الإمام الصادق عليه السلام - ج ١

الشيخ محمّد حسين المظفّر

الإمام الصادق عليه السلام - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد حسين المظفّر


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٤
الصفحات: ٢٦٨
الجزء ١ الجزء ٢

وقد جمعت شطرا من تلك الأحاديث التي رويت عنه وعن آبائه وأبنائه في الأخلاق والآداب والأحكام فحسب ، الكتب الأربعة ( الكافي ، ومن لا يحضره الفقيه ، والتهذيب ، والاستبصار ) ثمّ جمعها الملاّ محسن الفيض الكاشاني (١) في كتاب ( الوافي ) ، ولمّا وجد الحرّ العاملي (٢) كتبا اخرى تصلح لأن تكون مصدرا للأحكام خاصّة ضمّها الى ما في الكتب الأربعة فألّف كتابه ( تفصيل وسائل الشيعة ) فكان ما روى عنه بلا واسطة ثمانين كتابا وبواسطة سبعين كتابا.

ثمّ جاء أخيرا العلاّمة النوري ميرزا حسين (٣) وقد وقف على عدّة كتب اخرى صالحة لأن تكون مصدرا ، فجمع منها الشيء الوافر في الأحكام خاصّة ، وألّفه على نهج كتاب الوسائل للحرّ وسماه ( مستدرك الوسائل ).

هذا ما كان في الأحكام خاصّة ، وأما في الأخلاق والآداب ، فلم يجمع فيهما من الكتب الأربعة إلاّ الكافي ، واكثر ما روي فيها كان عنه عليه‌السلام خاصّة ، ولو شئت أن تحصي الكتب التي روت عنهم وعنه لأعياك العدّ ، فهذا الشيخ الصدوق محمّد بن علي بن بابويه وحده قد ألّف عشرات الكتب التي اشتملت على أحاديثهم.

__________________

(١) صاحب التآليف القيّمة الكثيرة ، وقيل إنها قريب من مائة مؤلّف منها كتاب الوافي وفيه شروح جمّة على الأحاديث ، وكتاب الصافي في التفسير ، والشافي مختصره ، والمحجّة البيضاء في إحياء الأحياء ، والحقائق ملخّصه ، ومفاتيح الشرائع في الفقه ، وعلم اليقين ، وعين اليقين وغيرها توفى عام ١٠٩١ ..

(٢) هو محمّد بن الحسن بن علي الحرّ العاملي ، وكتابه الوسائل من أنفس الكتب في ترتيبه وتبويبه ، وكان فراغه من تأليفه في منتصف رجب عام ١٠٨٢ ، وله كتاب أمل الآمل في علماء جبل عامل ، وكانت ولادته عام ١٠٣٣ ثامن رجب في قرية مشغرة من جبل عامل ووفاته في خراسان ٢١ من شهر رمضان عام ١١٠٤ ..

(٣) صاحب التآليف الجمّة القيّمة ، وكان دأبه الجمع والتأليف توفى عام ١٣٢٠ ..

١٤١

وكفى في وفرة الحديث عنهم ما جمعه بحار الأنوار للعلاّمة المجلسي (١).

وإن اشتمل على الغثّ والسمين شأن المؤلّفات الواسعة ، غير أنك اذا استقريت بعض كتبه عرفت وفرة ما فيه ، ومن الغريب أن يكون هذا الكتاب الجامع الذي لم يؤلّف مثله حتّى اليوم قد فاته الشيء الكثير من حديثهم ، فتصدّى بعض علماء العصر وفّقه الله (٢) لجمع كتاب مستدرك للبحار وقد جمع الى اليوم فيه الشيء الكثير.

وكان الصادق عليه‌السلام يرغّب أصحابه في رواية الحديث فيقول لمعاوية بن وهب (٣) الراوية للحديث : المتفقّه في الدين أفضل من ألف عابد لا فقه له ولا رواية.

أقول : ولا إخالك تستغرب من هذا التفضيل ، لأن الله تعالى يريد من عباده أن ينفع بعضهم بعضا ، ويصلح بعضهم بعضا ، والعابد صالح ، والمحدّث المتفقّه مصلح وصالح.

الفقه :

إن الفقه هو معرفة الأحكام الفرعيّة من الطهارات الى الديات ، وهذه الأحكام مأخوذة من الأدلّة الأربعة واكثرها شرحا وبسطا ـ السنّة ـ وهي

__________________

(١) هو شيخ الاسلام الشيخ محمّد باقر ابن الشيخ محمد تقى المجلسي طاب ثراه وكان في أيّامه صاحب النفوذ في دولة الشاه حسين الصفوي وكانت حوزته العلميّة تجمع ألف تلميذ ، وله مؤلّفات أخرى جليلة سوى البحار ، وكانت ولادته عام ١٠٣٧ ، ووفاته عام ١١١٠ أو ١١١١ في اصفهان ، وبها اليوم مرقده معروف يزار ..

(٢) هو العلاّمة الجليل الكبير سنّا وأخلاقا ميرزا محمّد الطهراني نزيل سامراء اليوم ..

(٣) الظاهر أنه البجلي الكوفي ، الثقة الجليل ، وقد روي عن الصادق والكاظم عليهما‌السلام ، وله كتاب رواه عنه جماعة من أجلاّء الرواة ..

١٤٢

حديث الرسول وأهل بيته عند الشيعة ، فكتب الشيعة في الفقه مأخوذة من هذه الأدلّة الأربعة ، واكثر السنّة حديثا هو الحديث الصادقي ، ولو لا حديثه لأشكل على العلماء استنباط اكثر تلك الأحكام.

وما كان فقهاء الشيعة عيالا عليه فحسب ، بل أخذ كثير من فقهاء السنّة الذين عاصروه الفقه عنه ، أمثال مالك وأبي حنيفة والسفيانين وأيوب وغيرهم ، كما ستعرفه في بابه ، بل ان ابن أبي الحديد في شرح النهج ( ١ : ٦ ) أرجع فقه المذاهب الأربعة إليه ، وهذا الآلوسي في مختصر التحفة الاثنى عشريّة ص ٨ يقول : وهذا أبو حنيفة وهو بين أهل السنّة كان يفتخر ويقول بأفصح لسان : لو لا السنّتان لهلك النعمان ، يريد السنّتين اللتين صحب فيها الامام جعفر الصادق عليه‌السلام لأخذ العلم.

فكان الحقّ أن يصبح أبو عبد الله عليه‌السلام فقيه الاسلام الوحيد ، وكفى من فقهه كثرة الرواية والرواة عنه ، ومن سبر كتب الحديث عرف كثرة الحديث الصادقي ، وكثرة رواته وقد عاصره فقهاء كثيرون ، فما بلغ رواة أحدهم ما بلغه رواته ، وما أنفق في هذه السوق أحد مثلما أنفقه من علم وفقه ، وما سئل عن شيء فتوقّف في جوابه.

إن الفقه النظام العامّ للناس ، ولا يعرف الدين بسواه ، ومن هنا أمر الصادق رجاله بالتفقّه في الدين فقال عليه‌السلام : « حديث في حلال وحرام تأخذه من صادق خير من الدنيا وما فيها من ذهب أو فضّة ».

وقال عليه‌السلام : « لا يشغلك طلب دنياك عن طلب دينك فان طالب الدنيا ربّما أدرك وربّما فاتته فهلك بما فاته منها ».

وقال حرصا على التفقّه في الدين : « ليت السياط على رءوس أصحابي

١٤٣

حتى يتفقّهوا في الحلال والحرام ».

وقال عليه‌السلام : « تفقّهوا في الدين ، فإنه من لم يتفقّه منكم فهو اعرابي » (١).

وسئل عن الحكمة في قوله تعالى : « ومن اوتي الحكمة فقد اوتي خيرا كثيرا » (٢) فقال : « إن الحكمة المعرفة والتفقّه في الدين » (٣).

والفقيه عنده العارف بالحديث ، فقال عليه‌السلام : « اعرفوا منازل شيعتنا بقدر ما يحسنون من رواياتهم عنّا ، فإنّا لا نعدّ الفقيه منهم فقيها حتّى يكون محدّثا ». (٤)

الأخلاق :

إن علم الأخلاق لم يكن بدء الأمر مبوّبا ، وإنما كانت الأخلاق تلتقط من تلك الآيات الكريمة التي جاء بها الكتاب الحكيم (٥) ومن كلام سيّد الأنبياء وسيّد الأوصياء وأبنائهما الحكماء عليهم جميعا سلام الله ، وإنما ابتدأ التأليف فيه عند الشيعة في أخريات القرن الثاني من إسماعيل بن مهران بن أبي نصر السكوني وكان من أصحاب الرضا عليه‌السلام وثقات الرواة وله كتاب صفة المؤمن والفاجر ، ثمّ ألّف فيه من رجال القرن الثالث أبو جعفر أحمد بن محمّد بن خالد البرقي ، وكان من ثقات الرواة وأبوه محمّد من أصحاب الرضا عليه‌السلام

__________________

(١) بحار الأنوار : ١ / ٢١٥ / ١٩ ..

(٢) البقرة : ٢٦٩ ..

(٣) بحار الأنوار : ١ / ٢١٥ / ٢٥ ..

(٤) بحار الأنوار : ٢ / ٨٢ / ١ ..

(٥) جمعت الشيء الكثير من الآيات الأخلاقيّة وعلّقت عليها موجزا من البيان وسمّيته : القرآن تعليمه وإرشاده ..

١٤٤

وثقات رواته ، وكتاب أبي جعفر ( المحاسن ) من محاسن الكتب ، وكانت وفاته عام ٢٧٤ أو ٢٨٠ في قم ، ومن رجال هذا القرن المؤلّفين في الأخلاق الحسن ابن علي بن شعبة ، وكتابه تحف العقول وهو كتاب نفيس يشتمل على الحكم والمواعظ والأخلاق لكل إمام إمام ، ثمّ اتّسع التأليف في الأخلاق فكان من أفضله اصول الكافي لثقة الاسلام الكليني طاب ثراه المتوفى عام ٣٢٩ ، الذي جاهد طوال السنين في تأليف هذا الكتاب حتّى جعله منتخبا في أحاديثه وأسانيده ، ولو ألقيت نظرة على كتبه وأبوابه لعرفت ما هي الأخلاق وما علم الصادق وأهل البيت في الأخلاق.

ولو أمعن الناظر في هذا الكتاب لعرف أن أفضل مصدر لعلم الأخلاق بعد الكتاب الحكيم كلام من كان على خلق عظيم ، وكلام من ورثوا عنه كلّ علم وفضل ، وسوف تجد صدق ذلك اذا قرأت المختار من كلام الصادق عليه‌السلام في هذا الكتاب.

التفسير :

كان في الحديث عن أهل البيت الذي أشرنا إليه موارد جمّة للتفسير حتّى أن بعض المفسّرين جعلوا تفسيرهم كلّه مبنيّا على الحديث ، واذا شئت أن تعرف شيئا من كلام الصادق عليه‌السلام في التفسير فدونك ( مجمع البيان ) فإنه قد أورد شيئا من أحاديثه في تفسيره ، وقد يشير الى رأي أهل البيت مستظهرا ذلك من حديثهم.

وأن هناك مؤلّفات عديدة في آيات الأحكام ، وقد علّق عليهما المؤلّفون ما جاء في تفسيرها والاشارة الى مفادها من طريق أهل البيت وأحاديثهم ، والحديث الوارد عن سيّد الرسل في عدّة مقامات ومن عدّة طرق : « إني تارك

١٤٥

فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبدا فإنهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض » يعرّفنا مبلغ علمهم بالقرآن ، وان في كلّ زمن عالما منهم بالقرآن ، وتشفع لهذا الحديث الأخبار الكثيرة الواردة عن أهل البيت في شأن علمهم بالقرآن ، والصادق نفسه يقول : والله إني لأعلم كتاب الله من أوّله الى آخره كأنه في كفّي ، فيه خبر السماء وخبر الأرض ، وخبر ما كان وخبر ما هو كائن ، قال الله عزّ وجل « فيه تبيان كلّ شيء » (١).

ويفرج أصابعه مرّة اخرى فيضعها على صدره ويقول : « وعندنا والله علم الكتاب كلّه » (٢) الى كثير أمثال ذلك.

ولا بدّ في كلّ زمن من عالم بالقرآن الكريم على ما نزل ، كما يشهد لذلك حديث الثقلين ، ولأن القرآن إمام صامت وفيه المحكم والمتشابه ، والمجمل والمبيّن ، والناسخ والمنسوخ ، والعامّ والخاصّ ، والمطلق والمقيّد ، الى غير ذلك ممّا خفي على الناس علمه ، وكلّ فرقة من الاسلام تدّعي أن القرآن مصدر اعتقادها وتزعم أنها وصلت الى معانيه واهتدت الى مقاصده وتأتي على ذلك بالشواهد ، فالقرآن مصدر الفرق بزعم أهل الفرق ، فمن هو الحكم الفصل ليردّ قوله وتفسيره شبه هاتيك الفرق ، ومزاعم هذه المذاهب؟ وقد دلّ حديث الثقلين على أن علماء القرآن هم العترة أهل البيت خاصّة ومنهم يكون العالم به في كلّ عصر.

وفي عصره عليه‌السلام اذا لم يكن هو العالم بالقرآن فمن غيره؟ ليس في الناس من يدّعي أن في أهل البيت أعلم من الصادق في عهده في التفسير أو في

__________________

(١) يريد الاشارة الى قوله ( وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ ) ..

(٢) الكافي : ١ / ٢٢٩ / ٥ ..

١٤٦

سواه من العلوم.

علم الكلام :

نعني من علم الكلام العلم الذي يبحث عن الوجود والوحدانيّة والصفات وما يلزم هذه المباحث من نبوّة وإمامة ومعاد ، بالأدلّة العقليّة المبتنية على اسس منطقيّة صحيحة ، ولا نعني به علم الجدل الذي تاه فيه كثير من الناس لاعتمادهم فيه على خواطر توحيها إليهم نفوس ساقها الى الكلام حبّ الغلبة في المجادلة ، ، دون أن يستندوا الى ركن وثيق أو يأخذوا هذا العلم من معدنه الصحيح.

وإن جاء ذمّ على ألسنة الأحاديث للمتكلّمين فيعني بهم الذين تعلّموا الجدل للظهور والغلبة ولم يستقوا الماء من منبعه ، ولم يعبئوا بما يجرّهم إليه الكلام من لوازم فاسدة ، وأمّا الذين انتهلوه من مورده الروي وبنوه على اسس صحيحة ودعائم وجدانيّة فإنهم ألسنة الحقّ وهداته ودعاة الايمان وأدلاؤه.

وإن أوّل من برهن على الوجود ولوازم الوجود بالأدلّة العقليّة والآثار المحسوسة أمير المؤمنين عليه‌السلام حتّى كاد أن يشكّ في تلك الخطب بعض من يجهل أو يتجاهل مقام أبي الحسن من العلم الربّاني بدعوى أن العلم على تلك الاصول لم يكن معهودا في ذلك الزمن ، وليت شعري إن لم يعترف هذا الجاهل بأن علم أبي الحسن إلهامي يستقيه من المنبع الفيّاض فإنه لا يجهل ما قاله النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه : أنا مدينة العلم وعليّ بابها.

ونسج على منوال أبي الحسن بنوه في هذا العلم فإنهم ما زالوا يفيضون على الناس من علمهم الزاخر عن الوجود ولوازمه ، وكيف يعبد الناس ربّا لا يعرفونه ويطيعون نبيّا يجهلونه ويتّبعون إماما لا يفقهون مقامه ، فالمعرفة قبل كلّ علم

١٤٧

وأفضل كلّ علم ، يقول الصادق عليه‌السلام : أفضل العبادة العلم بالله (١).

وليس للسمع في تلك القواعد والاصول مدخل ، لأن التقليد في العقليّات لا يصحّ عند أرباب العقول.

بلى قد يجيء النقل دليل ولكنه من الارشاد الى حكم العقل ، أو الاشارة الى الفطرة كما في قوله تعالى : « أفي الله شكّ فاطر السموات والأرض » (٢) وأمثاله من القرآن المجيد ، فإن هذه الآية الكريمة لم تحمّلك على القول بالوجود حتما ، بل لفتتك إليه من جهة الأثر ومشاهدته.

فاذا جاء عن الرسول وعترته أدلّة على هذه الاصول فما كلامهم في هذا إلاّ إرشاد الى حكم العقل ، فإنهم ما زالوا يدلّون على العقل ويهدون الى دلالته ، وهذا الصادق نفسه يقول : العقل دليل المؤمن ، ويقول : دعامة الانسان العقل ، ويقول : لا يفلح من لا يعقل (٣) ، ولو قرأت ما أملاه الكاظم عليه‌السلام على هشام بن الحكم في شأن العقل والعقلاء (٤) لعرفت كيف عرفوا حقيقة العقل ، ودلّوا عليه وحثّوا على الاستضاءة بنوره.

ولقد جاء في كلامهم الشيء الكثير من الاستدلال على هذه الاصول ، وهذا نهج البلاغة قد جمع من البراهين ما أبهر العقول وحيّر الألباب ، كما جمعت كتب الحديث والكلام كثيرا من تلك الحجج ، ومن تلك الكتب احتجاج الطبرسي ، واصول الكافي ، وتوحيد الصدوق ، والأوّل والثّاني من البحار ، وفي كتبه الاخرى التي يترجم فيها الأئمة عليهم‌السلام ويذكر كلامهم طيّ

__________________

(١) بحار الأنوار : ٢١٥ / ٢١ ..

(٢) إبراهيم : ١٠ ..

(٣) الكافي : ١ / ٢٦ / ٢٩ ..

(٤) الكافي : ١ / ١٣ / ١٢ ..

١٤٨

تراجمهم ، الى نظائر هذه الكتب الجليلة.

ونحن الآن نوافيك بشيء ممّا جاء عن الصادق عليه‌السلام في بعض هذه الاصول.

الوجود والتوحيد :

إن للصادق عليه‌السلام فصولا جمّة في التدليل على وجوده ووحدانيّته تعالى ، منها توحيد المفضّل ، وهو الدروس التي ألقاها على المفضّل بن عمر الجعفي الكوفي أحد أصحابه الذين جمعوا بين العلم والعمل ، ورسالته المسمّاة بالاهليلجة ، المرويّة عن المفضّل أيضا ، غير أن التوحيد أخذه منه شفاها ، والرسالة رواها مكاتبة وهاتان الرسالتان وإن كانتا مقطوعتي السند غير أن البيان يفصح لك عن صدق النسبة ، ولو لا أن نخرج عن خطّتنا المرسومة لأتينا بهما جميعا مع بعض التعاليق الوجيزة ، غير أننا نأتي بشيء منهما لئلاّ يخلو هذا السفر من تلك العقود النفيسة.

توحيد المفضّل :

سمع المفضّل ابن أبي العوجاء والى جانبه رجل من أصحابه في مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهما يتناجيان في ذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويستغربان من حكمته وحظوته ، ثمّ انتقلا الى ذكر الأصل فأنكر وجوده ابن أبي العوجاء وزعم أن الاشياء ابتدأت بإهمال ، فأزعج ذلك المفضّل فلم يملك نفسه غضبا وغيظا ، ثمّ أنحى عليه يسبّه ، وبعد مناظرة جرت بينهما قام المفضّل ودخل على الصادق عليه‌السلام ، والحزن لائح على شمائله ، يفكّر فيما ابتلى به الاسلام وأهله من كفر هذه العصابة وتعطيلها ، فسأله الصادق عليه‌السلام عن شأنه

١٤٩

حين رأى الانكسار باديا على وجهه ، فأخبره بما سمعه من الدهرتين ، وبما ردّ عليهما به ، فقال الصادق عليه‌السلام : لألقينّ إليك من حكمة الباري جلّ وعلا في خلق العالم والسباع والبهائم والطير والهوام وكلّ ذي روح من الأنعام ، والنبات والشجرة المثمرة وغير ذات الثمر والحبوب والبقول المأكول وغير المأكول ما يعتبر به المعتبرون ، ويسكن إلى معرفته المؤمنون ويتحيّر فيه الملحدون فبكّر عليّ غدا.

حقّا لقد ألقى الصادق عليه‌السلام على المفضّل من البيان ما أنار به الحجّة وأوضح الشبهة ، ولم يدع للشكّ مجالا ، وللشبهة سبيلا ، وأبدى من الكلام عن بدائع خلائقه ، وغرائب صنائعه ، ما تحار منه الألباب ، وتندهش منه العقول ، وأظهر من خفايا حكمه ما لا يهتدي إلاّ أمثاله ممّن اوتي الحكمة وفصل الخطاب.

وكلّما حاولت أن أنتخب فصولا خاصّة من تلك البدائع لم أطق ، لأني أجدها كلّها منتخبة ، وأن أقتطف من كلّ روضة زهرتها اليانعة لم أستطع لأني أراها كلّها وردة واحدة في اللون والعرف ، فما رأيت إلاّ أن أذكر من كلّ فصل أوّله ، واشير إلى شيء منه ، والفصول أربعة :

ـ ١ ـ

قال عليه‌السلام ـ بعد أن ذكر عمى الملحدين وأسباب شكّهم وتهيئة هذا العالم وتأليف أجزائه وانتظامها ـ : نبتدئ يا مفضّل بذكر خلق الانسان فاعتبر به ، فأوّل ذلك ما يدبر به الجنين في الرحم وهو محجوب في ظلمات ثلاث : ظلمة البطن وظلمة الرحم ، وظلمة المشيمة (١) حيث لا حيلة عنده في طلب

__________________

(١) الثوب الذي يكون فيه الجنين ..

١٥٠

غذاه ، ولا دفع أذى ، ولا استجلاب منفعة ، ولا دفع مضرّة ، فإنّه يجري إليه من دم الحيض ما يغذوه كما يغذو الماء النبات ، فلا يزال ذلك غذاءه حتّى اذا كمل خلقه واستحكم بدنه ، وقوي أديمه (١) على مباشرة الهواء وبصره على ملاقاة الضياء هاج الطلق بامّه فأزعجه أشدّ إزعاج وأعنفه حتّى يولد ، واذا ولد صرف ذلك الدم الذي كان يغذوه من دم امّه الى ثديها ، فانقلب الطعم واللون الى ضرب آخر من الغذاء ، وهو أشدّ موافقة للمولود من الدم ، فيوافيه في وقت حاجته إليه ، فحين يولد قد تلمّظ وحرّك شفتيه طلبا للرضاع ، فهو يجد ثدي أمّه كالأداوتين (٢) المعلّقتين لحاجته إليه ، فلا يزال يغتذي باللبن ما دام رطب البدن رقيق الأمعاء ليّن الأعضاء ، حتّى اذا تحرّك واحتاج الى غذاء فيه صلابة ليشتدّ ويقوى بدنه طلعت له الطواحن من الأسنان والأضراس ، ليمضغ بها الطعام فيلين عليه وتسهل له إساغته ، فلا يزال كذلك حتّى يدرك ، فاذا أدرك وكان ذكرا طلع الشعر في وجهه فكان ذلك علامة الذكر وعزّ الرجل الذي يخرج به من حدّ الصبي وشبه النساء ، وإن كانت انثى يبقى وجهها نقيّا من الشعر لتبقى لها البهجة والنضارة التي تحرّك الرجال لما فيه دوام النسل وبقاؤه.

اعتبر يا مفضّل فيما يدبر الانسان في هذه الأحوال المختلفة ، هل ترى يمكن أن يكون بالإهمال؟ أفرأيت لو لم يجر إليه ذلك الدم وهو في الرحم ، ألم يكن سيذوي ويجفّ كما يجفّ النبات اذا فقد الماء؟ ولو لم يزعجه المخاض عند استحكامه ، ألم يكن سيبقى في الرحم كالموؤد في الأرض؟ ولو لم يوافقه اللبن مع ولادته ، ألم يكن سيموت جوعا أو يغتذي بغذاء لا يلائمه ولا يصلح عليه بدنه؟

__________________

(١) جلده ..

(٢) تثنية أداوة ـ بالكسر ـ إناء صغير من جلد يتّخذ للماء ..

١٥١

ولو لم تطلع عليه الأسنان في وقتها ، ألم يكن سيمتنع عليه مضغ الطعام وإساغته ، أو يقيمه على الرضاع فلا يشدّ بدنه ولا يصلح لعمل ، ثمّ كان تشتغل امّه بنفسه عن تربية غيره من الأولاد؟ ولو لم يخرج الشعر في وجهه في وقته ، ألم يكن سيبقى في هيئة الصبيان والنساء ، فلا ترى له جلالا ولا وقارا؟ فمن هذا الذي يرصده حتّى يوافيه بكلّ شيء من هذه المآرب إلاّ الذي أنشأه خلقا بعد أن لم يكن ، ثمّ توكّل له بمصلحته بعد أن كان ، فإن كان الإهمال يأتي بمثل هذا التدبير فقد يجب أن يكون العمد والتقدير يأتيان بالخطإ والمحال لأنهما ضدّ الإهمال ، وهذا فظيع من القول وجهل من قائله ، لأن الإهمال لا يأتي بالصواب ، والتضادّ لا يأتي بالنظام ، تعالى الله عمّا يقول الملحدون علوّا كبيرا.

أقول : إن الإهمال دوما يأتي بالخطإ كما نشاهده عيانا ، أرأيت لو وجّهت الماء الى الزرع وأهملت تقسيمه على الألواح أيسقي الألواح كلّها من دون خلل ، أو إذا نثرت البذر في الأرض من دون مناسبة أيخرج الزرع بانتظام ، أو إذا جمعت قطعا من خشب وواصلتها بمسامير أتكون كرسيّا أو بابا من دون تنسيق.

ثمّ قال عليه‌السلام : ولو كان المولود يولد فهما عاقلا لأنكر العالم عند ولادته ، ولبقي حيران تائه العقل إذا رأى ما لم يعرف ، وورد عليه ما لم ير مثله من اختلاف صور العالم من البهائم والطير إلى غير ذلك ممّا يشاهده ساعة بعد ساعة ويوما بعد يوم ، واعتبر ذلك بأن من سبي من بلد إلى بلد وهو عاقل يكون كالواله الحيران فلا يسرع في تعلّم الكلام وقبول الأدب كما يسرع الذي يسبى صغيرا غير عاقل ، ثم لو ولد عاقلا كان يجد غضاضة إذا رأى نفسه محمولا مرضعا معصّبا بالخرق مسجّى في المهد ، لأنه لا يستغني عن هذا كلّه لرقّة بدنه ورطوبته حين يولد ، ثمّ كان لا يوجد له من الحلاوة والوقع من القلوب ما يوجد للطفل ، فصار يخرج الى الدنيا غبيّا غافلا عمّا فيه أهله فيلقي الأشياء بذهن ضعيف

١٥٢

ومعرفة ناقصة ثمّ لا يزال يتزايد في المعرفة قليلا قليلا وشيئا بعد شيء وحالا بعد حال ، حتّى يألف الأشياء ويتمرّن ويستمرّ عليها ، فيخرج من حدّ التأمّل لها والحيرة فيها الى التصرّف والاضطراب في المعاش بعقله وحيلته والى الاعتبار والطاعة والسهو والغفلة والمعصية ، وفي هذا أيضا وجوه أخر فإنه لو كان يولد تامّ العقل مستقلاّ بنفسه لذهب موضع حلاوة تربية الأولاد ، وما قدر أن يكون للوالدين في الاشتغال بالولد من المصلحة ، وما يوجب التربية للآباء على الأبناء من المكافاة بالبرّ والعطف عليهم عند حاجتهم الى ذلك منهم ، ثمّ كان الأولاد لا يألفون آباءهم ولا يألف الآباء أبناءهم ، لأن الأولاد كانوا يستغنون عن تربية الآباء وحياطتهم فيتفرّقون عنهم حين يولدون ، فلا يعرف الرجل أباه وأمّه ولا يمتنع من نكاح امّه واخته وذوات المحارم منه إذ لا يعرفهنّ ، وأقلّ ما في ذلك من القباحة ، بل هو أشنع وأعظم وأفظع وأقبح وأبشع لو خرج المولود من بطن امّه وهو يعقل أن يرى منها ما لا يحلّ له ، ولا يحسر به أن يراه ، أفلا ترى كيف اقيم كلّ شيء من الخلقة على غاية الصواب وخلا من الخطأ دقيقه وجليله.

أقول : إن بعض هذا البيان البديع من الامام عن تدرج الانسان في نموّه ، ونموّه في أوقاته كاف في حكم العقل بأنّ له صانعا صنعه عن علم وحكمة وتقدير وتدبير.

ثمّ أن الصادق عليه‌السلام جعل يذكر فوائد البكاء للأطفال من التجفيف لرطوبة الدماغ وأن في بقاء الرطوبة خطرا على البصر والبدن.

ثمّ ساق البيان الى جعل آلات الجماع في الذكر والانثى على ما يشاكل أحدهما الآخر ، ثمّ ذكر أعضاء البدن والحكمة في جعل كلّ منها على الشكل الموجود ، وهاهنا يقول له المفضّل : يا مولاي إن قوما يزعمون أن هذا من فعل

١٥٣

الطبيعة ، فيقول له الامام : سلهم عن هذه الطبيعة أهي شيء له علم وقدرة على مثل هذه الأفعال ، أم ليست كذلك؟ فإن أوجبوا لها العلم والقدرة فما يمنعهم من إثبات الخالق ، فإن هذه صفته ، وإن زعموا أنها تفعل هذه الأفعال بغير علم ولا عمد وكان في أفعالها ما قد تراه من الصواب والحكمة علم أن هذا الفعل للخالق الحكيم وأن الذي سمّوه طبيعة هو سنّة في خلقه الجارية على ما أجراه عليه.

أقول : انظر إلى قول أهل الطبيعة فإنهم جروا على نسق واحد من عهد الصادق عليه‌السلام إلى اليوم ، وكأنهم لم يتعقّلوا هذا الجواب القاطع لحججهم أو أغضوا عنه إصرارا على العناد والجحود.

إن الامام حصر الطبيعة بين اثنين لا ثالث لهما ، وذلك لأنها إمّا أن تكون ذات علم وحكمة وقدرة ، أو تكون خالية عن ذلك كلّه ، فإن كان الأوّل فهي ما نثبته للخالق ، ولا فارق إذن بينهم وبيننا إلاّ التسمية ، وإن كان الثاني كان اللازم أن تكون آثارها مضطربة لا تقدير فيها ولا تدبير شأن من لا يعقل ويبصر ويسمع في أفعاله ، ولكننا نشاهد الآثار مبنيّة على العلم والحكمة والقدرة والتقدير ، فلا تكون إذن من فعل الطبيعة العمياء الصمّاء وكانت الطبيعة غير الله العالم القادر المدبّر ولا تكون الطبيعة إذن إلاّ سنّته في خلقه ، لا شيء آخر له كيان مستقلّ عن خالق الكون.

ثمّ أن الامام عليه‌السلام عاد الى كلامه الأول فتكلّم عن وصول الغذاء الى البدن وكيفيّة انتقال صفوه من المعدة الى الكبد في عروق رقاق واشجة بينها قد جعلت كالمصفى للغذاء ، ثمّ صيرورته دما ونفوذه الى البدن كلّه في مجار مهيّأة لذلك ، ثمّ كيفيّة تقسيمه في البدن وبروز الفضلة منه ، فكأنما الامام كان الطبيب النطاسي الذي لم يماثله أحد في الطب ، والعالم الماهر في التشريح الذي

١٥٤

قضى عمره في عملية التشريح ، بل كشف الامام في هذا البيان ( الدورة الدموية ) التي يتغنّى الغربيّون باكتشافها وقد سبقهم إليها بما يقارب اثنى عشر قرنا.

ثمّ ساق كلامه الى نشوء الأبدان ونموّها حالا بعد حال ، وما شرّف الله به الانسان من الميزة في الخلقة على البهائم ، ثمّ استطرد الكلام الى الحواسّ التي خصّ الله بها الانسان وفوائد جعلها على النحو الموجود ، واختصاص كلّ منها بأثر لا تؤدّيه الثانية ، وهكذا يفيض في بيانه عن الأعضاء المفردة والمزدوجة والأسباب التي من أجلها جعلها على هذا التركيب ، إلى أن يطّرد في بيانه عمّا منحه الجليل من النعم في المطعم والمشرب ، وما جعل فيه من التمايز في الخلقة حتّى لا يشبه أحد الآخر.

إلى أن يقول عليه‌السلام : لو رأيت تمثال الانسان مصوّرا على حائط فقال لك قائل : إن هذا ظهر هاهنا من تلقاء نفسه لم يصنعه صانع ، أكنت تقبل ذلك؟ بل كنت تستهزئ به ، فكيف تنكر هذا في تمثال مصوّر جماد ولا تنكر في الانسان الحيّ الناطق.

أقول : ما أقواها حجّة ، وأسماه بيانا ، وأن كلّ ناظر فيه من أهل كلّ قرن يكاد أن يقول : إنه أتى به لأهل زمانه وقرنه في الحجّة والاسلوب لما يجده من ملائمة البيان والبرهان.

ـ ٢ ـ

ثمّ أنه في اليوم الثاني أورد على المفضّل الفصل الثاني وهو في خلقة الحيوان فقال عليه‌السلام : أبتدئ لك بذكر الحيوان ليتّضح لك من أمره ما وضح لك

١٥٥

من غيره ، فكّر في أبنية أبدان الحيوان وتهيئتها على ما هي عليه ، فلا هي صلاب كالحجارة ، ولو كانت كذلك لا تنثني ولا تتصرّف في الأعمال ولا هي على غاية اللين والرخاوة ، فكانت لا تتحامل ولا تستقلّ بأنفسها ، فجعلت من لحم رخو ينثني تتداخله عظام صلاب يمسكه عصب وعروق تشدّه وتضمّ بعضه الى بعض ، وعليت (١) فوق ذلك بجلد يشتمل على البدن كلّه.

ومن أشباه ذلك هذه التماثيل التي تعمل من العيدان وتلفّ بالخرق وتشدّ بالخيوط ويطلى فوق ذلك بالصمغ ، فتكون العيدان بمنزلة العظام والخرق بمنزلة اللحم ، والخيوط بمنزلة العصب والعروق ، والطلاء بمنزلة الجلد ، فإن جاز أن يكون الحيوان المتحرّك حدث بالإهمال من غير صانع ، جاز أن يكون ذلك في هذه التماثيل الميّتة ، فإن كان هذا غير جائز في التماثيل فبالحريّ ألاّ يجوز في الحيوان.

وفكّر بعد هذا في أجساد الأنعام فإنها خلقت على أبدان الإنس من اللحم والعظم والعصب اعطيت أيضا السمع والبصر ، ليبلغ الانسان حاجياته منها ، ولو كانت عميا صمّا لما انتفع بها الانسان ، ولا تصرّفت في شيء من مآربه ، ثمّ منعت الذهن والعقل لتذلّ للانسان ، فلا تمتنع عليه إذا كدّها الكدّ الشديد ، وحملها الحمل الثقيل ، فإن قال قائل : إنه قد يكون للانسان عبيد من الإنس يذلّون ويذعنون بالكدّ الشديد وهم مع ذلك غير عديمي العقل والذهن ، فيقال في جواب ذلك : إن هذا الصنف من الناس قليل ، فأمّا اكثر البشر فلا يذعنون بما تذعن به الدواب من الحمل والطحن وما أشبه ذلك ، ولا يقومون بما يحتاجون إليه منه ، ثمّ لو كان الناس يزاولون مثل هذه الأعمال بأبدانهم لشغلوا بذلك عن

__________________

(١) غلفت في نسخة ..

١٥٦

سائر الأعمال ، لأنه كان يحتاج مكان الجمل الواحد والبغل الواحد الى عدّة اناسي ، فكان هذا العمل يستفرغ الناس حتّى لا يكون فيهم عنه فضل لشيء من الصناعات ، مع ما يلحقه من التعب الفادح في أبدانهم والضيق والكدّ في معاشهم.

ثمّ أنه عليه‌السلام أخذ يذكر المميّزات ، لكلّ نوع من الأنواع الثلاثة للحيوان وهي : الانسان ، وآكلات اللحوم ، وآكلات النبات ، وما يقتضي كلّ نوع منها حاجته من كيفيّة الأعضاء والجوارح ، فيأتيك بلطائف الحكمة ، وبدائع القدرة ، ومحاسن الطبيعة.

ويدلّك على الحكمة في جعل العينين في وجه الدابّة شاخصتين والفم مشقوقا شقا في أسفل الخطم (١) ولم يجعل كفم الانسان ، الى غير ذلك من خصوصيّات الأعضاء والجوارح.

ويرشدك الى الفطنة في بعضها اهتداء لمصلحته كامتناع الايل (٢) الآكل للحيّات عن شرب الماء ، لأن شرب الماء يقتله ، واستلقاء الثعلب على ظهره ونفخ بطنه اذا جاع ، حتّى تحسبه الطير ميّتا ، فإذا وقعت عليه لتنهشه وثب عليها ، الى غيرهما من الحيوانات ، فيقول الصادق عليه‌السلام : من جعل هذه الحيلة طبعا في هذه البهيمة لبعض المصلحة؟

ثمّ أنه عليه‌السلام تعرّض في كلامه للذرة والنملة والليث ، وتسمّيه العامّة أسد الذباب وتمام خلقة الذرة مع صغر حجمها ، والنملة وما تهتدي إليه لاقتناء قوتها ، والليث وما يهتدى إليه في اصطياد الذباب ، ثمّ يقول : فانظر الى هذه

__________________

(١) بفتح وسكون ، من الطائر منقاره ومن الدابة مقدم أنفها وفمها ..

(٢) كقنب وخلب وسيد : الوعل ..

١٥٧

الدويبة كيف جعل في طبعها ما لا يبلغه الانسان إلاّ بالحيلة واستعمال الآلات ، فلا تزدر بالشيء اذا كانت العبرة فيه واضحة كالذرة والنملة وما أشبه ذلك ، فإن المعنى النفيس قد يمثل بالشيء الحقير فلا يضع منه ذلك ، كما لا يضع من الدينار وهو ذهب أن يوزن بمثقال من حديد.

ثمّ أنه عليه‌السلام استطرد ذكر الطائر وكيف خفّف جسمه وأدمج خلقه وجعل له جؤجؤا ليسهل عليه أن يخرق الهواء الى غير ذلك من خصوصيّات خلقته ، والحكمة في خلق تلك الخصوصيّات ، وهكذا يستطرد الحكمة في خصوصيّات خلقة الدجاجة ، ثمّ العصفور ، ثمّ الخفّاش ، ثمّ النحل ، ثمّ الجراد ، وغيرها من صغار الطيور ، وما جعله الله فيها من الطبائع والفطن والهداية لطلب الرزق ، وما سوى ذلك ممّا فيها من بدائع الخلقة.

ثمّ استعرض خلق السمك ومشاكلته للأمر الذي قدر أن يكون عليه ، ثمّ يقول عليه‌السلام : فاذا أردت أن تعرف سعة حكمة الخالق وقصر علم المخلوقين ، فانظر الى ما في البحار من ضروب السمك ودواب الماء والاصداف والأصناف التي لا تحصى ولا تعرف منافعها إلاّ الشيء بعد الشيء يدركه الناس بأسباب تحدث ... إلى آخر كلامه ، وبه انتهى هذا الفصل.

أقول : ليس العجب من خالق أمثال هذه الذرة والدودة وأصناف الأسماك الغريبة ، التي اختلفت اشكالها ، وتنوّعت الحكمة فيها وليس العجب ممّن يهتدي الى الحكمة في كلّ واحد من تلك المصنوعات بعد وجودها وتكوينها ، وإنما العجب ممّن ينكر فاطر السموات والأرضين وما فيهنّ وبينهنّ مع اتقان الصنعة ، وإحكام الخلقة ، وبداعة التركيب ، ولو نظر الجاحد الى نفسه مع غريب الصنع وتمام الخلق لكان اكبر برهان على الوجود ووحدانيّة الموجود.

١٥٨

ـ ٣ ـ

ثمّ بكّر المفضّل في اليوم الثالث فقال له الصادق عليه‌السلام : قد شرحت لك يا مفضّل خلق الانسان وما دبر به وتنقّله في أحواله وما فيه من الاعتبار وشرحت لك أمر الحيوان ، وأنا ابتدئ الآن بذكر السماء والشمس والقمر والنجوم والفلك والليل والنهار والحرّ والبرد والرياح والمطر والصخر والجبال والطين والحجارة والمعادن والنبات والنخل والشجر وما في ذلك من الأدلّة والعبر.

فكّر في لون السماء وما فيه من صواب التدبير ، فإن هذا اللون أشدّ الألوان موافقة وتقوية للبصر ، حتّى أن من وصفات الأطباء لمن أصابه شيء أضرّ ببصره إدمان النظر الى الخضرة ، وما قرب منها الى السواد ، وقد وصف الحذّاق منهم لمن كلّ بصره الاطلاع في إجانة (١) خضراء مملوءة ماء ، فانظر كيف جعل الله جلّ وتعالى أديم السماء بهذا اللون الأخضر الى السواد ، ليمسك الأبصار المنقلبة (٢) عليه ، فلا تنكأ (٣) فيها بطول مباشرتها له ، فصار هذا الذي أدركه الناس بالفكر والرويّة والتجارب يوجد مفروغا عنه في الخلقة ، حكمة بالغة ليعتبر بها المعتبرون ، ويفكّر فيها الملحدون قاتلهم الله أنّى يؤفكون.

فكّر يا مفضّل في طلوع الشمس وغروبها لإقامة دولتي الليل والنهار فلو لا طلوعها لبطل أمر العالم كلّه ، فلم يكن الناس يسعون في معايشهم ، وينصرفون

__________________

(١) بكسر وتشديد ..

(٢) المتقلّبة في نسخة ..

(٣) أي لا يحصل فيها جرح وتضرّر ..

١٥٩

في أمورهم والدنيا مظلمة عليهم ولم يكن يتهنّئون بالعيش مع فقدهم لذّة النور وروحه ، والارب في طلوعها ظاهر مستغن بظهوره عن الاطناب في ذكره ، والزيادة في شرحه ، بل تأمّل المنفعة في غروبها ، فلو لا غروبها لم يكن للناس هدوء ولا قرار مع عظم حاجتهم الى الهدوء والراحة لسكون أبدانهم ، ووجوم (١) حواسهم ، وانبعاث القوّة الهاضمة لهضم الطعام وتنفيذ الغذاء الى الأعضاء ، ثمّ كان الحرص يستحملهم من مداومة العمل ومطاولته على ما يعظم نكايته في أبدانهم ، فإن كثيرا من الناس لو لا جثوم (٢) هذا الليل لظلمته عليهم لم يكن لهم هدوء ولا قرار حرصا على الكسب والجمع والادّخار ، ثمّ كانت الأرض تستحمي (٣) بدوام الشمس ضياءها ، وتحمي كلّ ما عليها من حيوان ونبات فقدّرها الله بحكمته وتدبيره تطلع وقتا وتغرب وقتا ، بمنزلة سراج يرفع لأهل البيت تارة ليقضوا حوائجهم ثمّ يغيب عنهم مثل ذلك ليهدءوا ويقرّوا ، فصار النور والظلمة مع تضادّهما منقادين متظاهرين على ما فيه صلاح العالم وقوامه.

إلى أن يقول عليه‌السلام في آخر هذا الفصل : فكّر في هذه العقاقير وما خصّ بها كلّ واحد منها من العمل في بعض الأدواء ، فهذا يغور في المفاصل فيستخرج الفضول مثل الشيطرج (٤) وهذا ينزف المرّة السوداء مثل الافتيمون (٥) وهذا ينفي الرياح مثل السكبينج (٦) وهذا يحلّل الأورام وأشباه هذا من أفعالها ،

__________________

(١) سكوت ..

(٢) جثوم الليل : انتصافه ..

(٣) تشتدّ حرارتها ..

(٤) بكسر الشين وفتح الطاء ، انظر شرحه في تذكرة الأنطاكي ١ / ١٥٣ ..

(٥) يقول الأنطاكي في التذكرة ١ / ٤٥ : يوناني معناه دواء الجنون ..

(٦) بفتح السين وسكون الكاف ، انظره في التذكرة : ١ / ١٧٣ ..

١٦٠