جواهر الكلام - ج ٣٣

الشيخ محمّد حسن النّجفي

١

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‌

( كتاب الخلع والمبارأة )

بضم الخاء من الخلع بفتحها الذي هو بمعنى النزع لغة ، وشرعا إزالة قيد النكاح بفدية من الزوجة وكراهة منها له خاصة دون العكس ، وكأنه لأن كلا منهما لباس الآخر كما قال سبحانه (١) ( هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ ) فخلعه إياها نزع منه لها ، والمخالعة بينهما تكون بذلك منه وبفدائها نفسها وكراهتها له.

هذا وفي كشف اللثام « ومختلعة » بمنزلة « طالق » لا « مطلقة » وكأنه أشار بذلك إلى دفع ما يقال من المنافاة بين ذلك وبين ما تقدم من عدم جواز الطلاق بقول : « أنت مطلقة » ووجه الدفع إما بقراءتها بكسر اللام حتى تكون بمنزلة « أنت طالق » أو أن المراد أنها بهذا المعنى وإن كانت بفتح اللام ، كما عساه ظاهر الكفاية ، والأولى اختيار صيغة الماضي.

وكيف كان فالمبارأة بالهمز وتقلب ألفا لغة المفارقة ، يقال : بارأ الرجل ريكه إذا فارقه ، وشرعا إزالة قيد النكاح بفدية منها مع كراهة من الجانبين.

وكيف كان فشرعية الخلع ثابتة كتابا وسنة وإجماعا من المسلمين قال الله‌

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ ـ الآية ١٨٧.

٢

تعالى (١) ( فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ) وأما السنة من طريق الخاصة فمتواترة (٢) وستسمع طرفا منها في أثناء المباحث ، بل لعلها من طرق العامة أيضا كذلك ، منها ما‌ روى عن ابن عباس (٣) « أنها جاءت امرأة ثابت بن قيس بن شماس إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهي بنت عبد الله بن أبي ، وكان يحبها وتبغضه ، فقالت : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا أنا ولا ثابت ، ولا يجمع رأسي ورأسه شي‌ء ، والله ما أعيب عليه في دين ولا خلق ، ولكن أكره الكفر بعد الإسلام ما أصفه بغضا ، إني رفعت جانب الخباء فرأيته أقبل في عدة فإذا هو أشدهم سوادا وأخصرهم قامة وأقبحهم وجها ، فنزلت الآية ، وكان قد أصدقها حديقة ، فقال ثابت : يا رسول الله ترد الحديقة ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما تقولين؟ فقالت : نعم وأزيده ، فقال : لا حديقته فقط ، فاختلعت منه » ‌وربما يستفاد من هذا وغيره عدم المرجوحية الشرعية فيه.

بل ربما حكى عن الشيخ وأبي الصلاح وابن البراج وابن زهرة وجوب الخلع عند تحقق موضوعه ، قال الشيخ في النهاية : « إنما يجب الخلع إذا قالت المرأة لزوجها : إني لا أطيع لك أمرا ، ولا أقيم لك حدا ، ولا اغتسل لك من جنابة ، ولأوطئنّ فراشك من تكرهه إن لم تطلقني ، فمتى سمع منها هذا القول وعلم من حالها عصيانها في شي‌ء من ذلك وإن لم تنطق به وجب عليه خلعها » واحتج له بأن النهي عن المنكر واجب ، وإنما يتم بهذا الخلع ، فيجب ، وأجيب بمنع المقدمة الثانية.

وربما حمل كلام الشيخ على شدة الاستحباب ، بل في الحدائق حمل الوجوب‌

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ ـ الآية ٢٢٩.

(٢) الوسائل الباب ـ ١ وغيره ـ من كتاب الخلع والمبارأة.

(٣) كنز العمال ج ٣ ص ٢٢٤ مع الاختلاف في اللفظ وذكره الرازي في تفسيره ذيل الآية ٢٢٩ من سورة البقرة ـ ج ٢ ص ٣٧٥ ـ ط عام ١٣٠٧ مرسلا مع الاختلاف في صدر الحديث وكذلك الطبري في تفسيره عن ابن عباس ج ٢ ص ٤٦١ ط عام ١٣٧٣ وفيه « أخت عبد الله بن أبى » مع الاختلاف في ذيل الحديث أيضا.

٣

في كلامه على الثبوت ، بمعنى أنه لا يشرع ولا يثبت إلا بعد هذه الأقوال ، نحو ما تضمنته‌ النصوص (١) من أنه « لا يحل له خلعها حتى تقول ذلك » ‌وليس في شي‌ء منها أمر بذلك. وعلى كل حال فلا ريب في ضعفه ومنافاته أصول المذهب وقواعده.

وكيف كان ف النظر في الصيغة والفدية والشرائط والأحكام ، أما الصيغة ف اللفظ الصريح فيه أن يقول : خلعتك على كذا ، أو فلانة مختلعة على كذا بلا خلاف أجده في المقام وإن توقفوا في الجملة الاسمية في العقود ، بل قد عرفت الخلاف في « أنت مطلقة » في الطلاق ، وإن كان التحقيق عندنا ما سمعته غير مرة من عدم الاقتصار على لفظ مخصوص مادة أو كيفية ، بل يكفي كل ما دل على إنشاء الخلع من لفظ صريح في نفسه أو بالقرينة ، كما أشبعنا الكلام فيه في مقامات متعددة ، ولعل وفاقهم على الجملة الاسمية هنا مما يؤيده ، إذ لا دليل بالخصوص عليها في المقام الذي هو كغيره بالنسبة إلى ذلك ، بل وما تسمعه من جميل من الاكتفاء بقول : « نعم » بعد سؤال الرجل ذلك ، بل وغير ذلك مما سمعته في محله ، فلا فائدة في التكرار ، وإن كان الاحتياط لا ينبغي تركه ، فيقتصر على خصوص ما ذكره الأصحاب من الصيغ الخاصة في كل باب.

وعلى كل حال ف هل يقع الافتراق بمجرده من دون اتباع بطلاق؟ المروي مستفيضا صحيحا وغيره نعم‌ قال الباقر عليه‌السلام في خبر زرارة (٢) : « لا يكون الخلع حتى تقول : لا أطيع لك أمرا ، ولا أبر لك قسما ، ولا أقيم لك حدا ، فخذ مني وطلقني ، فإذا قالت ذلك فقد حل له أن يخلعها بما تراضيا به من قليل أو كثير ، ولا يكون ذلك إلا عند سلطان ، فإذا فعلت ذلك فهي أملك بنفسها من غير أن يسمى طلاقا ».

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١ ـ من كتاب الخلع والمبارأة.

(٢) ذكر صدره في الوسائل في الباب ـ ٤ ـ من كتاب الخلع والمبارأة الحديث ٥ وذيله في الباب ـ ٣ ـ منه الحديث ١٠.

٤

و قال الصادق عليه‌السلام في صحيح الحلبي (١) : « عدة المختلعة عدة المطلقة ، وخلعها طلاقها ، وهي تجزئ من غير أن يسمى طلاقا ».

وفي‌ صحيح سليمان بن خالد (٢) « قلت له : أرأيت إن هو طلقها بعد ما خلعها أيجوز؟ قال : ولم يطلقها وقد كفاه الخلع؟ ولو كان الأمر إلينا لم نجز طلاقها ».

وفي‌ صحيح ابن بزيع (٣) « سألت أبا الحسن الرضا عليه‌السلام عن المرأة تبارئ زوجها أو تختلع منه بشهادة شاهدين على طهر من غير جماع هل تبين منه بذلك أو هي امرأته ما لم يتبعها بالطلاق؟ فقال : تبين منه وإن شاءت أن يرد إليها ما أخذ منها وتكون امرأته فعلت ، فقلت : إنه قد روى أنه لا تبين منه حتى يتبعها بطلاق ، قال : ليس ذلك إذا خلعا ، فقلت : تبين منه؟ قال : نعم ».

وصحيحه الآخر (٤) عنه عليه‌السلام « سألته عن المرأة تبارئ زوجها أو تختلع منه بشاهدين على طهر من غير جماع هل تبين منه؟ فقال : إذا كان ذلك على ما ذكرت فنعم ، قال : قلت : قد روى لنا أنها لا تبين منه حتى يتبعها بالطلاق ، قال : فليس ذلك إذا خلعا ، فقلت تبين منه؟ قال : نعم ».

وقال الصادق عليه‌السلام (٥) : « المختلعة التي تقول لزوجها : اخلعني وأنا أعطيك ما أخذت منك ، فقال : لا يحل له أن يأخذ منها شيئا حتى تقول : والله لا أبر لك قسما ، ولا أطيع لك أمرا ، ولآذنن في بيتك بغير إذنك ، ولأوطئن فراشك غيرك ، فإذا فعلت ذلك من غير أن يعلمها حل له ما أخذ منها ، وكانت تطليقة بغير طلاق يتبعها ، وكانت بائنا بذلك ، وكان خاطبا من الخطاب » ‌إلى غير ذلك من النصوص‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من كتاب الخلع والمبارأة الحديث ٤.

(٢) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من كتاب الخلع والمبارأة الحديث ٨.

(٣) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من كتاب الخلع والمبارأة الحديث ٩.

(٤) أشار إليه في الوسائل الباب ـ ٣ ـ من كتاب الخلع والمبارأة الحديث ٩ وذكره في الكافي ج ٦ ص ١٤٣.

(٥) ذكر صدره في الوسائل في الباب ـ ١ ـ من كتاب الخلع والمبارأة الحديث ٤ وذيله في الباب ـ ٣ ـ منه الحديث ٣.

٥

بالخصوص.

مضافا إلى ما دل (١) على حصول البينونة بالخلع الصادق على المجرد عن الطلاق قطعا ، إذ القائل باتباع الطلاق لا يجعله داخلا في مفهومه ، وإنما هو من شرائط البينونة أو جزء سببها الذي هو الخلع المتبع بالطلاق.

بل ربما استظهر من صحيح ابن بزيع ـ بناء على نسخة النصب ، بل ونسخة الرفع مع إضمار ضمير الشأن اسما لليس ـ اعتبار عدم اتباع الطلاق في مفهومه ، ومن هنا يكون جعل قراءة « خلع » فعلا وجعل « إذا » شرطا أولى ، على معنى أن ذلك ليس شرطا إذا خلع ، بخلاف ما إذا بارأ وإن كان قد يناقش بأن كون المراد اعتبار اتباع الطلاق في الخلع ينافي كون ذلك خلعا ، لما ستعرف من أن الخلع طلاق ، لا أن المراد خروجها عن الخلع باتباع الطلاق ، بل أقصاه كون الطلاق حينئذ لغوا.

وربما كان ذلك تعريضا بمن عمل بالرواية المزبورة من العامة ، بل لعل‌ قوله عليه‌السلام : « لو كان الأمر إلينا » ‌إلى آخره إشارة إلى ذلك ، أو إلى عدم مشروعية طلاق المختلعة من دون الرجوع بالفدية والرجوع بالطلاق منه.

وعلى كل حال فلا محيص عن العمل بالنصوص المزبورة بعد ما عرفت ، خصوصا بعد انجبارها بالشهرة العظيمة ، بل يظهر من المحكي عن المرتضى الإجماع عليه.

وقال الشيخ : لا يقع حتى يتبع بالطلاق وتبعه ابنا زهرة وإدريس مدعيا أولهما الإجماع عليه ، بل قال الشيخ : هو مذهب جعفر بن سماعة والحسن بن سماعة وعلي بن رباط وابن حذيفة من المتقدمين ، ومذهب علي بن الحسن من المتأخرين ، وأما الباقون من فقهاء أصحابنا المتقدمين فلست أعرف لهم فتيا في العمل به.

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١ ـ من كتاب الخلع والمبارأة الحديث ٦ و ٩.

٦

وعلى كل حال فلا دليل إلا الأصل المقطوع ، والإجماع الممنوع ، والاحتياط الذي لا تجب مراعاته ، و‌خبر موسى بن بكر (١) عن الكاظم عليه‌السلام قال : « قال علي عليه‌السلام : المختلعة يتبعها الطلاق ما دامت في العدة » ‌الضعيف سندا القاصر دلالة ، ضرورة احتمال كون المراد منه جواز أن تطلق مرة أخرى ما دامت في العدة ، وذلك بأن ترجع في البذل فيراجعها الزوج ثم يطلقها ، بل لعله أولى من دعوى إرادة اتباع الخلع الطلاق ما دامت في العدة الذي لا يقول به الخصم ، إذ هو يعتبر اتباع صيغته بصيغته ، لا أنه يطلقها في العدة.

وأعجب من ذلك حمل تلك النصوص الكثيرة على التقية لمكان معارضة الخبر المزبور ، مستدلين على ذلك بقول الصادق عليه‌السلام لزرارة (٢) : « ما سمعت منى يشبه قول الناس فيه التقية ، وما سمعت مني لا يشبه قول الناس فلا تقية فيه » ‌إذ لا يخفى عليك أن ذلك مع معارضتها بما لا يشبه قول الناس ، وليس إلا الخبر المزبور الذي قد عرفت حاله.

وأغرب من ذلك استدلال ابن سماعة وغيره بأنه « قد تقرر عدم وقوع الطلاق بشرط ، والخلع من شرطه أن يقول الرجل إن رجعت فيما بذلت فأنا أملك ببضعك فينبغي أن لا تقع به فرقة » إذ هو كما ترى ممنوع أصلا وتفريعا ، بل ذلك من أحكامه لا من شرائطه ، وعلى تقديره فليس هو شرطا في الخلع على وجه ينافي تنجيزه ، وإنما هو اشتراط أمر آخر كما تسمعه في المبارأة بناء على اشتراط قول ذلك فيها.

ومن ذلك يعلم ضعف فقاهة ابن سماعة وأن جميلا كان أفقه منه ، فإنه قد‌ روى جعفر (٣) أخوه « أن جميلا شهد بعض أصحابنا وقد أراد ان يخلع ابنته من بعض أصحابنا ، فقال جميل للرجل : ما تقول؟ رضيت بهذا الذي أخذت‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من كتاب الخلع والمبارأة الحديث ١.

(٢) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من كتاب الخلع والمبارأة الحديث ٧ عن عبيد بن زرارة.

(٣) الكافي ج ٦ ص ١٤١.

٧

وتركتها؟ فقال : نعم ، فقال لهم جميل : قوموا ، فقالوا : يا أبا علي ليس يريد يتبعها بالطلاق؟ فقال : لا ».

وكيف كان ففي المسالك وكشف اللثام لا يقع عندنا بفاديتك مجردا عن لفظ الطلاق ، ولا فاسختك ولا أبنتك ( بتتك خ ل ) ونحوها لأنها كنايات فلا يقع بها كالطلاق ، لأصالة بقاء الزوجية ، خلافا للعامة فأوقعوه بجميع ذلك ، وجعلوها كنايات تتوقف على النية ، وبعضهم جعل اللفظين الأولين صريحين فيه ، لورود الأولى في قوله تعالى (١) ( فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ) ولأن الثانية أشد دلالة على حقيقته من لفظ الخلع بناء على أنه فسخ ، وعلى تقدير كونه طلاقا فهو كناية قطعا.

ويضعف الأول بأن مجرد وروده في القرآن أعم من كونه صريحا ، ولأنه لم يتكرر ولا شاع في لسان أهل الشرع ، فلا يلحق بالصريح ، ومثله ورود الإمساك في الرجعة (٢) والتسريح في الطلاق (٣) وفك الرقبة في العتق (٤) فإنها إطلاقات خفية لا تظهر في تلك المعاني إلا بانضمام القرائن.

قلت : كأن هذا الكلام مناف لما ذكره في غير مقام من كتابه ـ حتى في المقام ـ من عدم اعتبار ألفاظ خاصة ، وعدم كونها بلفظ الماضي ، وقياس المقام على الطلاق الوارد فيه (٥) لفظ الحصر المراد منه التعريض بما عند العامة من الكنايات وغيره مع حرمته عندنا مع الفارق كما عرفت ، وانضمام القرائن مع إفادة أصل المعنى الذي هو إنشاء معنى الخلع غير قادح ، كما هو واضح لمن أحاط خبرا بما قدمنا هنا وهناك ، اللهم إلا أن يكون إجماعا هنا بالخصوص.

وكذا لا يقع بالتقايل الذي قد عرفت عدم مشروعيته في عقد النكاح الذي قام الطلاق والخلع مقامه فيه ، نعم لو قال الزوج بعد بذل‌

__________________

(١) و (٢) و (٣) سورة البقرة : ٢ ـ الآية ٢٢٩.

(٤) سورة البلد : ٩٠ ـ الآية ١٣.

(٥) الوسائل الباب ـ ١٦ ـ من أبواب مقدمات الطلاق من كتاب الطلاق.

٨

المرأة : « أقلتك على ما بذلت » مريدا به معنى الخلع ولو مجازا بقرينة إن صح ففيه البحث السابق.

وكيف كان ف بتقدير الاجتزاء بلفظ الخلع هل يكون فسخا أو طلاقا؟ قال المرتضى وتبعه المشهور هو طلاق بل ظاهر ناصريات المرتضى أو صريحه الإجماع عليه بعد أن حكى عن بعض المخالفين أنه فسخ ومع ذلك هو المروي في المعتبرة المستفيضة (١) التي مر عليك شطر منها ، و‌في بعضها « خلعها طلاقها » (٢) وفي آخر « وكانت عنده على تطليقتين » (٣) وفي الثالث « وكان تطليقة بغير طلاق يتبعها » (٤) وفي رابع « الخلع والمبارأة تطليقة بائن وهو خاطب من الخطاب » (٥) ‌إلى غير ذلك.

وقال الشيخ : الأولى أن يقال فسخ لأنه ليس بلفظ الطلاق ، وهو لا يقع عندنا بالكناية ، ولأنه لو كان طلاقا لكان رابعا في قوله تعالى (٦) ( فَلا جُناحَ عَلَيْهِما ) لأن قبله ( الطَّلاقُ مَرَّتانِ ) إلى آخرها ، وبعده ( فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ ) إلى آخرها ، فذكر تطليقتين والخلع تطليقة بعدها ، ولأنها خلت من صريح الطلاق ونيته فكان فسخا كسائر الفسوخ وهو من الشيخ ره تخريج على القول بوقوعه مجردا ، لما عرفت من أن مذهبه الاتباع بالطلاق ، ورده غير واحد بالنصوص المزبورة (٧).

وعلى كل حال ف قد فرعوا على ذلك أن من قال هو فسخ لم يعتد‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٣ و ٥ و ١٠ ـ من كتاب الخلع والمبارأة.

(٢) الوسائل الباب ـ ١٠ ـ من كتاب الخلع والمبارأة الحديث ١.

(٣) و (٤) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من كتاب الخلع والمبارأة الحديث ٢ ـ ٣.

(٥) الوسائل الباب ـ ٥ ـ من كتاب الخلع والمبارأة الحديث ٢.

(٦) سورة البقرة : ٢ ـ الآية ٢٢٩.

(٧) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من كتاب الخلع والمبارأة.

٩

به في عدد الطلقات بخلاف القائل بكونه طلاقا.

قلت : كأن هذا البحث ساقط عندنا ، لتظافر نصوصنا (١) بكونه طلاقا ، بل الفتاوى أيضا كذلك ، بل لو قلنا : إنه فسخ أمكن دعوى إجراء حكم الطلاق عليه للنصوص المزبورة بالنسبة إلى ذلك وغيره ، ومن هنا لم نعرف القائل بذلك من أصحابنا ، نعم مع قطع النظر عن النصوص المزبورة يتجه ما ذكره الشيخ ، لأنه سبب آخر من أسباب الفراق ، خصوصا بعد أن أفردوا له كتابا غير كتاب الطلاق الذي قد عرفت أنه الفراق بقول : « أنت طالق » ومن هنا يظهر لك الحال على التقديرين بحيث يسقط القول الآخر.

كما أن ما في المسالك ـ من أن « هذا الخلاف متفرع على الخلاف السابق فإنا إن اعتبرنا اتباعه بالطلاق فالمعتبر في رفع النكاح هو الطلاق ، وإضافة الخلع إليه قليلة الفائدة ، لأن تملك المال يحصل بالطلاق في مقابلة العوض ، بل بنيته مع سؤال المرأة » ـ لا يخلو من إجمال ، ضرورة إمكان دعوى القائل أن الخلع هو المملك لكن بشرط الطلاق ، كما أنه يمكن جعل المجموع سببا ، بل يمكن القول بتوقف الفراق خاصة على الطلاق الذي لا يصلح للتمليك المحتاج إلى إنشاء من الطرفين ، ولعل هذا الاحتمال كاف في فساد هذا القول.

وكيف كان ف يقع الطلاق مع الفدية بائنا وإن انفرد عن لفظ الخلع وذلك لأن المحصل من النص (٢) والفتوى بل وآية الفدية (٣) التي هي في البذل للطلاق كون الخلع نوعا خاصا من الطلاق الذي لا ينافيه التعريف المزبور المحمول على إرادة الطلاق المقابل للخلع والمبارأة ، لا المعنى الأعم الشامل لهما وإن اختص بلفظ « خلعت » عن باقي أفراد الطلاق ، إلا أنه لا ينافي وقوعه بصيغة الطلاق بعد أن كان فردا ، إذ هو حينئذ كالسلف في البيع في كونه فردا خاصا منه ، حتى إذا‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٣ و ١٠ ـ من كتاب الخلع والمبارأة.

(٢) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من كتاب الخلع والمبارأة الحديث ٢.

(٣) سورة البقرة : ٢ ـ الآية ٢٢٩.

١٠

قلنا بعدم جواز عقد البيع غير السلم بلفظ « أسلمت » و « أسلفت » يجوز عقده بصيغة البيع ، بل الظاهر عدم احتياجه إلى قصد السلمية بعد أن يكون الموضوع موضوعها ، لعدم كونه ماهية أخرى حتى يحتاج إلى قصدها ، بل يكفي في كونه سلما قصد البيعية وكون الموضوع موضوع السلم قصده أو لم يقصده ، بخلاف الماهيات المختلفة ، فإنه مع اتحاد المورد فيها لا بد في ترتب كل واحد منها بالخصوص من قصد الخصوصية ، ولا يكفى قصد المعنى المشترك بينها.

ففي المقام إذا أوقع الطلاق بالفدية مع الكراهة كان خلعا قصده أو لم يقصده بعد أن عرفت أنه قسم خاص منه ، فيكفي في تحققه حينئذ قصد الطلاق فيما هو موضوع الخلع وإن لم يقصد الخلع ، كما يكفي في كون البيع سلما قصد البيع فيما هو موضوع السلم وإن لم يقصد السلمية ، ومن هنا كانت جميع شرائط الطلاق شرائط الخلع ولا عكس ، كالسلم بالنسبة إلى البيع.

كما أنه بذلك يظهر أنه لا وجه لدعوى أعمية الطلاق بالعوض من الخلع فيشترط الكراهة في الثاني دون الأول ، كما وقع من ثاني الشهيدين في المقام وغيره ، ضرورة عدم الدليل ، بل ظاهر الأدلة خلافها ، منها المعتبرة المستفيضة الدالة على عدم حلية أخذ شي‌ء من المرأة مع عدم الكراهة (١) وإطلاق أدلة الطلاق لا يقتضي مشروعيته مع العوض وإن لم تكن كراهة ، خصوصا بعد عدم قابلية الطلاق للتمليك المنافي لأصالة بقاء المال على ملك مالكه ، ولذا لم يقبل شرطية تمليك شي‌ء من الأشياء ، لا من طرف المطلق ولا المطلقة ، وهو واضح ، وسيأتي لك زيادة تحقيق لذلك ، وإن كان مما ذكرنا يظهر لك النظر في كلام جملة من الأساطين فضلا عن غيرهم ، وحينئذ فيمكن إرادة المصنف ما ذكرنا.

بل لعله أيضا هو مراد غيره ممن صحح وقوع الخلع بصيغة الطلاق ، بل في كشف اللثام عن المبسوط نفي الخلاف فيه ، لا أن المراد وقوعه بصيغة الطلاق مقصودا‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١ ـ من كتاب الخلع والمبارأة.

١١

بها الخلع على معنى أنها صيغة أخرى له ، ضرورة أن ذلك يتم لو جعلنا ماهيته غير ماهية الطلاق ، والفرض أنه منه نصا (١) وفتوى ، حتى عدوه في أقسام الطلاق البائن سابقا. وبذلك يظهر لك ما في قول المصنف.

( فروع : )

( الأول : )

لو طلبت منه طلاقا بعوض فخلعها مجردا عن لفظ الطلاق لم يقع على القولين أي القول بأن الخلع فسخ ، والقول بأنه طلاق ، أما الأول فواضح ، ضرورة أنه غير ما طلبته ، وأما الثاني ففي المسالك « لأنه وإن جعلناه طلاقا لكنه طلاق مختلف فيه ، وما طلبته لا خلاف فيه ، فظهر أنه خلاف مطلوبها على القولين ».

وفيه أن الخلاف فيه لا ينافي كونه مصداقا لما طلبته بعد تنقيح الحال فيه ، وهو ثمرة النزاع ، كالنذر واليمين وغيرهما ، وليس معنى « طلقني بعوض » أي اخلعني بصيغة « أنت طالق بكذا » بل المراد حصول الطلاق بالعوض الذي لا فرد له إلا الخلع على الأصح ، فهو عين ما طلبته ، اللهم إلا أن يدعى انسياق الصيغة المخصوصة لكنها واضحة المنع ، فإن أحدا لا يتخيل من قول : « بع لي هذا الكتاب » مثلا إرادة نقله بيعا بصيغة « بعت » بحيث لو باعه بغيرها كان غير موكل فيه ، والفرض أنه بيع كما هو واضح بأدنى التفات ، وهذا أحد المقامات التي أشرنا سابقا إلى عدم تنقيح الحال فيها عندهم ، وإلا فلا إشكال في حصول ما سألته بالخلع بناء على أنه طلاق بعوض.

ولو طلبت خلعا بعوض فطلق به لم يلزم البذل على القول بوقوع الخلع بمجرده فسخا لأنه حينئذ مباين للطلاق ويلزم على القول بأنه طلاق أو أنه‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من كتاب الخلع والمبارأة الحديث ٣.

١٢

يفتقر إلى الطلاق وذلك لكون الطلاق الذي وقع مع فرض حصول موضوع الخلع خلعا منطبقا على سؤالها أو مع زيادة ، ولا يخفى عليك أن ذلك بعينه جار في الأول بعد ما ذكرنا.

( الثاني : )

لو ابتدأ فقال للكارهة أنت طالق بألف أو وعليك ألف لم يصح خلعا مع عدم قبولها نعم صح الطلاق رجعيا في قول ستعرف تحقيقه ولم يلزمها الألف ولو تبرعت بعد ذلك بضمانها أي الالتزام بها ـ لم ينفع في صحته خلعا لأنه ك‍ ضمان ما لم يجب في عدم الالتزام به ، لتظافر النص (١) والفتوى بأن موضوع الخلع تقدم فدائها ، وألحق به مقارنته للطلاق بالعوض ، وعلى كل حال فالتزامها به بعد ذلك خارج عن موضوع الخلع وإلا لبقي موقوفا إلى زمن رضاها أوردها ، وهو معلوم البطلان ، لأن الفضولية لا تجري فيه.

وحينئذ ف لو دفعتها إليه بعد مضي زمان القبول إن صح كانت هبة مستأنفة وإلا كان دفعا فاسدا ، ووجب رد المال إليها إذا كانت قد دفعتها فدية ولا تصير المطلقة بدفعها بائنة حينئذ ، لخروجها عن كونها فدية بها يصير الطلاق بائنا.

وبالجملة ظاهر الأصحاب أنه يعتبر في صيغة الخلع وقوعها على جهة المعاوضة بينه وبين الزوجة ، ويتحقق ذلك بأحد أمرين : تقدم سؤالها ذلك على وجه الإنشاء له ، بأن تقول مثلا : « بذلت لك كذا على أن تخلعني » مثلا فيقول : « خلعتك على ذلك » مثلا أو « أنت طالق بذلك » أو مجردا ناويا العوض ، والثاني ابتداؤه به مصرحا بذكر العوض ، فتقبل المرأة بعده بلا فصل ينافي المعاوضة ، وبدون ذلك يقع‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١ و ٣ ـ من كتاب الخلع والمبارأة والباب ـ ٧ ـ منه الحديث ٤.

١٣

اللخلع باطلا ، بل لا أجد فيه خلافا بينهم.

نعم أطنب في الحدائق مدعيا عدم ظهور النصوص في اعتبار الترتيب المزبور الذي هو كترتيب المعاوضة ، بل يكفي تقدم فدائها ثم طلاقها عليه مع فرض استمرار عزمها على البذل ، والذي غره إجمال النصوص في ترتيب سائر المعاوضات ، لكن من المعلوم أن الأصل عدم الصحة ، ولا ريب في الشك في حصول الخلع بالفرض الذي ذكره ، ولا إطلاق معتد به صالحا للخروج به عن الشك المزبور ، خصوصا بعد ظهور اتفاق الأصحاب عليه وإطلاق لفظ الشراء والصلح على الحال المزبور في النصوص ، فعن أمير المؤمنين عليه‌السلام (١) : « لكل مطلقة متعة إلا المختلعة ، فإنها اشترت نفسها » وخبر البقباق (٢) عن الصادق عليه‌السلام « المختلعة إن رجعت في شي‌ء من الصلح يقول : لأرجعن ، في بضعك » ‌بل وظهور النصوص (٣) في اعتبار إنشاء التراضي بينهما بذلك ، ولا ريب في أنه متى اعتبر الإنشاء من الطرفين كان لهما حكم سائر المعاوضة ، فالفداء في المقام إما معاوضة مستقلة أو قسم من أقسام الصلح ، فلا بد من الترتيب بينهما على الوجه المزبور.

بل الأولى اعتبار الألفاظ الدالة على ذلك بينهما ، وإن كان يقوى الاكتفاء بالفعل منها بقصد الإنشاء ، كما لو دفعت فادية فخلعها على ذلك ، وإن كان الأحوط خلافه ، كما أنه يكتفى منه بإيقاع ما أنشأت الفداء له من الخلع أو الطلاق وإن لم يذكر الفداء لفظا ، نعم ستعرف أن التحقيق عدم كون المقام من المعاوضات الحقيقية وإن ثبت له بعض أحكامها لإجماع إن تم أو غيره.

هذا وظاهر المصنف عدم الفرق بين الصيغتين في الصحة مع حصول القبول منها الجاري على نحو المعاوضة والبطلان مع عدمه ، ولعله لظهور إرادة إنشاء العوضية فيهما عرفا ، فلم يكن مانع من الصحة إلا تخلف ترتيب المعاوضة وفوريتها.

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١١ ـ من كتاب الخلع والمبارأة الحديث ٣.

(٢) الوسائل الباب ـ ٧ ـ من كتاب الخلع والمبارأة الحديث ٣.

(٣) الوسائل الباب ـ ١ ـ من كتاب الخلع والمبارأة والباب ـ ٧ ـ منه الحديث ٤.

١٤

لكن أطنب في المسالك وادعى الفرق بينهما بأن الثانية صيغة إخبار لا صيغة التزام مع عدم سبق البذل من المرأة « بل هي جملة معطوفة على الطلاق ، فلا يتأثر بها ، وتلغو في نفسها ، كما لو قال : « أنت طالق وعليك حج » حتى لو قبلت ، لأن قبولها حينئذ رضا بما فعل ، والفرض عدم وقوع ما يقتضي المعاوضة منه بخلاف ما لو قالت : « طلقني ولك علي ألف » أو « وعلي ألف » فأجابها بذلك ، لوقوع الالتزام منها ، وهو الذي يتعلق بها ، والزوج ينفرد بالطلاق ، فإذا لم يأت بصيغة المعاوضة حمل كلامه على ما ينفرد به ، وكفاه نيته حتى لو أطلق وقال : « أنت طالق » عقيب سؤالها بالعوض كفى ذلك ولزمها المال ، لتحقق المعاوضة ، ووقوعها من جانب من وظيفته الالتزام بها ووقوع التزامه به ـ إلى أن قال ـ : وبذلك ظهر الفرق بين الصيغتين اللتين أتى بهما المصنف ، وجعلهما غير ملزومتين للمال ، فان عدم لزومه في الأولى مشروط بعدم لحوق القبول منها ، إذ الفرض كونها غير ملتمسة منه ذلك بخلاف الثانية ، فإنها لا توجب التزام المال ، سواء قبلت أم لا ، لعدم دلالتها على المعاوضة وضعا وإن قصد ، إذ لا بد من التعبير باللفظ الدال على المعنى المطلوب كغيره من المعاوضات ـ ثم أطنب بما يؤكد ذلك إلى أن قال ـ : ويتفرع على ذلك ما لو قال الرجل بعد قبولها : « قصدت في الثانية العوضية ، وأردت بقولي : ولي عليك ألف ما يعينه القائل بقوله : « طلقتك على ألف » فإنه لا يصدق ، لأن ذلك خلاف مدلول اللفظ ، فلا يكفى قصده في لزوم العوض ، ولو وافقته المرأة فوجهان : من أن اللفظ لا يصلح للالتزام ، فلا يؤثر مصادقتها على قصده ، ومن أن الحق عليها ، ومن الجائز أن يريد لي عليك ألف عوضا عنه ونحو ذلك ، والأجود الأول » إلى آخر ما ذكره.

وقد اشتمل على غرائب وإن حكى عن الشيخ رحمه‌الله الموافقة على بعض ذلك ، منها دعوى ظهور الصيغة في الإخبار ، ومنها عدم الاعتبار بها حتى مع قصده إنشائية العوضية بها ، بل جعل الأجود ذلك وإن وافقته المرأة ، مع أنه يكتفى في العقود بأي لفظ ولو مجازا ، بل اكتفى في المقام بالنية كما سمعت على تقدير الموافقة ، والفرض أن الحق منحصر فيهما ، كما أن خطاب المعاوضة كذلك لا ينفى احتمال‌

١٥

عدم الاجتزاء بذلك.

وبالجملة فما أدرى ما الذي دعاه إلى هذا الاطناب مع خروجه عن السداد والصواب؟! خصوصا على مذهبه في غير المقام فضلا عنه الظاهر من النصوص (١) توسعة الأمر فيه.

ولو قال : « أنت طالق على أن عليك ألفا » صح مع تقدم سؤالها ذلك أو تأخر قبولها بحيث لم يخرج عن قبول المعاوضة ، ودعوى أنها صيغة شرط في الطلاق ـ فيكون قد علق طلاقها على شرط هو أن يكون عليها ألف لا على وجه المعاوضة ـ كما ترى خلاف المنساق عرفا منها.

وأوضح من ذلك فسادا دعوى البطلان في جميع صور تأخر القبول من المرأة ، لأن فيه شائبة التعليق باعتبار ترتب الطلاق على قبول بذل المال كباقي الشرائط ، بخلاف ما لو تقدم بذلها ، فان الواقع حينئذ يصير معاوضة منجزة شبه الجعالة ، لأنها تبذل المال في مقابلة ما يقع من الطلاق ، فإذا أتى به وقع موقعه وحصل غرضها ، كالجعالة التي تبذل في مقابلة ما يستقبل من العمل.

وفيه ما قد عرفت سابقا من أن التعليق المنافي المقتضى لمفارقة المسبب سببه ، والشائبة المزبورة هي مقتضى المعاوضة ، فإن من ابتدأ البيع وقال : « بعتك هذا » معناه أنك إن أعطيتني العوض ملكتك المعوض ، ولكنه ليس تعليقا وإنما هو تحليل للقصد بالمعاوضة ، ومثله غير قادح قطعا.

وكيف كان فالبحث حينئذ في صحة الطلاق في جميع الصيغ المقصود بها المعاوضة وعدمه متحد ، وقد صرح جماعة بصحة الطلاق مع فرض فساد العوضية بعدم القبول أو غيره ، وكونه رجعيا إن صادف موضوعه وإلا كان بائنا ، لكن أشكله غير واحد بأن المقصود المقيد الذي ينتفي مطلقه بانتفاء قيده ، فدعوى صحة المطلق الذي لم يقصد منافية لقاعدة ما قصد لم يقع وما وقع لم يقصد.

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١ ـ وغيره ـ من كتاب الخلع والمبارأة.

١٦

ودعوى انحلال المقام إلى قصدين وإنشاءين : أحدهما إنشاء الطلاقية ، والثاني إنشاء العوضية ، وفساد أحدهما لا يقتضي فساد الآخر ـ وذلك لعدم اعتبار العوضية في الطلاق ، لا أقل من أن يكون العوض هنا كالنكاح الذي قد عرفت عدم بطلانه بفساد المهر ـ يدفعها منافاتها للوجدان الذي لم يفرق بين تقييد المقام وتقييد غيره ، وعدم اعتبار العوض فيه لا ينافي كون القصد المقيد الذي هو قصد واحد عرفا ، والقياس على النكاح لا يوافق مذهبنا ، ومن هنا مال جماعة إلى عدم الصحة.

نعم قد يقال : إنه لا عوضية حقيقة في المقام ، ولذا لو رجعت بالبذل لم يبطل الطلاق ، بل يكون رجعيا نصا (١) وفتوى ، بل ستسمع عدم الخلاف بينهم في عدم فساد الطلاق لو كان البذل مما لا يملكه المسلم أو مغصوبا أو غير ذلك مما يقتضي عدم صحة بذله ، وليس ذلك إلا لعدم المعاوضة المصطلحة التي من المعلوم انتفاء موضوعها بانتفاء عوضها ، وإنما هي معاوضة بالمعنى الأعم ، أى أن البذل منها باعث على إيجاد الطلاق الذي هو من قسم الإيقاع الذي لا يملك عوضا ولا شرطا ، فهو حينئذ على معناه الأصلي ، ولم ينقلب طلاق الخلع إلى قسم العقود حتى يكون « فلانة طالق ـ مثلا ـ بكذا » إيجابا ، وقولها : « قبلت » قبولا ، ولكن الشارع ذكر في هذا القسم من الإيقاع صحة البذل الباعث على إيقاعه ، واعتبر فيه المقارنة له ، وارتفاع البينونة بارتفاعه ، فهي حينئذ أحكام توهم من توهم منها إجراء حكم المعاوضة عليها ، وغفل عما سمعت من الصحة نصا (٢) وفتوى مع الرجوع بالبذل وغيره مما عرفت.

وبذلك يتجه ما ذكره المصنف وغيره من الأساطين في المقام وفي غيره مما ستسمع ، بل وفي :

__________________

(١) و (٢) الوسائل الباب ـ ٧ ـ من كتاب الخلع والمبارأة.

١٧

الفرع ( الثالث : )

الذي هو إذا قالت : طلقني بألف كان الجواب على الفور الذي تقتضيه المعاوضة لما عرفت فإن تأخر على وجه ينافي ذلك لم يستحق عوضا وكان الطلاق رجعيا مع فرض اجتماع شرائطه ، وإلا كان بائنا.

فمن الغريب ما في المسالك من ميلة إلى البطلان أولا لكن قال في المقام : « وظاهر كلام المصنف عدم الفرق بين العالم بالحال والجاهل ، وهو يتم بغير إشكال على تقدير كون الطلاق رجعيا كما أطلقه ، أما لو كان بائنا كطلاق غير المدخول بها مع تصريحه بقصد العوض ولم يتعقبه قبولها على الفور فالحكم بصحة الطلاق على هذا الوجه بغير عوض لا يخلو من إشكال ، لعدم القصد إليه ، نعم يتجه كلامه على إطلاقه على تقدير أن تقول : « طلقني بألف » فيتراخى ثم يقول : « أنت طالق » ولا يذكر العوض ، فإنه حينئذ طلاق مجرد عن العوض فلا يبعد القول بنفوذه كذلك ، أما مع تصريحه بالعوض وجهله بالحال وتعذر الرجعة فهو محل الاشكال ، وما وقفت هنا لأحد من المعتمدين على شي‌ء يعتد به » إذ هو كما ترى ، ضرورة عدم الفرق في القصد بين كون الطلاق رجعيا وغيره ، ولعل عدم ذكر أحد من المعتمدين له لوضوح الحال فيه بعد تنقيح أصل المسألة ، من غير فرق بين الرجعي وغيره كما هو واضح.

ولا فرق في بذل المرأة بين « طلقني بكذا » وبين « علي كذا » أو « على أن علي كذا » أو « على أن أعطيك كذا » بل في المسالك « وفي معناها « إن طلقتني » أو « إذا طلقتني » أو « متى ما طلقتني فلك كذا » بخلاف قول الرجل : « مهما أعطيتني كذا » أو « إن أعطيتني كذا » أو غير ذلك من أدوات الشرط ، فإنه لا يقع » وإن كان قد يناقش بعدم الفرق بينهما في منافاة هذا التعليق للإنشاء وعدمه ، ولا ريب في أن الأحوط عدمه فيهما إن لم يكن الأقوى ، كما أن الأحوط ذكر العوض بصيغة الطلاق أو الخلع مع تقدم بذلها ، وإن كان الأقوى الاكتفاء بنيته.

١٨

( النظر الثاني )

( في الفدية )

التي هي العوض عن نكاح قائم لم يعرض له الزوال لزوما ولا جوازا لكونه افتداء ، والافتداء إنما يصح إذا كانت في قيد النكاح ، ولما عرفت من أنه طلاق فيعتبر في محله ما يعتبر فيه ، ومن هنا لا يقع الخلع عندنا في البائن ، بل في القواعد « ولا بالرجعية ولا بالمرتدة عن الإسلام وإن عادت في العدة » وفي كشف اللثام « خلافا للعامة ، فلهم قول بالوقوع بالرجعية ، لكونها كالزوجة ، وبالمرتدة موقوفا » قلت : قد عرفت فيما تقدم ما يقتضي احتماله في الأخيرة عندنا.

وكيف كان فقد ذكر غير واحد من الأصحاب بل لا أجد فيه خلافا بينهم أن كلما صح أن يكون مهرا صح أن يكون فداء في الخلع ، ومقتضاه أن كلما لا يصح أن يكون مهرا لا يصح أن يكون فداء حتى يتم كونه ضابطا ، لكن لا أجد ذلك في شي‌ء من النصوص ، نعم‌ في بعضها (١) « حل له أن يأخذ منها ما وجد » وفي آخر (٢) « يحل له أن يخلعها بما تراضيا عليه من قليل أو كثير » وفي ثالث (٣) « حل له أن يأخذ من مالها ما قدر عليه » وفي صحيح زرارة (٤) عن الباقر عليه‌السلام « المبارأة يؤخذ منها دون المهر ، والمختلعة يؤخذ منها ما شئت أو ما تراضيا عليه من صداق أو أكثر ، وإنما صارت المبارأة يؤخذ منها دون المهر والمختلعة يؤخذ منها ما شاء لأن المختلعة تعتدي بالكلام وتتكلم بما لا يحل لها » ‌إلى غير ذلك ، مضافا إلى عموم الآية (٥) ولعلهم أخذوا الضابط‌

__________________

(١) و (٢) و (٣) و (٤) الوسائل الباب ـ ٤ ـ من كتاب الخلع والمبارأة الحديث ٦ ـ ٥ ـ ٤ ـ ١

(٥) سورة البقرة : ٢ ـ الآية ٢٢٩.

١٩

المزبور من نصوص المهر (١) فإنه ملحوظ ولو بعنوان جواز الزيادة عليه ، أو لمشاركة الفدية له في عدم اعتبارها في مفهوم الطلاق كعدم اعتباره في مفهوم النكاح ، أو لأنه لا يعتبر فيه أزيد مما يعتبر في أصل المعاوضات من كونه متمولا معلوما في الجملة عينا أو دينا أو منفعة قليلا كان أو كثيرا مقدورا على تسليمه.

وعلى كل حال ف لا تقدير فيه ، بل يجوز ولو كان زائدا عما وصل إليها من مهر وغيره بلا خلاف أجده فيه نصا (٢) وفتوى.

فتحصل مما ذكرنا من مقتضى الكتاب (٣) والسنة (٤) جواز الفداء بكل متمول قل أو كثر ، معلوما كان أو مجهولا ، إلا جهالة لا تؤول إلى العلم ولم يثبت شرعية الشارع لها في المعاوضات وإن كانت من قبيل ما نحن فيه ، مثل شي‌ء من الأشياء ، أو بعض ما يتمول أو نحو ذلك مما هو مثار النزاع ، ولا تفي أدلة المقام بشرعيته ، فيبقى على أصل عدم الانتقال وعدم الخلع وغيرهما من الأصول.

لكن قال المصنف وتبعه غيره : إنه إذا كان غائبا فلا بد من ذكر جنسه ككونه فضة أو ذهبا مثلا ووصفه مع اختلاف أوصافه وقدره كقفيز ونحوه.

وفيه أنه لا دليل على اعتبار ذلك ، بل ظاهر الأدلة السابقة عموما وإطلاقا خلافه ، بل هو مناف لقوله وقول غيره يكفي في الحاضر المشاهدة التي يمكن فرض مقدار ما يحصل من العلم منها في الغائب الذي هو مال معين لكن لا يعرف وزنه ولا عدده ولا جنسه.

وأغرب من ذلك التزام عدم الصحة فيما لو بذلت له مالها في ذمته من المهر أو الأعم منه ومن غيره ولم يعلم مقداره ، لأنه من الغائب الذي يعتبر معرفة مقداره ،

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١ ـ من كتاب الخلع والمبارأة الحديث ٩ والباب ـ ٤ ـ منه الحديث ١ والباب ـ ٧ ـ منه الحديث ٤.

(٢) و (٤) الوسائل الباب ـ ٤ ـ من كتاب الخلع والمبارأة.

(٣) سورة البقرة : ٢ ـ الآية ٢٢٩.

٢٠