الإمام الصادق عليه السلام - ج ١

الشيخ محمّد حسين المظفّر

الإمام الصادق عليه السلام - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد حسين المظفّر


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٤
الصفحات: ٢٦٨
الجزء ١ الجزء ٢

ابن النديم في الفهرست ص ٤٩٨ ـ ٥٠٣ ، وأطال فيه الكلام وذكر له من الكتب والرسائل في مختلف العلوم لا سيّما الكيمياء والطبّ والفلسفة والكلام شيئا كثيرا لا يكاد يتّسع وقت الانسان في العمر الطبيعي لتأليفها ، نعم إلاّ لأفذاذ في الدهر منحوا ذكاء وفطنة مفرطين وانكبّوا على الكتابة والتأليف ، وذكر أن له تآليف على مذاهب الشيعة ومن ثمّ استظهر تشيّعه ولعلّ أخذه عن الصادق وائتمان الصادق به على هذا العلم شاهد على تشيّعه.

وذكره في الذريعة في عداد مؤلّفي الشيعة في ٢ / ٤٥١ ـ ٤٥٢ عند ذكره لكتابه ( الايضاح ) في الكيمياء.

ولو تصفّحت شيئا من رسائله التي نشرها المستشرق « كراوس » لأيقنت بتشيّعه وأخذه عن الامام الصادق ، لأنه أخذ عنه كإمام مفترض الطاعة متّبع الرأي ، ولعرفت أنه لم يأخذ عنه الكيمياء فحسب ، بل الكلام وغيره.

وقد اكبر مؤلفو الاسلام منزلة جابر وعدّوه مفخرة من مفاخر الاسلام ولا بدع فإن من تزيد مؤلّفاته على ثلاثة آلاف كتاب ورسالة في مختلف العلوم ، وجلّها من العلوم النظريّة والطبيعيّة التي تحتاج الى زمن طويل في تجاربها وتطبيقها ـ هذا عدا الفلسفة والكلام ـ لجدير بالتقدير والإكبار وأن يكون مفخرة يعتزّ به.

وقد كبر على المستشرقين أن يكون عربي مسلم ومن أهل القرن الثاني للهجرة يمتاز بتلك الآراء السديدة وتكون نظريّاته الاسس العامّة التي قام عليها علم الكيمياء قديمه وحديثه ، فصاروا يخبطون في تعرّضهم لكتبه كحاطب ليل ، فمرّة يشكّون في وجوده ، وتارة في زمانه ، واخرى فيما نسب إليه من تلك الكتب ، ورابعة في نسبة البعض ممّا يرويه عن استاذه الصادق عليه‌السلام ، وخامسة في التبويب والوضع والاسلوب لأنه لم يكن يعرفه أهل ذلك العصر ، الى غير ذلك ،

١٨١

وقد فنّد بعض تلك الشكوك والمزاعم الكاتب إسماعيل مظهر صاحب مجلة العصور فيما نشره في المقتطف ( ٦٨ / ٥٤٤ ـ ٥٥١ ومن ٦١٧ ـ ٦٢٥ ) وجلى في هذه الحلبة الاستاذ أحمد زكي صالح فيما كتبه في مجلة الرسالة المصريّة السنة الثامنة ( ص ١٢٠٤ ـ ١٢٠٦ ومن ١٢٣٥ ـ ١٢٣٧ ومن ١٢٦٨ ـ ١٢٧٠ ومن ١٢٩٩ ـ ١٣٠٢ ) ، ولقد فنّد تلك الأوهام والمزاعم تفنيدا حكيما علميّا.

وصرّح مرارا بتشيّعه ، وقال في مناقشة رأي الاستاذ ( كراوس ) ص ١٢٩٩ : ومن الجليّ الواضح لدى كلّ من درس علم الكلام أن فرق الشيعة كانت أنشط الفرق الاسلاميّة حركة ، وكانت أولى من أسّس المذاهب الدينيّة على اسس فلسفية ، حتّى أن البعض ينسب فلسفة خاصّة لعليّ بن أبي طالب.

وكان هذا الكلام من أحمد زكي لتصحيح ما ينسب الى جابر من المقارنة بين الآراء الكلاميّة والفلسفيّة.

وجملة القول أنه قد أصبح من الواضح تشيّع جابر وتقدّمه في عدّة علوم لا سيّما الكلام والفلسفة والطبّ والكيمياء والطبيعيّات عامّة ، وما كادت لتكون آراؤه الاسّ العامّ لدعائم علم الكيمياء إلاّ لأنه أخذ ذلك من معدنه الصحيح الامام الصادق عليه‌السلام.

وكنت قد جمعت عدّة مصادر عن جابر لا تبسط في ترجمته غير أني اكتفيت بهذا الوجيز عن الإطالة فيها ، فإنّا لو استقصينا الكلام على كلّ ما يقتضي التوسعة في البحث عنه لكان هذا الكتاب عدّة أجزاء ، وهو وإن كان لا يخلو من فائدة ، غير أنه يكون أبعد عن حياة الصادق الخاصّة.

سائر العلوم :

لا نعني بما ذكرناه من العلوم التي كتبنا عنها وأوضحنا أخذ الناس عن

١٨٢

الصادق فيها أن تلك جميع ما لديه ، بل إن الامام على رأي الإمامية يجب أن يكون عالما بكلّ شيء وأعلم الناس في كلّ علم وفنّ ولسان ولغة ، كما يقتضيه حكم العقل (١) ولو نظرنا الى الدليل السمعي من دون أن نثبت له الإمامة الإلهية لفهمنا منه أن في كلّ زمان عالما من العترة بالكتاب والسنّة كما هو مفاد حديث الثقلين وأن عالم الكتاب الذي نزل على الرسول تبيانا لكلّ شيء يجب أن يكون عالما بكلّ شيء ، وما دام الكتاب موجودا فالعالم به من العترة موجود الى يوم الحشر ، ولا يعدو أن يكون ذلك العالم في عهد الصادق نفسه ، إذ ليس في زمانه من هو أعلم منه في العترة ، وكفت آثاره دلالة على ذلك العلم.

فصادق أهل البيت إذن عالم أهل البيت في عصره وعالم العترة بالكتاب الجامع للعلوم والفنون ، فمن ثمّة نستغني بما سلف عن التعرّض لبقيّة العلوم والشواهد على علمه فيها ، فليس غريبا لو جاء الحديث أن الصادق كلّم الفرس بلسانهم وأهل اللغات بلغاتهم وناظر أهل كلّ علم وفنّ فخصمهم مثل علماء النجوم والفلك والطبيعيات والطبّ وما عداها ، وكلّ ذلك نطقت به الأخبار ودلّت عليه الآثار.

* * *

__________________

(١) وقد أوضحنا ذلك في رسالتنا « الشيعة والإمامة » فانظرها إن أردت التحقيق ..

١٨٣

كيف صار مذهبا؟

إن المذهب في عرف أهل الاسلام هو المرجع في أحكام الدين ، وهذا لا يقتضي أن يكون الصادق عليه‌السلام دون الأئمة الاثنى عشر مذهبا ، لأن الشيعة الإماميّة ترى أن كلّ إمام من اولئك الأئمة من عليّ أمير المؤمنين الى الغائب المنتظر يجب الأخذ بقوله والعمل برأيه ، لأن علمهم ـ كما يرون ـ علم واحد موروث من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يختلفون في أخذه ولا يروون عن غيره ، وعلمهم سلسلة واحدة يرثه الابن عن أبيه من دون اجتهاد فيه ولا تحريف في أخذه ونقله.

بيد أن الفرص لم تسنح لواحد منهم في إظهار ما استودعهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإبلاغ ما استحفظهم عليه ، كما سنحت للصادق جعفر عليه‌السلام فإن الذي ساعد على بثّه للمعارف ونشره للعلوم الموروثة لهم من سيّد الرسل صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اجتماع عدّة امور :

١ ـ إن زمن استقلاله بالإمامة قد طال حتّى جاوز الثلاثين عاما ، ولئن كان جدّه زين العابدين وابنه موسى الكاظم وحفيده عليّ الهادي عليهم‌السلام قد شاركوه في طول الزمن ، وكانت أيام إمامتهم تجاوزت الثلاثين عاما أيضا فإنه لم يتّفق لهم ما اتّفق له ممّا يأتي.

١٨٤

٢ ـ إن أيامه كانت أيام علم وفقه ، وكلام ومناظرة ، وحديث ورواية ، وبدع وضلالة ، وآراء ومذاهب ، وهذه فرصة جديرة بأن يبدي العالم فيها علمه ، ليقمع بذلك الأضاليل والأباطيل ، ويبطل الآراء والأهواء ، ويصدع بالحقّ ، وينشر الحقيقة.

٣ ـ إنّه مرّت عليه فترة من الرفاهيّة على بني هاشم لم تمرّ على غيره من الأئمة ، فلم يتّفق له على الأكثر ما كان يحول دون آبائه وأبنائه من الجهر بمعارفهم بالتضييق عليهم ومنع الناس عنهم ومنعهم عن الناس من ملوك أيامهم.

ولم يملك من الأئمة زمام الأمر سوى أمير المؤمنين عليه‌السلام ، ولكن كانت أيامه على قصرها بين حرب وكفاح وبين مناهضة للبدع والضلالات فحمّلوه على السير في محجّة لا يجد مناصا من السلوك فيها ، على أنه لم تكن في أيامه ما كان في عهد الصادق من انتشار العلم بين طبقات الناس وظهور الأهواء والآراء والنحل والمذاهب.

أمّا الصادق فقد عاصر الدولتين المروانيّة والعبّاسيّة ووجد فترة لا يخشى فيها سطوة ظالم ولا وعيد جبّار ، وتلك الفترة امتزجت من اخريات دولة بني مروان واوليات دولة بني العبّاس ، لأن الأمويين وأهل الشام لمّا أجهزوا على الوليد بن يزيد وقتلوه انتقضت عليهم أطراف البلاد وتضعضعت أركان سلطانهم ، وكانت الدعوة لبني هاشم قد انتشرت في جهات البلاد فكانت تلك الامور كلّها صوارف لبني مروان عمّا عليه الصادق عليه‌السلام من الحياة العلميّة ، ولمّا انكفأ بهم الزمن وسالم بني العبّاس اشتغل بنو العبّاس بتطهير الأرض من أميّة وبتأسيس الدولة الجديدة ، وأنت تعلم بما يحتاجه الملك الغضّ من الزمن لتأسيسه ورسوخه ، فكان انصرافهم لبناء الملك وإحاطته شاغلا لهم برهة من

١٨٥

الزمن عن شأن الصادق في بثّه العلوم والمعارف وإن لم يتناسه السفّاح ولكن لم يجد عنده ما يخشاه ، ولمّا جاء دور المنصور وصفى الملك له ناصب العداء للصادق فكان يضيّق عليه مرّة ويتغاضى عنه اخرى.

روى العلاّمة ابن شهر اشوب (١) في كتابه المناقب في أحوال الصادق عن المفضّل بن عمر : « أن المنصور قد همّ بقتل أبي عبد الله عليه‌السلام غير مرّة ، فكان اذا بعث إليه ودعاه ليقتله فاذا نظر إليه هابه ولم يقتله ، غير أنه منع الناس عنه ومنعه عن القعود للناس واستقصى عليه أشدّ الاستقصاء حتّى أنه كان يقع لأحدهم مسألة في دينه في نكاح أو طلاق أو غير ذلك ، فلا يكون علم ذلك عندهم ولا يصلون إليه فيعتزل الرجل أهله ، فشقّ ذلك على شيعته وصعب عليهم ، وحتّى ألقى الله عزّ وجل في روع المنصور أن يسأل الصادق عليه‌السلام ليتحفه بشيء من عنده لا يكون لأحد مثله ، فبعث إليه بمخصرة (٢) كانت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طولها ذراع ، ففرح بها فرحا شديدا وأمر أن تشقّ أربعة أرباع ، وقسّمها في أربعة مواضع ، ثمّ قال له : ما جزاؤك عندي إلاّ أن اطلق لك وتفشي علمك لشيعتك ، ولا أتعرّض لك ولا لهم فاقعد غير محتشم (٣) وافت الناس ولا تكن في بلد أنافيه ، ففشى العلم عن الصادق ، وأجاز في المنتهى ».

فلهذا وغيره قد فشى عن الصادق عليه‌السلام من العلوم ما لم تسمح الظروف به لسواه من الأئمة ، وهذه كتب الحديث والفقه والأخلاق والاحتجاج وغيرها من كتب المعارف والعلوم ترشدك الى ما كان منه ، وكفت كثرة رواته والرواية عنه ، ولقد كتب عن رواته جملة من المؤلّفين وذكروا أن

__________________

(١) أشرنا الى شيء من حاله في تعليقة ص ٧٨ ..

(٢) بالكسر والسكون فالفتح ما يتوكّا عليه كالعصا ونحوها وما يأخذه الملك بيده يشير به إذا خاطب ..

(٣) على زنة اسم الفاعل ، أي غير هائب ومنقبض ..

١٨٦

عددهم أربعة آلاف أو يزيدون ، ومن المؤلّفين ابن عقدة (١) ، فإذا كانت الرواة عنه أربعة آلاف فكم كانت الرواية؟ واذا كان راو واحد يروي عنه ثلاثين ألف حديث فكم تكون رواية الباقين؟ وكم هي العلوم والمعارف التي اسندت إليه؟

وجملة القول أن الصادق عليه‌السلام إنما عرف بأنه مذهب تنتسب إليه الاماميّة والجعفريّة ، لما انتشر عنه من العلم وحفظ منه من الحديث حتّى أن اكثر ما في كتب الحديث الشيعيّة مرويّ عنه.

وما كانت الرواية عنه مقصورة على الشيعة بل أخذ عنه اكابر معاصريه من أهل السنّة ، ومنهم مالك وأبو حنيفة والسفيانان وأيوب وابن جريح وشعبة وغيرهم ، بل أرجع ابن أبي الحديد فقه المذاهب الأربعة إليه ، كما في شرح النهج : ( ١ / ٦ ).

وكان انتساب الشيعة إليه من عهده ، وهو القائل في وصاياه لأصحابه : فإن الرجل منكم اذا ورع في دينه وصدق الحديث وأدّى الأمانة وحسن خلقه مع الناس قيل : هذا جعفريّ ويسرّني ذلك ، وإذا كان على غير ذلك دخل عليّ بلاؤه وعاره وقيل : هذا أدب جعفر (٢).

وكانت هذه النسبة معروفة في ذلك العهد حتّى أن شريكا القاضي شهد

__________________

(١) هو أحمد بن محمّد بن سعيد الكوفي ، وكان زيديّا جاروديّا ، وشأنه في الجلالة والوثاقة وكثرة الحفظ معروف مشهور ، وقد حكي عنه أنه قال : أحفظ مائة وعشرين ألف حديث بأسانيدها وأذاكر بثلاثمائة ألف حديث ، وله كتب كثيرة منها كتاب أسماء الرجال الذين رووا عن الصادق عليه‌السلام وهم أربعة آلاف رجل ، وأخرج فيه لكلّ رجل الحديث الذي رواه ، ولم يعرف اليوم كتابه في الوجود ، مات بالكوفة عام ٢٣٣ ..

(٢) الكافي : ٢ / ٦٣٦ / ٥ ..

١٨٧

عنده شيعيّان وهما محمّد بن مسلم الثقة الشهير المعروف بصحبته للصادق وأبو كريبة الأزدي ، فنظر شريك في وجهيهما مليّا ثمّ قال : جعفريّان فاطميّان (١).

فنعرف من هذا أن النسبة كانت من أيامه واستمرّت الى هذا اليوم.

* * *

__________________

(١) بحار الأنوار : ٤٧ / ٣٩٣ / ١١٥ ..

١٨٨

مناظراته

لأبي عبد الله عليه‌السلام الكثير من الحجج البوالغ التي أظهر فيها الحقّ وقطع فيها العذر ، نوافيك بشطر منها لأنها ناحية من نواحي حياته العلميّة المليئة بالعبر والعظات لا يستغني المسلم عن الوقوف عليها.

مناظراته في التوحيد :

سبق شيء من كلامه عليه‌السلام في التوحيد ، وكان في طيّه بعض المناظرات ، ونورد هاهنا شيئا منها غير ما سلف.

فمن تلك المناظرات ما يروى عن هشام بن الحكم ، قال : كان بمصر زنديق يبلغه عن أبي عبد الله عليه‌السلام أشياء ، فخرج الى المدينة ليناظره فلم يصادفه بها ، وقيل : إنه خارج بمكّة ، فخرج الى مكّة ونحن مع أبي عبد الله عليه‌السلام فصادفنا ونحن مع أبي عبد الله في الطواف وكان اسمه عبد الملك وكنيته أبو عبد الله ، فضرب كتفه كتف أبي عبد الله عليه‌السلام ، فقال له : ما اسمك؟ قال : عبد الملك ، قال : فما كنيتك؟ قال : أبو عبد الله ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : فمن هذا الملك الذي أنت عبده؟ أمن ملوك الأرض أم ملوك السماء؟ واخبرنى عن ابنك عبد إله السماء أم عبد إله الأرض؟ قل ما شئت

١٨٩

تخصم. فلم يحر جوابا.

ثمّ أن الصادق عليه‌السلام قال له : اذا فرغت من الطواف فأتنا ، فلما فرغ أبو عبد الله عليه‌السلام أتاه الزنديق فقعد بين يدي أبي عبد الله عليه‌السلام ونحن مجتمعون عنده ، فقال أبو عبد الله للزنديق : أتعلم أن للأرض تحتا وفوقا؟ قال :

نعم ، قال : فدخلت تحتها؟ قال : لا ، قال : فما يدريك ما تحتها؟ قال : لا أدري إلاّ أني أظن أن ليس تحتها شيء ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : فالظنّ عجز فلم لا تستيقن ، ثمّ قال أبو عبد الله عليه‌السلام : أفصعدت الى السماء؟ قال : لا ، قال : أفتدري ما فيها؟ قال : لا ، قال : عجبا لك لم تبلغ المشرق ولم تبلغ المغرب ، ولم تنزل الى الأرض ولم تصعد الى السماء ، ولم تجز هناك فتعرف ما خلفهنّ ، وأنت جاحد بما فيهنّ ، فهل يجحد العاقل ما لا يعرف؟ قال الزنديق : ما كلّمني بها أحد غيرك.

فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : فأنت من ذلك في شكّ فلعلّه هو ولعلّه ليس هو ، فقال الزنديق : ولعلّ ذلك ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : أيّها الرجل ليس لمن لا يعلم حجّة على من يعلم ، ولا حجّة للجاهل ، يا أخا أهل مصر تفهم عنّي فإنّا لا نشكّ في الله أبدا ، أما ترى الشمس والقمر والليل والنهار يلجان فلا يشتبهان ويرجعان ، قد اضطرّا ليس لهما مكان إلاّ مكانهما فإن كانا يقدران على أن يذهبا فلم يرجعان؟ وإن كانا غير مضطرّين فلم لا يصير الليل نهارا والنهار ليلا؟ اضطرّا والله يا أخا أهل مصر الى دوامهما والذي اضطرّهما أحكم منهما واكبر (١) فقال الزنديق : صدقت.

ثمّ قال أبو عبد الله عليه‌السلام : يا أخا أهل مصر إن الذي تذهبون إليه

__________________

(١) أي اكبر في القوّة والقدرة وما شابه ذلك ..

١٩٠

وتظنّون أنه الدهر إن كان الدهر يذهب بهم فلم لا يردّهم؟ وإن كان يردّهم لم لا يذهب بهم؟ القوم مضطرّون يا أخا أهل مصر ، لم السماء مرفوعة والأرض موضوعة؟ لم لا تنحدر السماء على الأرض؟ لم لا تنحدر الأرض فوق طباقها؟

ولا يتماسكان ولا يتماسك من عليها؟ قال الزنديق : أمسكهما الله ربّهما سيّدهما.

قال : فآمن الزنديق على يدي أبي عبد الله عليه‌السلام ، فقال حمران بن أعين (١) : جعلت فداك إن آمنت الزنادقة على يدك فقد آمن الكفّار على يد أبيك ، فقال المؤمن الذي آمن على يدي أبي عبد الله عليه‌السلام : اجعلني من تلامذتك ، فقال أبو عبد الله : يا هشام بن الحكم خذه إليك ، فعلّمه هشام ، وكان معلّم أهل الشام وأهل مصر الايمان ، وحسنت طهارته حتّى رضي بها أبو عبد الله عليه‌السلام (٢).

وجاء إليه زنديق آخر وسأله عن أشياء نقتطف منها ما يلي : قال له : كيف يعبد الله الخلق ولم يروه؟ قال أبو عبد الله عليه‌السلام : رأته القلوب بنور الايمان ، وأثبتته العقول بيقظتها إثبات العيان ، وأبصرته الأبصار بما رأته من حسن التركيب وإحكام التأليف ، ثمّ الرسل وآياتها ، والكتب ومحكماتها ، واقتصرت العلماء على ما رأت من عظمته دون رؤيته ، قال : أليس هو قادر أن يظهر لهم حتّى يروه فيعرفونه فيعبد على يقين؟ قال عليه‌السلام : ليس للمحال جواب.

أقول : إنما الرؤية تثبت للأجسام وإذا لم يكن تعالى جسما استحالت رؤيته ، والمحال غير مقدور لا من جهة النقص في القدرة بل النقص في المقدور.

__________________

(١) سنذكره في المشاهير من ثقاته ..

(٢) الكافي : ١ / ٧٤ ..

١٩١

قال الزنديق : فمن أين أثبت أنبياء ورسلا ، قال عليه‌السلام : إنّا لمّا أثبتنا أنّ لنا خالقا صانعا متعاليا عنّا وعن جميع ما خلق ، وكان ذلك الصانع حكيما لم يجز أن يشاهده خلقه ولا أن يلامسوه ولا أن يباشرهم ويباشروه ويحاجّهم ويحاجّوه ، ثبت أن له سفراء في خلقه وعبادة يدلّونهم على مصالحهم ومنافعهم وما به بقاؤهم وفي تركه فناؤهم ، فثبت الآمرون والناهون عن الحكيم العليم في خلقه ، وثبت عند ذلك أن لهم معبّرين وهم الأنبياء وصفوته من خلقه ، حكماء مؤدّبين بالحكمة ، مبعوثين عنه ، مشاركين للناس في أحوالهم على مشاركتهم لهم في الخلق والتركيب ، مؤيّدين من عند الحكيم العليم بالحكمة والدلائل والبراهين والشواهد من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص.

ثمّ قال الزنديق : من أيّ شيء خلق الأشياء؟ قال عليه‌السلام : من لا شيء ، فقال : كيف يجيء شيء من لا شيء؟ قال عليه‌السلام : إن الأشياء لا تخلو إما أن تكون خلقت من شيء أو من غير شيء فإن كانت خلقت من شيء كان معه ، فإن ذلك الشيء قديم ، والقديم لا يكون حديثا ، ولا يتغيّر ولا يخلو ذلك الشيء من أن يكون جوهرا واحدا ولونا واحدا ، فمن أين جاءت هذه الألوان المختلفة والجواهر الكثيرة الموجودة في هذا العالم من ضروب شتّى؟ ومن أين جاء الموت إن كان الشيء الذي انشئت منه الأشياء حيّا؟ أو من أين جاءت الحياة إن كان ذلك الشيء ميّتا؟ ولا يجوز أن يكون من حيّ وميّت قديمين لم يزالا ، لأن الحيّ لا يجيء منه ميّت وهو لم يزل حيّا ، ولا يجوز أيضا أن يكون الميّت قديما لم يزل لما هو به من الموت ، لأن الميّت لا قدرة به ولا بقاء.

أقول : إن هذا الأمر على دقّته قد أوضحه الامام بأحسن بيان وردّده بين امور لا يجد العقل سواها عند الترديد ، وحقّا إن كان الشيء الذي خلقت الأشياء منه قديما لزم أن يكون مع الله تعالى شيء قديم غير مخلوق له ، ولو فرض أنه

١٩٢

مخلوق له عاد الكلام الأول أنه من أيّ شيء كان مخلوقا ، هذا غير أن القديم لا يكون حادثا ، والميّت لا يكون منه الحيّ ، والحيّ لا يكون منه الميّت ، والحياة والممات لا يتركّبان ، ولو تركّبا عاد الكلام السابق ، فإن الموت لا يصلح أن يكون في الأشياء الحيّة ، ولا بقاء ولا دوام ليكون باقيا إلى أن خلق الله منه الأشياء الحيّة ، فلا بدّ إذن من أن يكون تعالى قد خلق الأشياء من لا شيء.

ثمّ قال : من أين قالوا إن الأشياء أزليّة؟ قال عليه‌السلام : هذه مقالة قوم جحدوا مدبّرا الأشياء فكذّبوا الرسل ومقالتهم ، والأنبياء وما أنبئوا عنه ، وسمّوا كتبهم أساطير ، ووضعوا لأنفسهم دينا بآرائهم واستحسانهم ، وإن الأشياء تدلّ على حدوثها من دوران الفلك بما فيه وهي سبعة أفلاك ، وتحرّك الأرض ومن عليها ، وانقلاب الأزمنة ، واختلاف الحوادث التي تحدث في العالم من زيادة ونقصان ، وموت وبلى ، واضطرار الأنفس الى الإقرار بأن لها صانعا ومدبّرا ، ألا ترى الحلو يصير حامضا ، والعذاب مرّا ، والجديد باليا ، وكلّ الى تغيّر وفناء (١).

أقول : إن الاستدلال بانقلاب الأزمنة ودوران الفلك من أدقّ الأدلّة العلميّة على حدوث العالم ، الذي قصرت عنه أفهام كثير من الفلاسفة العظام كما أنه جعل الفلك الدائر فلكا واحدا ثمّ تفسيره بالأفلاك السبعة لا ينطبق إلاّ على نظرية الهيئة الحديثة إذ يراد به النظام الشمسي ، ومثله تصريحه بحركة الأرض التي لم يكن يحلم بها أحد من السابقين ، وهي من مكتشفات العلم الحديث.

وللصادق عليه‌السلام مناظرات جمّة مع ابن أبي العوجاء ، وكان بعضها في التوحيد ، وكان ابن أبي العوجاء واسمه عبد الكريم من الملاحدة المشهورين

__________________

(١) الاحتجاج للشيخ الطبرسي : ٣٣٦ ـ ٣٤٥ ..

١٩٣

واعترف بدسّه الأحاديث الكاذبة في أحاديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكفى في معرفة حاله هذه المناظرات ، وقد قتل على الإلحاد كما قتل صاحبه ابن المقفّع (١).

فمن تلك المناظرات أنه كان يوما هو وعبد الله بن المقفّع في المسجد الحرام فقال ابن المقفّع : ترون هذا الخلق ـ وأومأ بيده الى موضع الطواف ـ ما منهم أحد أوجب له اسم الانسانيّة إلاّ ذلك الشيخ الجالس ـ يعني أبا عبد الله جعفر بن محمد عليهما‌السلام ـ وأما الباقون فرعاع وبهائم ، فقال له ابن أبي العوجاء : وكيف أوجبت هذا الاسم لهذا الشيخ دون هؤلاء ، فقال : لأني رأيت عنده ما لم أره عندهم ، فقال ابن أبي العوجاء : لا بدّ من اختبار ما قلت فيه منه ، فقال له ابن المقفّع : لا تفعل فإني أخاف أن يفسد عليك ما في يدك ، فقال : ليس ذا رأيك لكن تخاف أن يضعف رأيك عندي في إحلالك إيّاه هذا المحلّ الذي وصفت ، فقال ابن المقفّع : أمّا اذا توسّمت عليّ فقم إليه وتحفّظ من الزلل ولا تثن عنانك الى استرسال فيسلمك الى عقال ، وسمة ما لك وعليك ، فقام ابن أبي العوجاء فلمّا رجع قال : ويلك يا ابن المقفّع ما هذا ببشر وإن كان في الدنيا روحاني يتجسّد اذا شاء ظاهرا ويتروّح اذا شاء باطنا فهو هذا ، فقال له : كيف ذلك؟ فقال : جلست إليه فلمّا لم يبق عنده أحد غيري ابتدأني فقال : إن يكن الأمر على ما يقول هؤلاء وهو على ما يقولون ـ يعني أهل الطواف ـ فقد سلموا وعطبتم ، وإن يكن الأمر كما تقولون ، وليس كما تقولون ، فقد استويتم

__________________

(١) قتل محمّد بن سليمان عامل الكوفة من قبل المنصور ابن أبي العوجاء وكان ابن أبي العوجاء من تلامذة الحسن البصري ، فانحرف عن التوحيد واعتزل حوزة الحسن البصري ، وأمّا ابن المقفّع فقد كان مجوسيّا وأسلم ظاهرا ، غير أن أعماله وأقواله لا تدلّ على إسلامه ، وكان فارسيّا ماهرا في صنعة الإنشاء والأدب ، وهو الذي عرّب كتاب كليلة ودمنة ، وقتله سفيان المهلبي أمير البصرة عام ١٤٣ بأمر المنصور ..

١٩٤

وهم ، فقلت : يرحمك الله وأيّ شيء نقول وأيّ شيء يقولون ، ما قولي وقولهم إلاّ واحد ، فقال : وكيف يكون قولك وقولهم واحدا ، وهم يقولون إن لهم معادا وثوابا وعقابا ، ويدينون بأن للسماء إلها وأنها عمران ، وأنتم تزعمون أن السماء خراب ليس فيها أحد ، قال : فاغتنمتها منه فقلت له : ما منعه إن كان الأمر كما يقولون أن يظهر لخلقه يدعوهم الى عبادته حتّى لا يختلف فيه اثنان؟ لم احتجب عنهم وأرسل إليهم الرسل؟ ولو باشرهم بنفسه كان أقرب الى الإيمان به ، فقال لي : ويلك كيف احتجب عنك من أراك قدرته في نفسك؟ نشوّك (١) ولم تكن ، وكبرك بعد صغرك ، وقوّتك بعد ضعفك ، وضعفك بعد قوّتك ، وسقمك بعد صحتك ، وصحتك بعد سقمك ، ورضاك بعد غضبك ، وغضبك بعد رضاك ، وحزنك بعد فرحك ، وفرحك بعد حزنك ، وحبّك بعد بغضك وبغضك بعد حبّك ، وعزمك بعد إنابتك (٢) ، وإنابتك بعد عزمك ، وشهوتك بعد كراهتك ، وكراهتك بعد شهوتك ، ورغبتك بعد رهبتك ، ورهبتك بعد رغبتك ، ورجاءك بعد يأسك ، ويأسك بعد رجائك ، وخاطرك لما لم يكن في وهمك ، وغروب (٣) ما أنت معتقده عن ذهنك وما زال يعدّ (٤) عليّ قدرته التي هي في نفسي التي لا أدفعها ، حتّى ظننت أنه سيظهر فيما بيني وبينه (٥).

ودخل على الصادق عليه‌السلام يوما فقال : أليس تزعم أن الله تعالى خالق كلّ شيء؟ فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : بلى ، فقال : أنا أخلق ، فقال له :

__________________

(١) نشأك في نسخة ..

(٢) الإنابة : الرجوع ، وفي نسخة : إبائك ، وفي نسخة اخرى : إناءتك وهي الإبطاء ..

(٣) وفي نسخة عزوب ..

(٤) وفي نسخة يعدّد ..

(٥) الكافي : كتاب التوحيد منه ، باب حدوث العالم وإثبات المحدث ..

١٩٥

كيف تخلق؟ فقال : أحدث في الموضع ثمّ ألبث عنه فيصير دوابا فكنت انا الذي خلقتها ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : أليس خالق الشيء يعرف كم خلقه؟ قال : بلى ، قال عليه‌السلام : فتعرف الذكر من الانثى وتعرف عمرها؟

فسكت.

وللصادق عليه‌السلام نظير ذلك مع الجعد بن درهم ، وكان من أهل الضلال والبدع ، وقتله والي الكوفة يوم النحر لذلك ، قال ابن شهر اشوب : قيل إن الجعد بن درهم جعل في قارورة ماء وترابا فاستحال دودا وهواما فقال لأصحابه : أنا خلقت ذلك لأني كنت سبب كونه ، فبلغ ذلك جعفر بن محمّد عليهما‌السلام ، فقال : ليقل كم هي؟ وكم الذكران منه والاناث إن كان خلقه ، وكم وزن كلّ واحدة منهنّ ، وليأمر الذي سعى الى هذا الوجه أن يرجع الى غيره ، فانقطع وهرب.

ثمّ أن ابن أبي العوجاء عاد إليه في اليوم الثاني فجلس وهو ساكت لا ينطق فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : كأنك جئت تعيد بعض ما كنّا فيه ، فقال : أردت ذلك يا ابن رسول الله ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : ما أعجب هذا تنكر الله وتشهد أني ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم! فقال : العادة تحملني على ذلك ، فقال له الصادق عليه‌السلام : فما يمنعك من الكلام ، قال : إجلال لك ومهابة ، ما ينطق لساني بين يديك ، فإني شاهدت العلماء وناظرت المتكلّمين فما تداخلني هيبة قط مثلما تداخلني من هيبتك ، قال عليه‌السلام : يكون ذلك ، ولكن أفتح عليك سؤالا ، وأقبل عليه فقال له : أمصنوع أنت أم غير مصنوع؟

فقال له ابن أبي العوجاء : أنا غير مصنوع ، فقال له الصادق عليه‌السلام : فصف لي لو كنت مصنوعا كيف كنت تكون؟ فبقي عبد الكريم مليّا لا يحير جوابا وولع بخشبة كانت بين يديه وهو يقول : طويل عريض عميق قصير متحرّك ساكن

١٩٦

كلّ ذلك من صفة خلقه ، فقال له الصادق عليه‌السلام فإن كنت لم تعلم صفة الصنعة من غيرها فاجعل نفسك مصنوعا لما تجد في نفسك ممّا يحدث من هذه الامور ، فقال له عبد الكريم : سألتني عن مسألة لم يسألني أحد عنها قبلك ، ولا يسألني أحد بعدك عن مثلها ، فقال له أبو عبد الله : هبك علمت أنك لم تسأل فيما مضى فما علمك إنك لم تسأل فيما بعد؟ على أنك يا عبد الكريم نقضت قولك ، لأنك تزعم أن الأشياء من الأوّل سواء فكيف قدّمت وأخّرت؟ ثمّ قال : يا عبد الكريم : أنزيدك وضوحا؟ أرأيت لو كان معك كيس فيه جواهر ، فقال لك قائل : هل في الكيس دينار فنفيت كون الدينار في الكيس ، فقال لك قائل : صف لي الدينار؟ وكنت غير عالم بصفة ، هل لك أن تنفي كون الدينار في الكيس وأنت لا تعلم؟ قال : لا ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : فالعالم اكبر وأطول وأعرض من الكيس ، فلعلّ في العالم صنعة من حيث لا تعلم ، لا تعلم صفة الصنعة من غير الصنعة ، فانقطع عبد الكريم ، وأجاب إلى الإسلام بعض أصحابه وبقي معه بعض.

فعاد في اليوم الثالث فقال : أقلب السؤال ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام سل عمّا شئت فقال : ما الدليل على حدوث الأجسام؟ فقال : إني ما وجدت صغيرا ولا كبيرا إلاّ واذا ضمّ إليه مثله صار اكبر ، وفي ذلك زوال وانتقال عن الحالة الاولى ، ولو كان قديما ما زال ولا حال ، لأن الذي يزول ويحول يجوز أن يجود ويبطل ، فيكون بوجوده بعد عدمه دخول في الحدث ، وفي كونه في الاولى دخوله في العدم ، ولن يجتمع صفة الأزل والعدم في شيء واحد.

فقال عبد الكريم : هبك علمت في جري الحالين والزمانين على ما ذكرت واستدللت على حدوثها ، فلو بقيت الأشياء على صغرها من أين كان لك أن تستدلّ على حدوثها؟ فقال الصادق عليه‌السلام : إنما نتكلّم على هذا العالم

١٩٧

الموضوع فلو رفعناه ووضعنا عالما آخر كان لا شيء أدلّ على الحدث من رفعنا إيّاه ووضعنا غيره ، ولكن أجبت من حيث قدرت إنك تلزمنا وتقول : إن الأشياء لو دامت على صغرها لكان في الوهم أنه متى ما ضمّ شيء منه الى مثله كان اكبر ، وفي جواز التغيّر عليه خروجه من القدم كما بان في تغيير دخوله في الحدث ، ليس وراءه شيء يا عبد الكريم ، فانقطع وخزي.

أقول : إن خلاصة كلام الصادق عليه‌السلام : أن هذا العالم إذا ضمّ شيء منه إلى شيء آخر حدث شيء اكبر ، وفي ذلك زوال عن الحالة الاولى وانتقال الى حال اخرى ، والقديم لا تطرأ عليه هذه التحوّلات ، ولو كان ذلك التأليف بالفرض والوهم ، كما لو كانت الأشياء حسب فرض ابن أبي العوجاء باقية على صغرها لا تكبر ، لأنه من الامور البديهيّة بل أبده البديهيّات أنه بضمّ شيء إلى شيء تحصل زيادة على كلّ من الشيئين ، وهذه إحدى بديهيّات أربع هي أساس العلوم الرياضيّة كلّها ، فقد أرجع الإمام الدليل على حدوث العالم الى أوضح بديهيّة في العقول التي لا يختلف فيها اثنان ، على أنه عليه‌السلام مع ذلك أجاب على تقدير هذا الفرض المحال وهو أن الأشياء تبقى على ما هي عليه بضمّ بعضها الى بعض أجاب بأن هذا الفرض نفسه هو فرض جواز التغيير عليه وخروجه من القدم ودخوله في الحدث ، لأن المفروض أن العالم تقبل الأشياء فيه الزيادة بضمّ بعضها الى بعض ، فلو فرضناه عالما آخر لا يقبل ذلك فقد فرضنا رفع هذا العالم وتغييره ، فيتحقّق فيه الاستدلال على المطلوب. ما أدقّ هذا الدليل وأبدعه ، ولذلك انقطع به ابن أبي العوجاء وخزي.

ولمّا كان في العام القابل التقى معه في الحرم ، فقال له بعض شيعته : إن ابن أبي العوجاء قد أسلم ، فقال الصادق عليه‌السلام : هو أعمى من ذلك لا يسلم ، فلمّا بصر بالصادق عليه‌السلام قال : سيّدي ومولاي ، فقال له : ما جاء

١٩٨

بك الى هذا الموضع؟ فقال : عادة الجسد وسنّة البلد ولنبصر ما الناس فيه من الجنون والحلق ورمي الحجارة ، فقال له الصادق عليه‌السلام : أنت بعد على عتوّك وضلالك يا عبد الكريم ، فذهب يتكلّم ، فقال له : لا جدال في الحجّ ونفض رداءه من يده ، وقال : إن يكن الأمر كما تقول وليس كما تقول نجونا ونجوت ، وإن يكن الأمر كما نقول وهو كما نقول نجونا وهلكت (١).

وناظر الصادق عليه‌السلام يوما في تبديل الجلود في النار ، فقال : ما تقول في هذه الآية « كلّما نضجت جلودهم بدّلناهم جلودا غيرها » (٢) هب هذه الجلود عصت فعذّبت فما بال الغير يعذّب؟ قال أبو عبد الله عليه‌السلام : ويحك هي هي وهي غيرها ، قال : اعقلني هذا القول ، فقال له : أرأيت لو أن رجلا عهد الى لبنة فكسرها ثم صبّ عليها الماء وجبلها (٣) ثم ردّها الى هيئتها الأولى ، ألم تكن هي هي وهي غيرها؟ فقال : بلى أمتع الله بك (٤).

أقول : هذا ما توصّل إليه عظماء الفلاسفة بعد جهد وبحوث طويلة في تحليل صحّة عذاب الانسان المجرم ، مع أن ذرّات جسمه الذي وقع منه الجرم تتبدّل وتتحوّل دائما ( بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ) (٥). وبهذا البيان الدقيق يجاب عن شبهة الآكل والمأكول المعروفة ، فمن أين تعلم هذه الفلسفة الدقيقة في تلك العصور التي ما شمّت رائحتها؟ إنه الامام ، وكفى.

وكان لأبي شاكر الديصاني ـ أحد ملاحدة العرب ـ مع الصادق عليه‌السلام

__________________

(١) توحيد الصدوق طاب ثراه ، باب حدوث العالم ..

(٢) النساء : ٥٦ ..

(٣) طبعها وليّنها ..

(٤) الاحتجاج للشيخ الطبرسي : ٣٥٤ ..

(٥) الدخان : ٥٣ ..

١٩٩

مناظرات وأسئلة ، واخرى بينه وبين هشام بن الحكم ويفزع هشام بها الى إمامه الصادق عليه‌السلام ، قال يوما لهشام : إن في القرآن آية هي من قولنا ، قال هشام : وما هي؟ فقال : « وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله » (١) قال هشام : فلم أدر بم اجيبه ، فحججت فخبّرت أبا عبد الله عليه‌السلام ، قال : هذا كلام زنديق خبيث ، اذا رجعت إليه فقل له ما اسمك بالكوفة؟ فإنه يقول لك فلان فقل له : ما اسمك بالبصرة؟ فإنه يقول فلان ، فقل له : كذلك ربّنا في السماء إله ، وفي الأرض إله ، وفي البحار إله ، وفي القفار إله ، وفي كلّ مكان إله ، قال : فقدمت فأتيت أبا شاكر فأخبرته ، فقال : هذه نقلت من الحجاز (٢).

وسأل أبو شاكر هشام بن الحكم يوما فقال : ألك رب؟ فقال : بلى ، فقال : أقادر هو؟ قال : نعم قادر ، قال : يقدر أن يدخل الدنيا كلّها البيضة لا تكبر البيضة ولا تصغر الدنيا؟ قال هشام : النظرة ، فقال له : قد أنظرتك حولا ، ثمّ خرج عنه ، فركب هشام الى أبي عبد الله عليه‌السلام فاستأذن عليه فأذن له ، فقال له يا ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أتاني عبد الله الديصاني بمسألة ليس المعوّل فيها إلاّ على الله وعليك ، فقال له أبو عبد الله عليه‌السلام : يا هشام كم حواسّك؟ قال : خمس ، قال : أيّها أصغر؟ قال : الناظر ، قال : وكم قدر الناظر؟

قال : مثل العدسة أو أقلّ منها ، فقال له : يا هشام فانظر أمامك وفوقك واخبرني بما ترى ، فقال : أرى سماء وأرضا ودورا وقصورا وبراري وجبالا وأنهارا ، فقال له أبو عبد الله : إن الذي قدر أن يدخل الذي تراه العدسة أو أقلّ منها قادر أن

__________________

(١) الزخرف : ٨٤ ..

(٢) الكافي : باب الحركة والانتقال ..

٢٠٠