جواهر الكلام - ج ٣٣

الشيخ محمّد حسن النّجفي

( الثالث : )

لو كان عليه كفارة ولم يدر أهي عن قتل مثلا أو عن ظهار فأعتق ونوى القربة والتكفير أجزأ بلا إشكال. لما عرفت من إجزاء هذه النية مع العلم بنوع الكفارة وتعددها ، فمع الجهل واتحادها أولى ، بل في المسالك « ولو اشترطنا التعيين مع العلم احتمل سقوطه مع الجهل ـ كما في هذه الصورة ـ ووجوب التردد بين الأمرين كالصلاة المشتبه حيث وجب تعيينها ابتداء فكذا مع الجهل ، فتردد النية بين الأقسام المشكوك فيها ، وهو أولى ».

وفيه أن المتجه سقوطه حتى مع العلم ، لأنه متعين في نفسه ، والتعيين إنما يجب مع التعدد ، لتوقف صدق الامتثال عليه بخلاف المتعين ، فإنه يكفي في صدق امتثاله ملاحظة الأمر المتعلق به واقعا ، وليس في الأدلة وجوب التعرض لخصوص السبب في النية ، ضرورة صدق امتثال كفارة النذر مثلا بقصد الأمر الذي في ذمته ، وكان في الواقع نذر مثلا ، كما هو واضح.

وقد يفرق بين الظهرية والعصرية وبين المقام بإمكان القول بوجوب ملاحظة القيود المزبورة في نفسها ، لا للتعيين لدخولها في نفس المأمور به ، فيتوقف صدق الامتثال عليها ، بخلاف المقام المعلوم خروج ملاحظة السبب عن المكلف به الذي هو الكفارة له فتأمل جيدا ، فإنه لا يخلو من دقة.

هذا وفي حاشية الكركي على الكتاب « ولو قلنا باشتراط التعيين وجب الترديد بينهما » ولا يخفى ما فيه ، ضرورة عدم كونه تعيينا حينئذ ، بل إما أن يقال بسقوطه أو لا بد من التكرار بناء على حصول الاحتياط به ، والله العالم.

٢٤١

( الرابع : )

لو شك فيما في ذمته بين نذر وكفارة ظهار مثلا فنوى التكفير أو النذر لم يجز ، لأن النذر لا يجزئ فيه نية التكفير وهو لا يجزي فيه نية النذر ، نعم لو نوى إبراء ذمته من أيهما كان مع الترديد بينهما وبدونه كما سمعته سابقا جاز لكونه قدرا جامعا بينهما مختصا بهما مع فرض عدم احتمال غيرهما في ذمته ، بل يقوى الاكتفاء بذلك مع تمكنه من العلم ، لما سمعته سابقا من اتحاد المكلف به وتعينه في نفسه ، بل وإن لم يتشخص عنده بما عينه به واقعا ، وما سمعته من الكركي سابقا قد عرفت ما فيه وإن ذكره هنا أيضا.

ولو نوى العتق مطلقا أي مجردا عن الصفة التي تقتضي تشخيصه في الواقع لم يجز ، لأن احتمال إرادة التطوع أظهر عند الإطلاق ، ومع فرض عدم نيتها أقصاه الإطلاق المجرد عن التشخيص ، وكذا لو نوى الوجوب ، لأنه قد يكون لا عن كفارة ولا عن نذر ، فهو غير قابل في حد ذاته للتشخيص ، لأنه من صفات الأمر ، نعم لو نوى العتق الواجب مريدا به التشخيص أجزأ ، بل لو قصد التميز بالوجوب كان كذلك وإن كان الأول أظهر في إرادة التشخيص.

ولعله لذا فرق في القواعد بين نية الوجوب والعتق الواجب ، فلا يجزئ الأول ويجزئ الثاني ، فما في المسالك ـ من أن الفرق بينهما غير واضح ـ لا يخلو من نظر ، والأمر سهل بعد معلومية كون المدار على نية ما يحصل به التشخيص واقعا وإن لم يعلم به بعينه ، لصدق الامتثال ، والله العالم.

٢٤٢

( الخامس : )

لو كان عليه كفارتان مثلا وله عبدان فأعتقهما عنهما ولكن كان كيفية ذلك بأن نوى عتق نصف كل واحد منهما عن كفارة قاصدا للسراية في النصف الآخر أو لم يتعرض لذلك على حسب ما سمعته سابقا صح ، لأن كل نصف تحرر عن الكفارة المرادة به بقصده تحرره لها ويحرر الباقي عنها بالسراية التي قد عرفت الحال فيها.

وكذا لو أعتق نصف عبده عن كفارة معينة صح لأنه ينعتق كله دفعة كما تقدم الكلام في ذلك كله وفي المحكي عن ابن الجنيد ، وليس المراد من العبارة عتق كل من نصفي كل من العبدين عن كفارة بمعنى نية نصف عن واحدة والنصف الأخر عن الآخرى ، وهكذا الحال في العبد الآخر ، كما ادعى في المسالك أنه المتبادر من العبارة أو هي شاملة له ، ضرورة فساده على هذا التقدير ، بل لا موضوع للسراية والرغبة فيه ملفقة ، ومن المعلوم عدم إجزائها حينئذ ، فليس المراد من العبارة إلا ما ذكرناه ، ويكون هو حينئذ عين المسألة السابقة.

ولكن المصنف أعاده لبيان حكم ما ذكره بقوله أما لو اشترى أباه أو غيره ممن ينعتق عليه ونوى به التكفير قال في المبسوط يجزئ للصدق ، إذ العتق وإن كان قهريا إلا أنه اختياري السبب ، مثل عتق النصف المقتضي للسراية ، ومع فرض استمرار النية تصادف ملكه الذي هو شرط أو سبب في الانعتاق ، وفي الخلاف لا يجزئ ، وهو أشبه عند المصنف بأصول المذهب وقواعده ، لأن نية العتق قبل الشراء لا أثر لها ، إذ هي تؤثر في ملك المعتق وإن تبعه غيره ، كما سمعته في العبد المشترك لا في ملك غيره وبعده تصادف حريته ف ان السراية سابقه على النية ، وحينه ملكا (١) غير مستقر ف على كل حال‌

__________________

(١) هكذا في النسخة الأصلية المسودة والمبيضة والاولى « كان ملكا ».

٢٤٣

لا يصادف حصولها ملكا يصلح للعتق عن الكفارة.

وقد استشكل في ذلك الفاضل في القواعد ، وجعل منشأ الاشكال ما سمعته من التعليلين ، لكن في إيضاح ولده « الأصح عدم الإجزاء ، لأن الملك هنا سبب معد للعتق لا من الأسباب الفاعلة ، لأن السبب الفاعل هنا النسب ، والملك جاعل المحل قابلا لتأثير النسب في العتق ، وفاعل قبول المحل لأثر صادر عن غيره ليس بفاعل لذلك الأثر ، فلا يصدق عليه أنه أعتق ، ولأن المكلف به مباشرة العتق ، ومباشرة العتق إنما تكون بفعل سببه المؤثر ، والقابل لا يصلح هنا للتأثير ـ قال ـ : ولقد عرضت هذا على المصنف واستحسنه ـ وقال ـ : الذي افتى به أنه لا يجزئ ».

وفيه إمكان منع كون الفاعل النسب ، إذ قد يقال : إنه الملك بشرط النسب أو هما معا العلة التامة ، بل مع قطع النظر عن ذلك يصدق نسبة التحرير إليه على نحو غيرها من النسب الصادرة من الأسباب كما أومى إليه فيما تسمعه من المسالك.

وكأن الشهيد في غاية المراد قد عرض به ، حيث استدل على الإجزاء بأن « الملك سابق على السراية قطعا ، لسبق العلة على المعلول ، والسبب سابق على الملك ، ضرورة سبق السبب على المسبب ، والنية مقارنة للسبب إلى حين الشراء ، فالسراية لم تصادف إلا عبدا معتقا عن كفارة فلا سراية ـ ثم قال ـ : وحينئذ نمنع وجود العتق هنا إلا عن الكفارة لأنه إنما ينعتق لو لم يوجد سبب أسبق ، وقد وجد نية الكفارة » ولا يخلو من قوة وإن ناقشه في كشف اللثام بأنه لو لم يكن العتق للقرابة لافتقر إلى صيغة ، والتزامه بعيد جدا ، على أن نية العتق ليست سببا فيه ، والأسباب الشرعية لا تتمانع.

ولكن في المسالك بعد أن ذكر ما سمعته في غاية المراد قال : « وهذا متجه بشرط استصحاب النية فعلا إلى عقد البيع ، لتصادف الملك وتصدق مقارنتها للسبب إلى حين الملك ، وما ذكروه من الفرق بين هذه وعتق المشترك بأن النية إنما أثرت‌

٢٤٤

في المملوك أما ما سرى إليه العتق من ملك الغير فلم يكن مملوكا حال النية ، وإنما ترتب السراية على عتق البعض وحكم بملك المعتق له ضمنا قبل السراية فالأمر هنا كذلك ، بل الملك هنا حقيقي لا ضمني ، لأن الانعتاق مسبب عن ملك القريب له ، فإذا قارنته النية فقد قارنت العتق واشتركا في مقارنتها السبب ، وربما فرق بين الأمرين بأن العتق بالنسبة إلى السراية إلى حصة الشريك سبب فاعلي له ، والشراء بالنسبة إلى عتق القريب سبب معد لا فاعل ، لأنه يجعل المحل قابلا لتأثير النسب في العتق ، والسبب الفاعلي فيه هو النسب ، وفاعليته قبول المحل لأثر بفعل غيره غير فاعل لذلك الأثر ، والمعتبر في العتق المطلوب في الكفارة كون المعتق فاعلا له كما مر ، وفيه نظر ، لاشتراك الأمرين في أصل السببية التي لها مدخل في التأثير في العتق ، والفاعل له حقيقة هو الله ، وإنما هذه اعتبارات نسبها الله تعالى علامة لحكمة لا فاعلة في الحكم ، فإما أن يصح العتق في الكفارة فيهما نظرا إلى السببية أو لا فيهما ، لعدم مباشرته للصيغة التي جعلها الشارع موجبة للعتق بذاتها ».

قلت : وهو ما أشرنا إليه سابقا من الاتحاد في صدق النسبة عرفا في الجميع ، إذ التحرير الجعل حرا ، وهو يعم ما كان بالصيغة وغيره ، وهنا قد حرره بالشراء ، ولما كان عقد البيع هنا كافيا في العتق جري مجرى صيغة الإعتاق ، فكما تكفي النية عندها تكفي عنده ، وإن ضويق في الاكتفاء بها فلينوه مستمرا إلى ما بعده ، ليصادف الملك ، كما أشرنا إليه سابقا ، فالمتجه حينئذ الاجزاء إلا أن يكون إجماعا ، كما عساه يظهر من عبارة المبسوط ، حيث قال : « لا يجزئ عندنا » ومن الغريب أن الموجود من عبارته ذلك ، وقد حكى المصنف عنه في المتن القول بالإجزاء اللهم إلا أن يكون له مقام آخر.

٢٤٥

( الشرط الثاني : )

تجريده عن العوض ف لا تجزئ المكاتبة بنوعيها بل لو قال لعبده : « أنت حر وعليك كذا » لم يجز عن الكفارة اتفاقا كما في كشف اللثام ، ول علة لما ذكره غير واحد ، بل ظاهرهم أنه كالمفروغ منه من أن قصد العوض ينافي الإخلاص المعلوم اعتباره في العبادة التي قد عرفت كون الكفارة منها.

وكذا لو قال له قائل : « أعتق مملوكك عن كفارتك ولك علي كذا » فأعتقه لم يجز عن الكفارة أيضا إجماعا كما في المسالك فيه وفي سابقه ، لما عرفته ، وما عن بعض الشافعية ـ من الصحة عن الكفارة وسقوط العوض ، لحصول العتق ، فهو حينئذ نحو قول القائل : « صل الظهر عن نفسك ولك علي كذا » فصلى أنه تجزؤه صلاته ولا يستحق العوض ـ واضح الفساد بعد ما عرفت ، بل لعل الحكم في المقيس عليه كذلك إذا فرض أنه صلى بقصد العوض المنافي للإخلاص.

نعم قد يشكل أصل التعليل في الصورتين بأن ذلك إن نافى الإخلاص المعتبر في نية الكفارة نافاه أيضا في نية العتق المجرد عنها بناء على أنه عبادة ، ضرورة عدم الفرق حينئذ بين النية فيهما ، وظاهرهم المفروغية من الصحة مع التجرد عن الكفارة ، بل الجعل في الصورة الثانية إن كان منافيا للإخلاص في النية لم يصح جعله في الحج والصلاة وغيرهما من العبادات ، وكذا الإجارة المعلوم فساد التزامه ، لاستفاضة النصوص (١) في الإجارة على الحج.

ودعوى الفرق بين المقام وبينه ـ بأن الجعل هنا على فعل راجع إلى نفس المجعول له بخلاف الأول ـ يدفعها أن ذلك يقتضي فساد الجعالة لا فساد النية ، مع‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٢ و ٣ و ٤ و ١٠ و ١١ ـ وغيرها من أبواب النيابة في الحج ـ من كتاب الحج.

٢٤٦

أن ظاهرهم عدم الإشكال في الصحة من هذه الجهة ولعله لإطلاق أدلة الجعالة (١) وإمكان ترتب نفع له على ذلك ، فالتحقيق الاستناد في أصل الحكم إلى الإجماع الذي سمعته ، أو إلى دعوى ظهور أدلة الكفارة في التحرير المجرد عن العوض.

نعم في وقوع العتق لا عنها تردد من تغليب الحرية وصدور الصيغة من أهلها في محلها كما عن المبسوط ، بل في غاية المراد « هذا هو الأصح » وفي كشف اللثام « هو الأجود » ومن أنه إنما نوى المقيد الذي يرتفع المطلق ـ الذي لم ينو ـ بارتفاعه ، إذ لا عمل إلا بنية ، ولعله الأقوى وفاقا للدروس وحاشية الكركي.

ولكن لو قيل بوقوعه هل يلزم العوض؟ قال الشيخ : نعم ، وهو حسن في الصورة الأولى ، لعموم ما دل (٢) على صحة الشرط فيها ، والبطلان عن الكفارة لا يقتضي بفساد الشرط الذي صحته تبع لصحة العتق لا لصحة كونه عن الكفارة.

أما الثانية فلا يخلو من وجه بناء على ما عن المبسوط من أنه يقع عن الباذل ، ويكون ولاؤه له ، وإن كان فيه ما فيه أيضا ، أما على القول بكونه عن المالك فقد يشكل بأنه لم يقع المعوض عنه ، وهو العتق عن الكفارة ، ولا وقع العتق له ، فلا يستحق العوض الذي هو الجعل على ذلك ، ومن هنا قيل : إن الحكم بلزوم العوض وعدم الإجزاء عن الكفارة مما لا يجتمعان ، والثاني ثابت إجماعا فينتفي الأول.

وما يقال ـ : من أن الجعل قد وقع عن العتق عن الكفارة ، وقد فعل وإن كان لا يجزئ شرعا ، إذ الإجزاء حكم شرعي ، وليس فعلا للمكلف حتى يصح‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١ ـ وغيره من كتاب الجعالة.

(٢) الوسائل الباب ـ ٤ ـ من أبواب المكاتبة من كتاب التدبير والمكاتبة.

٢٤٧

الجعل عليه ـ يدفعه أن الجاعل إنما يجعل على الفعل الصحيح شرعا ، نحو غيره من الجعل على نحو الصلاة والحج وغيرهما ، وتعذر ذلك هنا لا يقتضي إرادة الصورة ، خصوصا إذا كان الجاعل جاهلا بالحكم الشرعي ، فالحق عدم استحقاق الجعالة حينئذ ، نعم لو علم بالقرائن أن الغرض من ذلك تخليص العبد من الرق كيف كان وذكر الكفارة من باب المثال اتجه حينئذ لزومه حتى لو قلنا بوقوع العتق عن المالك.

وعلى كل حال لو رد المالك العوض بعد قبضه أو أبرأه قبل قبضه لم يجز عن الكفارة أيضا لأنه إذا لم يجز حال الإعتاق فلم يجز فيما بعد ، نعم لو قال ابتداء عقيب الالتماس : « أعتقه عن كفارتي لا على الألف » كان ردا لكلامه وأجزأه عن الكفارة ، كما هو واضح.

ولو اشترى بشرط العتق فأعتقه عن الكفارة ففي محكي المبسوط لم يجزه عنها ، ولعله لأنه إن جبر على الإعتاق فهو عتق واجب لغير الكفارة ، وإلا فهو إعتاق لغير تام الملكية ، لكنه كما ترى ، ضرورة تناول الإطلاقات له ، إذ هو عتق بلا عوض ، والوجوب بالشرط مؤكد للوجوب عن الكفارة لا إعتاق ، ولعله لذا كان المحكي عن التحرير والمختلف الحكم بالإجزاء ، وفي كشف اللثام « لا يبعد التفصيل بالإجزاء إن تقدم وجوب الكفارة على الشراء ، والعدم إن تأخر » ولا يخلو من نظر بناء على أن المراد من الشرط حصول ماهية العتق كيف كان بحيث يندرج فيه العتق عن الكفارة ، والله العالم.

٢٤٨

( الشرط الثالث : )

أن لا يكون السبب المؤثر للعتق محرما ، فلو نكل بعبده بأن قلع عينيه أو قطع رجليه ونوى التكفير انعتق ، ولم يجز عن الكفارة بلا خلاف ولا إشكال للنهي (١) المنافي لقصد الطاعة به المتوقف على الأمر به.

هذا كله في العتق.

وأما القول في الصيام وهو أحد خصال الكفارة بلا خلاف في أنه يتعين أي الصوم في المرتبة مع العجز عن العتق المراد من عدم الوجدان الذي هو عنوان الحكم في الكتاب العزيز (٢) أو المندرج فيه ، ولا إشكال بعد توافق الكتاب والسنة (٣) والإجماع عليه.

ولا ريب في أنه يتحقق عدم الوجدان الذي عبر عنه المصنف بالعجز إما بعدم وجود الرقبة عنده وعدم ثمنها وإما بعدم التمكن من شرائها وإن وجد الثمن ، لعدم الباذل وقيل : حد العجز عن الإطعام أن لا يكون معه ما يفضل عن قوته وقوت عياله ليوم وليلة ونحوه في التحرير إلا أنه لا يخفى عليك ما في ذكر ذلك في المقام الذي هو في العجز عن الرقبة لا الإطعام.

ومن هنا قال في المسالك بعد أن ذكر استثناء النفقة : « ولم يقدر الأكثر هنا للنفقة والكسوة مدة ، فيمكن أن يكون المعتبر كفاية العمر ، ويتحقق ذلك بملك ما يحصل من نمائه إدرار النفقة في كل سنة بما يقوم بكفايته ونحو ذلك ،

__________________

(١) يمكن استفادة النهي مما ورد في تعزير من نكل بعبده المروي في المستدرك في الباب ـ ١٩ ـ من كتاب العتق.

(٢) سورة النساء : ٤ ـ الآية ٩٢.

(٣) الوسائل الباب ـ ١٠ ـ من أبواب الكفارات.

٢٤٩

ويمكن أن يريدوا به مئونة السنة ، لأن المئونات تتكرر فيها ويتجدد الإعداد لها ، وأن يريدوا به قوت يوم وليلة زيادة على المحتاج إليه في الوقت الحاضر من الكسوة والأمتعة ، ولعدم ورود التقدير هنا في النصوص عدل المصنف إلى قوله : « وقيل : حد العجز » إلى آخره ، ولم يذكر العجز عن الرقبة لما ذكرناه ».

وفيه أن المصنف لم يتقدم له ذكر النفقة أصلا ، وإنما ذكرها بعد ذلك ، ويمكن أن يكون مراد المصنف بذلك أنه يأتي على هذا القول كون حد العجز عن الرقبة أن لا يكون عنده ما يفضل عن قوت يوم وليلة ، ضرورة عدم الفرق بينهما في ذلك ، ووجهه حينئذ أن الكفارة من قبيل الديون التي يقتصر فيها على ذلك مع المستثنيات ، وإن كان قد يناقش بإمكان كون المراد من الوجدان الغنى نحو‌ قوله عليه‌السلام (١) : « لي الواجد يحل عقوبته وعرضه » ‌الذي هو مثل‌ قوله (٢) : « مطل الغني يحل عقوبته وعرضه ».

قال في الصحاح : « وجد في المال وجدا ووجدا ووجدا وجدة أي استغنى ـ إلى أن قال ـ : وأوجده أو أغناه يقال : الحمد لله الذي أوجدني بعد فقر » وفي مختصر النهاية « الواجد الغني الذي لا يفتقر ، ولي الواجد أي القادر على قضاء دينه ، ووجد يجد جدة استغنى ».

وربما يؤيده‌ موثق إسحاق بن عمار (٣) عن أبي إبراهيم عليه‌السلام « سألته عن كفارة اليمين في قوله تعالى (٤) ( فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ ) ما حد من لم يجد؟

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٨ ـ من أبواب الدين والقرض الحديث ٤ من كتاب التجارة.

(٢) الوسائل الباب ـ ٨ ـ من أبواب الدين والقرض الحديث ٣ والمستدرك الباب ـ ٨ ـ منها الحديث ٢ و ٦ وسنن البيهقي ج ٦ ص ٧٠ وفي الجميع « مطل الغنى ظلم ».

(٣) الوسائل الباب ـ ١٣ ـ من أبواب الكفارات.

(٤) سورة المائدة : ٥ ـ الآية ٨٩.

٢٥٠

وأن الرجل ليسأل في كفه وهو يجد ، فقال : إذا لم يكن عنده فضل عن قوت عياله فهو ممن لا يجد » ‌وإن كان هو في غير ما نحن فيه من وجدان الرقبة لكنه تفسير لمطلق من لا يجد على معنى أنه المالك لأزيد مما يحتاجه من قوته وقوت عياله وغيره من مئونة ، فيكون ذكر القوت مثالا لكل مئونة ، واعتبار الزيادة حينئذ لأجل إمكان الإتيان بالمأمور به ، وهو على جدته ، لا أنه بذلك يكون فقيرا ومسكينا وحينئذ يكون المرتب عليه الصوم عدم الجدة أي الغني والسعة ، ومنه يشكل الحال في كثير مما ذكروه ، فلاحظ وتأمل.

وكيف كان فلو وجد الرقبة وكان مضطرا إلى خدمتها لمرض أو كبر أو زمانة أو ضخامة أو لرفعة شأن أو إلى ثمنها لنفقته أو كسوته له أو لعياله الواجبي النفقة عليه ، أو لدين وإن لم يطالب به ، أو حق لازم عليه أو نحو ذلك لم يجب العتق بلا خلاف ولا إشكال.

نعم في المراد من النفقة الوجوه أو الأقوال السابقة التي حكي عن ظاهر المبسوط اختيار الأول منها ، لأنه قال : « إما أن يكون له فضل عن كفايته على الدوام أو وفق الكفاية ، فإن كان له فضل لم يكن من أهل الصيام ، لأنه واجد ، وإن كان له وفق كفايته على الدوام لا يزيد شيئا ، فإن فرضه الصيام » وفي الدروس والمسالك وحاشية الكركي وغيرها اختيار الثالث منها ، لأن الكفارة بمنزلة الدين الذي يستثنى منه ذلك بالنسبة إلى القوت.

وفي المسالك « وأما الكسوة المحتاج إليها في الوقت فمستثناة وإن بقيت بعد ذلك مدة طويلة بغير خلاف ، وكذلك المسكين والخادم ـ ثم قال ـ : وحيث كان المعتبر قوت اليوم والليلة فلو كانت مئونته تستدر من ضيعة أو تجارة ويحصل منهما كفايته بلا مزيد ولو باعهما لتحصيل عبد كان ممكنا لارتد إلى حد المساكين كلف ذلك ، واستثني مئونته مما ذكر ، ولو اعتبرنا قوت السنة أو الدوام لم يقع ، واختلف كلام العلامة ، ففي التحرير أوجب بيعهما ، وفي القواعد قطع بعدم الوجوب ، مع أنه لم يبين المراد من النفقة المستثناة له ، ولكن هذا يشعر باستثناء أزيد من قوت‌

٢٥١

اليوم والليلة ».

ورده في الرياض بعد أن حكاه عن الدروس وجماعة مستدلا له بصدق الوجدان لغة « بأنه معارض بعدم الصدق عرفا وعادة ، وهو الأرجح حيثما حصل بينهما معارضة ، مع التأيد بأصالة البراءة والأولوية المستفادة من نفي الزكاة التي هي أعظم الفرائض بعد الصلاة عن مثله بالإجماع والأدلة ، مع منافاة الوجوب حينئذ للملة السهلة السمحة ، واستلزامه العسر والحرج في الشريعة المحمدية على المتصدع بها ألف صلاة وسلام وتحية ، فالقول بذلك بعيد غايته كالقول الأول ، فإذا الأوسط أوجه ».

قلت : لا يخفى عليك ما في جميع ذلك بعد الإحاطة بما ذكرناه من أن المراد بالوجدان السعة وعدمه عدمها ، ولعل إيكالهما إلى العرف أولى من ذلك كله ، وقياس ما نحن فيه على الدين ليس من مذهبنا وتقدير النفقة بما سمعت لا مدخلية له فيما نحن فيه ، ضرورة عدم كونها عنوانا لحكم شرعي هنا في شي‌ء من الكتاب والسنة ، كما أنه لا مدخلية هنا لملاحظة ذكر المستثنيات في الدين عينا أو قيمة بناء على أن الكفارة منه ، ضرورة عدم مناسبة ذلك للخلاف بينهم في اعتبار نفقة السنة أو تمام العمر الذي من المعلوم عدم ملاحظة مثله في وفاء الدين الذي قد يمنع شموله لمثل المقام ، خصوصا بعد ملاحظة ذكرهم له في باب المفلس الذي لا يكون إلا في حقوق الناس دون حقوق الله تعالى ، ودعوى الأولوية على وجه يقطع العقل بها ممنوعة ، فلا مدرك للمسألة حينئذ إلا ما ذكرناه من كون المعتبر في وجوب العتق كون المكلف ذا جدة أي سعة في المال ، والعرف صالح لتشخيصه.

وإن أبيت جعلت المراد الغني الشرعي المقابل للفقير كذلك ، وحينئذ فاستثناء الأمور المذكورة لصدق عدم الجدة فيمن لا يملك سواها ، لا للاستثناء في الدين الذي منه الكفارة ، بل لو فرض تعدد بعضها عنده لم يجب عليه بيعه في العتق مع عدم صدق الجدة به.

٢٥٢

وبذلك كله ظهر لك أن الوجه فيما ذكره المصنف وغيره من أنه لا يباع المسكن ولا ثياب الجسد ولا غيرهما مما ذكر في الدين كدابة الركوب للحاجة أو للشرف وغيرها ما قلناه من عدم صدق الجدة.

بل والنظر في قولهم ويباع ما يفضل عن قدر الحاجة من المسكن إذا فرض عدم تحقق صدق الجدة والسعة به ، نعم لا بأس بقولهم لا يباع الخادم على المرتفع عن مباشرة الخدمة لكن لما ذكرناه ، لا لما ذكروه من كونه مستثنى في الدين.

ومنه يعلم النظر في قولهم ويباع على من جرت عادته بخدمة نفسه إلا مع المرض المحوج إلى الخدمة بناء على عدم تحقق صدق الجدة عليه بذلك.

وكذا الكلام فيما لو كان الخادم غاليا بحيث يتمكن من الاستبدال منه ببعض ثمنه الذي قيل فيه يلزم بيعه ، لإمكان الغنى عنه وقيل : لا يلزم ، لإطلاق ما دل على استثنائه في الدين وكذا قيل في المسكن إذا كان غاليا وأمكن تحصيل البدل ببعض الثمن بحيث يبيعه ، لإمكان الجميع بين الأمرين.

ولكن الأشبه عند المصنف وغيره أنه لا يباع تمسكا بعموم النهي عن بيع المسكن في الدين ، وقد عرفت أن التحقيق دوران الأمر على صدق الجدة وعدمه.

ومنه يعلم الحال في كثير من كلماتهم في المقام على اختلافها ، حتى ذكر الوجهين فيمن وجد الرقبة بأزيد من ثمن المثل المبني على ما ذكروه في التيمم من الوجوب للمقدمة ، ومن عدمه لقاعدة « لا ضرر ولا ضرار » المشعر باتحاد المراد من عدم الوجدان في الموضعين ، إذ هو كما ترى بعد الإحاطة بما ذكرناه من كون المدار على صدق الجدة وعدمها ، نعم لو فرض معها توقف شراء الرقبة مثلا على بذل الزائد المستلزم قبحا أو ضررا رجح على باب المقدمة كما حققناه في محله.

٢٥٣

وبالجملة ليس المراد من عدم الوجدان هنا ما أريد به هناك ، كما هو ظاهر بعضهم أو صريحه حتى فرع في المقام بعض ما ذكر هناك ، كما عرفت الحال مفصلا.

بقي الكلام في شي‌ء ، وهو ما ذكروه من الإجزاء لو تكلف غير الواجد فأعتق ، بل ربما ادعي الإجماع عليه إلا مع فرض النهي عنه ، ومثل بمن اشترى الرقبة مع وجود الدين المطالب به ، ونوقش بعدم اقتضاء الأمر بشي‌ء النهي عن ضده ، والإثم بترك الوفاء لا يقتضي فساد العتق ، ولعل الوجه في أصل الحكم بعد الإجماع المزبور دعوى ظهور الأدلة في إرادة التخفيف برفع الوجوب العيني مع عدم الجدة لا أصل المشروعية ، والله العالم.

وكيف كان فلا خلاف في أنه مع تحقق العجز عن العتق يلزم الحر في الظهار والقتل خطأ صوم شهرين متتابعين بل الإجماع بقسميه عليه ، مضافا إلى الكتاب (١) والسنة (٢) المستفيضة أو المتواترة.

والمشهور بل قيل عليه عامة من تأخر بل عن الخلاف الإجماع عليه أن على المملوك صوم شهر‌ للصحيح (٣) « الحر والمملوك سواء ، غير أن على المملوك نصف ما على الحر من الكفارة ، وليس عليه صدقة ولا عتق » وخبر محمد بن حمران (٤) عن الصادق عليه‌السلام « سألته عن المملوك أعليه ظهار؟ فقال : نصف ما على الحر : صوم شهر ، وليس عليه كفارة من صدقة وعتق » ‌ونحوه غيره (٥) المنجبرين بما سمعت إن كان في سنديهما ضعف المعتضدين بغلبة التنصيف ، بل قيل : إنها قاعدة ، وبذلك كله تخص الآية بناء على ما حققناه في الأصول من جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد إن لم نقل بظهورها في الحر ، وإلا فلا حاجة إلى التخصيص ، والاختصاص بالظهار يدفعه عدم القول بالفرق بينه وبين القتل خطأ ، فما‌

__________________

(١) سورة النساء : ٤ ـ الآية ٩٢ وسورة المجادلة : ٥٨ ـ الآية ٤.

(٢) الوسائل الباب ـ ١ و ١٠ ـ من أبواب الكفارات.

(٣) و (٤) و (٥) الوسائل الباب ـ ١٢ ـ من كتاب الظهار الحديث ٢ ـ ١ ـ ٣.

٢٥٤

عن الحلبي وابني زهرة وإدريس من كونه كالحر فيهما حينئذ واضح الضعف على أصولنا.

ولو أعتق قبل الأداء وجب الشهران بناء على ما ستعرفه من أن العبرة عندنا بحالة الأداء ولو أعتق بعد التلبس بالصوم فكذلك يجب عليه الشهران على إشكال ، من أن العبرة بأول الأداء ، ولذا لا يجب عليه العتق إذا أيسر ، واحتمال كون مجموع الصوم عبادة واحدة ، ولأن السبب في حقه سبب لصوم شهر ، فلا يتسبب لصوم شهرين ، ومن أنه إنما كان يكفيه شهر للرق وقد زال ، مع كون الظاهر أن صوم كل يوم عبادة مغايرة لصوم آخر ، وإنما كان العبرة بأول الأداء في سقوطه الخصلة المتقدمة.

أما لو أفسد ما شرع فيه من الصوم فإنه يجب عليه الشهر ان قطعا بناء على وجوب العتق على المكفر إذا أيسر قبل التلبس ، فإنه حينئذ كمن لم يشرع ، وكذا لو أيسر وأفسد تعين العتق عليه بناء عليه ، وقد يحتمل عدم تعين الشهرين عليه ، وكذا العتق.

وأما المبعض فيحتمل إلحاقه بالحرة لإطلاق الأدلة المقتصر في الخروج منها على المملوك ، ويحتمل ملاحظة النسبة فيه ، ولعل الأول أحوط إن لم يكن أقوى.

ولو وجد بالجزء الحر مالا يفي بالعتق وجب عليه العتق للوجدان ، وعن العامة قول بأنه ليس له بناء على أنه يقتضي الولاء وهو ليس أهلا له.

وعلى كل حال فإن أفطر الحر في الشهر الأول من غير عذر استأنف لفوات التتابع الذي هو شرط في الإجزاء عن الكفارة بلا خلاف وإن كان لعذر بنى على صومه ، ولم ينقطع تتابعه للأدلة وإن صام من الثاني ولو يوما أتم وإن لم يتابع في الباقي ، لتحقق التتابع في الشهرين ولو شرعا لذلك.

٢٥٥

وهل يأثم مع الإفطار؟ فيه تردد وخلاف أشبهه عدم الإثم وفاقا للأكثر كما أشبعنا الكلام في كتاب الصوم (١) في ذلك كله ، بل وفي إلحاق التتابع بنذر وشبهه به ، بل وفي الاجتزاء به لو كان في شهر بنذر ونحوه بصوم خمسة عشر يوما وفي إلحاق كفارة العبد به ، بل وفي تحقيق العذر الذي لا يقطع التتابع وإن قال المصنف هنا العذر الذي يصح معه البناء الحيض والنفاس والمرض والإغماء والجنون ، وأما السفر فان اضطر إليه كان عذرا وإلا كان قاطعا للتتابع.

ولو أفطرت الحامل أو المرضع خوفا على أنفسهما لم ينقطع التتابع ، ولو أفطرتا خوفا على الولد قال في المبسوط : ينقطع ، وفي الخلاف لا ينقطع ، وهو أشبه.

ولو أكره على الإفطار لم ينقطع التتابع ، سواء كان إجبارا كمن وجر الماء في حلقه أو لم يكن كمن ضرب حتى أكل ، وهو اختيار الشيخ في الخلاف ، وفي المبسوط قال بالفرق.

ولو عرض في أثناء الشهر الأول زمان لا يصح صومه عن الكفارة كشهر رمضان والأضحى بطل التتابع لكن تحقيق ذلك كله وغيره من المباحث قد أشبعناه في كتاب الصوم (٢) فلا نعيده ، فلاحظ وتأمل.

وأما القول في الإطعام وأحكامه فلا خلاف ولا إشكال في أنه يتعين أي الإطعام في المرتبة مع العجز عن الصيام أصلا بالهرم ونحوه ، قيل وبالمرض المانع منه أو ما يحصل به مشقة شديدة وإن رجا برءه ، وبالخوف من زيادته ، وفيه منع صدق إطلاق عدم الاستطاعة مع رجاء البرء ، خصوصا مع قصر الزمان ، ولعل المسألة من مسألة جواز البدار لذوي الأعذار مع رجاء الزوال أو يجب عليهم الانتظار ،

__________________

(١) ج ١٧ ـ ص ٧١ ـ ٨٦.

(٢) ج ١٧ ـ ص ٨٧ ـ ٨٩.

٢٥٦

وكان الفاضل في القواعد اختار الثاني هنا ، حيث قال : « ولو عجز عن الصوم بمرض يرجى زواله لم يجز الانتقال إلى الإطعام إلا من الضرر كالظهار » وتبعه في كشف اللثام قال : « ومن العامة من أجازه إذا ظن استمراره شهرين ، لصدق أنه لا يستطيع الصوم » إلى آخره.

والصحيح إذا خاف الضرر بالصوم انتقل إلى الإطعام ، لشمول عدم الاستطاعة له ، وكذا عدم القدرة في‌ خبر أبي بصير (١) عن الصادق عليه‌السلام « جاء رجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا رسول الله إني ظاهرت من امرأتي فقال : أعتق رقبة ، فقال : ليس عندي ، قال : فصم شهرين متتابعين. قال : لا أقدر ، قال : فأطعم ستين مسكينا ».

هذا وفي القواعد وكشف اللثام أيضا « وهذا الصوم بخلاف صوم شهر رمضان ، فلا يجوز فيه الإفطار من الصحيح لخوف المرض ، لعموم الأمر بصومه وتعليق التأخير إلى أيام أخر على المرض ، مع أنه لا بدل له » وفيه ما لا يخفى من عدم الفرق بين شهر رمضان وغيره من الصوم الواجب.

ولو خاف المظاهر الضرر بترك الوطء مدة وجوب التتابع لشدة شبقه فالأقرب الانتقال إلى الإطعام كما في القواعد ومحكي المبسوط ، أما إذا خاف من شدة الشبق حدوث مرض فهو من خوف الصحيح المرض الذي قد عرفت الحال فيه ، وأما إذا كان الشبق هو الضرر فلأنه ضرر كغيره ، ولا ضرر ولا حرج في الدين ، ويؤيده أن الله تعالى رخص الرفث إلى النساء ليلة الصيام (٢) بعد أن حرمه لما علم أنهم لا يصبرون ، و‌قصة سلمة بن صخر (٣) الذي حمله الشبق على أن واقع بعد الظهار في رمضان فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « صم شهرين متتابعين ، فقال له : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهل أصابني ما أصابني إلا من الصيام؟ ».

وكذا قيل : لا يلحق به السفر وإن امتنع حالته ، لأنه مستطيع للصوم‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١ ـ من أبواب الكفارات الحديث ٢.

(٢) سورة البقرة : ٢ ـ الآية ١٨٧.

(٣) المستدرك الباب ـ ١ ـ من كتاب الظهار الحديث ٢.

٢٥٧

بالإقامة غالبا ، نعم لو تعذرت أمكن الجواز فيه ، وفيه أن الحضر شرط وجوب الصوم ، ولا يجب على المكلف تحصيل شرط الوجوب ، فيمكن حينئذ دعوى صدق عدم الاستطاعة حاله ، ولا يجب عليه الإقامة تحصيلا للشرط.

وكيف كان ف يجب إطعام العدد ولو بالتسليم إلى المستحق لكل واحد مد وفاقا للمشهور بين الأصحاب خصوصا المتأخرين ، لأصالة براءة الذمة من الزائد ، بعد الإجماع على عدم جواز الأقل وكفايته غالبا ، وللنصوص المستفيضة أو المتواترة الواردة في كفارة اليمين (١) المتممة بعدم القول بالفصل ، مضافا إلى خصوص ما ورد (٢) في كفارة القتل خطأ وكفارة شهر رمضان من الخمسة عشر صاعا (٣) وما سمعته سابقا من حديث الأعرابي (٤) الذي دفع له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكتل التمر الذي فيه خمسة عشر صاعا ، وغير ذلك.

ولكن مع ذلك قيل كما عن الخلاف والمبسوط والنهاية والتبيان ومجمع البيان والوسيلة والإصباح مدان مع القدرة ومع العجز مد بل عن صريح أول وظاهر الرابع والخامس الإجماع عليه ، للاحتياط المتعارض في بعض صوره.

وحينئذ فلا ريب في أن الأول أشبه بأصول المذهب وقواعده التي مقتضاها العمل بالنصوص (٥) المستفيضة أو المتواترة التي فيها الصحيح وغيره ، ومروية في الكتب الأربعة وغيرها المعتضدة مع ذلك بالأصول والعمل وغيرهما ، السالمة عن المعارض المكافى‌ء لها ، إذ ليس هو إلا الإجماع الذي قد عرفت حاله ،

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١٤ ـ من أبواب الكفارات.

(٢) الوسائل الباب ـ ١٠ ـ من أبواب الكفارات.

(٣) الوسائل الباب ـ ٨ ـ من أبواب ما يمسك عنه الصائم الحديث ٥ و ١٠ من كتاب الصوم.

(٤) سنن البيهقي ج ٧ ص ٣٩٠.

(٥) الوسائل الباب ـ ١٤ ـ من أبواب الكفارات.

٢٥٨

وإلا‌ خبر أبي بصير (١) عن أحدهما عليهما‌السلام « في كفارة الظهار تصدق على ستين مسكينا ثلاثين صاعا لكل مسكين مدين مدين » والمرسل (٢) عن علي عليه‌السلام « في الظهار يطعم ستين مسكينا ، كل مسكين نصف صاع » ‌اللذين ينبغي حملهما على ضرب من الندب ، بل يمكن أن يكون ذلك منتهى الزيادة على المد التي قد ذكر استحبابها غير واحد من الأصحاب المقدرة في صحيح الحلبي (٣) بحفنة ، وفي‌ حسن هشام (٤) عن الصادق عليه‌السلام « في كفارة اليمين مد من حنطة وحفنة ، لتكون الحفنة في طحنه وحطبه ».

بل عن الإسكافي وجوبها ، لظاهر الخبرين المزبورين وإن كان هو ضعيفا ، لخلو معظم النصوص (٥) المعتضدة بالعمل الواردة في مقام البيان عنها. ومن هنا كان المتجه حملهما على الندب ، فيكون حينئذ أقله الحفنة وأعلاه المد.

ونحو ذلك الإشباع المقدر في المشهور بالمرة ، لإطلاق أكثر النصوص المتحقق صدق امتثاله بالمرة ، بل في‌ صحيحة أبي بصير (٦) منها عن الباقر عليه‌السلام « يشبعهم مرة واحدة » ‌لكن عن المفيد أنه اعتبر في الأيمان يشبعهم طول يومهم ولم يذكر المد إلا في القتل ، وعن سلار فيها أيضا « وإطعامهم لكل واحد شبعة في يومه ، ولا يكون فيه صبي ولا شيخ كبير ولا مريض ، وأدنى ما يطعم كل واحد منهم مدا » وعن الوسيلة « أنه إذا أطعمهم أشبعهم ، وإن أعطاهم الطعام لزمه لكل مسكين مدان في السعة ومد في الضرورة » وعن القاضي « فليطعم كل واحد منهم شبعة في يومه ، فان لم يقدر أطعمه مدا من طعام » وعن أبي علي « هو مخير بين أن يطعم دون التمليك غداهم وعشاهم في ذلك اليوم ، وإذا أراد تمليك الإنسان الطعام أعطى كل إنسان منهم مدا وزيادة عليه بقدر ما يكون لطحنه وخبزه وإدامه » وعن التقي وابن زهرة الاقتصار على الإشباع في يومه ، وفي‌ خبر سماعة بن‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١٤ ـ من أبواب الكفارات الحديث ٦.

(٢) دعائم الإسلام ج ٢ ص ٢٧٨ ط مصر عام ١٣٧٩.

(٣) و (٤) و (٥) و (٦) الوسائل الباب ـ ١٤ ـ من أبواب الكفارات الحديث ١٠ ـ ٤ ـ ٠ ـ ٥.

٢٥٩

مهران (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « سألته عن قول الله تعالى (٢) ( مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ ) ، قال : ما يأكل أهل البيت يشبعهم يوما ، وكان يعجبه مد لكل مسكين ».

ولعل التأمل في ذلك أجمع يقتضي إرادة استحباب الزيادة على المد ، وحدها المد الآخر ، فتخرج المسألة حينئذ عن الخلاف ، وعلى تقديره فقد عرفت أن الأقوى المد واستحباب الزيادة عليه إلى مد آخر.

وأما الجمع بين النصوص بالتفصيل بين حالي القدرة والعجز فهو ـ مع أنه لا شاهد له ـ فرع المكافئة المفقودة من وجوه ، كالجمع بالتفصيل بين كفارة الظهار وغيرها ، فيجب مدان في الأولى ومد في غيرها الذي ادعى مخالفته للإجماع ، ولعله كذلك.

هذا وفي المسالك « المعتبر من المد الوزن لا الكيل عندنا ، لأن المد الشرعي مركب من الرطل ، والرطل مركب من الدرهم ، والدرهم مركب من وزن الحبات ، ويركب من المد الصاع ، ومن الصاع الوسق ، فالوزن أصل الجميع ، وإنما عدل إلى الكيل في بعض المواضع تخفيفا ، وتظهر الفائدة في اعتبار الشعير بالكيل والوزن ، فإنهما مختلفان جدا بالنسبة إلى مقدار البر بالكيل ».

قلت : كما جاء التقدير بالمد وليس له مكيال معروف جاء التقدير بالصاع هنا ، كما سمعته من الأمر (٣) بدفع خمسة عشر صاعا ، ومن المعلوم أنه مكيال معروف ، فيجوز الدفع به حينئذ من دون ملاحظة الوزن اللهم إلا أن يقال : إن مرجعه إلى الوزن ، إذ هو أربعة أمداد ، وقد عرفت أن ضبط المد بالميزان ، فتأمل جيدا.

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١٢ ـ من أبواب الكفارات الحديث ٩.

(٢) سورة المائدة : ٥ ـ الآية ٨٩.

(٣) الوسائل الباب ـ ٨ ـ من أبواب ما يمسك عنه الصائم الحديث ٥ من كتاب الصوم.

٢٦٠