جواهر الكلام - ج ٣٣

الشيخ محمّد حسن النّجفي

الطلاق إلا أنهما يقعان على كل زوجة » وهو يغطي وقوعهما في الحيض وطهر المواقعة كما في كشف اللثام ، لكن عن ابن إدريس يريد أنه بائن لا رجعة مع واحد منهما ، سواء كان مصاحبا للطلقة الأولى أو الثانية ، قال : « لأنه لما عدد البوائن ذكر ذلك ، فالمعنى أنهما يبينان كل زوجة » وفي كشف اللثام « حكي عن الراوندي أنه أراد المتمتع بها ـ وقال ـ : وهذا خطاء محض ، لأن المبارأة لا بد فيها من طلاق ، والمتمتع بها لا يقع بها طلاق ».

وكذا يعتبر في الخلع أن تكون الكراهية من المرأة خاصة لا منه وحده ، فلا يجوز أخذ العوض ، ولا منهما فيكون مباراة ، ولا خلاف في أصل اشتراط الكراهية ، بل الإجماع بقسميه عليه ، مضافا إلى استفاضة النصوص (١) أو تواترها في ذلك.

إنما الكلام في الاكتفاء بمطلق الكراهة ، كما هو ظاهر المصنف وغيره من المتأخرين ، بل هو ظاهر الآية (٢) التي جعل المدار فيها على خوف عدم إقامة حدود الله تعالى شأنه ، ولا ريب في تحققه معها ، أو أن المعتبر إسماع معاني الأقوال المذكورة في النصوص (٣) كما هو المحكي عن الشيخ وغيره من المتقدمين ، بل عن ابن إدريس « أن إجماع أصحابنا منعقد على أنه لا يجوز الخلع إلا بعد أن يسمع منها مالا يحل ذكره من قولها : « لا اغتسل لك عن جنابة ، ولا أقيم لك حدا ، ولأوطئنّ فراشك من تكرهه » أو يعلم ذلك منها فعلا ».

والأصل في ذلك‌ قول الصادق عليه‌السلام في حسن الحلبي (٤) : « المختلعة لا يحل خلعها حتى تقول لزوجها والله لا أبر لك قسما ، ولا أطيع لك أمرا ، ولا اغتسل‌

__________________

(١) و (٣) الوسائل الباب ـ ١ ـ من كتاب الخلع والمبارأة.

(٢) سورة البقرة : ٢ ـ الآية ٢٢٩.

(٤) الوسائل الباب ـ ١ ـ من كتاب الخلع والمبارأة الحديث ٣ وذكر ذيله في الباب ـ ٣ ـ منه الحديث ٢.

٤١

لك من جنابة ، ولأوطئنّ فراشك من تكرهه ، ولآذنن عليك من تكرهه بغير إذنك ، وقد كان الناس يرخصون فيما دون هذا ، فإذا قالت المرأة ذلك لزوجها حل له ما أخذ منها ـ إلى أن قال ـ : يكون الكلام من عندها » وقوله عليه‌السلام في حسن ابن مسلم (١) : « لا يحل له أن يأخذ منها شيئا حتى تقول : والله لا أبر لك قسما ، ولا أطيع لك أمرا ، ولآذنن في بيتك بغير إذنك ، ولأوطئن فراشك غيرك ، فإذا فعلت ذلك من غير أن يعلمها حل له ما أخذ منها » ‌إلى آخره ، ومضمر سماعة (٢) « سألته عن المختلعة ، فقال : لا يحل لزوجها أن يختلعها حتى تقول : لا أبر لك قسما ، ولا أقيم حدود الله فيك ، ولا اغتسل لك من جنابة ، ولأوطئنّ فراشك ، ولا دخلن بيتك من تكرهه من غير أن تعلم هذا ، ولا يتكلمون هم ، وتكون هي التي تقول ذلك ، فإذا هي اختلعت فهي بائن ، وله أن يأخذ من مالها ما قدر عليه » ‌إلى غير ذلك من النصوص التي ظاهرها ذلك ، مؤيدا بأصالة عدم الصحة بدونه.

لكن‌ قول الباقر عليه‌السلام في صحيح ابن مسلم (٣) : « إذا قالت المرأة لزوجها جملة : لا أطيع لك أمرا مفسرا وغير مفسر حل له أن يأخذ منها ، وليس له عليها رجعة » وخبر سماعة (٤) قال للصادق عليه‌السلام : « لا يجوز للرجل أن يأخذ من المختلعة حتى تتكلم بهذا الكلام كله ، فقال : إذا قالت : لا أطيع الله فيك حل له أن يأخذ منها ما وجد » ‌شاهدا عدل على عدم اعتبار تلك الأقوال ، مضافا إلى اختلافها في تلك الألفاظ والإجماع في الرياض ، بل قضية جميلة (٥) المتقدمة التي هي الأصل في نزول آية الخلع (٦) خالية من ذكر الأقوال المزبورة.

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١ ـ من كتاب الخلع والمبارأة الحديث ٤.

(٢) الوسائل الباب ـ ١ ـ من كتاب الخلع والمبارأة الحديث ٥ وذكر ذيله في الباب ـ ٤ ـ منه الحديث ٤.

(٣) و (٤) الوسائل الباب ـ ١ ـ من كتاب الخلع والمبارأة الحديث ١ ـ ٢.

(٥) سنن البيهقي ج ٧ ص ٣١٣.

(٦) سورة البقرة : ٢ ـ الآية ٢٢٩.

٤٢

بل يقوى في النظر من ذلك كله أن المدار على الكراهة ، إلا أنها لما كانت لا تعلم غالبا إلا بالقول أو الفعل ـ بل الأخير منهما لا دلالة فيه غالبا إلا بأن تفعل المخالفة لزوجها ـ فلم يبق إلا القول الدال على ذلك ، كما قالت جميلة زوجة ثابت (١) وإلا فالمدار على المدلول دون الدال ، ومن هنا اكتفى المصنف ومن تأخر عنه ـ بل في كشف اللثام نسبته إلى الأصحاب ـ بالكراهة منها ، سواء علم ذلك من قولها أو فعلها أو غيرهما ، لأن بها يتحقق خوف عدم إقامة حدود الله تعالى فيما بينهما.

ومن ذلك يظهر لك النظر فيما في الرياض من عدم الاكتفاء بالكراهة وإن وافق على عدم اعتبار العبارات المخصوصة ، لكن قال : « لا بد من الوصول إلى هذا الحد الذي في النصوص ، وهو تعديها في الكلام بما يدل على خوف وقوعها مع عدم الطلاق في الحرام » بل قال : لا وجه لإطلاق المتن وغيره الاكتفاء بالكراهة محتجا بظاهر النصوص المزبورة قال : « بل ربما دل بعضها على أن الاكتفاء بأقل من ذلك قول العامة » إلا أنه كما ترى حتى ما ذكره أخيرا ، فإن‌ قوله عليه‌السلام في حسن الحلبي (٢) : « وقد كان الناس » ‌إلى آخره ليس إشارة إلى العامة ، وإنما المراد حكاية فعل الناس ، وأنهم يرخصون بأقل من هذا الكلام المنفر لكل أحد ، بل مقتضاه فساد الخلع لكثير من النساء التي تختلع في عصرنا هذا وما قاربه بمحضر من أعاظم علمائه.

وأغرب منه ما حكاه في الحدائق عمن عاصره من مشايخ بلاد البحرين من اعتبار الكراهة الذاتية ، قال : « وقد حضرنا في غير موضع مجلس الخلع ، وكان لا يوقعونه إلا بعد تحقيق الحال ومزيد الفحص والسؤال في ثبوت الكراهة الذاتية ، وعدم الكراهة العارضة ، والسعي في قطع الأسباب الموجبة للكراهة التي تدعيها المرأة ، ليعلم‌

__________________

(١) سنن البيهقي ج ٧ ص ٣١٣.

(٢) الوسائل الباب ـ ١ ـ من كتاب الخلع والمبارأة الحديث ٣.

٤٣

كونها ذاتية غير عارضية ، فإذا تحقق ذلك وعلموا أنه لا يمكن رفعها بوجه من الوجوه أوقعوا الخلع بها » وهو من الغرائب التي لا يساعد عليها كتاب ولا سنة ولا فتاوى أصحاب لا في المقام ولا في غيره ، بل كلامهم في باب الشقاق بين الزوجين صريح في خلافه ، والله الهادي إلى الصواب.

كما أن كلام المتأخرين مثل المصنف وغيره ظاهر أو صريح في عدم خلاف في المسألة حملا لكلام المتقدمين الذي منه ما سمعته من ابن إدريس على إرادة تحقق الكراهة منها ، لا ما فهمه في الرياض من أنه لا بد معها من التعدي في الكلام على وجه يخاف وقوعها مع عدم الطلاق في الحرام.

بل في الحدائق « لم يشترط أحد فيما أعلم ممن تقدم أو تأخر البلوغ إلى هذا الحد المستفاد من هذه الأخبار وتوقف الخلع على كلامها بشي‌ء من هذه العبارات » ولعله كذلك ، ضرورة استبعاد دعوى اشتراط الاسماع المزبور تعبدا بحيث لا تجزئ الكراهة المتحققة التي يخاف معها من أمثال ذلك ، بل يمكن دعوى القطع بعدمه خصوصا بعد ما سمعته (١) من بعض عبارات الأصحاب في المسألة الاتية.

وفرض حصول الكراهة مع الأمن من هذه الأحوال في امرأة لقوة دينها ـ كما يحكى عن امرأة كانت تحت شخص قد تمرض مرضا شديدا فبالغت في خدمته ، فلما بري‌ء أراد جزاءها على ذلك ، فقال لها : اقترحي علي جزاء ، فقالت له : اسكت عن هذا الكلام ، ثم ألح عليها ، فأجابته بأني أريد منك جزائي طلاقى ، لأني كارهة لك من أول الأمر ، ولكن فعلت ما فعلت خشية من الله تعالى شأنه في التقصير في حقك ـ مع أنه في غاية البعد ـ ولذا طلبت المرأة المزبورة أن يكون جزاءها طلاقها مخافة الوقوع في المحرم عليها من ترك حقوق الزوجية ـ يمكن أن يقال : إن الشارع اكتفى بالكراهة التي من شأنها وقوع مثل ذلك ، فلا ينافي تخلفها في بعض الأفراد النادرة ، كما أنه لا يكتفي بالمخالفة والتقصير في حقوق الزوج مع عدم كونه عن كراهة ، ولكن لضعف دين أو غيره ، فتنقح من ذلك كله أن اعتبار‌

__________________

(١) هكذا في النسخة الأصلية المبيضة وفي المسودة « تسمعه » وهو الصحيح.

٤٤

المتأخرين مطلق الكراهة في محله ، ولعله مراد المتقدمين أيضا ، بقرينة عدم ذكر الخلاف في المسألة ، وحينئذ تكون الكلمة متفقة على ذلك.

وكيف كان ف لو قالت : لأدخلن عليك من تكره لم يجب خلعها للأصل ، وظاهر نفي الجناح والحل في الكتاب (١) والسنة (٢) بل لا دليل في شي‌ء منهما على استحبابه وإن قال المصنف وغيره يستحب إلا أنه ـ للتسامح فيه ـ يمكن أن يكون وجهه الخروج من شبهة الخلاف ولما أرسله في المتن من أن فيه رواية بالوجوب وإن كنا لم نقف عليها كما اعترف به غيرنا أيضا ، إلا أنه لا ينافي ذلك الاستدلال على الندب المتسامح فيه بها.

ومن ذلك يظهر لك ضعف المحكي عن الشيخ والقاضي وجماعة من القول بالوجوب إذا قالت ذلك أو خيف عليها الوقوع في المعصية ، استنادا إلى أن ذلك منكر منها والنهي عن المنكر واجب ، وإنما يتم بالخلع.

ورده في المسالك وتبعه عليه غيره بمنع انحصار النهي في الخلع ، بل تأدية بالطلاق المجرد من البذل أقرب إليه وأنسب بمقام الغيرة والنخوة من مراجعتها على بذل المال الحقير.

وفيه ( أولا ) منع كون القول نفسه من دون تعقبه بفعل منها منكرا.

و ( ثانيا ) منع وجوب الفراق عليه فضلا عن الخلع وإن أصرت هي على فعل الحرام ، إذ الواجب من النهي عن المنكر القول أو الفعل الذي لا يستلزم فوات حقه ، وإلا لوجب عليه تحرير العبد المصر على ترك طاعة سيده ، وهو معلوم البطلان إذ لا يجب على الغير رفع يده من ماله أو حقه مقدمة لخلاص الآخر عن الحرام القادر على تركه بدون ذلك.

هذا وظاهر القواعد بل والمتن والنافع اختصاص الخلاف في ذلك فيما لو‌

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ ـ الآية ٢٢٩.

(٢) الوسائل الباب ـ ١ ـ من كتاب الخلع والمبارأة.

٤٥

قالت القول المزبور ، والمحكي عن الشيخ « وإنما يجب الخلع إذا قالت المرأة لزوجها إني لا أطيع لك أمرا ، ولا أقيم لك حدا ، ولا أغسل لك من جنابة ، ولأوطئن فراشك من تكرهه إن لم تطلقني ، فمتى سمع منها هذا القول أو علم من حالها عصيانه في شي‌ء من ذلك وإن لم تنطق به وجب عليه خلعها ».

وعن ابن إدريس حمله على تأكد الاستحباب قال : « وإلا فهو مخير بين خلعها وطلاقها وإن سمع منها ما سمع بغير خلاف ، لأن الطلاق بيده ، ولا أحد يجبره على ذلك ».

وعن ابن زهرة « وأما الخلع فيكون مع كراهة الزوجة خاصة ، وهو مخير في فراقها إذا دعته إليه حتى تقول له : لئن لم تفعل لأعصين الله بترك طاعتك ، ولأوطئن فراشك غيرك ، أو يعلم منها العصيان في شي‌ء من ذلك ، فيجب والحال هذه طلاقها ».

وعن ابن حمزة « وما يوجب الخلع أربعة أشياء : قول من المرأة أو حكمه ، فالقول أن تقول : أنا لا أطيع لك أمرا ، ولا أقيم لك حدا ، ولا اغتسل لك من جنابة ، ولأوطئنّ فراشك من تكرهه ، والحكم أن يعرف ذلك من حالها » والأمر في ذلك سهل بعد ضعف القول المزبور على كل حال.

ويصح خلع الحامل مع رؤية الدم كما يصح طلاقها ولو قيل إنها تحيض لأنها إحدى الخمس التي يطلقن على كل حال ، وقد عرفت أن الخلع طلاق أو كالطلاق في الأحكام ، مضافا إلى‌ خبر زرارة ومحمد (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « الخلع تطليقة بائنة وليس فيه رجعة ، قال زرارة : لا يكون إلا على مثل موضع الطلاق ، إما طاهرا وإما حاملا بشهود » ‌فما عن بعض الأصحاب ـ من أنها إن حاضت لم يجز خلعها وإن جاز طلاقها ـ واضح الضعف وإن قيل : إنه مبنى على كونه فسخا مع عموم ما سمعته من الخبرين (٢) لكنه كما ترى.

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٦ ـ من كتاب الخلع والمبارأة الحديث ٦.

(٢) الوسائل الباب ـ ٦ ـ من كتاب الخلع والمبارأة الحديث ٣ و ٤.

٤٦

وكذا التي لم يدخل بها ولو كانت حائضا ، وتخلع اليائسة وأن وطأها في طهر المخالعة.

ويعتبر في العقد حضور أي شهادة شاهدين دفعة بمعنى سماعهما صيغة العقد على نحو ما سمعته في الطلاق الذي قد عرفت أن الخلع بإيجابه وقبوله فرد منه ، بل إن لم نقل أنه فرد منه يعتبر فيه ذلك لإطلاق المنزلة ، والنصوص (١) الخاصة التي مر عليك بعضها ، فلا إشكال في المسألة وحينئذ ف لو افترقا لم يقع لكن في المسالك « واعلم أن إثبات هذا المطلوب من النصوص على القول بكونه فسخا لا يخلو من إشكال ، ولعل الاستناد إلى الإجماع أسهل » وفيه ما لا يخفى.

ويعتبر فيه أيضا تجريده عن شرط يقتضي تعليقه ، للأدلة التي سمعتها في الطلاق وغيره ، فما في المسالك من أن دليله غير صالح ، وعموم الأدلة على مشروعيته يتناول المشروط ، وورود النص (٢) بجواز تعليق الظهار على الشرط يؤنس كونه غير مناف للصحة في الجملة قد عرفت ما فيه في الطلاق ، فلا حاجة إلى إعادته ، وكفى بالإجماع المحقق هنا دليلا.

ويصح الخلع من المحجور عليه لتبذير أو فلس بلا خلاف بل ولا إشكال ، لإطلاق الأدلة وعمومها السالمة عن معارضة الحجر الذي لا ينافي ذلك ، سواء أذن الولي أم لم يأذن ، وسواء كان العوض بقدر مهر المثل أو دونه ، فان ذلك لا يزيد على الطلاق مجانا الذي هو نافذ منهما ، لعدم منافاته للحجر في المال ، فما عساه يظهر من قواعد الفاضل ـ من اعتبار كون المبذول عوض المثل ، وعن التذكرة التردد في ذلك ـ في غير محله ، لعدم الدليل على الحجر عليه في ذلك ، بل ظاهر الأدلة خلافه.

نعم لا يجوز للمرأة تسليم المال إلى السفيه ، بل تسلمه إلى الولي ، فإن سلمته إلى السفيه وكان الخلع على عين أخذه الولي من يده ، فان تلفت في يد السفيه قبل‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٦ ـ من كتاب الخلع والمبارأة.

(٢) الوسائل الباب ـ ١٦ ـ من كتاب الظهار.

٤٧

علم الولي بالحال ففي المسالك وغيرها « رجع على المختلعة بمثلها أو قيمتها ، لحصول التلف قبل قبض المستحق للقبض ، ولو علم وتركها في يده حتى تلفت مع تمكنه من قبضها ففي ضمان الولي أو الدافع وجهان ، أجودهما الثاني وإن أثم الولي بتركها في يده.

وإن كان الخلع على دين رجع الولي على المختلعة بمثله ، لأنه لم يجر قبض صحيح تحصل به البراءة ، وتسترد المختلعة من السفيه ما سلمته إليه ، فإن تلف قبل رده ففي ضمانه له وجهان تقدما في بابه ، ولا ضمان هنا على الولي وإن أمكنه انتزاعه منه بغير إشكال ، لأنه ليس عين الحق. هذا كله إذا كان التسليم إلى السفيه بغير إذن الولي ، فإن كان بإذنه ففي الاعتداد به وجهان : من أنه تسليم مأذون فيه ممن له الولاية فكان مبرئا ، ومن الشك في نفوذ مثل هذا الإذن إذ ليس للولي أن يفوض إلى السفيه الأمر في ماله إلا أن يفرض مراعاته له بحيث لا يخرج عن يده ، فيتجه البراءة ، وهذا التفصيل حسن ، وأطلق في القواعد البراءة مع إذنه ، ولا يخلو من إشكال ».

قلت : قد تقدم تحقيق الحال في تصرفات السفيه في بابه ، لكن المتجه هنا ضمان السفيه ما دفعته إليه ، إذ ليس هو كالمجنون الذي يكون الدافع إليه أقوى في الإتلاف ، لأنه عاقل ، وقد دفع إليه المال على وجه مخصوص لا مجانا ، فلا ريب في أنه أقوى من السبب ، ومن هنا كان المحكي عن التذكرة نفى البأس عن التضمين مطلقا بعد فك الحجر عنه.

وحينئذ فما في القواعد نحو ما سمعته من المسالك ـ من أنه ليس لها الرجوع على السفيه بعد فك الحجر عنه ، لأنها سلطته على إتلافه بتسليمه ـ لا يخلو من نظر خصوصا مع الجهل بحاله ، بل قد يقال : لها المطالبة لوليه بذلك قبل فك الحجر عنه ، بل قد يقال بحصول التهاتر قهرا معها ، لاشتغال ذمته لها بما اشتغلت ذمتها له ، وبذلك يظهر لك أن ما في المسالك وكشف اللثام تبعا للقواعد لا يخلو من غبار فتأمل ، هذا‌

٤٨

كله في الخالع إذا كان سفيها أو مفلسا.

أما المختلعة السفيهة فلا ريب في فساد بذلها بدون إذن الولي كما في القواعد وغيرها ، وكذا المفلسة مع فرض بذلها شيئا مما تعلق به حق الغرماء ، نعم لو بذلت شيئا في ذمتها صح ، بل قد يقال بصحة ذلك في السفيهة أيضا على وجه تتبعه به بعد فك الحجر عنه كالأمة.

وكذا يصح الخلع من الذمي بل والحربي بلا خلاف ولا إشكال لإطلاق الأدلة وعمومها ، بل لو كان البذل خمرا أو خنزيرا صح معاملة لهم بدينهم وإن لم يجز بين المسلمين نعم لو أسلما أو أحدهما قبل الإقباض ضمنت القيمة عند مستحليه للتعذر الشرعي المنزل منزلة التعذر الحسي ، وقد يحتمل سقوط حقه منه لو كان المسلم هو ، كما سمعت حكاية المصنف له قولا فيما لو أسلمت قبل قبض المهر وكان خمرا.

ولو ترافعا إلينا وكان الخلع بعوض صحيح قبل الإسلام أو بعده منهما أو من أحدهما قبل القبض أو بعده كلا أو بعضا أمضاه الحاكم وإن كان العوض فاسدا.

ثم إن ترافعا بعد التقابض فلا اعتراض وإن كان قبله لم يأمر الحاكم بقبضه ، بل يوجب عليهما القيمة ، وكذا لو أسلما ثم تقابضا ثم ترافعا أبطل القبض ، ولا شي‌ء عليهما إلا إذا كانا علما الحرمة ، فيعزرهما كما عن المبسوط.

وكيف كان ف الشرط الذي يتوقف صحة الطلاق الخلعي على تجرده منه إنما يبطل إذا لم يقتضه العقد ، فلو قال : فان رجعت رجعت لم يبطل بهذا الشرط ، لأنه مقتضى الخلع ، وكذا لو شرطت هي الرجوع في الفدية الذي هو لها شرطت أو لم تشرط ، بل في المسالك « الضابط في كل شرط لا يصح تعليق العقد عليه هو الشرط الخارج عن مقتضى العقد ، فلو شرط ما هو مقتضاه ـ بمعنى أن مضمونه يتناوله العقد وإن لم يشترط ـ لم يضر وكان ذلك بصورة الشرط لا بمعناه ، كقوله : إن رجعت في البذل رجعت في الطلاق ، فان ذلك أمر ثابت مترتب على صحة الخلع شرط أم لم يشرط ، وكذا قولها : على أن لي الرجوع فيه في العدة‌

٤٩

ونحو ذلك » وقد تبعه غيره على هذا الكلام.

لكنه لا يخلو من غبار ، ضرورة أنه إن كان المراد من الشرط في المقام هو ما يلزم به نحو الشرائط الإلزامية في العقود فهو خارج عما نحن فيه من الشرط التعليقي الذي قد تقدم اعتبار تجرد الطلاق عنه ، وإنما هي مسألة أخرى لا مدخلية لها في اشتراط مقتضى العقد وعدمه ، بل مبناها على قابلية الطلاق بل وغيره من الإيقاعات للشرائط الإلزامية على نحو العقود أو خصوص الخلع منه باعتبار مشابهته للعقد ، لعموم « المؤمنون عند شروطهم » (١) ‌وعدمها إلا ما دل عليه الدليل في العتق ، ولعل الأقوى عدم قبول الإيقاع وخصوص الطلاق الذي هو بمنزلة الإقالة في العقود والفسخ بالعيب ونحوه حتى الخلع منه للشرط بالمعنى المزبور ، وذلك لأن الإيقاع معنى متحد يتحقق بانتهاء صيغته ، وليس هو كالعقد المركب من القصدين الذي يقع القبول فيه لما يذكر في الإيجاب من العوض والشرط وغيرهما ، ومن هنا يتسلط على الفسخ بعدم الوفاء بالشرط في العقد ، باعتبار كون المراد عند التحليل عدم الالتزام بالعقد إذا لم يحصل الشرط الذي هو فيه جزء من العوض أو المعوض ، وهذا المعنى لا يمكن التزامه في الإيقاع ، خصوصا في مثل الطلاق الذي هو بمنزلة الفسخ بالعيب ونحوه حتى الخلع منه ، بناء على ما عرفت من عدم إرادة المعاوضة الحقيقية فيه. وعلى كل حال فهذه مسألة خارجة عما نحن فيه.

وإن كان المراد بالشرط هنا هو الذي يقتضي تعليق إنشاء الإيقاع ، فتحقيق الحال فيه أن الإجماع بقسميه على اعتبار التنجيز في العقد والإيقاع ، ولا ريب في منافاة التعليق له ، وقد ذكرنا في السابق أن وجه البطلان في المقتضى تأخير الأثر ـ سواء كان على أمر محتمل أو متيقن الحصول ـ هو منافاته لمقتضى التسبيب المستفاد من أدلة شرعية هذه الأسباب.

وأما لو علق على أمر مقارن كقول : « أنت طالق إن كانت الشمس طالعة » ‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب المهور الحديث ٤ من كتاب النكاح.

٥٠

فقد ذكر بعضهم أنه يبطل أيضا إذ كان مترددا في ذلك بخلاف ما لو كان عالما بحصولها ، فإنه لا تعليق حقيقة فيه ، وإنما هو صورة تعليق ، وكذا الكلام في « إن كانت زوجتي فهي طالق » و « إن كان ملكي فقد بعتك ».

لكن قد يناقش بأن العلم بحصول المعلق عليه لا ينافي صدق تعليق الإنشاء حقيقة ، ضرورة كون الإنشاء كيفية نفسانية ، ولا ريب في اختلافها بحسب التنجيز والتعليق ، سواء كان المعلق عليه معلوم الحصول أو لا ، فيتحقق حينئذ عدم التنجيز المفروض اعتباره في العقد والإيقاع.

اللهم إلا أن يدعى منع الإجماع بقسميه على اعتبار التنجيز بهذا المعنى ، لكنه كما ترى ، إذ التنجيز معنى متحد ، فمع فرض كونه معقد الإجماع الذي هو دليل المسألة يتجه البطلان ، لعدم حصوله قطعا ، إذ لا مدخلية لوجود المعلق عليه وعدمه في صدق التعليق المنافي للتنجيز حقيقة في نحو قوله : « بعتك هذا إن كانت السماء فوقنا والأرض تحتنا ».

وحينئذ فمقتضيات العقد المذكور استثناؤها لا تزيد على المعلق عليه المعلوم الحصول ، فلو قال : « خلعتك إن كان لي الرجوع برجوعك بالبذل » كان تعليقا ، خصوصا إذا كان جاهلا بالحال ، وكذا لو قال : « بعتك إن كان لي الخيار في المجلس » أو « إن كان لي الخيار في الحيوان إلى ثلاثة أيام » بل وكذا لو قال : « بعتك إن كنت أملك الثمن » وهكذا.

نعم لا بأس بأن يقول بعد الخلع : « إن رجعت بالبذل رجعت بالبضع » على وجه لا يكون تعليقا للعقد ، وكذا لو قالت هي بعد البذل : « ولي الرجوع بذلك في العدة » فإنه لا يقتضي التعليق في الإنشاء الذي قد عرفت أنه كيفية نفسانية ، والفرض حصولها من دون تعليق ، فليس هو إلا منجزا ، والشرط المزبور إنما هو لغو ، بل لا يتعقل فيه معنى الشرطية ، وبذلك اتضح لك تحقيق الحال ، وربما يأتي لك زيادة تحقيق.

ومن الغريب أنه في المسالك أعرض عن إشكال المسألة بما ذكرت وذكر‌

٥١

إشكالها بتخلل كلام بين الإيجاب والقبول في الأول على تقدير تأخر القبول ، وتخلله بين الاستدعاء والإيجاب في الثاني على تقدير تقدم الاستدعاء ، وقد تقدم اعتبار الفورية بينهما المعلوم اندفاعه بأن ذلك لا يقدح ، لأنه بناء على الصحة من توابع العقد ومتعلقاته ، فلا يضر فصله ، بل لا فصل فيه ، كما هو واضح. هذا كله في التعليق على الأمر الحاصل المقارن أو على خصوص ما اقتضاه.

أما لو قال : « خالعتك إن شئت » لم يصح وإن شاءت مقارنا لتمام إيجابه لأنه شرط ليس من مقتضاه ورافع للتنجيز المفروض اعتباره ، خصوصا بعد أن كان التعليق على كلي المشيئة الذي لا ريب في بطلانه وإن كان أحد أفرادها المقارن.

وكذا لو قال : إن ضمنت لي ألفا أو أعطيتني أو ما شاكله وكذا باقي أدوات التعليق نحو متى أو مهما أو أي وقت أو أي حين ومن الواضح الفرق بين ذلك وبين قوله : « خالعتك بألف » مثلا من غير أن يتقدم سؤالها وإن كان في المعنى هو مشروطا بقبولها ، لكنه تعليق شرعي لا لفظي من المنشئ الذي لو قال مثلا : « بعتك كذا بكذا إن قبلت » بطل قطعا ، لكونه تعليقا من المنشئ منافيا للتنجيز المفروض اعتباره.

ومن الغريب ما في المسالك حيث إنه بعد أن ذكر البطلان في هذه الأمثلة معللا لها بالتعليق وغيره قال : « وفي الحقيقة هذه الأحكام كلها راجعة إلى صور الشرائط المرتبطة بالألفاظ ، وإلا فالمعنى متحد ، وإثبات الأحكام بمثل هذه الاعتبارات لا يخلو من تكلف ».

وفيه ما لا يخفى من عدم تنقيحه لما هو المدار في المسألة ، وإلا فلا ريب في عدم التنجيز في هذه الأمثلة وما شابهها ، وهي شرائط حقيقية لا صورية ، والفرق بين التعليق الشرعي والإنشائي في كمال الوضوح ، كالفرق بين الإنشاء التنجيزي والتعليقي سواء كان المعلق عليه متوقع الحصول أو معلومه أو هو حاصل فعلا ومن مقتضى‌

٥٢

العقد أو غيره.

وأغرب من ذلك قوله متصلا بما سمعت : « وبقي البحث في تعليق الاستدعاء على الشرط ، وقد تقدم تجويزه وفي التحرير لو قالت إن طلقتني واحدة فلك على ألف فطلقها فالأقرب ثبوت الفدية ، وهو تعليق محض ، إلا أن يقال بأن الاستدعاء يتوسع فيه ، ومن ثم لم يختص بلفظ بخلاف الخلع الواقع من الزوج ، وفي الحقيقة كل لفظ يتقدم منهما فهو معلق على الآخر ، ومن ثم قلنا : إنه مع تأخير القبول من جانبها يكون في الخلع شائبة الشرط ، إلا أنهم اعتبروا في نفس الخلع الذي هو عبارة عن اللفظ الواقع من الزوج تجرده عن صورة الشرط بخلاف اللفظ الواقع منها ، ولو جعلنا الخلع عبارة عن العقد المركب منهما أشكل الفرق ، وعلى ما ذكره في تعريف الخلع في التحرير ـ من أنه عبارة عن بذل المرأة المال للزوج فدية لنفسها ـ يقوى الاشكال ، خصوصا في حكمه الذي حكيناه عنه ».

قلت : هو من غرائب الكلام ، ومناف لما أسلفه سابقا جازما من جواز التعليق في استدعائها الذي هو عنده أحد ركني المعاوضة ، وقد تقدم مناقشتنا له في ذلك ، والتوسع في الاكتفاء عنه بكل لفظ لا مدخلية له في جواز التعليق ، ضرورة ثبوت التوسع في القبول في سائر العقود الجائزة المعلوم عدم جواز التعليق فيها وأغرب من ذلك قوله : « وفي الحقيقة كل لفظ » إلى آخره ، إذ قد عرفت أن ذلك تعليق شرعي لا إنشائي.

نعم قد يقال : إن ذلك منهم بناء على جواز التعليق عندهم في بذلها مؤيد لما قلناه من عدم كونها معاوضة حقيقية مشتملة على الإيجاب والقبول ، بل البذل منها داع على صدور الطلاق منه عليه ، فحينئذ لا يقدح تعليقه ، إذ ليس قبول إيجاب وإنشاء معاوضة ، وإن جرى عليه بعض أحكامها من الفورية مثلا وغيره ، للإجماع أو لأنه المتيقن من صحة الخلع المخالف للأصل ، كما عرفت ذلك مكررا.

٥٣

( النظر الرابع )

( في الاحكام‌ )

( وفيه مسائل : )

( الاولى : )

لو أكرهها على الفدية فعل حراما بلا خلاف ولا إشكال ، ضرورة كونه ظلما محرما ، ويتحقق الإكراه عليها بنحو ما سمعته من الإكراه على الطلاق وغيره من العقد والإيقاع ، إذ الإكراه حقيقة واحدة في الجميع ، وليس منه ترك ما لا يجب عليه من الأمور المتعلقة بالزوجية وإن تأذت بذلك والتجأت إلى الفداء حتى الإغارة بزوجة ، بل وإن قصد بذلك بذلها الفداء ، بل ليس منه ترك حقوقها الواجبة عليه مع فرض عدم قصد إرادة البذل منها بذلك ، نعم متى قصد بالترك بذل الفداء بتحقق الإكراه كما تقدم الكلام في ذلك في باب الشقاق بين الزوجين.

وعلى كل حال ف لو طلق به أي الإكراه صح الطلاق ولم تسلم له الفدية التي فرض الإكراه عليها وكان له الرجعة إن كان المورد مما له الرجعة فيه ، وإلا بطل أصل الطلاق أو كان بائنا على البحث السابق ، أو هو بائن على كل حال ، لكون التقصير في المقام من جانبه.

نعم لا خلاف معتد به في صيرورة الطلاق رجعيا إذا كان مورده كذلك ، ولا يستلزم بطلان الفداء بطلانه ، ولعله لما عرفت من عدم المعاوضة الحقيقية ، بل كان الفداء باعثا ، وربما كان كلامهم في المقام مؤيدا لذلك ، ضرورة كون المتجه على‌

٥٤

المعاوضة حقيقة بطلان أصل الطلاق ، لمعلومية بطلان المعاوضة ببطلان العوض الذي هو أحد أركانها ، ولذا قال في المسالك من غير نقل خلاف : « إنه إن كان الواقع خلعا بطل ، وإن قلنا : إنه طلاق فلا يكون رجعيا ، لأن ماهيته لا تتحقق بدون صحة البذل عندنا » وإن كان قد يناقش بأن عدم صحته خلعا لا ينافي صحته طلاقا فالأولى تعليله بعدم وقوع الطلاق بلفظ « خلعت » بل هو كناية في غير الخلع من الطلاق ، وفيه التأمل الذي ذكرناه سابقا.

المسألة ( الثانية : )

لو خالعها والأخلاق ملتئمة أي لا كراهة بينهما لم يصح الخلع ولا يملك الفدية بلا خلاف ولا إشكال ، بل الإجماع بقسميه عليه ، مضافا إلى السنة (١) المستفيضة أو المتواترة التي قد مر كثير منها ، بل وظاهر اعتبار الخوف من عدم إقامة حدود الله تعالى (٢) المنتفي في الفرض.

ولو طلقها والحال هذه بعوض لم يملك العوض ، ولكن صح الطلاق ، وله الرجعة مع فرض كون مورده رجعيا ، وإلا كان بائنا أو باطلا على البحث السابق بلا خلاف أجده في شي‌ء من ذلك ، بل الإجماع بقسميه عليه مضافا إلى النصوص المستفيضة على عدم حل أخذ شي‌ء منها مع عدم الكراهة.

هذا ولكن في المسالك بعد أن ذكر الحكم الأول قال : « هذا بالنسبة إلى الخلع ، وأما الطلاق بعوض فمقتضى كلام المصنف والجماعة كونه كذلك ، لاشتراكهما في المعنى ، بل عده في المبسوط خلعا صريحا حيث قسمه إلى واقع بصريح الطلاق ، وإلى واقع بغيره ، وجعل الأول طلاقا وخلعا ، وجعل الخلاف في‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١ و ٢ ـ من كتاب الخلع والمبارأة.

(٢) سورة البقرة : ٢ ـ الآية ٢٢٩.

٥٥

الثاني هل هو طلاق أم لا ، وهذا إن كان إجماعا فهو الحجة في حكمه ، وإلا فلا يخلو من إشكال ، لأن النصوص (١) إنما دلت على توقف الخلع على الكراهة ، وظاهر حال الطلاق بعوض أنه مغاير له وإن شاركه في بعض الأحكام » وقد تكرر منه هذا الكلام في المسالك والروضة ، وأنكر عليه سبطه معترفا بعدم الموافق له على ذلك من المتقدمين والمتأخرين.

وقد أطنب في الحدائق في بيان فساده بعد أن حكى ما وقع له من ذلك في المسالك والروضة في مواضع ، وحكى عن بعض معاصريه موافقته له في ذلك ، وأنهم طلقوا بالعوض جملة من النساء مع عدم الكراهة ، فضلا عن الجهل بالحال.

ولقد عثرت على رسالة كبيرة مصنفة في هذه المسألة للعالم الرباني المحقق المدقق الميرزا أبي القاسم القمي قدس‌سره وهو وإن أبدع فيها وذكر فيها أنه منذ أربعين سنة أو أزيد كان على خلاف ما ذكره الشهيد ولكنه ظهر له بعد ذلك صحته ، وصنف الرسالة المزبورة التي هي وإن أبدع فيها لكنها أوفق بفقه الأعاجم المبني على التجشم والتدقيق المعلوم كونه على خلاف طريقة المعتدلين من أهل الفن ، وكان منشأ الوهم ما وقع للمصنف وغيره من ذكر حكم الخلع مستقلا ، وذكر حكم الطلاق بعوض غير مرة ، وما وقع لبعضهم كالفخر والمقداد وأبي العباس في تعريف الخلع مما يقتضي كون الطلاق بعوض مفهوما آخر غير الخلع ، ومن ذلك ونحوه نشأ الوهم في أنه شي‌ء مستقل يوافق الخلع ويفارقه ، بل ظاهر بعض كلمات القمي في رسالته المزبورة أنه حيث يكون موافقا للخلع يقصد به معنى الخلع لا الطلاق ولقد أشرت سابقا إلى ما يفسد هذا كله ، فلاحظ وتأمل.

ولكن نزيدك هنا أنه ليس في شي‌ء من النصوص طلاق العوض أو طلاق الفداء ، نعم‌ فيها « أن الخلع والمبارأة طلاق (٢) » ‌وظاهرها كالفتاوى إرادة الفردية‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١ ـ من كتاب الخلع والمبارأة.

(٢) الوسائل الباب ـ ٥ ـ من كتاب الخلع والمبارأة الحديث ٢ وفيه‌ « الخلع والمبارأة تطليقة بائن ».

٥٦

منه لا المشاركة في الحكم ، بل ظاهر آية الفداء (١) التي هي في مقام الطلاق ، فعلم من ذلك أعمية الطلاق منه على نحو ما قررناه في السلم الذي هو قسم من البيع ، ولا ينافي ذلك تعريف الطلاق سابقا بما لا يشمل الخلع المبني على إرادة تعريف المقابل للخلع منه لا المعنى الأعم الشامل له ولغيره ، وحينئذ فلا يحتاج إلى قصد معنى الخلع بلفظ الطلاق المستعمل في مورد الخلع ، بل يقصد معناه ويكون خلعا باجتماع شرائطه ، كما يكون البيع في مقام السلم سلما ، وحينئذ فلا ريب في أن مفهوم الطلاق بالعوض ومفهوم الخلع متباينان ، ولكن لا مصداق لهما إلا مورد الخلع ، ومن هنا افترق الخلع عن الطلاق بالعوض في صيرورة الثاني رجعيا ببطلان بعض شرائط الخلع بخلاف الأول ، فإنه يبطل من أصله.

ومن الغريب دعوى الفاضل المزبور تحقق الطلاق بالعوض في غير مورد الخلع ، وذكر له أقساما ستة : أولها الطلاق بالعوض ، والثاني الصلح عن الطلاق بكذا ، والثالث الهبة المعوضة بالطلاق ، والرابع الجعالة على الطلاق ، والخامس اشتراط الطلاق بعقد بيع مثلا ، والسادس الطلاق مع شرط العوض ، وذكر أن دليل صحة ما عدا الأول والثاني منها عمومات الصلح والهبة والجعالة والبيع.

ثم أطنب في اقتضاء الطلاق الواقع في المذكورات البينونة إلا مع التقايل والتفاسخ أو يكفي وقوعه وإن جاز له الرجوع به حيث يكون رجعيا ، وتجشم لكونه كالخالع حينئذ بكون المراد في الصلح والهبة والجعالة والشرط في البيع طلاقا لا رجعة له فيه ، فهو حينئذ في قوة اشتراط عدم الرجعة به وإن كان لو لا ذلك لكان رجعيا ، وجعل دليل الأول قوله تعالى (٢) ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) الشامل ولو للعقد الجديد وما دل على الوفاء بالميثاق أو العهد المحتمل إرادته أيضا من الوفاء بالعقود ، ودليل الأخير‌ « المؤمنون عند شروطهم » (٣) ‌الشامل للإلزام بالعوض على جهة‌

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ ـ الآية ٢٢٩.

(٢) سورة المائدة : ٥ ـ الآية ١.

(٣) الوسائل الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب المهور الحديث ٤ من كتاب النكاح.

٥٧

الشرطية ولو في ضمن الإيقاع كالشرط في العتق ، إلى غير ذلك مما ذكره فيها الذي لولا الأدب معه لقلنا فيه ما قلنا.

ومن هنا ذكرنا أنها أوفق بفقه الأعاجم ، وليته بقي على حاله قبل الأربعين سنة ، ضرورة خروج مفهوم الطلاق بعوض عن المذكورات أجمع ، فإنه فيها قد وقع عوضا ، لا أنه بعوض الذي يراد منه أنت طالق بكذا على وفق الخلع ، على أنه يمكن المناقشة في صحة الصلح عن الطلاق ، بل وجعله عوضا عن الهبة ، بل وفي كونه عملا بجعل وإن صرح بجوازه ثاني الشهيدين وبعض من تأخر عنه.

وأغرب من ذلك كله الاستدلال على الأول بعموم ( أَوْفُوا ) (١) وغيره الذي من المعلوم عدم تناوله للمفروض ، وعلى الثاني‌ بعموم « المؤمنون عند » (٢) ‌إلى آخره الذي قد ذكرنا غير مرة عدم تناوله للإيقاع.

وبالجملة هذه الكلمات ونحوها مما لا ينبغي أن تسطر في أثناء كتب الشيعة التي هي معدن أسرار النبوة ، ومبرأة من أمثال هذه الكلمات اللائقة بكتب العامة لا الخاصة.

وأغرب من ذلك كله الاستدلال على صحته بعوض أو بشرط إلزامي بعمومات الطلاق الذي هو مجرد إنشاء الفسخ الذي هو غير قابل للنقل أو الإلزام بشي‌ء.

ومن ذلك كله وغيره ظهر لك الوجه فيما اتفق الأصحاب عليه من عدم صحة الطلاق بعوض إلا في مورد الخلع ، وحينئذ تلحقه أحكامه من الرجوع بالبذل وغيره ، كما هو واضح.

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ ـ الآية ١.

(٢) الوسائل الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب المهور الحديث ٤ من كتاب النكاح.

٥٨

المسألة ( الثالثة : )

إذا أتت بالفاحشة جاز عضلها عندنا لتفدي نفسها لقوله تعالى (١) : ( وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ) وقيل : هو منسوخ بآية الحد (٢) التي هي غير منافية له ولم يثبت النسخ ، بل ولا القائل به منا ، كما اعترف به في المسالك وكشف اللثام ، قال في الأول منهما : « واعلم أن القول الذي حكاه المصنف من كون الآية منسوخة تبع فيه الشيخ في المبسوط ، وهو قول بعض العامة ، وأما أصحابنا فلا يعرف ذلك لهم ولم ينقله أحد من الأصحاب عنهم ، ولكن الشيخ في المبسوط يحكي أقوالهم ويختار منها ما ترجح عنده ، وقد نقل القول بكونها منسوخة بقول وقيل ، وهو ضعيف المستند ».

والمراد بالعضل هنا مضارة الزوجة والتضييق عليها بسوء العشرة لتضطر إلى الافتداء منه بمالها ، لأن أصل العضل على ما عن الهروي وغيره : التضييق والمنع ، يقال : أردت أمرا فعضلني عنه زيد إذا منعه وضيق عليه ، وأعضل في الأمر إذا ضاق.

وأما الفاحشة ففي المسالك « قيل : هو الزنا ، وقيل : ما يوجب الحد مطلقا ، وقيل : كل معصية ـ ثم قال ـ : وكون الحكم على خلاف الأصل ينبغي الاقتصار منه على محل الوفاق ، وهو الأول ، لأنه ثابت على جميع الأقوال ».

وفي كشف اللثام « هي كل معصية كما في التبيان ومجمع البيان وأحكام القرآن للراوندي أو ما مر من أقوالها إذا كرهت الزوج ، كما في تفسير علي‌

__________________

(١) سورة النساء : ٤ ـ الآية ١٩.

(٢) سورة النور : ٢٤ ـ الآية ٢.

٥٩

ابن إبراهيم (١) ».

وفي الحدائق « وأما ما يتعلق بهذه الآية (٢) من الأخبار فلم أقف إلا على ما ذكره أمين الإسلام الطبرسي في كتاب مجمع البيان ، حيث قال ( إِلاّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ) أي ظاهرة ، قيل : وفيها قولان : أحدهما يعني : إلا أن يزنين ، عن الحسن وأبي قلامة (٣) والسدي ، وقالوا : إذا اطلع منها على زنية فله أخذ الفدية منها ، والآخر أن الفاحشة النشوز ، عن ابن عباس ، والأولى حمل الآية على كل معصية ، وهو المروي عن أبي جعفر عليه‌السلام (٤) واختاره الطبري ».

هذا وفي المسالك « هل يتقيد جواز العضل ببذل مخصوص كمقدار ما وصل إليها؟ ظاهر المصنف والأكثر عدمه ، لإطلاقهم الجواز إلى أن تفدي نفسها ، لإطلاق الآية ، ولعدهم هذا خلعا ، وهو غير مقيد ، ورجح الشهيد في بعض تحقيقاته تقييده بما وصل إليها منه من مهر وغيره حذرا من الضرر العظيم ، واستنادا إلى‌ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لزوجة ثابت بن قيس (٥) وقد قالت أزيده : « لا ، حديقته فقط » وفي بعض ألفاظ الخبر « أما الزيادة فلا ، ولكن حديقته » (٦) وحمل كلام الأصحاب على غير صورة العضل ، أو على ما إذا بذلت الزيادة من قبل نفسها ـ ثم قال ـ وفي الاحتجاج من الجانبين معا نظر ، لأن الاستثناء في الآية وقع من إذهاب الأزواج ببعض ما آتوهن لا بجميعه ، والاستثناء إخراج ما لولاه لدخل في اللفظ ، والجميع غير داخل فيه ، فإطلاق الاستثناء لا يفيد ، فلا حجة فيها للفريقين ، وأما الخبر فلا دلالة فيه أيضا على‌

__________________

(١) تفسير على بن إبراهيم ص ٧٣ ونقله في تفسير البرهان ج ١ ص ٣٥٥.

(٢) سورة النساء : ٤ ـ الآية ١٩.

(٣) في هامش النسخة الأصلية ( أبى قدامة خ ل ) الا أن الموجود في الحدائق ومجمع البيان « أبي قلابة ».

(٤) مجمع البيان ج ٢ ص ٢٤ ط صيدا ـ سورة النساء : ٤ ذيل الآية ١٩.

(٥) المتقدم في ص ٣.

(٦) سنن البيهقي ج ٧ ص ٣١٤.

٦٠