الله ورسوله ولا يدينون دين الحقّ من الذين اوتوا الكتاب حتّى يعطوا الجزية عن يد وهم

٢٠٩

صاغرون » (١). قال : فاستثنى عزّ وجل واشترط من الذين اوتوا الكتاب فيهم والذين لم يؤمنوا سواء ، قال عليه‌السلام : عمّن أخذت هذا؟ قال : سمعت الناس يقولونه.

قال : فدع ذا فإنهم إن أبوا الجزية فقاتلتهم فظهرت عليهم ، كيف تصنع بالغنيمة؟ قال : اخرج الخمس واقسم أربعة أخماس بين من قاتل عليها ، قال : تقسمه بين جميع من قاتل عليها؟ قال : نعم ، قال عليه‌السلام : فقد خالفت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في فعله وسيرته ، وبيني وبينك فقهاء المدينة ومشيختهم فسلهم فإنهم لا يختلفون ولا يتنازعون في أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنما صالح الأعراب على أن يدعهم في ديارهم وألاّ يهاجروا على أنه إن دهمه من عدوّه دهم فيستنفرهم فيقاتل بهم وليس لهم من الغنيمة نصيب وأنت تقول بين جميعهم ، فقد خالفت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في سيرته في المشركين.

دع ذا ، ما تقول في الصدقة؟ قال : فقرأ الآية : « إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها » (٢) الى آخرها ، قال : نعم فكيف تقسّم بينهم؟ قال : اقسّمها على ثمانية أجزاء ، فاعطي كل جزء من الثمانية جزء ، فقال عليه‌السلام إن كان صنف منهم عشرة آلاف ، وصنف رجلا واحدا أو رجلين أو ثلاثة جعلت لهذا الواحد مثلما جعلت لعشرة آلاف؟ قال : نعم ، قال : وتصنع بين صدقات أهل الحضر والبوادي فتجعلهم سواء؟ قال : نعم ، قال : فخالفت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كلّ ما به قلت في سيرته ، كان رسول الله

__________________

(١) التوبة : ٢٩ ..

(٢) التوبة : ٦٠ ..

٢١٠

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقسّم صدقة البوادي في أهل البوادي ، وصدقة الحضر في أهل الحضر ، ولا يقسّمها بينهم بالسويّة ، إنما يقسّمها قدر ما يحضره منهم ، وعلى ما يرى وعلى ما يحضره ، فإن كان في نفسك شيء ممّا قلت فإن فقهاء أهل المدينة ومشيختهم كلّهم لا يختلفون في أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كذا كان يصنع.

ثمّ أقبل على عمرو وقال : اتّق الله يا عمرو وأنتم أيها الرهط فاتّقوا الله فإن أبي حدّثني وكان خير أهل الأرض وأعلمهم بكتاب الله وسنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : من ضرب الناس بسيفه ودعاهم الى نفسه وفي المسلمين من هو أعلم منه فهو ضالّ متكلّف (١).

أقول : قد يخال الناظر عند أوّل نظرة أن أسئلة الامام بعيدة عن القصد أجنبيّة عن شأن البيعة لمحمّد ، ولكن بعد الرويّة يعرف أن القصد منها جليّ والمناسبة بارزة ، وذلك لأنه يريد أن يفهمهم أنهم جهلاء بالشريعة وأحكامها وأن إمامهم الذي يدعون له مثلهم في الجهل بقواعد الدين ، وكيف يتولّى الجاهل امور الامّة وفيهم الأعلم الأفضل.

مناظرته في الزهد :

دخل سفيان الثوري على الصادق عليه‌السلام فرأى ثيابه بيضا كأنها غرقى البيض (٢) فقال له : إن هذا اللباس ليس من لباسك ، فقال له : اسمع مني ما أقول لك ، فإنه خير لك عاجلا وآجلا ، إن أنت متّ على السنّة والحقّ

__________________

(١) احتجاج الطبرسي : ٢ / ٣٦٤ ..

(٢) كزبرج : الفشرة الملتزقة ببياض البيض ، والتشبيه بها إمّا لشدّة البياض أو للرقة أو لهما معا ..

٢١١

ولم تمت على البدعة.

اخبرك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان في زمان مقفر جدب فأمّا إذا أقبلت الدنيا فأحقّ أهلها بها أبرارها لا فجّارها ، ومؤمنوها لا منافقوها ، ومسلموها لا كفّارها ، فما أنكرت يا ثوري ، فو الله أنني لمع ما ترى عليّ منذ عقلت ما مرّ صباح ولا مساء ولله في مالي حقّ أمرني أن أضعه موضعا إلاّ وضعته.

وأتاه قوم ممّن يظهر التزهّد ويدعو الناس أن يكونوا معهم على مثل الذي هم عليه من التقشّف ، فقالوا له : إن صاحبنا حصر عن كلامك ولم تحضره حججه ، فقال لهم : فهاتوا حججكم ، فقالوا له : حجّتنا من كتاب الله ، فقال لهم : فادلوا بها ، فإنها أحقّ ما اتبع وعمل به ، فقالوا : يقول الله تبارك وتعالى مخبرا عن قوم من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة (١) ومن يوق شحّ نفسه فاولئك هم المفلحون » (٢) فمدح فعلهم ، وقال في موضع آخر : « ويطعمون الطعام على حبّه مسكينا ويتيما وأسيرا » (٣) فنحن نكتفي بهذا.

فقال رجل من الجلساء : إنّا رأيناكم تزهدون في الأطعمة الطيّبة ومع ذلك تأمرون الناس بالخروج من أموالهم حتّى تمتعوا أنتم بها ، فقال لهم أبو عبد الله : دعوا عنكم ما لا ينتفع به ، أخبروني أيّها النفر ، ألكم علم بناسخ القرآن من منسوخه ، ومحكمه من متشابهه ، الذي في مثله ضلّ من ضلّ وهلك من هلك من هذه الامّة؟ فقالوا له : أو بعضه فأمّا كلّه فلا ، فقال عليه‌السلام لهم : فمن هاهنا

__________________

(١) بالفتح الفقر ..

(٢) الحشر : ٩ ..

(٣) الدهر : ٨ ..

٢١٢

أتيتم ، وكذلك أحاديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأمّا ما ذكرتم من أخبار الله إيّانا في كتابه عن القوم الذين أخبر عنهم بحسن فعالهم فقد كان مباحا جائزا ولم يكونوا نهوا عنه ، وثوابهم منه على الله عزّ وجل ، وذلك أن الله جلّ وتقدّس أمر بخلاف ما عملوا به فصار أمره ناسخا لفعلهم وكان نهى تبارك وتعالى رحمة منه للمؤمنين ، ونظرا لكي لا يضرّوا بأنفسهم وعيالاتهم ، منهم الضعفة الصغار والوالدان والشيخ الفاني والعجوزة الكبيرة الذين لا يصبرون على الجوع ، فان تصدّقت برغيفي ولا رغيف لي غيره ضاعوا وهلكوا جوعا ، فمن ثمّ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : خمس تمرات أو خمسة قرص أو دنانير أو دراهم يملكها الانسان وهو يريد أن يمضيها ، فأفضلها ما أنفقه الانسان على والديه ، ثمّ الثانية على نفسه وعياله ، ثمّ الثالثة على قرابته من الفقراء ، ثمّ الرابعة على جيرانه الفقراء ، ثمّ الخامسة في سبيل الله وهو أفضلها أجرا.

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للأنصاري حين أعتق عند موته خمسة أو ستة من الرقيق ولم يملك غيرهم وله أولاد صغار : لو أعلمتموني أمره ما تركتكم تدفنونه مع المسلمين ، يترك صبيانه يتكفّفون الناس (١).

ثمّ قال : حدّثني أبي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : ابدأ بمن تعول الأدنى فالأدنى.

ثمّ قال عليه‌السلام : هذا ما نطق به الكتاب ردّا لقولكم ونهيا عنه مفروضا من الله العزيز الحكيم قال : « والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما » (٢) أفلا ترون أن الله تبارك وتعالى قال غير ما أراكم تدعون إليه من

__________________

(١) تكفّف الناس : مدّ كفّه إليهم يستعطي ..

(٢) الفرقان : ٦٧ ..

٢١٣

الاثرة على أنفسكم وسمّى من فعل ما تدعون إليه مسرفا ، وفي غير آية من كتاب الله يقول : « إنه لا يحبّ المسرفين » (١) فنهاهم عن الإسراف ونهاهم عن التقتير لكن أمر بين أمرين ، لا يعطي جميع ما عنده ثمّ يدعو الله أن يرزقه فلا يستجيب له ، للحديث الذي جاء عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أن أصنافا من أمتي لا يستجاب لهم دعاؤهم ، رجل يدعو على والديه ، ورجل يدعو على غريم ذهب له بمال فلم يكتب عليه ولم يشهد عليه ، ورجل يدعو على امرأته وقد جعل الله عزّ وجل تخلية سبيلها بيده ، ورجل يقعد في بيته ويقول ربّ ارزقني ولا يخرج ولا يطلب الرزق ، فيقول الله عزّ وجل له : عبدي ألم أجعل لك السبيل الى الطلب والضرب في الأرض بجوارح صحيحة فتكون قد اعذرت فيما بيني وبينك في الطلب لاتباع أمري ولكي لا تكون كلاّ على أهلك ، فإن شئت رزقتك وإن شئت قتّرت عليك ، وأنت معذور عندي.

ورجل رزقه الله مالا كثيرا فأنفقه ثمّ أقبل يدعو يا ربّ ارزقني ، فيقول الله عزّ وجل : ألم أرزقك رزقا واسعا فهلاّ اقتصدت فيه كما أمرتك ، ولم تسرف فيه وقد نهيتك عن الإسراف.

ورجل يدعو في قطيعة رحم ، ثمّ علّم الله جلّ اسمه نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كيف ينفق ، وذلك أنه كان عنده اوقية من الذهب فكره أن تبيت عنده فتصدّق بها ، فأصبح وليس عنده شيء ، وجاء من يسأله ولم يكن عنده ما يعطيه فلامه السائل ، واغتمّ هو حيث لم يكن عنده ما يعطيه وكان رحيما رقيقا فأدّب الله عزّ وجل نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأمره فقال : « ولا تجعل يدك مغلولة الى عنقك ولا تبسطها كلّ البسط فتقعد ملوما محسورا » (٢) يقول : إن الناس قد

__________________

(١) الأنعام : ١٤١ ..

(٢) بني إسرائيل : ٢٩ ، والحسر : الانكشاف ، ويراد به هاهنا العراء من المال ..

٢١٤

يسألونك ولا يعذرونك ، فاذا أعطيت جميع ما عندك من المال كنت قد حسرت من المال.

فهذه أحاديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصدّقها الكتاب ، والكتاب يصدّقه أهله من المؤمنين ، ثمّ من علمتم من بعده في فضله وزهده سلمان رضي‌الله‌عنه وأبو ذر رضي‌الله‌عنه فأمّا سلمان فكان اذا أخذ عطاءه رفع منه قوته لسنة ، حتّى يحضر عطاؤه من قابل ، فقيل له : يا أبا عبد الله أنت في زهدك تصنع هذا وأنت لا تدري لعلّك تموت اليوم أو غدا ، فكان جوابه أن قال : مالكم لا ترجون لي البقاء كما خفتم عليّ الفناء ، أما علمتم يا جهلة أن النفس قد تلتاث (١) على صاحبها اذا لم يكن لها من العيش ما تعتمد عليه فاذا أحرزت معيشتها اطمأنت.

وأمّا أبو ذر رحمه‌الله فكانت له نويقات وشويهات يحلبها ويذبح منها اذا اشتهى اللحم أو نزل به ضيف ، أو رأى بأهل الماء الذين هم معه خصاصة ، نحر لهم الجزور أو من الشاة على قدر ما يذهب عنهم بقرم اللحم (٢) فيقسّمه بينهم ويأخذ هو كنصيب واحد منهم لا يتفضّل عليهم ، ومن أزهد من هؤلاء؟ وقد قال فيهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما قال ، ولم يبلغ من أمرهما أن صار لا يملكان شيئا البتّة ، كما تأمرون الناس بإلقاء أمتعتهم وشيئهم ويؤثرون على أنفسهم وعيالاتهم.

واعلموا أيّها النفر أني سمعت أبي يروي عن آبائه عليهم‌السلام أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال يوما : ما عجبت من شيء كعجبي من المؤمن

__________________

(١) تختلط ..

(٢) القرم ـ محرّكة ـ شدّة شهوة اللحم ..

٢١٥

انه اذا قرض جسده في دار الدنيا بالمقاريض كان خيرا له ، وإن ملك ما بين مشارق الأرض ومغاربها كان خيرا له ، وكلّ ما يصنع به فهو خير له ، فليت شعري هل يحقّ فيكم ما قد شرحت لكم منذ اليوم أم أزيدكم؟

أما علمتم أن الله عزّ وجل قد فرض على المؤمنين في أوّل الأمر أن يقاتل الرجل منهم عشرة من المشركين ليس له أن يولّي وجهه عنهم ، ومن ولاّهم يومئذ دبره فقد تبوّأ (١) مقعده من النار ، ثمّ حوّلهم من حالهم رحمة منه لهم ، فصار الرجل منهم عليه أن يقاتل رجلين من المشركين تخفيفا من الله عزّ وجل للمؤمنين فنسخ الرجلان العشرة.

أقول : لمّا هاجر المسلمون من مكّة الى المدينة بدء الهجرة كانوا لا يجدون مأوى ولا مطعما ، فكان الإيثار من الأنصار أمرا لازما إلى أن يتمّ للمهاجرين ما يحتاجون إليه ، ولمّا أن تمّ له ما احتاجوه نسخ الإيثار بالتوسّط في الإنفاق فكان كلام الصادق عليه‌السلام عن العشرة بدء الجهاد ، وعند ما كثر المسلمون وأحسن منهم الضعف والعجز ونسخه بالرجلين تنظيرا لكلامه الأوّل.

ثمّ قال عليه‌السلام : واخبروني أيضا عن القضاة أجورة (٢) هم حيث يقضون على الرجل منكم نفقة امرأته اذا قال : إني زاهد وإني لا شيء لي؟ فإن قلتم جورة ظلمتم أهل الاسلام ، وإن قلتم بل عدول خصمتم أنفسكم ، وحيث يردون صدقة من تصدق على المساكين عند الموت باكثر من الثلث.

أقول : وذلك فيما اذا أوصى أحد باكثر من ثلث ماله بعد الموت ، فإنها لا تمضي الوصيّة إلاّ في الثلث دون ما زاد ، وقوله « وحيث يردون » أي يرد

__________________

(١) هيّأ ..

(٢) الهمزة للاستفهام ، والجورة جمع جائر ..

٢١٦

القضاة.

ثمّ قال عليه‌السلام : أخبروني لو كان الناس كلّهم كالذين تريدون زهّادا لا حاجة لهم في متاع غيرهم ، فعلى من يصدق بكفّارة الأيمان والنذور والصدقات من فرض الذهب والفضّة والتمر والزبيب وسائر ما أوجب فيه الزكاة من الإبل والبقر والغنم وغير ذلك؟ اذا كان الأمر كما تقولون لا ينبغي لأحد أن يحبس شيئا من عرض الدنيا إلاّ قدمه وإن كان به خصاصة ، فبئس ما ذهبتم فيه وحملتم الناس عليه من الجهل بكتاب الله عزّ وجل وسنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأحاديثه التي يصدقها الكتاب المنزل ، وردّكم إيّاها بجهالتكم وترككم النظر في غرائب القرآن من الناسخ والمنسوخ ، والمحكم والمتشابه والأمر والنهي.

واخبروني أين أنتم عن سليمان بن داود عليهما‌السلام حيث سأل الله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده ، فأعطاه الله عزّ وجلّ اسمه ذلك ، وكان يقول الحقّ ويعمل به ، ثمّ لم نجد الله عزّ وجل عاب عليه ذلك ولا أحد من المؤمنين ، وداود النبي قبله في ملكه وشدّة سلطانه.

ثمّ يوسف النبي عليه‌السلام حيث قال لملك مصر : اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم ، فكان من أمره الذي كان أن اختار مملكة الملك وما حولها الى اليمين ، وكانوا يمتارون الطعام من عنده لمجاعة أصابتهم وكان يقول الحقّ ويعمل به ، ثمّ لم نجد احدا عاب عليه ذلك.

فتأدّبوا أيّها النفر بآداب الله عزّ وجل للمؤمنين ، اقتصروا على أمر الله ونهيه ، ودعوا عنكم ما اشتبه عليكم ممّا لا علم لكم به ، وردّوا العلم إلى أهله تؤجروا وتعذروا عند الله تبارك وتعالى ، وكونوا في طلب علم ناسخ القرآن من منسوخه ومحكمه من متشابهه ، وما أحلّه الله فيه ممّا حرّم فإنه أقرب لكم من الله ، وأبعد

٢١٧

لكم من الجهل ، ودعوا الجهالة لأهلها ، فإن أهل الجهل كثير ، وأهل العلم قليل ، وقد قال الله عزّ وجل : « وفوق كلّ ذي علم عليم » (١).

أقول : ما أوقع الناس في مهامه الجهالة ، ومتائه الضلالة إلاّ الاعتماد على آرائهم وخواطرهم دون ان يراجعوا في الكتاب والسنّة الى الثقل الثاني ـ العترة ـ علماء الكتاب والسنّة ، وقد رأيت كيف أوضح لهم الحقّ في شأن الزهد.

مناظرته في صدقة :

لا ريب في أن الناس تقع بالجهل والتيه اذا اعتمدوا على أنفسهم دون أن يرجعوا الى أهل العلم الصادق ، فيكون الجاهل تائها في قفار الجهل ويحسب أنه عالم بالشريعة ، ومن الذي يرشده الى الهدى والناس مثله اذا لم يكن المرشد العالم بالشريعة كما جاءت.

ولقد كانت بين الصادق عليه‌السلام وبين جاهل يدّعي العلم مناظرة في صدقة يحدّثنا عنها الصادق نفسه فيقول : إن من اتّبع هواه واعجب برأيه كان كرجل سمعت غثاء الناس تعظّمه وتصفه ، فأحببت لقاءه حيث لا يعرفني ، فرأيته قد أحدق به كثير من غثاء العامّة ، فما زال يراوغهم حتّى فارقهم ولم يقر فتبعته ، فلم يلبث أن مرّ بخبّاز فتغفّله وأخذ من دكّانه رغيفين مسارقة ، فتعجّبت منه ، ثمّ قلت في نفسي : لعله معاملة ، ثمّ أقول : وما حاجته إذن الى المسارقة ، ثمّ لم أزل أتبعه حتّى مرّ بصاحب رمّان ، فما زال به حتّى تغفّله فأخذ من عنده رمّانتين مسارقة ، فتعجّبت منه ثم قلت في نفسي : لعلّه معاملة ، ثمّ أقول : وما حاجته إذن إلى المسارقة ، ثمّ لم أزل

__________________

(١) يوسف : ٧٦ ، وهذه المناظرة في أوّل كتاب المعيشة من فروع الكافي ..

٢١٨

أتبعه حتّى مرّ بمريض فوضع الرغيفين والرمّانتين بين يديه.

ثمّ سألته عن فعله فقال : لعلّك جعفر بن محمّد ، قلت : بلى ، فقال لي : وما ينفعك شرف أصلك مع جهلك؟ فقلت : وما الذي جهلت منه؟ قال : قول الله عزّ وجل « من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيّئة فلا يجزى إلاّ مثلها » (١) وإني لمّا سرقت الرغيفين كانت سيّئتين ، ولمّا سرقت الرّمانتين كانت سيّئتين ، فهذه أربع سيّئات فلما تصدّقت بكلّ واحدة منها كان لي أربعين حسنة ، فانتقص من أربعين حسنة أربع سيّئات وبقي لي ستّ وثلاثون حسنة ، فقلت : ثكلتك امّك أنت الجاهل بكتاب الله ، أما سمعت الله تعالى يقول « إنما يتقبّل الله من المتّقين » إنك لمّا سرقت رغيفين كانت سيّئتين ، ولمّا سرقت رمّانتين كانت أيضا سيّئتين ، ولمّا دفعتها الى غير صاحبها بغير أمر صاحبها كنت إنما أضفت أربع سيّئات الى أربع سيّئات ، ولم تضف أربعين حسنة الى أربع سيّئات ، فجعل يلاحظني فانصرفت وتركته.

قال الصادق عليه‌السلام : بمثل هذا التأويل القبيح المستكره يضلّون ويضلّون (٢).

أقول : وما اكثر أمثال هذا المتأوّل ولا غرابة بعد أن أعرضوا عن المنهل واستقوا من السراب.

وهذه شذرات من مناظرات الصادق عليه‌السلام ومحاججاته مع من تنكّب عن سبيل الهدى ، وحاد عن سنن الحقّ ، وهي قطرة من غيث ، جئنا بها نموذجا من تلك الحياة العلميّة في الحجج والأدلّة.

__________________

(١) الأنعام : ١٦٠ ..

(٢) وسائل الشيعة : ٢ / ٥٧ باب استحباب الصدقة بأطيب المال ..

٢١٩

سيرته وأخلاقه

تمهيد :

إن سيرة المرء تفصح عن سريرته ، وسريرته مطويّة في سيرته.

قد يحاول غواة التدليس والرياء بحسن السمت والهدي إخفاء ما انطوت عليه ضمائرهم وأجنته سرائرهم من الخديعة والاغواء ، بيد أنه ما أسرع ما تفضح الأعمال تلك الطوايا ، والأقوال هاتيك النوايا ، فإن ما في القلب تظهره فلتات اللسان وحركات الأعمال.

ثوب الرّياء يشفّ عمّا تحته

فاذا التحفت به فإنّك عار

وقد يروم رجال من ذوي الأخلاق الفاضلة وأرباب العرفان ألاّ تظهر منهم تلك السرائر النقيّة والضمائر الزكيّة ، حذر الافتتان أو الشهرة ، فلا يلبث دون أن تضوع تلك النفحات الذكيّة ، ويضيء سنا تلك النفس القدسيّة.

ومهما تكن عند امرئ من خليقة

وإن خالها تخفى على الناس تعلم

وهذه ألسنة الخلق فإنها في الكشف عن الحقائق أقلام الحق.

نعم ربما تنبري فئة للدفاع عن تلك الشرذمة الخادعة عصبيّة أو اغترارا بظاهر تلك الشؤون الصالحة ، أو تندفع زمرة للمسّ بكرامة هؤلاء الأبدال أتباعا لقوم فتكت فيهم أدواء الحسد والأحقاد ، أو الجهل والعناد ، ولكن الحقيقة لا يجهلها البصير ، وأن الشمس لا يسترها الغربال.

٢٢٠