الإمام الصادق عليه السلام - ج ١

الشيخ محمّد حسين المظفّر

الإمام الصادق عليه السلام - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد حسين المظفّر


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٤
الصفحات: ٢٦٨
الجزء ١ الجزء ٢

عليه وآله إن هذا الجبّار قد أمر فيك بأمر اكره أن ألقاك به فإن كان في نفسك شيء تقوله وتوصيني به ، فقال : لا يروعك ذلك فلو قد رآني لزال ذلك كلّه ، ثمّ أخذ بمجامع الستر فقال : يا إله جبرئيل وميكائيل وإسرافيل ، وإله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ومحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تولّني في هذه الغداة ولا تسلّط عليّ أحدا من خلقك بشيء لا طاقة لي به ، ثمّ دخل فحرّك شفتيه بشيء لم أفهمه ، فنظرت إلى المنصور فما شبّهته إلاّ بنار صبّ عليها ماء فخمدت ، ثمّ جعل يسكن غضبه حتّى دنا منه جعفر بن محمّد عليهما‌السلام وصار مع سريره ، فوثب المنصور ، وأخذ بيده ورفعه على سريره ، ثمّ قال له يا أبا عبد الله يعزّ عليّ تعبك ، وإنما أحضرتك لأشكو إليك أهلك قطعوا رحمي ، وطعنوا في ديني ، وألّبوا الناس عليّ ، ولو ولّي هذا الأمر غيري ممّن هو أبعد رحما مني لسمعوا له وأطاعوا ، فقال له جعفر عليه‌السلام : فأين يعدل بك عن سلفك الصالح أن أيّوب عليه‌السلام ابتلي فصبر ، وأن يوسف عليه‌السلام ظلم فغفر ، وأن سليمان عليه‌السلام اعطي فشكر ، فقال المنصور : قد صبرت وغفرت وشكرت.

ثمّ قال : يا أبا عبد الله حدّثنا حديثا كنت سمعته منك في صلة الأرحام قال : نعم سمعت أبي عن جدّي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : البرّ وصلة الأرحام عمارة الديار وزيادة الأعمار ، قال : ليس هذا هو ، قال : حدّثني أبي عن جدّي ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من أحبّ أن ينسأ (١) في أجله ، ويعافى في بدنه ، فليصل رحمه ، قال : ليس هذا هو ، قال : نعم حدّثني أبي عن جدّي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : رأيت رحما متعلّقة بالعرش تشكو إلى الله عزّ وجل قاطعها فقلت : يا جبرئيل وكم بينهم؟ قال : سبعة آباء ،

__________________

(١) يؤخّر ..

١٠١

فقال : ليس هذا هو ، قال : نعم حدّثني أبي عن جدّي قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : احتضر رجل بارّ في جواره رجل عاق ، فقال الله عزّ وجل لملك الموت : يا ملك الموت كم بقي من أجل العاق؟ قال : ثلاثون سنة قال : حوّلها إلى هذا البار (١) فقال المنصور : يا غلام ائتني بالغالية ، فأتاه بها فجعل يغلفه بيده ، ثمّ دفع إليه أربعة آلاف دينار ، ودعا بدابته فأتى بها فجعل يقول : قدّم قدّم ، إلى أن أتي بها عند سريره فركب جعفر بن محمّد عليهما‌السلام وغذوت بين يديه ، فسمعته يقول : الحمد لله الذي أدعوه فيجيبني. الدعاء ، فقلت : يا ابن رسول الله إن هذا الجبّار يعرضني على السيف كلّ قليل ، ولقد دعا المسيّب بن زهير فدفع إليه سيفا وأمره أن يضرب عنقك وأني رأيتك تحرّك شفتيك حين دخلت بشيء لم أفهمه عنك ، فقال : ليس هذا موضعه فرحت إليه عشيّا ، قال : نعم حدّثني أبي عن جدّي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا الّبت عليه اليهود وفزارة وغطفان وهو قوله تبارك وتعالى « إذ جاؤكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنّون بالله الظنونا » (٢) وكان ذلك اليوم أغلظ يوم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فجعل يدخل ويخرج وينظر إلى السماء فيقول : ضيقي تتّسعي ، ثمّ خرج في بعض الليل فرأى شخصا فقال لحذيفة : انظر من هذا ، فقال : يا رسول الله هذا عليّ بن أبي طالب ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يا أبا الحسن أما خشيت أن تقع عليك عين ، قال : وهبت نفسي لله ولرسوله وخرجت حارسا للمسلمين في هذه الليلة ، فما انقضى كلامهما حتّى نزل جبرئيل ، قال : يا محمّد إن الله يقرأ عليك السّلام

__________________

(١) لا يخفى على الصادق عليه‌السلام الحديث الذي أراده المنصور ، وإنما كثر عليه أحاديث الرحم ، ليعرّفه موقفه من ذوي رحمه ..

(٢) الأحزاب : ١٠ ..

١٠٢

ويقول لك : قد رأيت موقف علي منذ الليلة وأهديت إليه من مكنون علمي كلمات لا يتعوّذ بها عند شيطان مارد ، ولا سلطان جائر ، ولا حرق ولا غرق ، ولا هدم ولا ردم ، ولا سبع ضار ، ولا لصّ ، إلاّ آمنه الله من ذلك ، وهو أن يقول : اللهمّ احرسنا بعينك التي لا تنام ... الدعاء.

الخامسة : وقد استدعاه بها المنصور إلى بغداد قبل قتل محمّد وإبراهيم ابني عبد الله بن الحسن (١) روى ذلك الشريف رضيّ الدين بسنده عن محمّد بن الربيع الحاجب ، قال : قعد المنصور يوما في قصره بالقبّة الخضراء ، وكانت قبل قتل محمّد وإبراهيم تدعى الحمراء ، وكان له يوم يقعد فيه ويسمّى ذلك اليوم يوم الذبح ، وقد كان أشخص جعفر بن محمّد من المدينة ، فلم يزل في الحمراء نهاره كلّه حتّى جاء الليل ومضى اكثره قال : ثمّ دعا الربيع فقال له : يا ربيع إنك تعرف موضعك مني وأنه يكون بي الخير ولا تظهر عليه امّهات الأولاد وتكون أنت المعالج له ، قال : قلت : يا أمير المؤمنين ذلك فضل الله عليّ وفضل أمير المؤمنين وما فوقي في النصح غاية ، قال : كذلك أنت صر الساعة إلى جعفر بن محمّد بن فاطمة فائتني به على الحال التي تجده فيها لا تغيّر شيئا ممّا عليه ، فقلت : إنا لله وإنا إليه راجعون ، هذا والله هو العطب ، إن أتيت به على ما أراه من غضبه قتله وذهبت الآخرة ، وإن لم أذهب في أمره قتلني وقتل نسلي وأخذ أموالي ، فميّزت بين الدنيا والآخرة فمالت نفسي إلى الدنيا ، قال محمّد بن الربيع : فدعاني أبي وكنت أفظّ ولده وأغلظهم قلبا ، فقال لي : امض إلى

__________________

(١) كان قتلهما عام ١٤٥ ، وانتقال المنصور إلى بغداد عام ١٤٦ ، فلا وجه لأن يكون استدعاؤه إلى بغداد قبل قتلهما ، فإما أن يكون إلى الكوفة والغلط من النسّاخ أو الراوي ، أو الاستدعاء بعد قتلهما ..

١٠٣

جعفر بن محمّد فتسلّق عليه حائطه ولا تستفتح عليه بابه فيغيّر بعض ما هو عليه ولكن انزل عليه نزلا ، فأت به على الحال التي هو فيها ، قال : فأتيته وقد ذهب الليل إلاّ أقلّه ، فأمرت بنصب السلاليم وتسلّقت عليه الحائط ونزلت داره فوجدته قائما يصلّي وعليه قميص ومنديل وقد ائتزر به ، فلما سلّم من صلاته قلت : أجب أمير المؤمنين فقال : دعنى أدعو وألبس ثيابي ، فقلت : ليس إلى ذلك من سبيل ، قال لي : فأدخل المغتسل فأتطهّر ، قال : قلت : وليس إلى ذلك أيضا سبيل ، فلا تشغل نفسك فإني لا أدعك تغيّر شيئا ، قال : فأخرجته حافيا حاسرا في قميصه ومنديله ، وكان قد جاوز السبعين (١) فلمّا مضى بعض الطريق ضعف الشيخ فرحمته فقلت له : اركب ، فركب بغل شاكري (٢) كان معنا ، ثمّ صرنا إلى الربيع فسمعته وهو يقول : ويلك يا ربيع قد أبطأ الرجل ويستحثّه استحثاثا شديدا ، فلمّا أن وقعت عين الربيع على جعفر وهو بتلك الحال بكى ، وكان الربيع يتشيّع ، فقال له جعفر عليه‌السلام : يا ربيع أنا أعلم ميلك إلينا فدعنى أصلّي ركعتين وأدعوا ، قال : شأنك وما تشاء ، فصلّى ركعتين خفّفهما ثمّ دعا بعدهما بدعاء لم أفهمه إلاّ أنه دعاء طويل ، والمنصور في ذلك كلّه يستحثّ الربيع ، فلمّا فرغ من دعائه على طوله أخذ الربيع بذراعه فأدخله على المنصور فلمّا صار في صحن الايوان وقف ثمّ حرّك شفتيه بشيء ما أدري ما هو ، ثمّ أدخلته فوقف بين يديه ، فلمّا نظر إليه قال : وأنت يا جعفر ما تدع حسدك وبغيك وفسادك على أهل هذا البيت من بني العبّاس وما يزيدك الله بذلك إلاّ شدّة حسد ونكد ، ما تبلغ به ما تقدره ، فقال له : والله يا أمير المؤمنين ما فعلت شيئا من

__________________

(١) لم يتجاوز الصادق السبعين عاما وإنما كان حدسا من محمّد ، وأحسبه لما كان يشاهده من ضعفه ..

(٢) أجير ومستخدم ..

١٠٤

ذلك ، هذا ولقد كنت في ولاية بني اميّة وأنت تعلم أنهم أعدى الخلق لنا ولكم ، وأنهم لا حقّ لهم في هذا الأمر فو الله ما بغيت عليهم ، ولا بلغهم عنّي مع جفائهم الذي كان لي ، وكيف يا أمير المؤمنين أصنع الآن هذا وأنت ابن عمّي وأمسّ الخلق بي رحما ، واكثرهم عطاء وبرّا ، فكيف أفعل هذا ، فأطرق المنصور ساعة ، وكان على لبد (١) وعن يساره مرفقة خز معانيّة (٢) وتحت لبده سيف ذو الفقار (٣) كان لا يفارقه إذا قعد في القبّة ، فقال : أبطلت وأثمت ، ثمّ رفع ثنيّ الوسادة فأخرج منها إضبارة كتب فرمى بها إليه ، وقال : هذه كتبك إلى أهل خراسان تدعوهم إلى نقض بيعتي وأن يبايعوك دوني ، فقال : والله يا أمير المؤمنين ما فعلت ولا أستحلّ ذلك ولا هو من مذهبي ، واني ممّن يعتقد طاعتك في كلّ حال ، وقد بلغت من السنّ ما قد أضعفني عن ذلك لو أردته فصيّرني في بعض حبوسك حتّى يأتيني الموت فهو منّى قريب ، فقال : لا ولا كرامة ، ثمّ أطرق وضرب يده على السيف فسلّ منه مقدار شبر وأخذ بمقبضه ، فقلت : انّا لله ذهب والله الرجل ، ثمّ ردّ السّيف وقال : يا جعفر أما تستحي مع هذه الشيبة ومع هذا النسب أن تنطق بالباطل وتشقّ عصى المسلمين ، تريد أن تريق الدماء وتطرح الفتنة بين الرعيّة والأولياء ، فقال : لا والله يا أمير المؤمنين ما فعلت ولا هذه كتبي ولا خطّي ولا خاتمي ، فانتضى من السيف ذراعا ، فقلت : إنا لله مضى الرجل وجعلت في نفسي إن أمرني فيه بأمر أن أعصيه ، لأني ظننت أنه يأمرني أن آخذ السيف فأضرب به جعفرا ، فقلت إن أمرني ضربت المنصور وإن أتى ذلك عليّ وعلى ولدي وتبت إلى الله عزّ وجل ممّا كنت نويت فيه أولا ، فما

__________________

(١) لعلّه بساط من صوف ..

(٢) ظاهر في النسبة إلى معان ..

(٣) الفقار خرزات الظهر ، ويسمّى السيف بذي الفقار اذا كان في متنه حزوز تشبه فقار الظهر ..

١٠٥

زال يعاتبه وجعفر يعتذر إليه ، ثمّ انتضى السيف كلّه إلاّ شيئا يسيرا منه ، فقلت : إنا لله مضى والله الرجل ، ثمّ أغمد السيف وأطرق ساعة ، ثمّ رفع رأسه وقال له : اظنّك صادقا ، يا ربيع هات العيبة من موضع فيه في القبّة ، فأتيت بها ، فقال : ادخل يدك فيها وكانت مملوءة غالية وضعها في لحيته ، وكانت بيضاء فاسودّت ، وقال لي : احمله على فاره من دوابي التي أركبها واعطه عشرة آلاف درهم وشيّعه إلى منزله مكرّما وخيّره إذا أتيت به المنزل بين المقام عندنا فنكرمه ، أو الانصراف إلى مدينة جدّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فخرجنا من عنده وأنا مسرور فرح لسلامة جعفر عليه‌السلام ومتعجّب ممّا أراده المنصور وما صار إليه من كفايته ودفاعه ، ولا عجب من أمر الله عزّ وجل فلمّا صرنا في الصحن قلت : يا ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا عجب ممّا عمل عليه هذا في بابك ، وما أصارك الله إليه من كفايته ودفاعه ، ولا عجب من أمر الله عزّ وجل ، وقد سمعتك تدعو عقيب الركعتين بدعاء لم أدر ما هو إلاّ أنه طويل ، ورأيتك حرّكت شفتيك هاهنا اعني الصحن بشيء لم أدر ما هو ، فقال لي : أمّا الأوّل فدعاء الكرب والشدائد ، لم أدع به على أحد قبل يومئذ ، جعلته عوضا ، من دعاء كثير أدعو به إذا قضيت صلاتي ، لأني لم أترك أن أدعو ما كنت أدعو به ، وأمّا الذي حرّكت به شفتي فهو دعاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم الأحزاب ، حدّثني أبي عن أبيه عن جدّه عن أمير المؤمنين صلوات الله عليهم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : لمّا كان يوم الأحزاب كانت المدينة كالاكليل من جنود المشركين وكانوا كما قال الله عزّ وجل : « إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم » (١) ثمّ ذكر الدعاء ، ثمّ قال : لو لا الخوف من أمير المؤمنين

__________________

(١) الأحزاب : ١٠ ..

١٠٦

لرفعت إليك هذا المال ، ولكن قد كنت طلبت منّي أرضي بالمدينة وأعطيتني بها عشرة آلاف دينار فلم أبعك وقد وهبتها لك ، قلت : يا ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنما رغبتي في الدعاء الأوّل والثاني ، فاذا فعلت هذا فهو البرّ ولا حاجة لي الآن في الأرض ، فقال لي : إنّا أهل بيت لا نرجع في معروفنا ، نحن ننسخك الدعاء ونسلم إليك الأرض صر معي إلى المنزل فصرت معه كما تقدّم المنصور به ، وكتب لي بعهد الأرض وأملى عليّ دعاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأملى عليّ الذي دعاه بعد الركعتين ثمّ قال : فقلت : يا ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقد كثر استحثاث المنصور واستعجاله إيّاي وأنت تدعو بهذا الدعاء الطويل متمهّلا كأنّك لم تخفه ، قال : فقال لى : نعم قد كنت أدعو بعد صلاة الفجر بدعاء لا بدّ منه ، فأمّا الركعتان فهما صلاة الغداة خفّفتهما ودعوت بذلك الدعاء بعدهما ، فقلت له : ما خفت أبا جعفر وقد أعدّ لك ما أعدّ ، قال : ما أعدّ! خيفة الله دون خيفته ، وكان الله عزّ وجل في صدري أعظم. منه ، قال الربيع : كان في قلبي ما رأيت من المنصور ومن غضبه وحنقه على جعفر ومن الجلالة في اتساعه ما لم أظنّه يكون في بشر ، فلمّا وجدت منه خلوة وطيب نفس قلت : يا أمير المؤمنين رأيت منك عجبا ، قال : ما هو؟ قلت : يا أمير المؤمنين رأيت غضبك على جعفر غضبا لم أرك غضبته على أحد قط ، ولا على عبد الله بن الحسن ولا على غيره من كلّ الناس حتّى بلغ بك الأمر أن تقتله بالسيف وحتّى أنك أخرجت من سيفك شبرا ثمّ أغمدته ، ثمّ عاتبته ثمّ أخرجت منه ذراعا ، ثمّ عاتبته ثمّ أخرجته كلّه إلاّ شيئا يسيرا ، فلم أشكّ في قتلك له ، ثمّ انحلّ ذلك كلّه ، فعاد رضى حتّى أمرتني فسوّدت لحيته بالغالية التي لا يتغلّف منها إلاّ أنت ولا تغلّف منها ولدك المهدي ولا من ولّيته عهدك ، ولا عمومتك ، وأجزته وحملته وأمرتني بتشييعه مكرما ، فقال : ويحك يا ربيع ، ليس هو ممّا ينبغي أن

١٠٧

تحدّث به وستره أولى ، ولا أحبّ أن يبلغ ولد فاطمة فيفخرون ويتيهون بذلك علينا ، حسبنا ما نحن فيه ولكن لا اكتمك شيئا ، انظر إلى من في الدار فنحّهم ، قال : فنحّيت كلّ من في الدار ، ثمّ قال لي : ارجع ولا تبق أحدا ، ففعلت ، ثمّ قال : ليس إلاّ أنا وأنت ، والله لئن سمعت ما ألقيه عليك من أحد لأقتلنّك وولدك وأهلك أجمعين ، ولآخذنّ مالك ، قال : قلت : يا أمير المؤمنين أعيذك بالله ، قال : يا ربيع كنت مصرّا على قتل جعفر ، ولا أسمع له قولا ، ولا أقبل له عذرا ، فلمّا هممت به في المرّة الاولى تمثّل لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإذا هو حائل بيني وبينه باسط كفّيه حاسر عن ذراعيه قد عبس وقطب في وجهي ، فصرفت وجهي عنه ، ثمّ هممت به في المرّة الثانية وانتضيت من السيف اكثر ممّا انتضيت منه في المرّة الاولى فإذا أنا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد قرب منّي ودنا شديدا وهمّ بي لو فعلت لفعل فأمسكت ، ثمّ تجاسرت وقلت : هذا من فعل الربيء (١) ثمّ انتضيت السيف في الثالثة فتمثّل لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باسطا ذراعيه قد تشمّر واحمرّ وعبس وقطب ، حتّى كاد أن يضع يده عليّ فخفت والله لو فعلت لفعل ، وكان منّي ما رأيت ، هؤلاء من بني فاطمة لا يجهل حقّهم إلاّ جاهل لا حظّ له في الشريعة ، فإيّاك أن يسمع هذا منك أحد ، قال محمّد بن الربيع : فما حدّثني به حتّى مات المنصور ، وما حدّثت به حتّى مات المهدي ، وموسى (٢) وهارون (٣) وقتل محمّد (٤).

__________________

(١) كفعيل التابع للجن ..

(٢) الهادي ..

(٣) الرشيد ..

(٤) الأمين ..

١٠٨

السادسة : يقول الشريف رضيّ الدين ابن طاوس : وقد استدعاه بها المنصور إلى بغداد مرّة ثانية بعد قتل محمّد وإبراهيم ابني عبد الله بن الحسن (١) وقد روى ذلك عن صفوان بن مهران الجمّال (٢) قال : رفع رجل من قريش المدينة من بني مخزوم إلى أبي جعفر المنصور ، وذلك بعد قتله لمحمّد وإبراهيم ابني عبد الله بن الحسن ، إن جعفر بن محمّد بعث مولاه المعلّى بن خنيس (٣) لجباية الأموال من شيعته ، وأنه كان يمدّ بها محمّد بن عبد الله ، فكاد المنصور أن يأكل كفّه على جعفر بن محمّد غيظا ، وكتب إلى عمّه داود بن علي ، وداود أمير المدينة (٤) أن يسيّر إليه جعفر بن محمّد لا يرخص له في التلوم (٥) والبقاء فبعث إليه داود بكتاب المنصور ، وقال له : اعمل في المسير إلى أمير المؤمنين في غد ولا تتأخّر ، قال صفوان : وكنت بالمدينة يومئذ فأنفذ إلى جعفر عليه‌السلام فصرت إليه فقال لي : تعهّد راحلتنا فإنا غادون في غد إن شاء الله إلى العراق ، ونهض من وقته وأنا معه إلى مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكان ذلك بين الاولى والعصر فركع فيه ركعات ، ثمّ رفع يديه فحفظت يومئذ من دعائه : « يا من ليس له ابتداء ولا انتهاء (٦) يا من ليس له أمد ولا نهاية » الدعاء.

__________________

(١) وكان قتلهما عام ١٤٥ ، وقد عرفت من تعليقتنا على المرّة الخامسة أن تلك الدفعة لا تصحّ أن تكون إلى بغداد إلاّ أن تكون بعد قتلهما ، وأن بين انتقال المنصور إلى بغداد وبين وفاة الصادق سنتين وبعيد أن يرسل إليه في هاتين السنتين مرّات عديدة ..

(٢) سيأتي في المشاهير من ثقات الرواة لأبي عبد الله عليه‌السلام ..

(٣) سيأتي في ثقات المشاهير أيضا ..

(٤) وداود هذا هو الذي قتل المعلّى بن خنيس واستلب أمواله ، وهمّ بالصادق عليه‌السلام ، فدعا عليه الصادق فعاجله الله بالهلاك ، كما سيأتي في باب استجابة دعائه ..

(٥) التمكّث ..

(٦) ولا انقضاء في نسخة ..

١٠٩

قال صفوان : فلمّا أصبح أبو عبد الله عليه‌السلام رحلت له الناقة وسار متوجّها إلى العراق حتّى قدم مدينة أبي جعفر (١) وأقبل حتّى استأذن فأذن له ، قال صفوان : فأخبرني بعض من شهده عند أبي جعفر ، قال : فلما رآه قرّبه وأدناه ، ثمّ استدعى قصّة الرافع على أبي عبد الله عليه‌السلام ، يقول في قصّته : إن المعلّى بن خنيس مولى جعفر بن محمّد يجبي له الأموال من جميع الآفاق ، وإنه مدّ بها محمّد بن عبد الله ، فدفع إليه القصّة فقرأها أبو عبد الله فأقبل عليه المنصور فقال : يا جعفر بن محمّد ما هذه الأموال التي يجبيها لك المعلّى بن خنيس؟ فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : معاذ الله من ذلك يا أمير المؤمنين ، قال له : ألا تحلف على براءتك من ذلك بالطلاق والعتاق ، قال : نعم أحلف بالله إنه ما كان من ذلك شيء ، قال أبو جعفر : لا بل تحلف بالطلاق والعتاق فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : أما ترضى بيميني بالله الذي لا إله إلاّ هو ، قال له أبو جعفر : لا تتفقّه عليّ ، فقال أبو عبد الله : وأين يذهب بالفقه مني يا أمير المؤمنين (٢) قال له : دع عنك هذا فإنني أجمع الساعة بينك وبين الرجل الذي رفع عليك حتّى يواجهك ، فأتوا بالرجل وسألوه بحضرة جعفر عليه‌السلام فقال : نعم هذا صحيح ، وهذا جعفر بن محمّد ، والذي قلت فيه كما قلت ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : تحلف أيها الرجل إن هذا الذي رفعته صحيح ، قال : نعم ، ثمّ ابتدأ الرجل باليمين فقال : والله الذي لا إله إلاّ هو الطالب الغالب الحيّ القيوم ، فقال

__________________

(١) وهي بغداد ، وكانت تسمّى مدينة أبي جعفر لأنه هو الذي بناها وكان انتقاله إليها عام ١٤٦ ، ولعلّه في هذه السنة دعا الصادق إليها ..

(٢) ما كان ليخفى على المنصور ما عليه أهل البيت في اليمين بالطلاق والعتاق وأنه لا يحنث الحالف كاذبا ، أي لا تطلق نساؤه ، ولا تعتق مماليكه ، ولكنه حاول أن يحطّ من كرامة الصادق وألاّ يثبت له فقه خاص ..

١١٠

له جعفر عليه‌السلام : لا تعجل في يمينك ، فإنني أستحلفك ، قال المنصور : ما أنكرت من هذه اليمين؟ قال : إن الله تعالى حيّ كريم يستحي من عبده إذا أثنى عليه أن يعاجله بالعقوبة لمدحه له ، ولكن قل أيها الرجل : أبرأ إلى الله من حوله وقوّته وألجأ إلى حولي وقوّتي إني لصادق برّ فيما أقول ، فقال المنصور للقرشي : احلف بما استحلفك به أبو عبد الله فحلف الرجل بهذه اليمين فلم يستتمّ الكلام حتّى أجذم وخرّ ميّتا ، فراع أبا جعفر ذلك وارتعدت فرائصه ، فقال : يا أبا عبد الله : سر من غد إلى حرم جدّك إن اخترت ذلك ، وإن اخترت المقام عندنا لم نأل في إكرامك وبرّك ، فو الله لا قبلت قول أحد بعدها أبدا » (١).

السابعة : ذكر الشريف أبو القاسم في المرّة السابعة رواية عن محمّد بن عبد الله الاسكندري (٢) وأنه كان من ندماء المنصور وخواصّه ، يقول محمّد ، دخلت عليه يوما فرأيته مغتمّا وهو يتنفّس نفسا باردا ، فقلت : ما هذه الفكرة يا أمير المؤمنين ، فقال لي : يا محمّد لقد هلك من أولاد فاطمة مقدار مائة أو يزيدون (٣) وقد بقي سيّدهم وإمامهم ، فقلت له : من ذلك؟ قال : جعفر بن محمّد الصادق ، فقلت : يا أمير المؤمنين إنه رجل أنحلته العبادة واشتغل بالله عن طلب الملك والخلافة ، فقال : يا محمّد لقد علمت أنك تقول به وبإمامته ولكن الملك

__________________

(١) وذكر هذه الكرامة لأبي عبد الله عليه‌السلام جملة من علماء أهل السنّة عند استطرادهم لحياة الصادق ، منهم الشبلنجي في نور الأبصار ، والسبط في التذكرة ، وابن طلحة في مطالب السؤل ، وابن الصبّاغ في الفصول ، وابن حجر في الصواعق وغيرهم ..

(٢) ليس له ذكر في كتب رجالنا ، ولم نعرف عنه رواية غير هذه ، وبها ذكره المتأخّرون ، والرواية صريحة في تشيّعه ..

(٣) أحسب أن هذه القصّة كانت بعد مقتل محمّد وإبراهيم لأن الحرب بالمدينة وبباخمرى والسجون في الهاشميّة أهلكت العدد الكثير من العلويّين هذا سوى من قتله صبرا ، ولعلّ إرساله عليه كان إلى بغداد أيضا ..

١١١

عقيم ، وقد آليت على نفسي ألاّ امسي عشيّتي هذه أو أفرغ منه ، قال محمّد : فو الله لقد ضاقت عليّ الأرض برحبها ، ثمّ دعا سيّافا وقال له : إذا انا أحضرت أبا عبد الله الصادق وشغلته بالحديث ووضعت قلنسوتي عن رأسي فهي العلامة بينى وبينك فاضرب عنقه ، ثمّ أحضر أبا عبد الله عليه‌السلام في تلك الساعة ولحقته في الدار وهو يحرّك شفتيه فلم أدر ما الذي قرأ ، فرأيت القصر يموج كأنه سفينة في لجج البحار ، ورأيت أبا جعفر المنصور وهو يمشي بين يديه حافي القدمين مكشوف الرأس قد اصطكت أسنانه وارتعدت فرائصه ، يحمرّ ساعة ويصفرّ اخرى ، وأخذ بعضد أبي عبد الله وأجلسه على سرير ملكه وجثا بين يديه كما يجثو العبد بين يدي مولاه ، ثمّ قال : يا ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما الذي جاء بك في هذه الساعة؟ قال : جئتك يا أمير المؤمنين طاعة لله ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولأمير المؤمنين أدام الله عزّه (١).

قال : ما دعوتك ، والغلط من الرسول ، ثمّ قال : سل حاجتك ، فقال : أسألك ألاّ تدعوني لغير شغل ، قال : لك ذلك وغير ذلك ، ثمّ انصرف أبو عبد الله عليه‌السلام سريعا ، وحمدت الله عزّ وجل كثيرا ، ودعا أبو جعفر المنصور بالدواويج (٢) ونام ولم ينتبه إلاّ في نصف الليل ، فلمّا انتبه كنت عند رأسه جالسا فسرّه ذلك ، وقال : لا تخرج حتّى أقضي ما فاتنى من صلاتي فاحدّثك بحديث ، فلمّا قضى صلاته أقبل على محمّد وحدّثه بما شاهده من الأهوال التي افزعته عند مجيء الصادق ، وكان ذلك سببا لانصرافه عن قتله وداعيا لاحترامه والاحسان إليه.

يقول محمّد : قلت له : ليس هذا بعجيب يا أمير المؤمنين ، فإن أبا عبد الله

__________________

(١) لا بدع لو قال له : طاعة لله ولرسوله ولأمير المؤمنين ، وإن لم تكن للمنصور طاعة ، لأن الخوف على النفس والنفيس يلزمه بالمجيء ، فتكون المحافظة عليهما واجبة والتخلّف إلقاء بالتهلكة ..

(٢) بالجيم المعجمة جمع دواج كرمان وكغراب : اللحاف الذي يلبس ..

١١٢

وارث علم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجدّه أمير المؤمنين عليه‌السلام وعنده من الأسماء وسائر الدعوات التي لو قرأها على الليل لأنار ، ولو قرأها على النهار لأظلم ، ولو قرأها على الأمواج في البحور لسكنت (١).

قال محمّد : فقلت له بعد أيام : أتأذن لي يا أمير المؤمنين أن أخرج إلى زيارة أبي عبد الله الصادق؟ فأجاب ولم يأب ، فدخلت عليه وسلّمت وقلت له : أسألك يا مولاي بحقّ جدّك محمّد رسول ربّ العزّة صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن تعلّمني الدعاء الذي كنت تقرأه عند دخولك على أبي جعفر المنصور ، قال : لك ذلك ، ثمّ أخذ الصادق يصف لمحمّد شأن الدعاء قبل أن يورده له ، ثم ذكر الدعاء وهو طويل (٢).

هذه بعض المحن التي شاهدها الصادق عليه‌السلام من المنصور وتخلّص فيها ممّا أراده فيه بدعائه ، وقد ذكر ابن طاوس طاب ثراه دفعتين اخريين يهمّ بهما المنصور في قتل الصادق فيدفع الله عنه فيهما سوءه.

وذكر بعض هذه المحن وسلامة الصادق من القتل فيها بدعائه جملة من أرباب التأليف عند استطرادهم لأحوال الصادق عليه‌السلام ، أمثال الشبلنجي في نور الأبصار ، والسبط في التذكرة ، وابن طلحة في مطالب السؤل ، وابن الصبّاغ في الفصول المهمّة ، وابن حجر في الصواعق ، والشيخ سليمان في الينابيع ، والكليني في الكافي في كتاب الدعاء ، والمجلسي في البحار ج ١١ ، وابن شهرآشوب في المناقب ، والشيخ المفيد في الإرشاد ، وغيرهم.

__________________

(١) هذا الكلام يدلّنا على معرفة محمّد فوق تشيّعه ، والعجب كيف يصارح المنصور بهذا ، ولا عجب فإن المنصور أعلم من محمّد بشأن الصادق عليه‌السلام ..

(٢) لم يفتنا ذكر هذه الأدعية إلاّ لأننا جمعناها في صحائف اخرى مع ما ظفرنا به من أدعيته الاخرى فكان ما اجتمع عندنا كما أشرنا إليه ما يناهز ٤٠٠ صحيفة بقطع هذا الكتاب مع علمنا أنه قد فاتنا الشيء الكثير من دعائه ..

١١٣

مواقفه مع المنصور وولاته

رزق أهل البيت فيما رزقوا الحكمة وكفى بها فضيلة ، ولربما تعجب من مواقف الصادق مع المنصور ورجاله فإنك تارة تجده يلين بالقول ويجهد في براءته واخرى يلاقيهم بالشدّة والعنف دون أن يعترف بشيء وإن أساءهم موقفه.

والصادق أعرف بما يقول ويفعل ، فقد يلين اذا عرف أن اللين أسلم ، وقد يخشن إذا عرف أن الخشونة ألزم ، وليس اللين محمودا في جميع الأوقات والحالات ، غير أن التمييز بين المواقف يحتاج إلى حكمة وعرفان ، فبينا تجده يخاطب المنصور بقوله : « والله ما فعلت ولا أستحلّ ذلك ولا هو من مذهبي وإني ممّن يعتقد طاعتك في كلّ حال وقد بلغت من السنّ ما قد أضعفني عن ذلك لو أردته فصيّرني في بعض حبوسك حتّى يأتيني الموت فهو منّي قريب » واذا به يقول للمنصور على لسان الرسول : « فإن كففت وإلاّ أجريت اسمك على الله عزّ وجل في كلّ يوم خمس مرّات » إلى كثير من الموقفين ، كما عرفت كثيرا من مواقف اللين ، وستعرف الآن بعض المواقف من الشدّة.

إنّا وإن غبنا عن ذلك العهد لكننا لم نغب عن معرفة نفسيّة الامام الصادق عليه‌السلام ونفسيّة الدوانيقي ، كما لم نغب عن تأريخ الحوادث في ذلك العهد.

إن المنصور وإن ملك البلاد باسم الخلافة لكنه يعلم أن صاحبها حقا هو الصادق عليه‌السلام ، وأنه صاحب كلّ فضيلة وأنه لو أراد الأمر لم يطق المنصور

١١٤

أن يحول دونه ، فمن ثمّ تراه أحيانا يصفح عن وخزات الصادق عليه‌السلام لا يريد أن تزداد الملاحاة في الكلام فتثير كوامن النفوس فتهيج ما يخافه من وثبة وثورة ، غير أن شدّة الحبّ للملك والملك عقيم ، والحبّ يعمي ويصمّ ، تبعث المنصور على الاساءة للصادق والسعي لإهلاكه ، فاذا عرف الصادق أن الموقف من الأوّل انبعث لإظهار الحقّ ، وأن الموقف من الثاني قابله بلين ليكفّ بغيه وعدوانه.

وها نحن أوّلا نورد بعض ما كان من الصادق مع المنصور وولاته من المواقف التي يعلن فيها بالحقّ غير مكترث بما له من سطوة ولولاته من قسوة.

سأل المنصور الصادق عليه‌السلام يوما عن الذباب وهو يتطايح على وجهه حتّى أضجره فقال له : يا أبا عبد الله لم خلق الله الذباب؟ فقال الصادق عليه‌السلام : ليذلّ به الجبابرة (١) فسكت المنصور علما منه أنّه لو ردّ عليه لوخزه بما هو أمضّ جرحا ، وأنفذ طعنا.

وكتب إليه المنصور مرّة : لم لا تغشانا كما تغشانا الناس؟ فأجابه الصادق عليه‌السلام : « ليس لنا ما نخافك من أجله ، ولا عندك من أمر الآخرة ما نرجوك له ، ولا أنت في نعمة فنهنّيك ، ولا تراها نقمة فنعزّيك ، فما نصنع عندك » فكتب إليه : تصحبنا لتنصحنا ، فأجابه : « من أراد الدنيا لا ينصحك ، ومن أراد الآخرة لا يصحبك » فقال المنصور : والله لقد ميز عندي منازل من يريد الدنيا ممّن يريد الآخرة ، وانه ممّن يريد الآخرة لا الدنيا (٢).

أقول : إن المنصور ما أراد النصيحة لما يصلحه ، ولو أراد صلاح نفسه

__________________

(١) نور الأبصار للشبلنجيّ : ص ١٤١ ..

(٢) كشف الغمّة في أحوال الصادق عليه‌السلام عن تذكرة ابن حمدون : ٢ / ٢٠٨ ..

١١٥

لاعتزل الأمر لئلاّ يبوء بإثم هذه الامّة ، ولكنه أراد أن يستصفي الصادق ويجعله من أتباعه ، فيعلم الناس أنه الامام غير مدافع ، وتنقطع الشيعة عن مراجعة الصادق ، ويظهر لهم أنه تبع للمنصور ، والامام لا يكون تبعا لأرباب السلطان باختياره ، والصادق لا يخفى عليه قصد المنصور.

وكلمته هذه تعطينا درسا بليغا عن مواقف الناس مع الملوك والامراء وعن منازل المتزلّفين إليهم ، وكيف يجب أن تكون مواقف رجال الدين معهم.

واستقدمه المنصور مرّة وهو غضبان عليه ، فلمّا دخل عليه الصادق عليه‌السلام ، قال له : يا جعفر قد علمت أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال.

لأبيك عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام : لو لا أن تقول فيك طوائف من أمّتي ما قالت النصارى في المسيح لقلت فيك قولا لا تمرّ بملإ إلاّ أخذوا من تراب قدميك يستشفون به ، وقال علي عليه‌السلام : يهلك فيّ اثنان ولا ذنب لي : محبّ غال ومبغض مفرط ، قال ذلك اعتذارا منه أنه لا يرضى بما يقول فيه الغالي والمفرط ، ولعمري أن عيسى بن مريم عليه‌السلام لو سكت عمّا قالت النصارى فيه لعذبه الله ، ولقد تعلم ما يقال فيك من الزور والبهتان ، وإمساكك عن ذلك ورضاك به سخط الديّان ، زعم أوغاد الحجاز ورعاع الناس أنك حبر الدهر وناموسه ، وحجّة المعبود وترجمانه ، وعيبة علمه وميزان قسطه ، ومصباحه الذي يقطع به الطالب عرض الظلمة إلى ضياء النور ، وأن الله لا يقبل من عامل جهل حدّك في الدنيا عملا ، ولا يرفع له يوم القيامة وزنا ، فنسبوك إلى غير حدّك ، وقالوا فيك ما ليس فيك ، فقل فإن أوّل من قال الحقّ جدّك ، وأوّل من صدقه عليه أبوك ، وأنت حريّ أن تقتصّ آثارهما ، وتسلك سبيلهما.

فقال عليه‌السلام : أنا فرع من فروع الزيتونة ، وقنديل من قناديل بيت

١١٦

النبوّة ، وأديب السفرة ، وربيب الكرام البررة ، ومصباح من مصابيح المشكاة التي فيها نور النور ، وصفوة الكلمة الباقية في عقب المصطفين إلى يوم الحشر.

فالتفت المنصور إلى جلسائه فقال : هذا قد حالني على بحر مواج لا يدرك طرفه ولا يبلغ عمقه ، تحار فيه العلماء ، ويغرق فيه السبحاء (١) ويضيق بالسابح عرض الفضاء ، هذا الشجى المعترض في حلوق الخلفاء ، الّذي لا يجوز نفيه ، ولا يحلّ قتله ، ولو لا ما تجمعني وإيّاه شجرة طاب أصلها وبسق فرعها ، وعذب ثمرها ، وبوركت في الذر ، وقدّست في الزبر ، لكان منّي ما لا يحمد في العواقب ، لما يبلغني عنه من شدّة عيبه لنا وسوء القول فينا.

فقال الصادق عليه‌السلام : لا تقبل في ذي رحمك وأهل الرعاية من أهل بيتك قول من حرّم الله عليه الجنّة ، وجعل مأواه النار ، فإن النمّام شاهد زور ، وشريك إبليس في الإغراء بين الناس فقد قال الله تعالى : ( « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ » ) (٢) ونحن لك أنصار وأعوان ، ولملكك دعائم وأركان ، ما أمرت بالمعروف والاحسان ، وأمضيت في الرعيّة أحكام القرآن ، وأرغمت بطاعتك لله أنف الشيطان ، وإن كان يجب عليك في سعة فهمك ، وكثرة علمك ، ومعرفتك بآداب الله أن تصل من قطعك ، وتعطي من حرمك ، وتعفو عمّن ظلمك ، فإن المكافي ليس بالواصل ، إنما الواصل من إذا قطعته رحمه وصلها ، فصل رحمك يزد الله في عمرك ، ويخفّف عنك الحساب يوم حشرك ، فقال المنصور : قد صفحت عنك لقدرك ، وتجاوزت عنك لصدقك ، فحدّثني عن نفسك بحديث

__________________

(١) جمع سابح ..

(٢) الحجرات : ٦ ..

١١٧

أتعظ به ويكون لي زاجر صدق عن الموبقات ، فقال الصادق عليه‌السلام : عليك بالحلم فإنه ركن العلم ، واملك نفسك عند أسباب القدرة فإنك إن تفعل ما تقدر عليه كنت كمن شفى غيظا ، أو تداوى حقدا أو يحبّ أن يذكر بالصولة ، واعلم بأنك إن عاقبت مستحقّا لم تكن غاية ما توصف به إلاّ العدل ، والحال التي توجب الشكر أفضل من الحال التي توجب الصبر ، فقال المنصور : وعظت فأحسنت ، وقلت فأوجزت (١).

أقول : إن أمثال هذه المواقف تعطيك دروسا وافيه عمّا كان عليه أهل ذلك العصر من سياسة وعلم واعتقاد وغيرها ، وهنا نستطيع أن نتعرّف عدّة امور.

١ ـ إن المنصور يريد ألاّ يظهر الصادق بمظهر الامامة فحاول أن يخدعه أمام الناس بتلك الكلمات الليّنة ، وهنا تعرف دهاء المنصور ، لأن العبّاسيّين إنما تربّعوا على الدست باسم الامامة والخلافة ، فلو كان هناك إمام آخر يرى شطر من الامّة أنه صاحب المنبر والتاج لا يتمّ لهم أمر ، وهو يريد ألاّ يعارضه أحد في سلطانهم ، فكان المنصور يدفع عن عرشه بالشدّة مرّة وباللين اخرى فكان من سياسته أن جابه الصادق أمام ملأ من الناس بهذا القول وحسب أنّ الصادق سوف يبطل ما يقوله الناس فيه ، وبه يحصل ما يريد ، وهو يعلم أنّ الصادق لا يجبهه بالردّ ، حذرا من سطوته.

٢ ـ إن الصادق إمام بجعل إلهي كما يرى ذلك ويراه الشيعة فيه ، والامامة في أهل البيت وفي الصادق ليست وليدة عصر المنصور ، وإنما هي من عهد صاحب الرسالة ، فالامام الصادق عليه‌السلام وقع بين لحيي لهذم فإنه إن

__________________

(١) بحار الأنوار : ٤٧ / ١٦٨ في أحوال الصادق عليه‌السلام ..

١١٨

جارى المنصور فقد أبطل إمامة إلهية ، وإن عارضه لا يأمن من شرّه ، ثمّ أجابه بكلمات مجملة لا تصرّح بالامامة ولا تبطل قول الناس فيه ، ولذا قال المنصور « هذا قد حالني على بحر موّاج لا يدرك طرفه ».

٣ ـ إن قول الشيعة في الامام من ذلك اليوم على ما هو عليه اليوم ، وهذا ما تقتضيه اصول المذهب ، وتدلّ عليه أخبار أهل البيت وآثارهم.

٤ ـ إن سكوت الامام الصادق وعدم إبطاله لأن يكون كما يقول الناس برهان على أن حقيقة الامامة كما يحكيها المنصور عن الناس ، ولو كانت حقيقتها غير هذا لقال الصادق : إن هذا الرأي والقول باطل ، بل لوجب عليه إعلام الناس ببطلانه وردعهم عن هذا المعتقد.

٥ ـ إن القائل بإمامة الصادق عليه‌السلام خلق كثير من الناس ، ممّا جعل المنصور يفكّر فيه ويخشى من اتساعه ومن عقباه ، فحاول أن يتذرّع بالصادق لمكافحته.

٦ ـ إن المرء بأصغريه ، فالامام الصادق لو لم تسبق الأخبار والآثار عن منزلته ، لكان في مثل كلامه ومثل موقفه هذا دلالة على ما له من مقام ، أتراه كيف حاد عن جواب المنصور بما حيّره ، دون أن يصرّح بخلاف ما حكاه عن الشيعة ، ودون أن يصرّح بصحّة ما يرون ، وكيف وعيت ذلك البيان منه عن نفسه ، ببليغ من القول ، وجليل من المعنى ، وكيف وعظ المنصور بما يوافق شأن الملوك ، وما يتفق وابتلاءهم كثيرا؟

وهذا بعض ما يمكن استنباطه من هذا الموقف وفهم حال الناس ذلك اليوم ، وكفى به عن سواه.

ودخل على المنصور في إحدى جيئاته فاستقبله الربيع بالباب وقال له : يا أبا عبد الله ما أشدّ تلظّيه عليك لقد سمعته يقول : والله لا تركت له نخلا إلاّ

١١٩

عقرته ، ولا مالا إلاّ نهبته ، ولا نهبته ، ولا ذرّية إلاّ سبيتها ، فلمّا دخل وسلّم وقعد قال له المنصور : أما والله لقد هممت ألاّ أترك لكم نخلا إلاّ عقرته ، ولا مالا إلاّ أخذته ، فقال له الصادق عليه‌السلام : يا أمير المؤمنين إن الله عزّ وجل ابتلى أيوب فصبر ، وأعطى داود فشكر ، وقدر (١) يوسف فغفر ، وأنت من ذلك النسل ولا يأتي ذلك النسل إلاّ بما يشبهه ، فقال : صدقت قد عفوت عنكم ، فقال الصادق : إنه لم ينل أحد منّا أهل البيت دما إلاّ سلبه الله ملكه ، فغضب لذلك واستشاط ، فقال : على رسلك إن هذا الملك كان في آل أبي سفيان فلمّا قتل يزيد حسينا عليه‌السلام سلبه الله ملكه ، فورثه آل مروان فلمّا قتل هشام زيدا سلبه الله ملكه فورثه مروان بن محمّد ، فلمّا قتل مروان إبراهيم الامام سلبه الله ملكه وأعطاكموه فقال : صدقت. (٢)

أقول : إن الصادق عليه‌السلام ما اعتذر عن قوله الأول ، وإنما جاء بالشواهد عليه ، سوى إنه استعرض ذكر أخيه إبراهيم ليكفّ بذلك شرّه.

وللصادق عليه‌السلام مواقف كثيرة على غرار ما ذكرناه اجتزينا عنها بما أوردناه.

وكانت للصادق عليه‌السلام مواقف مع بعض ولاة المنصور رجاله تشبه مواقفه مع المنصور في الشدّة ، جاء إلى المدينة واليا من قبل المنصور بعد مقتل محمّد وإبراهيم رجل يقال له شيبة بن عفال ، يقول عبد الله بن سليمان التميمي : فلمّا حضرت الجمعة صار إلى مسجد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فرقى المنبر وحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال : أمّا بعد فإن عليّ بن أبي طالب شقّ عصا

__________________

(١) أي جعله قادرا على الانتقام من اخوته ..

(٢) الكافي : كتاب الدعاء ، باب الدعاء للكرب والهمّ والحزن : ٢ / ٥٦٣ ..

١٢٠