الإمام الصادق عليه السلام - ج ١

الشيخ محمّد حسين المظفّر

الإمام الصادق عليه السلام - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد حسين المظفّر


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٤
الصفحات: ٢٦٨
الجزء ١ الجزء ٢

فمن جعل هذه القوى فيها إلاّ من خلقها للمنفعة ، ومن فطن الناس بها إلاّ من جعل هذا فيها.

إلى أن يقول : واعلم أنه ليس منزلة الشيء على حسب قيمته بل هما قيمتان مختلفتان بسوقين ، وربّما كان الخسيس في سوق المكتسب نفيسا في سوق العلم ، فلا تستصغر العبرة في الشيء لصغر قيمته ، فلو فطن طالبو الكيمياء لما في العذرة لاشتروها بأنفس الأثمان وغالوا بها.

ـ ٤ ـ

ثمّ أن المفضّل بكّر إليه في اليوم الرابع ، فقال له الصادق عليه‌السلام : يا مفضّل قد شرحت لك من الأدلّة على الخلق والشواهد على صواب التدبير والعمد في الانسان والحيوان والنبات والشجر وغير ذلك ما فيه عبرة لمن اعتبر ، وأنا أشرح لك الآن الآفات الحادثة في بعض الأزمان التي اتخذها أناس من الجهّال ذريعة إلى جحود الخالق والخلق والعمد والتدبير ، وما انكرت المعطّلة والمانويّة من المكاره والمصائب ، وما أنكروه من الموت والفناء ، وما قاله أصحاب الطبائع ، ومن زعم أن كون الأشياء بالعرض والاتفاق ليتّسع ذلك القول في الردّ عليهم ، قاتلهم الله أنّى يؤفكون.

اتّخذ أناس من الجهّال هذه الآفات الحادثة في بعض الأزمان كمثل الوباء واليرقان والبرد والجراد ذريعة الى جحود الخلق والتدبير والخالق ، فيقال في جواب ذلك : إنه إن لم يكن خالق ومدبّر فلم لا يكون ما هو اكثر من هذا وأفظع؟ فمن ذلك أن تسقط السماء على الأرض وتهوى الأرض فتذهب سفلا ، وتتخلّف الشمس عن الطلوع أصلا ، وتجفّ الأنهار والعيون حتّى لا يوجد ماء

١٦١

للشفة ، وتركد الريح حتّى تحمّ الأشياء وتفسد ، ويفيض ماء البحر على الأرض فيغرقها.

ثمّ هذه الآفات التي ذكرناها من الوباء والجراد وما أشبه ذلك ما بالها لا تدوم وتمتدّ حتّى تجتاح كلّ ما في العالم بل تحدث في الأحايين ثمّ لا تلبث أن ترفع؟ أفلا ترى أن العالم يصان ويحفظ من تلك الأحداث الجليلة ، التي لو حدث عليه شيء منها كان فيه بواره ، ويلدغ أحيانا بهذه الآفات اليسيرة لتأديب الناس وتقويمهم ، ثمّ لا تدوم هذه الآفات بل تكشف عنهم عند القنوط منهم ، فيكون وقوعها بهم موعظة ، وكشفها عنهم رحمة؟ وقد أنكرت المعطّلة ما انكرت المانويّة من المكاره والمصائب التي تصيب الناس فكلاهما يقول إن كان للعالم خالق رءوف رحيم فلم يحدث فيه هذه الامور المكروهة؟ والقائل بهذا القول يذهب به الى أنه ينبغي أن يكون عيش الانسان في هذه الدنيا صافيا من كلّ كدر ، ولو كان هكذا كان الانسان يخرج من الأشرّ والعتوّ الى ما لا يصلح في دين ودنيا ، كالذي ترى كثيرا من المترفين ومن نشأ في الجدة والأمن يخرجون إليه ، حتّى أن أحدهم ينسى أنه بشر أو أنه مربوب أو أن ضررا يمسّه أو أن مكروها ينزل به أو أنه يجب عليه أن يرحم ضعيفا أو يواسي فقيرا أو يرثي لمبتلى أو يتحنّن على ضعيف أو يتعطّف على مكروب ، فاذا عضّته المكاره ووجد مضضها اتّعظ وأبصر كثيرا ممّا كان جهله وغفل عنه ، ورجع الى كثير ممّا كان يجب عليه ، والمنكرون لهذه الأدوية المؤذية بمنزلة الصبيان الذين يذمّون الأدوية المرّة البشعة ، ويتسخّطون من المنع من الأطعمة الضارّة ويتكرّهون الأدب والعمل ، ويحبّون أن يتفرغوا للهو والبطالة وينالوا كلّ مطعم ومشرب ، ولا يعرفون ما تؤدّيهم إليه البطالة من سوء النشو والعادة ، وما تعقبهم الأطعمة اللذيذة الضارّة من الأدواء والأسقام ، وما لهم في الأدب من الصلاح ،

١٦٢

وفي الأدوية من المنفعة ، وإن شاب ذلك بعض المكاره.

أقول : وعلى هذا ومثله مثّل الصادق عليه‌السلام أقوال اولئك الملحدين في شأن الآفات وأجاب عنها بنير البرهان ، الى أن انتهى في البيان إلى ذات الخالق تعالى في شبه الملحدين ، فقال : وأنه

كيف يكلّف العبد الضعيف معرفته بالعقل اللطيف ولا يحيط به.

فيقول في الجواب : إنما كلّف العباد من ذلك ما في طاقتهم أن يبلغوه وهو أن يوقنوا به ويقفوا عند أمره ونهيه ، ولم يكلّفوا الإحاطة بصفته ، كما أن الملك لا يكلّف رعيّته أن يعلموا أطويل هو أم قصير ، أبيض هو أم أسمر وإنما يكلّفهم الإذعان بسلطانه والانتهاء الى أمره ، ألا ترى أن رجلا لو أتى الى باب الملك فقال : اعرض عليّ نفسك حتّى أتقصّى معرفتك وإلاّ لم أسمع لك ، كان قد أحلّ نفسه العقوبة ، فكذا القائل أنه لا يقرّ بالخالق سبحانه حتّى يحيط بكنهه متعرّض لسخطه.

أقول : وعلى مثل هذا البديع من البيان ، والساطع من البرهان ، أتمّ الصادق عليه‌السلام دروسه التي ألقاها على المفضّل بن عمر ، فقال في آخر كلامه : يا مفضّل خذ ما أتيتك وكن من الشاكرين ، ولآلائه من الحامدين ، ولأوليائه من المطيعين ، فقد شرحت لك من الأدلّة على الخلق والشواهد على صواب التدبير والعمد قليلا من كثير وجزء من كلّ ، فتدبّره وفكّر فيه واعتبر به.

يقول المفضّل : فانصرفت من عند مولاي بما لم ينصرف أحد بمثله (١).

__________________

(١) طبع هذا التوحيد المعروف بتوحيد المفضّل عدّة مرّات ورواه في بحار الأنوار ٢٠ / ١٧ ـ ٤٧ وكانت الطبعات كلّها غير خالية من الغلط المطبعي ، فكان النقل عنه بعد التدبّر والتطبيق ، وأصحّها طبعا ما طبع.

١٦٣

أقول : حقيق بأن يغتنم أرباب المعارف جلائل هذه الحكم كما اغتنمها المفضّل ، فقد أوضح فيها أبو عبد الله من حكم الأسرار وأسرار الحكم ما خفي على الكثير علمه وصعب على الناس فهمه.

وهذه الدروس كما دلّتنا على الحكيم في صنائعه تعالى أرشدتنا الى إحاطته عليه‌السلام بفلسفة الخلقة ، بل تراه في هذه الدروس فيلسوفا إلهيّا ، وعالما كلاميا ، وطبيبا نطاسيّا ، ومحلّلا كيمياويّا ، ومشرّحا فنّيّا ، وفنّانا في الزراعة والغرس ، وعالما بما بين السماء والأرض من مخلوقاته ، وقادرا على التعبير عن أسرار الحكم في ذلك الخلق.

الإهليلجة :

سميّ هذا التوحيد بالاهليلجة لأن الصادق عليه‌السلام كان مناظرا فيه لطبيب هندي في إهليلجة كانت بيد الطبيب ، وذلك أن المفضّل بن عمر كتب الى الصادق عليه‌السلام يخبره أن أقواما ظهروا من أهل هذه الملّة يجحدون الربوبيّة ويجادلون على ذلك ، ويسأله أن يردّ عليهم قولهم ويحتجّ عليهم فيما ادّعوا بحسب ما احتجّ به على غيرهم.

فكتب إليه الصادق فيما كتب : وقد وافاني كتابك ورسمت لك كتابا كنت نازعت فيه بعض أهل الأديان من أهل الإنكار ، وذلك أنه كان يحضرني طبيب من بلاد الهند ، وكان لا يزال ينازعني في رأيه ويجادلني عن ضلالته ، فبينا هو يوما يدقّ إهليلجة ليخلطها دواء احتجت إليه من أدويته إذ عرض له شيء

__________________

في المطبعة الحيدريّة في عام ١٣٦٩ ه‍. والشواهد على نسبة هذا التوحيد الى الصادق عليه‌السلام كثيرة ليس هذا محلّ ذكرها ..

١٦٤

من كلامه الذي لم يزل ينازعني فيه ، من ادّعائه أن الدنيا لم تزل ولا تزال شجرة تنبت واخرى تسقط ، ونفس تولد وأخرى تتلف ، وزعم أن انتحالي المعرفة لله دعوى لا بيّنة عليها ولا حجّة لي فيها ، وأن ذلك أمر أخذه الآخر عن الأول والأصغر عن الأكبر ، وأن الأشياء المختلفة والمؤتلفة والباطنة والظاهرة إنما تعرف بالحواسّ الخمس : النظر والسمع والشمّ والذوق واللمس ، ثمّ قاد منطقه على الأصل الذي وضعه ، فقال : لم يقع شيء من حواسّي على خالق يؤدّي الى قلبي إنكار الله تعالى.

ثمّ قال : أخبرنى بم تحتجّ في معرفة ربّك الذي تصف قدرته وربوبيّته وإنما يعرف القلب الأشياء كلّها بالدلالات التي وصفت لك؟

قلت : بالعقل الذي في قلبي ، والدليل الذي أحتجّ في معرفته ، قال : فأنّى يكون ما تقول وأنت تعرف أن القلب لا يعرف شيئا بغير الحواس ، فهل عاينت ربّك ببصر ، أو سمعت صوته بإذن ، أو شممته بنسيم ، أو ذقته بفم ، أو مسسته بيد ، فأدّى ذلك المعرفة الى قلبك؟

قلت : أرأيت اذا أنكرت الله وجحدته لأنك زعمت أنك لا تحسّه بحواسك التي تعرف بها الأشياء وأقررت أنا به هل بدّ من أن يكون أحدنا صادقا ، والآخر كاذبا ، قال : لا ، قلت : أرأيت إن كان القول قولك ، فهل تخاف عليّ شيء ممّا اخوّفك به من عقاب الله ، قال : لا ، قلت : أفرأيت إن كان كما أقول والحقّ في يدي ، ألست قد أخذت فيما كنت أحاذر من عقاب الله بالثقة ، وإنك قد وقعت بجحودك وإنكارك في الهلكة ، قال : بلى ، قلت : فأيّنا أولى بالحزم وأقرب من النجاة ، قال : أنت ، إلاّ أنك من أمرك على ادّعاء وشبهة وأنا على يقين وثقة ، لأني لا أرى حواسّي الخمس أدركته ، وما لم تدركه حواسّي فليس عندي بموجود ، قلت : إنه لمّا عجزت حواسّك عن إدراك الله أنكرته ، وأنا لمّا

١٦٥

عجزت حواسّي عن إدراك الله صدّقت به ، قال : وكيف ذلك؟ قلت : لأن كلّ شيء جرى فيه أثر التركيب لجسم أو وقع عليه بصر للون (١) فما أدركته الأبصار ونالته الحواس فهو غير الله سبحانه لأنه لا يشبه الخلق ولا يشبهه الخلق ، وأن هذا الخلق ينتقل بتغيير وزوال ، وكلّ شيء أشبه التغيير والزوال فهو مثله ، وليس المخلوق كالخالق ، ولا المحدث كالمحدث (٢).

ثمّ أن الصادق عليه‌السلام قال : قلت له : أخبرنى هل أحطت بالجهات كلّها وبلغت منتهاها؟ قال : لا ، قلت : فهل رقيت الى السماء التي ترى ، أو انحدرت الى الأرض السفلى فجلت في أقطارها؟ أو هل خضت في غمرات البحور واخترقت نواحي الهواء فيما فوق السماء أو تحتها إلى الأرض وما أسفل منها ، فوجدت ذلك خلاء من مدبّر حكيم عالم بصير؟ قال : لا ، قلت : فما يدرك لعلّ الذي انكره قلبك هو في بعض ما لم تدركه حواسّك ولم يحط به علمك ، قال : لا أدري لعلّ في بعض ما ذكرت مدبّرا وما أدري لعلّه ليس في شيء من ذلك شيء.

أقول : ربّما يتوهّم بأن في كلام الصادق هذا إشعارا بالتجسيم لأنه جوّز أن يكون في جهة معيّنة وهو من شئون الجسم ، ولكن ذلك كان منه إنكارا على الطبيب الذي يريد أن يستدلّ على عدم الوجود بعد الوجدان ، وإنما أراد الصادق أن يكذّب دعواه بعدم الوجدان فيورد عليه احتمال وجوده في جهة لم يصل إليها الطبيب ، وأن احتمال وجوده في جهة كاف في ردّ دعواه بعدم الوجدان ، وهذا من باب الإلزام للخصم وإبطال حجّته لا من باب إثبات وجوده في جهة ، وقد

__________________

(١) اللام في لجسم وللون لام الابتداء المفتوحة وجسم ولون خبر أن ..

(٢) الأول اسم مفعول وهو بفتح الدال والثاني بكسره وهو اسم فاعل ..

١٦٦

سبق من كلامه إنكار إدراكه بالحواس ، والمثبت في جهة خاصّة مدرك بالحواس.

ثمّ قال الصادق عليه‌السلام : قلت : أما إذ خرجت من حدّ الإنكار الى منزلة الشكّ فإني أرجو أن تخرج الى المعرفة ، قال : فإنما دخل عليّ الشكّ لسؤالك إيّاي عمّا لم يحط به علمي ، ولكن من أين يدخل عليّ اليقين بما لم تدركه حواسّي؟ قلت : من قبل إهليلجتك هذه ، قال : ذاك إذن أثبت للحجّة ، لأنها من آداب الطبّ الذي اذعن بمعرفته.

ثمّ أن الصادق عليه‌السلام صار يلقي عليه الأسئلة عمّا يخصّ الاهليلجة من كيفيّة صنعتها ، ومن وجود أمثالها في الدنيا ، والطبيب يراوغ في الجواب حذرا من الالتزام بالصنعة الدالّة على الصانع ، الى أن ألزمه بما لا يجد محيصا من الاعتراف به وهو أنها خرجت من شجرة.

ثمّ قال الصادق : أرأيت الاهليلجة قبل أن تعقد ، إذ هي في قمعها ماء بغير نواة ولا لحم ولا قشر ولا لون ولا طعم ولا شدّة ، قال : نعم ، قال الصادق عليه‌السلام : قلت له : أرأيت لو لم يرقق الخالق ذلك الماء الضعيف الذي هو مثل الخردلة في القلّة والذلّة ولم يقوّه بقوّته ويصوّره بحكمته ويقدّره بقدرته ، هل كان ذلك الماء يزيد على أن يكون في قمعه غير مجموع بجسم ولا قمع ولا تفصيل ، فإن زاد زاد ماء متراكبا غير مصوّر ولا مخطّط ولا مدبّر بزيادة أجزاء ولا تأليف أطباق.

قال : أريتني من تصوير شجرتها وتأليف خلقتها وحمل ثمرتها وزيادة أجزائها وتفصيل تركيبها أوضح الدلالات وأظهر البيّنات على معرفة الصانع ، ولقد صدقت بأن الأشياء مصنوعة ، ولكني لا أدري لعلّ الاهليلجة والأشياء صنعت نفسها.

١٦٧

ثمّ أن الصادق عليه‌السلام أثبت له أنها مصنوعة لغيرها ، لسبقها بالعدم ولأن صنعتها تدلّ على أن صانعها حكيم عالم ، الى غير ذلك من البراهين.

ثمّ ما زال الصادق يسايره في الكلام ، ومحور الكلام الاهليلجة ، إلى أن أرغمه الدليل على الاعتراف بالصانع الواحد ، بعد أن صار كلامهما إلى النجوم والمنجّمين.

ثمّ صار الصادق يدلي عليه بالبيان عن تلك العلامات على ذلك الصانع الواحد ، والدلالات على ذلك الحكيم القدير والعالم البصير ، من مصنوعاته من السماء والأرض والشجر والنبات والأنعام وغيرها وكيفيّة دلالتها عليه.

ثمّ أخذ في بيان صفاته من اللطف والعلم والقوّة والسمع والبصر والرأفة والرحمة والإرادة (١).

أقول : وما حداني على الاشارة الى مواضع هذه الرسالة دون إيرادها إلاّ رعاية الإيجاز ، على أن هذه الرسالة جمعت فنونا من العلم الى قوّة الحجّة وجودة البيان ، وما كان محور المناظرة فيها إلاّ اهليلجة ، وهي من أضعف المصنوعات ، وأصغرها جرما وشأنا.

موجز براهينه على الوجود والوحدانيّة :

تعرف المواهب الغزيرة من المقدرة في البيان ، فبينا تجده يطنب في الدليل كما في توحيد المفضل وغيره إذ تراه يأتي بأوجز بيان في البرهان مع الوفاء بالقصد ، وذلك حين يسأل عن الدليل على الخالق فيقول عليه‌السلام : ما بالناس من حاجة (٢).

__________________

(١) بحار الأنوار : ٣ / ١٥٢ ـ ١٧٠ ..

(٢) تحف العقول ..

١٦٨

أقول : ما أوجزها كلمة ، واكبرها حجّة ، فإنّا نجد الناس في حاجة مستمرّة في كلّ شأن من شئون الحياة ، وهذه الحاجة تدلّ على وجود مآل لهم في حوائجهم غنيّ عنهم بذاته ، وأن ذلك المآل واحد ، إلاّ لاختلف السير والنظام.

ويسأله مرّة هشام بن الحكم بقوله : ما الدليل على أن الله تعالى واحد؟

فيقول عليه‌السلام : اتّصال التدبير ، وتمام الصنع (١).

أقول : إن كلّ واحدة من هاتين الكلمتين تصلح لأن تكون دليلا برأسه ، وذلك لأن اتّصال التدبير شاهد على وحدانيّة المدبّر ، إذ لو كان اثنين أو اكثر لكان الخلاف بينهما سببا لحدوث فترة أو تضارب ، فلا يكون التدبير متّصلا ، والتقدير دائما ، كما أن تمام الصنعة في الخلقة دائما شاهد آخر على الوحدانيّة ، لأن استمرار الاتفاق في الاثنين مع التكافؤ في كلّ شأن لا يكون أبدا ، كما نشاهده في الذين يديرون دولاب البلاد ، فإن حصل اختلاف ولو برهة فسد المخلوق ، فأين تمام الصنع؟ فالتمام دليل الوحدة أيضا.

ويسأله أبو شاكر الديصاني بقوله : ما الدليل على أن لك صانعا؟ فيقول عليه‌السلام : وجدت نفسي لا تخلو من إحدى جهتين إمّا اكون صنعتها أنا أو صنعها غيري ، فإن كنت صنعتها فلا أخلو من إحدى معنيين ، إمّا أن أكون صنعتها وكانت موجودة فقد استغنت بوجودها عن صنعتها ، وإن كانت معدومة فإنك تعلم أن المعدوم لا يحدث شيئا ، فقد ثبت المعنى الثالث أن لي صانعا وهو ربّ العالمين ، فقام وما أحار جوابا (٢).

وسأل الصادق مرّة ابن أبي العوجاء فقال له : أمصنوع أنت أم غير مصنوع؟

__________________

(١) توحيد الصدوق : باب الردّ على الثنويّة والزنادقة ص ٢٤٣ ..

(٢) التوحيد : باب أنه عزّ وجل لا يعرف إلاّ به ..

١٦٩

فقال له ابن أبي العوجاء : أنا غير مصنوع ، فقال له الصادق عليه‌السلام : فصف لي لو كنت مصنوعا كيف كنت تكون؟ فبقي مليّا لا يحير جوابا وولع بخشبة كانت بين يديه وهو يقول : طويل عريض عميق قصير متحرّك ساكن ، كلّ ذلك من صفة خلقه ، فقال له الصادق عليه‌السلام : فإن كنت لم تعلم صفة الصنعة من غيرها فاجعل نفسك مصنوعا لما تجد في نفسك ممّا يحدث من هذه الامور ، فقال ابن أبي العوجاء : سألتني عن مسألة لم يسألني أحد عنها قبلك ، ولا يسألني أحد بعدك عن مثلها (١).

أقول : إن إثبات هذه العوارض على الانسان لكونه مصنوعا ظاهر ، لأن طوله بعد القصر واختلافه في العمق والعرض آنا بعد آخر ، وسكونه مرّة وحركته اخرى أحداث دلّت على وجوده بعد العدم ومصنوعيّته بعد أن لم يكن ، ولا بدّ للمصنوع من صانع وللمخلوق من خالق.

نفي التجسيم :

لعلّ شبهة التجسيم جاءت من قبل بعض الزنادقة فدخلت في بعض معتقدات أهل الآراء والمذاهب من المسلمين ، الذين يجمدون في الدين على الظواهر ، فإن أهل الزندقة لمّا خابوا في الدعوة الى التعطيل والإلحاد أفلحوا في دسّ هذه الشبهة ، لأنّا نجد الكلام عنها كثيرا في ذلك العصر ، ونقرأ الكثير عنها في الأسئلة التي توجّه الى الإمام ، فمن ذلك قوله في الجواب عن هذه الشبهة : إن الجسم محدود متناه ، والصورة محدودة متناهية ، فاذا احتمل الحدّ احتمل الزيادة والنقصان ، واذا احتمل الزيادة والنقصان كان مخلوقا.

__________________

(١) توحيد الصدوق : باب إثبات حدوث العالم ..

١٧٠

قال السائل : فما أقول؟ قال عليه‌السلام : لا جسم ولا صورة وهو مجسّم الأجسام ، ومصوّر الصور ، لم يتجزّأ ولم يتناه ، ولم يتزايد ولم يتناقص ، لو كان كما يقولون لم يكن بين الخالق والمخلوق فرق ، ولا بين المنشئ والمنشأ ، لكن هو المنشئ فرّق بين جسمه وصوره وأنشأه ، إذ لا يشبهه شيء ولا يشبه هو شيئا (١).

أقول : كاد أن يسيل هذا البيان رقّة ولطفا مع قوّة الحجّة ومتانة التركيب وقد أغنى بوضوحه عن ايضاحه.

وقال مرّة اخرى : فمن زعم أن الله في شيء أو على شيء أو يحول من شيء الى شيء أو يخلو منه شيء أو يشتغل به شيء فقد وصفه بصفة المخلوقين والله خالق كلّ شيء لا يقاس بالقياس ، ولا يشبّه بالناس ، لا يخلو منه مكان ولا يشتغل به مكان ، قريب في بعده بعيد في قربه ، ذلك الله ربّنا لا إله غيره (٢).

أقول : ما أبدع هذا الوصف منه عليه‌السلام ، وما أدقّ معنى قوله « قريب في بعده بعيد في قربه » ويحتاج إدراكه الى لطف قريحة وفطرة ثانية.

وما اكثر ما جاء عنه عليه‌السلام في هذا المعنى ونجتزي عنه بهذا القدر. وممّا يجب أن يعلم أن نفي الجسم والصورة عنه ـ تقدّست ذاته ـ ممّا يقتضيه حكم العقل ، وقد استوفت البيان عنه كتب الكلام ، وأن النبي وأهل بيته عليهم‌السلام جميعا أجمعوا على هذا التنزيه إرشادا الى حكم العقل ، وما اكثر ما جاء عن سيّد الرسل صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من البيان عن هذا التنزيه ، ومن التأويل لما جاء ظاهرا في التجسيم من التنزيل ، أمثال قوله تعالى : « على العرش

__________________

(١) الكافي : باب النهي عن الجسم والصورة ، وتوحيد الصدوق : باب أنه ليس بجسم ولا صورة ..

(٢) بحار الأنوار : ٣ / ٢٨٧ / ٢ ..

١٧١

استوى » وقوله « يد الله فوق أيديهم » وقوله : « فثمّ وجه الله » وغيرها ، ولو لا أن نخرج عن الصدد لوافيناك ببعض كلامه ، بيد أننا نذكر كلمة واحدة فحسب وهو ما يروى عن ابن عباس ، قال : قدم يهودي على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقال له نعثل فقال : يا محمّد إني أسألك عن أشياء تلجلج في صدري منذ حين ، فإن أنت أجبتني عنها أسلمت على يدك ، قال : سل يا أبا عمارة ، فقال : يا محمّد صف لي ربّك ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن الخالق لا يوصف إلاّ بما وصف به نفسه ، وكيف يوصف الخالق الذي تعجز الحواسّ أن تدركه ، والأوهام أن تناله ، والخطرات أن تحدّه ، والأبصار عن الاحاطة به جلّ عمّا يصفه الواصفون ، نأى في قربه ، وقرب في نأيه ، كيّف الكيفيّة فلا يقال له كيف ، وأيّن الأين فلا يقال له أين ، فهو الأحد الصمد ، كما وصف نفسه ، والواصفون لا يبلغون نعته ، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد.

قال : صدقت يا محمّد ، أخبرني عن قولك : أنه واحد لا شبيه له ، أليس الله واحدا والانسان واحدا ، فوحدانيّته أشبهت وحدانيّة الانسان ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الله واحد واحديّ المعنى ، والانسان ثنويّ المعنى ، جسم وعرض وبدن وروح ، فإنما التشبيه في المعاني لا غير ، قال : صدقت يا محمّد (١).

أقول : فهذه الكلمة من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صريحة في تنزيهه تعالى عمّا يشابه الخليقة في الذات والصفات ، والقرآن ينادي بفصيحه في ذلك التنزيه بأمثال قوله تعالى : « لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار » (٢) فليت شعري أما يكفي في تأويل هاتيك الآيات الظاهرة مثل هذه الآيات الصريحة ،

__________________

(١) بحار الأنوار : ٣ / ٣٠٣ / ٤٠ ..

(٢) الأنعام : ١٠٣ ..

١٧٢

ومثل كلام الرسول السالف ، ومثل ما جاء عنه وعن آله في تفسير تلك الظواهر ، ومن ورائها جميعا حكم العقل بنزاهته تعالى عن مشابهة الحوادث ومجانسة الممكنات.

ولا أدري كيف نفث ذلك السحر فأعمى بعض الأبصار والبصائر ، فجعل ناسا من الأوائل يخبطون خبط عشواء في التوحيد؟

صفات الحدوث :

إن هناك صفات تستلزم الحدوث مثل المكان والزمان والكيف والحيث والحركة والانتقال ، وما سواها ، فقد يتوهّم بعضهم من ظاهر بعض الآيات هذه الصفات اللازمة للجسميّة ، فكان الصادق عليه‌السلام يدفع أمثال هذه التوهّمات ببالغ حجّته ، كما توهّم بعضهم أنه تعالى جسم من قوله جلّ شأنه في كتابه المجيد « ما يكون من نجوى ثلاثة إلاّ هو رابعهم ولا خمسة إلاّ هو سادسهم » (١) الآية ، فقال الصادق عليه‌السلام في جوابه : هو واحد واحديّ الذات بائن من خلقه ، وبذلك وصف نفسه ، وهو بكلّ شيء محيط بالإشراف والإحاطة والقدرة ، لا يعزب عنه ذرّة في السموات ولا في الأرض ، ولا أصغر ولا اكبر ، بالاحاطة والعلم لا بالذات ، لأن الأماكن عنده محدودة تحويها حدود أربعة ، فإذا كان بالذات لزمها الحواية (٢).

وأجاب عليه‌السلام آخر بأوجز من هذا البيان فقال : من زعم أن الله تعالى من شيء فقد جعله محدثا ، ومن زعم أنه في شيء فقد جعله محصورا ، ومن زعم أنه

__________________

(١) المجادلة : ٧ ..

(٢) التوحيد : باب الحركة والانتقال ..

١٧٣

على شيء فقد جعله محمولا (١).

وسأله محمّد بن النعمان عن قوله تعالى : « وهو الله في السموات وفي الأرض » (٢) فقال الصادق عليه‌السلام : كذلك هو في كلّ مكان ، قال : بذاته؟

قاله عليه‌السلام : ويحك إن الأماكن أقدار فاذا قلت في مكان بذاته لزمك أن تقول في أقدار وغير ذلك ، ولكن هو بائن من خلقه محيط بما خلق علما وقدرة وإحاطة وسلطانا ، وليس علمه بما في الأرض بأقلّ ممّا في السماء ، لا يبعد منه شيء ، والأشياء له سواء علما وقدرة وسلطانا وملكا وإحاطة (٣).

وسأله سليمان بن مهران الأعمش (٤) بقوله : هل يجوز ان تقول إن الله عزّ وجل في مكان؟ فقال عليه‌السلام : سبحان الله وتعالى عن ذلك أنه لو كان في مكان لكان محدثا ، لأن الكائن في مكان محتاج الى المكان ، والاحتياج من صفات المحدث لا من صفات القديم (٥).

ويقول لأبي بصير (٦) : إن الله تبارك وتعالى لا يوصف بزمان ولا مكان ولا حركة ولا انتقال ولا سكون ، بل خالق الزمان والمكان والحركة والسكون ، تعالى الله عمّا يقولون علوّا كبيرا (٧).

وقال عليه‌السلام لعبد الله بن سنان (٨) : ولا يوصف بكيف ولا أين ولا

__________________

(١) التوحيد : باب الحركة والانتقال ..

(٢) الأنعام : ٣ ..

(٣) بحار الأنوار : ٣ / ٣٢٣ / ٢٠ ..

(٤) سيأتي في المشاهير من الثقات ..

(٥) توحيد الصدوق : باب نفي الزمان والمكان ..

(٦) سيأتي في ثقات المشاهير ..

(٧) التوحيد : باب نفي الزمان والمكان ..

(٨) سيأتي أيضا في المشاهير ..

١٧٤

حيث ، وكيف أصفه وهو الذي كيّف الكيف حتّى صار كيفا فعرفت الكيف بما كيّف لنا من الكيف ، أم كيف أصفه بأين وهو الذي أيّن الأين حتّى صار أينا فعرفت الأين بما أيّن لنا من الأين ، أم كيف أصفه بحيث وهو الذي حيّث الحيث حتّى صار حيثا فعرفت الحيث بما حيّث لنا من الحيث ، فالله تبارك وتعالى داخل في كلّ مكان ، وخارج من كلّ شي ( « لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ » ) (١).

أقول : إن المراد بالكيف والأين والحيث السؤال أو الإخبار عن ذي الحيّز من الممكنات.

ولازم هذا أن يكون تعالى اذا استفسر عنه بالكيف والأين أن يكون ذا جسم أو مكان ، واذا اخبر عنه بالحيث أن يكون متحيّزا في محل ، وإذا كان كذلك فالأبصار تدركه لأن ذا الجسم المتحيّز الحال بمكان لا بدّ أن تدركه الأبصار ، والله تعالى لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار.

وجرت بينه عليه‌السلام وبين ابن أبي العوجاء (٢) محاورة ، فمنها قول ابن أبي العوجاء للصادق : ذكرت الله فأحلت على غائب ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : ويلك كيف يكون غائبا من هو مع خلقه شاهد وإليهم أقرب من حبل الوريد ، يسمع كلامهم ويرى اشخاصهم ويعلم أسرارهم ، فقال ابن أبي العوجاء : أهو في كلّ مكان ، أليس اذا كان في السماء كيف يكون في الأرض ، واذا كان في الأرض كيف يكون في السماء ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : إنما وصفت المخلوق اذا انتقل عن مكان اشتغل به مكان فخلا منه مكان ، فلا يدري في

__________________

(١) التوحيد : باب النهي عن الصفة بغير ما وصف به نفسه ..

(٢) اسمه عبد الكريم ، وقد عدّه السيد المرتضى في أماليه من ملاحدة العرب المشهورين ، وقتله محمّد بن سليمان والي الكوفة من قبل المنصور على الالحاد ..

١٧٥

المكان الذي صار إليه ما حدث في المكان الذي كان فيه ، فأمّا الله العظيم الشأن الملك الديّان فلا يخلو منه مكان ولا يشتغل به مكان ولا يكون الى مكان (١).

أقول : وما اكثر ما جاء عنه من أمثال هذا الكلام في تنزيه البارىء تعالى شأنه عن صفات صنائعه ، واجتزينا بما أوردناه.

لا تدركه الأبصار :

ذهب بعض أبناء الفرق الاسلاميّة الى أنه جلّ شأنه يرى بالبصر في الآخرة فقط ، أو في الدنيا والآخرة معا وما زال أهل البيت ـ لا سيّما الصادق عليه‌السلام ـ يبطلون هذه النسبة ويمنعون عليه تعالى الرؤية ، وسوف نورد عليك بعض الحجج من كلامه.

قال هشام : كنت عند الصادق عليه‌السلام إذ دخل عليه معاوية بن وهب وعبد الملك بن أعين (٢) فقال له معاوية بن وهب : يا ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما تقول في الخبر الذي روي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأى ربه ، على أي صورة رآه؟ وعن الحديث الذي رووه أن المؤمنين يرون ربّهم في الجنّة على أيّ صورة يرونه؟ فتبسّم عليه‌السلام ثمّ قال : يا معاوية ما أقبح بالرجل يأتي عليه سبعون سنة أو ثمانون سنة يعيش في ملك الله ويأكل من نعمه ثمّ لا يعرف الله حقّ معرفته ، ثمّ قال عليه‌السلام : يا معاوية إن محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم ير الربّ تبارك وتعالى بمشاهدة العيان وأن الرؤية على وجهين : رؤية

__________________

(١) توحيد الصدوق : باب الحركة والانتقال ..

(٢) هما من أصحاب الصادق عليه‌السلام وأعلامهم المشهورين ..

١٧٦

القلب ، ورؤية البصر ، فمن عنى برؤية القلب فهو مصيب ومن عنى برؤية البصر فقد كفر بالله وبآياته لقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من شبّه الله بخلقه فقد كفر ، ولقد حدّثني أبي عن أبيه عن الحسين بن علي عليهم‌السلام قال : سئل أمير المؤمنين عليه‌السلام فقيل : يا أخا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هل رأيت ربّك؟ فقال : وكيف أعبد من لم أره ، لم تره العيون بمشاهدة العيان ، ولكن رأته القلوب بحقائق الايمان ، فإذا كان المؤمن يرى ربّه بمشاهدة البصر فإن كلّ من جاز عليه البصر والرؤية فهو مخلوق ، ولا بدّ للمخلوق من الخالق ، فقد جعلته إذن محدثا مخلوقا ، ومن شبّهه بخلقه فقد اتخذ مع الله شريكا ، ويلهم أو لم يسمعوا بقول الله تعالى « لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير » (١) وقوله « لن تراني ولكن انظر الى الجبل فإن استقرّ مكانه فسوف تراني فلمّا تجلّى ربّه للجبل جعله دكّا » (٢) وإنما طلع من نوره على الجبل كضوء يخرج من سمّ الخياط فدكدكت الأرض وصعقت الجبال فخرّ موسى صعقا ـ أي ميّتا ـ فلمّا أفاق وردّ عليه روحه قال : سبحانك تبت إليك من قول من زعم أنك ترى ورجعت الى معرفتي بك أن الأبصار لا تدركك ، وأنا أول المؤمنين وأول المقرّين بأنك ترى ولا ترى وأنت بالمنظر الأعلى.

ثمّ قال عليه‌السلام : إن أفضل الفرائض وأوجبها على الإنسان معرفة الربّ ، والإقرار له بالعبوديّة ، وحدّ المعرفة أن يعرف أنه لا إله غيره ، ولا شبيه له ولا نظير ، وأن يعرف أنه قديم مثبت موجود غير فقيد ، موصوف من غير شبيه ولا مبطل ، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، وبعده معرفة الرسول والشهادة

__________________

(١) الأنعام : ١٠٣ ..

(٢) الأعراف : ١٤٣ ..

١٧٧

بالنبوّة ، وأدنى معرفة الرسول الإقرار بنبوّته وأن ما أتى به من كتاب أو أمر أو نهي فذلك من الله عزّ وجلّ ، وبعده معرفة الإمام الذي تأتمّ به بنعمته وصفته واسمه ، في حال العسر واليسر ، وأدنى معرفة الإمام أنه عدل النبي إلاّ درجة النبوّة ووارثه وأن طاعته طاعة الله وطاعة رسول الله والتسليم له في كلّ أمر ، والردّ إليه والأخذ بقوله.

ثمّ أنه أورد على معاوية ذكر الأئمة وأسمائهم ، ثمّ قال : يا معاوية جعلت لك أصلا في هذا فاعمل عليه ، فلو كنت تموت على ما كنت عليه لكان حالك أسوأ الأحوال ، فلا يغرّنك قول من زعم أن الله تعالى يرى بالبصر.

ثمّ ذكر لمعاوية أعاجيب ما نسبوه من المكروه والباطل للأنبياء ولأبويه النبيّ وعليّ عليهم‌السلام جميعا.

وهذا بعض ما جاء عن الصادق في استحالة الرؤية البصريّة عليه تعالى وبما سبق غنى ، كما وأن للصادق عليه‌السلام كلاما في كلّ باب من أبواب التوحيد ، وفي كلّ آية من الآيات المتشابهة وما كان القصد أن نأتي بكلّ ماله من بيان في ذلك لأن بسط البحث والإتيان بكلّ شاردة وواردة له يبعدنا عن الغاية ، وبما وافيناك به كفاية.

الطبّ :

نزّل الله تعالى الكتاب تبيانا لكلّ شيء ، وقد جمع الكتاب الطبّ كما يقولون في كلمتين وهما قوله تعالى : « كلوا واشربوا ولا تسرفوا » (١) فلا غرابة إذن لو كان العلماء بما في القرآن علماء في الطبّ أيضا ، وكان ما يظهر منهم ، من

__________________

(١) الأعراف : ٣١ ..

١٧٨

البيان عن طبائع الأشياء والأمزجة والمنافع والمضار يرشدنا الى وجود هذا العلم لديهم ، ولقد جمع بعض علماء السلف شيئا كثيرا من كلامهم في ذلك وسمّاه « طبّ الأئمة » وإخال أن الكتاب لا وجود له اليوم ، غير أن المجلسي طاب ثراه يروي عنه كثيرا في بحار الأنوار ، كما يروي عنه الحرّ العاملي في الوسائل.

وكفى دلالة على علم الصادق بالطبّ ما جاء في توحيد المفضّل من الأخبار عن الطبائع وفوائد الأدوية وما جاء فيه من معرفة الجوارح التي تكفّل بها علم التشريح ، وسيأتي ما في بعض مناظراته مع الطبيب الهندي ممّا يدلّ على ذلك ، ويسع الكاتب أن يجمع كتابا فيما ورد عنه في خواصّ الأشياء وفوائدها ، وفي علاج الأمراض والأوجاع وفي الحميّة والوقاية ، وهي متفرقة في غضون كتب الأحاديث ونحوها ، وربّما لم يكشف عنها إلاّ العلم الحديث مثل مداواة الحمّى بالماء البارد ، فإنه ذكروا له الحمّى فقال عليه‌السلام : « إنّا أهل بيت لا نتداوى إلا بإفاضة الماء البارد يصبّ علينا ».

ومثل وجوب غسل الفاكهة قبل الأكل ، قال عليه‌السلام : « إن لكلّ ثمرة سمّا فاذا أتيتم بها فأمسوها الماء واغمسوها في الماء ».

ونحن نحيلك على كتاب الأطعمة والأشربة من الوسائل : ٣ / من ٢٧٦ ـ ٣١١ لترى الشيء الكثير من ذلك.

الجفر :

الجفر في الأصل ولد الشاة اذا عظم واستكرش ، ولعلّ مبدأ هذا العلم كان يكتب على جلد ولد الشاة فسمّي به ، وعلم الجفر علم الحروف الذي تعرف به الحوادث المستقبلة ، وجاء عن الصادق عليه‌السلام أن عندهم الجفر وفسّره بأنه وعاء من أدم فيه علم النبيّين وعلم العلماء الذين مضوا من بني إسرائيل ، وجاء

١٧٩

عنهم الشيء الكثير عن الجفر الذي عندهم ، وإنّا وإن لم نعرف هذا العلم وما القصد منه إلاّ أننا نعرف من هاتيك الأحاديث التي ذكرت الجفر وأنه من مصادرهم أن هذا العلم شريف منحهم الله إيّاه ، وجاء في الكافي أحاديث كثيرة عن الجفر الذي عندهم.

وذكر بعض علماء أهل السنّة الجفر وأنه ممّا يعلمه الصادق عليه‌السلام ، قال الشبلنجي في نور الأبصار ص ١٣١ : وفي حياة الحيوان الكبرى فائدة ، قال ابن قتيبة في كتاب أدب الكاتب : وكتاب الجفر كتبه الامام جعفر الصادق بن محمّد الباقر ، فيه كلّ ما يحتاجون الى علمه الى يوم القيامة ، والى هذا الجفر أشار أبو العلاء بقوله :

لقد عجبوا الآل البيت لمّا

أتاهم علمهم في جلد جفر

فمرآة المنجم وهي صغري

تريه كلّ عامرة وقفر

وقال في الفصول المهمّة : نقل بعض أهل العلم أن كتاب الجفر الذي بالمغرب يتوارثونه بنو عبد المؤمن بن علي من كلام جعفر الصادق ، وله فيه المنقبة السنيّة ، والدرجة التي في مقام الفضل عليه.

الكيمياء وجابر بن حيّان :

ذكر علم الصادق عليه‌السلام بالكيمياء كثير من المؤلّفين ، وأن تلميذه جابر بن حيّان الصوفي الطرطوسي أخذ عنه هذا العلم ، وألّف خمسمائة رسالة فيه في ألف ورقة ، وهي تتضمّن رسائل جعفر الصادق عليه‌السلام (١).

وللقدماء والمتأخّرين من المستشرقين كلام كثير في شأن جابر وقد ذكره

__________________

(١) تاريخ ابن خلكان في أحوال الصادق : ١ / ١٠٥ ..

١٨٠