جواهر الكلام - ج ٣٣

الشيخ محمّد حسن النّجفي

الحقيقة ، لأنه يملكها بالموت ، وإذا صح من أحد ماليه صح من الآخر ـ ثم قال ـ : وقال شيخنا ابن سعيد في شرائعه والوجه التسوية بين الأجنبي والوارث في المنع والجواز وضعفه ظاهر بما ذكرناه ».

قلت : كأن الذي دعاه إلى ذلك حسن ظنه بأبيه ، حيث قال في القواعد بعد أن ذكر عن الشيخ الفرق بين الوارث وغيره : « ولعل بينهما فرقا » وإلا فالإنصاف أن جميع ما ذكره لا دخل له في إثبات المطلوب ، إذ هو بعد الإغضاء عن صحة بعض ما ذكره للوارث لا دخل له فيما نحن فيه من عدم الفرق بينه وبين الأجنبي في مفروض المسألة ، وإن كان فرق بينه وبينه في أمور أخر قد جاءت بدليل خاص ، كأصل إرثه منه دون الأجنبي كما هو واضح ومن هنا أنكر عليه ذلك بعض من تأخر عنه ، واستوجه التساوي بينهما.

لكن في المسالك « الوجه الإجزاء عن الميت مطلقا ، وفي وقوعه عن الحي نظر وإن كان الوقوع لا يخلو من قوة » وفي حاشية الكركي اختيار الإجزاء عن الميت مطلقا دون الحي قال : « فان الفرض أن الأجنبي نوى العتق عن ذي الكفارة ، فيقع منه ، لعموم « لكل امرئ ما نوى » (١) ‌ولا نجد مانعا سواء كونه أجنبيا ، ولا دخل له في المانعية ، إذ عدم القرابة لا ينافي قضاء الدين عن الميت تبرعا عبادة كان أو غيرها ، ويكفي في التمسك بانتفاء المانعية عدم تحققها ، تمسكا بالأصل ، أما الحي فلا يجزئ عنه مطلقا إلا بإذنه ، إذ لا يؤدى عنه دين إلا بفعله ولو نيابة فيما تدخل فيه النيابة ، هذا هو الذي ساق إليه الدليل ».

وفي الجميع ما لا يخفى ، إذ المانع في المقام اعتبار الملك فيمن يكون العتق له ، ولا طريق إلى إدخاله في ملك الميت أو الحي قهرا ، وما في غاية المراد والمسالك ـ من أن توقف العتق على الملك يندفع بالملك الضمني ، كما قيل به مع السؤال ـ يدفعه وضوح الفرق بين السؤال وعدمه بالنسبة إلى قابلية الدخول في الملك باختياره وعدمه ، ومن الغريب ما سمعته من الكركي من عدم إجزاء التبرع في‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٥ ـ من أبواب مقدمة العبادات الحديث ١٠.

٢٢١

وفاء دين الحي.

فالأقوى عدم الفرق بينهما في البطلان هنا لو لا‌حسن بريد (١) سأل الباقر عليه‌السلام « عن رجل كان عليه عتق رقبة فمات من قبل أن يعتق ، فانطلق ابنه فابتاع رجلا من كسبه ، فأعتقه عن أبيه ، وأن المعتق أصاب مالا ثم مات وتركه ، لمن يكون ميراثه؟ فقال : إن كانت الرقبة التي كانت على أبيه في ظهار أو شكر أو واجبة عليه فان المعتق سائبة لا ولاء لأحد عليه ، قال : وإن كانت الرقبة على أبيه تبرعا وقد كان أبوه أمره أن يعتق عنه نسمة فإن ولاء العتق ميراث لجميع ولد الميت من الرجال ، قال : ويكون الذي اشتراه فأعتقه كواحد من الورثة إذا لم يكن للمعتق قرابة من المسلمين أحرار يرثونه ، وإن كان ابنه الذي اشترى الرقبة فأعتقها عن أبيه من ماله بعد موت أبيه تطوعا من غير أن يكون أمره بذلك فإن ولاؤه وميراثه للذي اشتراه من ماله فأعتقه إذا لم يكن للمعتق وارث من قرابته ».

ولعله لهذا الحسن المزبور فصل الشيخ بين الوارث وغيره ، ولو كان لكان المتجه التسوية في عدم الإجزاء عن الميت الذي لا يدخل في ملكه ، بل لعل المتجه بطلان العتق من أصله ، لقاعدة ما قصد لم يقع وما وقع لم يقصد ، كما عرفته سابقا.

وكيف كان ف إذا قال : « أعتق عبدك عني » فقال : « أعتقت عنك » فقد وقع الاتفاق كما حكاه غير واحد على الإجزاء وإن كان قد سمعت الخلاف فيه من ابن إدريس ، كما أنك قد سمعت نفي الخلاف من الشيخ عن الدخول في الملك وإن كان فيه ما فيه أيضا لكن وقع الخلاف في أنه متى ينتقل إلى الأمر؟ قال الشيخ : ينتقل بعد قول المعتق : « أعتقت عنك » ثم ينعتق بعده إذ اقتضاء العلة الواحدة الشيئين بالترتيب بينهما ممكن ثابت ، وأشكله الكركي فيما إذا كان أحدهما شرطا لتأثير السبب في العقود والإيقاعات ، فإن عدم‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٤٠ ـ من كتاب العتق الحديث ٢.

٢٢٢

ترتب أثر السبب عليه دليل فساده ، ويمتنع الحكم بصحته بعد فساده آنا ما.

ولعله لذا قال المصنف وهو تحكم إذ لا دليل على تعيين ذلك من بين المحتملات ، بل فيه أنه يستلزم تأخر العتق عن الإعتاق بقدر ما يتوسطهما الملك وإن اعتذر عنه بأن تأخير العتق عن الإعتاق بسبب أنه إعتاق عن الغير ، ومثله واقع في قوله : « أعتقت عبدي عنك بكذا » فان عتقه يتوقف على قبول المعتق عنه ، ويلزم منه تأخر العتق عن الإعتاق ، ولكن لا يخفى عليك وضوح الفرق بين المثالين.

ومن هنا قيل كما عن المفيد والعلامة والفخر أنه يحصل الملك بشروعه في لفظ الإعتاق ، ويعتق إذا تم اللفظ لمجموع الصيغة ، فالجزء علة للملك ، وهو ملك الأمر والكل سبب لزوال ملكه عنه بالإعتاق ، وفيه أنه يستلزم صيرورته ملكا للأمر قبل تمام الصيغة ، فلو فرض ترك إكمالها خرج عن ملكه ولم يقع العتق.

وقيل : إنه يحصل الملك للمستدعي بالاستدعاء ويعتق عليه إذا تلفظ المالك بالإعتاق ، وفيه ما عرفت وزيادة.

وقيل : إنه يحصل الملك والعتق معا عند تمام الإعتاق ، وأورد عليه في المسالك بأنه وإن كان فيه سلامة من المحذور السابق ، إلا أن اشتراط وقوع العتق في ملك يقتضي تقديم الملك على العتق فلا يتم وقوعهما في وقت واحد عند تمام لفظ العتق.

وفيه أنه يمكن الاكتفاء بالتقدم الذاتي الحاصل فيما بين العلة والمعلول ، نحو ما قلناه في شراء من ينعتق عليه ، ونحو ما يقال فيما لو قال : « أنت وكيلي على بيع داري » مثلا ، فيقبل الوكالة بأن باع مثلا ، فان البيع حينئذ كاشف عن قبول الوكالة ، وهو إيجاب للبيع ، وقد حصلا في زمان واحد ، لكنهما مترتبان طبعا ، ونظائره في ذلك كثيرة.

بل قد يقال : إنه يكفى في الصحة اتحاد زمانهما لصدق كون العتق في ملك ، إذ ليس معناه اعتبار سبق الملك على العتق زمانا.

٢٢٣

وبالجملة فالظاهر أن اتفاق الأصحاب على المسألة في المقام ليس إلا لما ذكرناه الذي قد عرفت جريانه في نظائر المسألة ، وإلا لم نقف لهم على دليل خاص ، وحينئذ فإن رجع ذلك إلى أحد الأقوال الخمسة فمرحبا بالوفاق ، وإلا كان قولا سادسا ، وهو أقواها ، والتمليك المزبور إن شئت جعلته من القرض بعوض ، أو من التمليك به ، نحو الهبة المعوضة ، أو من التمليك المجاني حيث لا يكون عوضا أو نحو ذلك ، فإنه بعد أن صار وكيلا عنه بأمره له وسؤاله إياه صار موجبا قابلا إذا كان الموكل فيه متوقفا على إدخال في ملك مثلا ، إذ التوكيل في شي‌ء توكيل في لوازمه ، ونحوه ما لو قال له : « اشتر لي كذا بثمن منك » أو « زوجني فلانة بمهر منك » فان المهر والثمن يدخلان في ملك الموكل بفعل ما وكل فيه على الوجه الذي وكله عليه ، وهذا الأمر جار في كثير من الأبواب ، مفروغ من صحته ، بل هو نحو ما لو قال المالك : « أعتق عبدي عن كفارتك بكذا » مثلا فأعتقه ، فإنه يدخل في ملكه بذلك بعد تقدم الكلام المزبور من المالك الذي صار كالإيجاب لو فرض وقوع العتق مقارنا له ، وإلا كان توكيلا له في تملك العبد متى شاء بالثمن المزبور.

ومن ذلك يعرف النظر في كثير من الكلمات في المقام ، بل يظهر النظر فيما ذكره الفخر من تخصيص صحة المسألة فيما لو وقعت على جهة الفورية دون التراخي بناء منه على أن مفروض المسألة من الإيجاب والقبول المعتبر فيهما ذلك ، ولم يتفطن إلى التوكيل الذي لا يعتبر فيه ذلك ، ومن هنا كان ظاهر المصنف وغيره الإطلاق في فرضها ، فلاحظ وتأمل.

وقيل : إنه يحصل بالأمر المقترن بصيغة العتق ، فيكون تمام الصيغة كاشفا عن سبق الملك عليها ، وعدم إيقاعها بعد الاستدعاء أو قطعها أو وقوع خلل فيها دال على عدم حصول الملك بالأمر ، لعدم حصول ما يعتبر في صحته ، وهو اقترانه بالأمر بالعتق ، وأورد عليه في المسالك بأن الاقتران المذكور يكون شرطا في سبق الملك ،

٢٢٤

ولا يتحقق الاقتران إلا بتمام صيغة العتق ، فيلزم تأخر الملك عن الإعتاق وإلا لتأخر الشرط عن المشروط.

قال : « ولأجل هذه الإشكالات ونحوها قال المصنف ونعم ما قال : إن الوجه الاقتصار على الثمرة ، وهي صحة العتق عن الأمر وبراءة ذمته من الكفارة ، ولا يجب البحث عن وقت انتقال الملك إليه ، فإن ما عدا ما ذكر ه‍ تخمين لا يرجع إلى دليل صالح ».

قلت : لكن قد عرفت تحقيق الحال على وجه لا يأتي فيه شي‌ء من وجوه الاشكال ، بل قد عرفت عدم اختصاص المقام ، بل هو جار فيه وفي نظائره وإن كان ما ذكره المصنف فيه استراحة عن تحليل المسألة.

قال ومثله ما إذا قال له : « كل هذا الطعام » فقد اختلفوا أيضا في الوقت الذي يملكه الأكل هل هو بتناوله في يده أو بوضعه في فيه أو بازدراد اللقمة بعد الاتفاق على عدم ملكه بوضعه بين يديه؟ وفرعوا على ذلك جواز إطعامه لغيره على الأول دون غيره من الأقوال ، لكن لا يخفى عليك أنه لا داعي هنا إلى اعتبار الملك ، إذ الإباحة تكفي في الجواز إلى آخر أمره.

ومن هنا قال المصنف والوجه عندي أنه يكون إباحه للتناول ، ولا ينتقل إلى ملك الأكل وتبعه غيره عليه ، لأنه ليس كالعتق يعتبر فيه الملك لمن يكون العتق له ، قالوا : وحينئذ فلو نبت من غائطه شجرة مثلا كان ملكا للمقدم دون الأكل وإن كان قد يناقش بخروجه عن المملوكية إذا صار غائطا.

هذا وفي كشف اللثام « أنه يمكن القول بمثله في مسألة الإعتاق أيضا ، فإن النص (١) والإجماع إنما هما على أن الإعتاق إنما يكون في ملك ، ويكفي في صدقه هنا ملك المعتق ، ولا محذور في إجزاء الإعتاق عن غير المالك ».

قلت : هو كذلك ، إلا أن ظاهر الأصحاب الاتفاق على إرادة اعتبار الملك ممن يكون العتق له إلا ما خرج بالدليل ، كعتق الوارث عن الميت‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٥ ـ من كتاب العتق.

٢٢٥

للخبر (١) الذي سمعته.

وكيف كان ف يشترط في الإعتاق شروط :

( الأول : )

النية بمعنى القصد إلى فعله بعنوان أنه للكفارة ، وذلك لأنه أي الإعتاق عبادة تحتمل وجوها ، فلا يختص بأحدها إلا بالنية ، ولا بد مع ذلك من نية القربة المعتبرة في كل عبادة كفارة وغيرها بالأدلة المذكورة في محلها على ذلك ، كباقي مباحث النية من اعتبار نية الوجه وعدمه فيه أيضا وغيره من المباحث ، بل وقد ذكرنا هناك الفرق بين العبادة وغيرها.

لكن في غاية المرام للصيمري هنا « يشترط في التكفير النية المشتملة على الوجه والقربة والتكفير ، فلو نوى الوجه والقربة ولم ينو عن الكفارة لم يجز ، وهذه الشروط مجمع عليها » وإن كان فيه ما فيه ، ضرورة عدم الفرق بين المقام وغيره في اعتبار الوجه وعدمه الذي قد عرفت البحث والخلاف فيه في محله.

إنما الكلام هنا في قول المصنف فلا يصح العتق من الكافر ذميا كان أو حربيا أو مرتدا لتعذر نية القربة في حقه فإنه قد أطنب في المسالك في إشكاله بالمنع من تعذر نية إيقاع الكافر الفعل طلبا للتقرب إلى الله سبحانه وتعالى سواء حصل ما نواه أو لا إذا كان كفره بإنكار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونحوه مما لا ينافي الاعتراف بالله تعالى ، وإن كان المراد تعذر الإيقاع منه على وجه يستحق الثواب طالبناه بالدليل على اشتراط مثل ذلك ، وعارضناه بعبادة المخالف من المسلمين وعتقه ، فإنه لا يستتبع الثواب عنده مع صحة عتقه عنده ، قال : « وفي صحة عباداته غيره (٢) بحث قرر في‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٤٠ ـ من كتاب العتق الحديث ٢.

(٢) هكذا في النسختين المخطوطتين وفي المسالك « وفي صحة عبادات غيره ».

٢٢٦

محله ، وبالجملة فكلامهم في هذا الباب مختلف غير منقح ، لأنهم نارة يحكمون ببطلان عبادة الكافر مطلقا استنادا إلى تعذر نية القربة منه ، ومقتضى ذلك إرادة المعنى الثاني ، لأن ذلك هو المتعذر منه لا الأول ، وتارة يجوزون منه بعض العبادات كالعتق وسيأتي تجويز جماعة من الأصحاب له منه مع اشتراط القربة فيه ، نظرا إلى ما ذكرناه من الوجوه في الأول ، وقد وقع الخلاف بينهم في وقفه وصدقته وعتقه المتبرع به ونحو ذلك من التصرفات المالية المعتبر فيها القربة ، واتفقوا على عدم صحة العبادات البدنية منه نظرا إلى أن المال يراعى فيه جانب المدفوع إليه ولو بفك الرقبة عن الرق ، فيرجح فيه جانب الغرامات ، بخلاف العبادات البدنية ، ومن ثم ذهب بعض العامة إلى عدم اشتراط النية في العتق والإطعام واعتبرها في الصيام إلا أن هذا الاعتبار غير منضبط عند الأصحاب كما أشرنا إليه وسيأتي له في العتق زيادة بحث إنشاء الله ».

وأورد عليه في الرياض بأن فيه ـ مضافا إلى ما دل على شرطية الايمان وعدم صحة عبادة المخالف الذي هو أولى من الكافر من الإجماع والنصوص (١) ـ أنه لا تتأتى منه نية القربة التي هي قصد الامتثال وموافقة الأمر ، لعدم اعتقاده بموجب الكفارة ، إذ هو إما منكر للبارئ تعالى كالدهرية ونحوهم أو جاحد للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المبين لذلك الأمر به عنه سبحانه ، فإذا صام بعد الظهار مثلا لا يمكنه قصد الامتثال بذلك والعزم على أن الصيام كفارة لما وقع منه ، فإنه لا يعتقد تحقق الحرمة بالموجب فضلا عن كون الصيام مكفرا لها ، بل يجعلهما حراما وبدعة بقصد التشريع في شرعه ، ولعل هذا هو السر في حكم الأصحاب بفساد عبادة الكفار ، لعدم تحقق قصد القربة بهذا المعنى منهم.

والعجب من شيخنا في المسالك حيث اعترضهم في ذلك وجوز صدور نية القربة بهذا المعنى عنهم ، فيا لله كيف يقصد الكافر بما يأتي به من هيئة صلاتنا أنه عبادة‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٢٩ ـ من أبواب مقدمة العبادات.

٢٢٧

مقربة له إلى جنابه سبحانه مع اعتقاده كون مثل ذلك بدعة وضلالة؟! فإتيانه بذلك على تقديره يكون على طريق الاستهزاء والسخرية ، وما أرى مثل هذه الدعوى من نحو هذا الفاضل إلا غفلة واضحة ، نعم قد تحصل له نية القربة في بعض الخصال إذا كانت عنده وفي شرعه مقربة ، ولكن مثل هذه القربة غير كافية ، بل لا بد من نية القربة التي هي القصد إلى امتثال أمر الكفارة ، ولذا إن أحدنا لو صام ندبا من دون نية التكفير لم يجز عنه إجماعا.

قلت : وكأنه لذلك فصل الشهيد في غاية المراد بين العتق للكفارة من الكافر غير الجاحد لله تعالى والعتق لغيرها ، فأبطل الأول وصحح الثاني ، قال بعد أن حكى الخلاف في صحة مباشرة الكافر العتق وعدمها عن الشيخ فصححه ، وعن ابن إدريس والمصنف فأفسده : « ومبناه على مقدمات : ( الاولى ) : هل نية القربة معتبرة في العتق أم لا؟ الحق نعم ، لقولهم عليهم‌السلام (١) : « لا عتق إلا ما أريد به وجه الله » ‌ـ إلى أن قال ( الثانية ) : ـ هل المعتبر في نية القربة ما يترتب عليه الثواب أو مطلق التقرب إلى الله تعالى؟ يحتمل الأول ، لأنه عبادة ، وكل عبادة يترتب عليها استحقاق الثواب بفعلها صحيحة ، ويحتمل الثاني لأن الدليل على صحة العتق إذا أريد به وجه الله تعالى ، وهو أعم من ترتب الثواب وعدمه. ( الثالثة ) : هل يعتبر في التقرب معرفة الله أم يكفي التقليد؟ يحتمل الأول ، لأن هذه المعرفة ليست حقيقة ، فليس ثم مقصود ، ويحتمل الثاني ، لصدق أنه قصد وجه الله ـ ثم قال ـ : إذا عرفت ذلك فنقول : الأصحاب جوزوا وقف الكافر وصدقته ، مع أنهما مشروطان بنية القربة ، وهو يشعر باختيارهم الثاني من الاحتمالين ، فحينئذ يصح عتق الكافر ، وإن قلنا بأول الاحتمالين لا يصح ، ثم اعلم أن الكفر بسبب إنكار واجب الوجود تعالى وإقامة الشبهة على إنكاره لا يصح معه شي‌ء من العبادات ، لزوال جميع المقدمات ، وأما لو لم يكن شبهة بل مجرد إنكار قلد فيه فيصح على الثاني‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٤ ـ من كتاب العتق والباب ـ ١٣ ـ من كتاب الوقوف والصدقات.

٢٢٨

من الاحتمالين ، وأما الكافر المقر بالله تعالى العارف به وكفره بسبب جحده النبوة أو بعض فرائض الإسلام فإنه لا ينبئ إلا على ثاني الثانية ، فهو أولى بالجواز إذن ، ثم اعلم أن العتق لما بني على التغليب والوقف والصدقة لما اشتمل على نفع الغير واشتمل الجميع على المالية فجانب المالية أغلب من جانب العبادة ، فمن ثم وقع الخلاف في صحة العتق ، ولم يقع في عدم صحة الصلاة والصوم ، والأقوى صحته عندنا ما لم يجحد الله تعالى إذا اعتقد أن العتق قربة إلى الله تعالى شأنه لما عتقه عن الكفارة ». وهو الأصل لكل من تأخر عنه في هذه المسألة.

وتبعه الكركي في حاشية الكتاب في النتيجة ، فقال : « إن كان كفره بجحد الربوبية أو لم يعتقد كون العتق قربة أو أعتق عن الكفارة لم يصح وإلا صح » إلى غير ذلك من كلماتهم التي يشبه بعضها بعضا.

لكنها لا تخلو من نظر ، لا لعدم مشروعية عباداتنا في دينهم ، لإمكان فرض ذلك ، خصوصا في مثل العامة بل يمكن فرض وقوع ذلك من بعضهم بعنوان أنه مذهبه ولو جهلا ، بل لإمكان دعوى التواتر في نصوصنا (١) أو الضرورة من مذهبنا على أنه لا عبادة لغير المؤمن مطلقا ، لأنه يعتبر فيها موافقة الأمر من حيث دلالة ولي الله تعالى شأنه عليه ، ولذا قرن طاعته بطاعتهم ومحبته بمحبتهم (٢) فمن جاء بعبادة موافقة لأمره لكن لا من حيث دلالة وليه عليه لم تكن صحيحة ، والأمر في الشريعة السابقة بعد نسخها غير كاف في الصحة وإن وافق الأمر في شريعتنا.

ومن هنا تعذر على الكافر بجميع أقسامه نية التقرب المأخوذ فيه ملاحظة الأمر بواسطة ولاة الأمر ، وكذا المخالف ، ولا صحة في وقفهم وصدقاتهم ، وإنما لها حكم الصحة في بعض ما جرت السيرة والطريقة على استعماله كذلك من مساجدهم وبيعهم وكنائسهم ونحو ذلك ، لا الصحة الحقيقية التي يستحق فاعلها الثواب على‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٢٩ ـ من أبواب مقدمة العبادات.

(٢) سورة النساء : ٤ ـ الآية ٥٩ وسورة المائدة : ٥ ـ الآية ٦٠.

٢٢٩

فعلها من حيث صدق امتثال الأمر على وجهه المستلزم عقلا بقاعدة اللطف استحقاق الثواب ، ولا الموافقة للأمر الذي قد عرفت أنه يعتبر في امتثاله ملاحظة من كان الواسطة به.

قال الباقر عليه‌السلام في خبر زرارة (١) : « أما لو أن رجلا قام ليله وصام نهاره وتصدق بجميع ماله وحج جميع دهره ولم يعرف ولاية ولي الله تعالى شأنه فيواليه ويكون جميع أعماله بدلالته إليه ما كان له على الله حق في ثوابه ، ولا كان من أهل الايمان » ‌

وقال عليه‌السلام أيضا في خبر آخر (٢) : « من دان الله بغير سماع من صادق ألزمه الله البتة يوم القيامة ».

وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام (٣) : « قد جعل الله للعلم أهلا ، وفرض على العباد طاعتهم بقوله ( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) (٤) وبقوله : ( وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ ) (٥) وبقوله : ( وَكُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ ) (٦) وبقوله ( وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) (٧) وبقوله ( وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها ) (٨) والبيوت هي بيوت العلم الذي استودعه الله عند الأنبياء ، وأبوابها أوصياؤهم ، فكل عمل من أعمال الخير يجري على يد غير الأصفياء وعهودهم وحدودهم وشرائعهم وسننهم مردود غير مقبول ، وأهله‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٢٩ ـ من أبواب مقدمة العبادات الحديث ٢.

(٢) الوسائل الباب ـ ١٠ ـ من أبواب صفات القاضي الحديث ١٢ و ١٤ وفيهما « ألزمه الله البتة إلى الغناء ( العناء خ ل ) ».

(٣) الوسائل الباب ـ ١٣ ـ من أبواب صفات القاضي الحديث ٤٤ من كتاب القضاء.

(٤) و (٥) سورة النساء : ٤ ـ الآية ٥٩ ـ ٨٣.

(٦) سورة التوبة : ٩ ـ الآية ١١٩.

(٧) سورة آل عمران : ٣ ـ الآية ٧.

(٨) سورة البقرة : ٢ ـ الآية ١٨٩.

٢٣٠

في محل كفر وإن شملهم وصف الايمان » ‌إلى آخره.

وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) أنه قال لعلي عليه‌السلام : « أنا مدينة العلم وأنت بابها ، فمن أتى من الباب وصل ، يا علي أنت بابي الذي أوتى منه ، وأنا باب الله تعالى ، فمن أتاني من سواك لم يصل إلى الله تعالى » ‌إلى غير ذلك من النصوص التي هي فوق عدد التواتر ، بل لعله من ضروري مذهب الشيعة.

ومن الغريب دعوى هؤلاء الفضلاء الصحة في الكافر غير الجاحد ، مع أن مقتضاها اندراجه في المطيع ، بل لا بد من ترتب الثواب عليه بقاعدة اللطف ، لكونه وافق الأمر وجاء بالمأمور به على وجهه الذي أراده الله تعالى منه ، لأن ذلك مقتضى الصحة ، وعدم ترتب الثواب على هذا الفرض مناف لقاعدة اللطف ، كما أن التزامه مناف لضرورة المذهب بل الدين ، وكأن الذي دعاهم إلى ذلك جريان السيرة على إجراء حكم الصحة على مثل مساجدهم وكنائسهم وبيعهم ونحو ذلك ، وقد عرفت عدم الصحة فيها بالمعنى المزبور ، بل هو إجراء لحكمها لمصلحة من المصالح ، فينبغي الاقتصار فيه على المتيقن ، وأما ما عدا ذلك فلا.

وبذلك يظهر لك النظر في جميع تلك الكلمات حتى ما في الرياض وإن أكثر العجب من القائل بالصحة ، لكن كان ينبغي أن يكون ذلك بالطريق الذي ذكرناه ، لا ما ذكره الذي قد عرفت إمكان فرضه على وجه يسلم مما ذكره ، على أنه في آخر كلامه قد اختار الصحة أيضا في العتق إذا لم يكن عن كفارة.

نعم قد أجاد سيد المدارك بقوله : « وأما اشتراط الايمان فيدل عليه أن التكفير عبادة والعبادة من شرطها الايمان ، والمقدمتان إجماعيتان ، ويدل على الثانية الأخبار الكثيرة المتضمنة لبطلان عبادة المخالف (٢) » وإن كان هو لم يذكر ما ذكرناه أيضا من توجيه تعليلهم البطلان بتعذر نية القربة من غير المؤمن.

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٧ ـ من أبواب صفات القاضي الحديث ٤٠ من كتاب القضاء.

(٢) الوسائل الباب ـ ٢٩ ـ من أبواب مقدمة العبادات.

٢٣١

ومن الغريب أنه في الرياض وافق أولا على اشتراط الايمان مستدلا عليه بنصوصه ولكن قال بعد ذلك بصحة عتق الكافر إذا لم يكن عن كفارة. وأغرب منه ما في التنقيح من صحة عتق الكافر غير الجاحد حاكيا له عن العلامة واستحسنه ، وأنه يستحق عليه عوضا يشبه الثواب ، فيسقط بها جزء من عقابه ، ولا يخفى عليك ما فيه بعد الإحاطة بما ذكرناه ، والله المؤيد والمسدد.

وكيف كان ف يعتبر نية التعيين إن اجتمعت أجناس مختلفة على المكلف متماثلة ، كما لو كان عليه كفارة ظهار وقتل خطأ ، أو مختلفة كأحدهما مع كفارة اليمين مثلا على الأشبه بأصول المذهب وقواعده التي منها توقف صدق الامتثال عليه عقلا وعرفا ، كما عرفت في كل عبادة تعدد جنسها على المكلف به ، إذ لا مميز للفعل إلا النية ، والفرض عدم أمر مطلق يقصد امتثاله ، كما أن تعدد السبب لا يقتضي تعدد المأمور به دون الأمر ، فليس خطابه حينئذ بعتق رقبتين ، بل هو مأمور بعتقين أحدهما للظهار والآخر للقتل مثلا ، فلا بد من امتثال كل منهما ، ولا يحصل إلا بملاحظة خصوص كل واحد منهما ، وإلا لم يقع لأحدهما ، فلا يصدق عليه امتثال أحدهما ، مؤيدا ذلك كله بقاعدة الشغل وغيرها.

خلافا للمحكي عن المبسوط ، فاكتفى بالإطلاق مطلقا ووافقه عليه سيد المدارك ، لأصالة البراءة من اشتراطه المقطوعة بما عرفت ، ودعوى حصول الامتثال للأمر بالتكفير وانصرافه إلى واحدة لا بعينها فيبقى في ذمته اخرى الممنوعة على مدعيها بما سمعت ، ضرورة أنه لا أمر بالتكفير على جهة الإطلاق ، وإنما الموجود الأمر بالتكفير المقيد ، وليس امتثاله عرفا بالمطلق الذي لم يتعلق به أمر ، ولو سلم نظير ذلك في الدفع وفاء عن الدين المتعدد بسبب الرهانة في بعضه دون آخر أو بسبب اختلاف من له الدين فيتحقق الوفاء مع إطلاق الدفع وإن كان الاحتمالات في توزيعه أو تعيينه بعد الدفع أو القرعة متعددة ، ففرق واضح بين العبادة المتوقف صحتها على ملاحظة امتثال الأمر المتعلق بها بخلاف وفاء الدين المتحقق عرفا صدقه وإن فقد التعيين المزبور ، فقياس ما نحن فيه على ذلك ـ كما يومئ إليه ما تسمعه عن الشيخ‌

٢٣٢

من الاكتفاء بالتعيين بعد الفعل ـ واضح الفساد.

وأوضح منه فسادا تخيل اتحاد الأمر هنا باعتبار اندراج الجميع تحت اسم التكفير الذي قد عرفت عدم مشروعية مطلقه ، وإنما هو اسم انتزاعي لأنواع متعددة كل منها متعلق أمر خاص لا يصدق امتثاله إلا بملاحظته وإلا فالأمر بالعبادة أيضا متحد ، مع أنه لا ريب في أن تحته أنواعا مختلفة ، والمراد باتحاد الأمر وتعدده التنويع الشرعي بالأوامر المستقلة وعدمه ، وهذا هو المدار في وجوب التعيين وعدمه مع الاجتماع على المكلف ، كما ستسمع زيادة توضيحه.

كل ذلك مضافا إلى إشكال قول الشيخ في صورة الاختلاف حكما ككفارة الظهار واليمين ، فإنه إن تخير بعد العتق بين عتق آخر والإطعام كان العتق منصرفا إلى المرتبة ، وهو خلاف الفرض ، وإن تعين العتق ثانيا كان منصرفا إلى المخيرة ، وهو خلاف التقدير أيضا ، ومن هنا فصل في محكي المختلف ، فأوجب التعيين مع اختلاف الكفارة حكما بالتخيير وعدمه ، لا مع اتفاقهما ولو في أصل وجوب العتق ، ككفارة الظهار والقتل خطأ أو أحدهما مع كفارة الجمع.

وربما دفع الاشكال السابق بانصراف العتق أولا إلى المرتبة لترجيحها على المخيرة بتعيينه فيها دونها ، وهو كما ترى. وبأن الشيخ صرح في المبسوط بجواز التعيين بعد الإبهام ، فينصرف العتق إلى من أراد صرفه إليها ، كما لو عين في الابتداء ، ويبقى حكم الآخر بحاله ، فلا محذور حينئذ ، واختاره الفاضل في التحرير وولده.

وفيه ـ مع منع ذلك عليه في العبادة وإن قلنا به في مثل الديون ـ أنه قد يتعذر عليه ذلك بموت ونحوه ، على أن الاشكال قبل التعيين.

وفي المسالك « يمكن دفعه هنا بالتزام تعيين العتق ثانيا على تقدير كون إحداهما مرتبة والآخرى مخيرة ، ولا يلزم انصراف العتق أولا إلى المخيرة ، بل إلى كفارة مطلقة مما في ذمته ، وتبقى اخرى مطلقة كذلك مترددة بين المرتبة‌

٢٣٣

والمخيرة ، وإن اختار غير العتق لم تحصل براءة الذمة مما هو متعلق بها ، لأنه ليس مخيرا ، وإذا اختار العتق برئت ذمته على التقديرين ، فتعين العتق لذلك لا لانصرافه إلى المخيرة وإن شاركه في المعنى ، وهذا كمن عليه كفارة مشتبهة بين المخيرة والمرتبة ، فإنه يتعين عليه العتق لتيقن براءة الذمة منهما وإن لم يكن العتق متعينا عليه في نفس الأمر ، بل من باب مقدمة الواجب ، لتوقف براءة الذمة عليه ».

قلت : قد تبع بذلك الفاضل في القواعد وولده في الإيضاح ، بل أطنب في تحرير المعنى المزبور ، وقال : « إنه من غوامض هذا الباب ».

ولكن قد يقال : إن المتجه على ما يقوله الشيخ مع فرض عدم التعيين ابتداء وبعد العتق الاجتزاء بإحدى خصال الكفارة المخيرة ، ولا يتعين عليه العتق ، وذلك لأن مقتضى دليله رجوع أوامر الكفارات المتعددة وإن اختلفت إلى أمر واحد وهو التكفير ، فيجتمع حينئذ على المكلف حكم الترتيب والتخيير ، ويكون كما لو قال له « أعتق » مثلا و « أعتق أو صم أو أطعم » مثلا الذي لا ريب في تحقق الامتثال فيه بما ذكرنا ، ضرورة كونه حينئذ عنده كسب واحد اقتضى ذلك ، لأنه أرجع الأوامر المتعددة إلى أمر واحد بمقتضى كل واحد منها ، ولذا لم يوجب التعيين ، معللا له بصدق امتثال الأمر بالتكفير بدونه ، وإن كان قد أوضحنا فساده ، وقلنا : إنه لا أمر بالتكفير مطلقا ، وإنما الموجود الأوامر الخاصة ، والتكفير الشامل لها قدر انتزاعي منا ، وإنما الكلام في التفريع على قوله صحيحا كان أو فاسدا ، والتحقيق فيه ما ذكرناه ، وليس عنده الباقي بعد العتق كفارة مجملة دائرة بين المرتبة والمخيرة كي يجب مراعاة الترتيب تحصيلا للبراءة اليقينية ، بل صريح كلامه أن العتق الأول يقع مطلقا لا مجملا ، ولكن قد اكتفى في الامتثال بإطلاقه ، كوفاء درهم من الدرهمين في الذمة ، تعدد سبب شغلها أو اتحد ، وحينئذ فالمتجه الاكتفاء في الامتثال بخصلة المرتبة ، وواحدة من خصلة التخيير ، ولعل هذا أغمض مما ذكره فخر المحققين ، وخصوصا إذا لاحظ وقوع ما ذكرناه دفعة بالعتق مثلا والإطعام من‌

٢٣٤

وكيله لو كيل الستين ، والله العالم والموفق والمؤيد والمسدد.

وكيف كان ف لو كانت الكفارات من جنس واحد بأن تكرر الظهار منه أو القتل خطأ أو الإفطار في شهر رمضان قال الشيخ في محكي الخلاف يجزئ نية التكفير مع القربة ، ولا يفتقر في الامتثال إلى التعيين بملاحظة سبب كل واحد منها بخصوصه ، لصدق الامتثال بدونه ، بل في محكي الخلاف نفي الخلاف عنه.

وفي غاية المراد « لم أعرف القول باشتراط التعيين مع تجانس السبب لأحد من العلماء ، ولكن المحقق جعل فيه إشكالا » وإن أنكر عليه الصيمري ذلك ، وقال : « إن مذهبه في الدروس وجوب التعيين ، اتحدت الكفارة أو تعددت ، اختلف الجنس أو اتحد ، وهو ظاهر المصنف في المختصر ، لأنه أطلق وجوب التعيين ، وهو المعتمد ». قلت : هو كذلك فيما حكاه عنهما.

ولعله لذا قال الكركي في حاشية الكتاب : « المعتمد أنه لا بد من التعيين مطلقا ، اختلف الأجناس أو تجانست ، لأن الاجزاء إنما يتحقق بالإتيان بالمأمور به على الوجه المأمور به ، وإنما يؤثر في وجوه الأفعال النية ، فلا تتعين الكفارة لسبب معين إلا بالتعيين ، ولا يضر قول شيخنا في شرح الإرشاد بأن اشتراط التعيين مع تجانس السبب لا نعرفه قولا لأحد من العلماء سوى ما ذكره المصنف فيه من الإشكال ، إذ لا يضر عدم القائل مع قيام الدليل حيث لم يثبت الإجماع ، ونقل الشيخ عدم الخلاف في ذلك مع تحققه غير قادح ».

قلت : ومما عرفت يظهر الوجه في قول المصنف وفيه إشكال مضافا إلى ما ذكره غير واحد في وجهه من أن كل واحد من الكفارات عمل ، وكل عمل مفتقر إلى النية ، فكل كفارة تحتاج إلى نية ، وإن كان فيه أن البحث في نية التعيين لا أصل النية التي لا كلام في وجوبها في كل واحد منها ، ضرورة عدم صحة العبادة بدونها ، ولا ريب في أن كل كفارة عبادة.

٢٣٥

ومن ذلك يعلم أن كثيرا من الكلمات في المقام مغشوشة حتى هؤلاء القائلين بوجوب التعيين في المفروض ، فإن الصيمري منهم قال : « والمراد بالتعيين تعيين السبب لا تعيين شخص الكفارة فلا يجب أن يقول : « قتل زيد أو عمرو » ولا النذر الفلاني ، وقد أخذه من الشهيد في غاية المراد قال : « واعلم أن هاهنا تنبيها ، وهو أن النزاع إما أن يكون في اشتراط تعيين خصوصية المحلوف عليه أو في اشتراط تعيين مطلق السبب؟ فان كان الأول فاحتمال عدم الاشتراط أظهر ، وإن كان الثاني فالحق الاشتراط ، لتردد الكفارة بين ما في الذمة وبين غيره ، وليس صرفها إلى ما في الذمة أولى من صرفها إلى غيره ، فلا يتمحض لما في الذمة إلا بالنية ، والظاهر أنه لا نزاع في هذا عند هؤلاء ، وأن محل النزاع هو الأول ».

قلت : ومن الغش الذي ذكرناه ما ذكروه من وجوب التعيين مع الاتحاد الذي هو صريح الدروس والتنقيح ، ونسبوه إلى ظاهر النافع ، مع أنه لا وجه لاعتبار التعيين مع الاتحاد ، ضرورة كون المراد بالتعيين مع اشتراك ما في ذمة المكلف ، وإلا فالمتعين في نفسه لا يحتاج إلى التعيين ، واحتمال وجوب ملاحظة خصوص السبب تعبدا لا للتمييز ـ مع أنه من غير مسألة التعيين ـ واضح الفساد ، ضرورة إطلاق أوامر التكفير بأسبابها ، فالسبب غير داخل في وجه المأمور به قطعا ، وإنما تجب نية السبب للتشخيص مع الاشتراك ، بل هو كغيره من المشخصات ولا خصوصية له ، ومن هنا صح نية القربة والتكفير لمن كان في ذمته كفارة مرددة بين الظهار والقتل وإن تمكن من العلم بالرجوع إلى كتاب له مثلا أو بالتذكر ونحوهما.

نعم لا يجزئ مع الاتحاد نية العتق المطلق من غير ملاحظة التكفير لاشتراكه حينئذ بين التطوع وبينه ، وهذا غير ما نحن فيه ، كما أن ما سمعته من الصيمري لا مدخلية له في مسألة التعيين التي هي على القول بها في المتجانس لا بد من ملاحظة خصوص كل واحد منها بمشخص من مشخصاته.

وبذلك كله ظهر لك عدم تنقيح المسألة عندهم ، والتحقيق فيها ما أشرنا إليه بعد عدم دليل بالخصوص قطعا من أنه متى تعددت الأوامر على وجه يقتضي التنويع‌

٢٣٦

لم يحصل الامتثال إلا بملاحظة كل واحد منها ، إذ المطلق لا أمر به كي يصح امتثاله ، والفعل لا مشخص له مع اشتراكه إلا بالنية ، ومتى كان الأمر متحدا وإن تعددت أفراده لا يجب التشخيص ، لصدق الامتثال بدونه قطعا ، وذلك كقضاء أيام شهر رمضان الذي هو في الحقيقة كوفاء الدين ، والأمر الضمني لا يقتضي التنويع ، ففي الكفارات مع اجتماع أسبابها كالظهار والقتل خطأ أو أحدهما مع الإفطار في شهر رمضان لا بد من التعيين ، لأنها أوامر متعددة متنوعة ، ولا مدخلية لاتفاق حكم الكفارة بالترتيب والتخيير وعدمه ، ضرورة عدم اقتضاء الأول اتحاد الأمر الذي قد عرفت أنه المناط في عدم وجوب التعيين.

فما سمعته في المختلف ـ من التفصيل بين المتفقة حكما فلا يجب التعيين بخلاف المختلفة في الترتيب والتخيير فيجب ـ واضح الفساد ، كما أن القول بوجوب نية التعيين في أفراد متحدة السبب ككفارات الظهار مثلا على وجه لا يجزئ إلا نية خصوص كل منها بأحد مشخصاتها كذلك أيضا ، ضرورة أنها أفراد أمر واحد ، وتعددها بتعدد السبب لا يقتضي تعدد أوامرها على وجه التنويع ، ضرورة كون السبب في جميعها الأمر بالكفارة للظهار ، وفي الحقيقة مع تعدد السبب ـ مرتين مثلا ـ كان كالأمر بعتق رقبتين ، بل كالأمر بوفاء الدرهمين وإن استقرضهما بعقدي القرض مثلا بخلاف اختلاف الجنس كالقتل والظهار ، فان لكل منهما أمرا مستقلا بكفارته بتوقف امتثاله على تشخيصه ، وكان الشيخ في المبسوط ظن أن هذه الأسباب كأسباب الدين المختلفة بالقرض والجناية والشراء مثلا ، فإنه مع اجتماع القدر المخصوص منها في الذمة يكفي في صدق الوفائية الدفع المطلق عنها من دون تشخيص ، ولكنه كما ترى ، ضرورة الفرق بين أوامر العبادة الملاحظ فيها قصد الامتثال وغيرها ، فلا بد من ملاحظة كل واحد منها بإحدى مشخصاته في صدق امتثاله.

وبذلك كله بان لك الوجه في اختلاف كلماتهم ، وأن التحقيق فيها ما ذكرنا ،

٢٣٧

وأنه لا معنى لإشكال المصنف في عدم وجوب التعيين في أفراد متحدة الجنس لما عرفت من أنها أفراد أمر واحد ، نعم يجب قصد التكفير عن ذلك السبب أو عما في ذمته في كل واحد منها لا خصوص كل واحد منها بمشخصه. كما إذا اختلف السبب.

بل بان لك مما ذكرناه أنه لا وجه لقول المصنف أما الصوم فالأشبه بالمذهب أنه لا بد فيه من نية التعيين ضرورة عدم الفرق بين الصوم وغيره من خصال متحدة الجنس ، وقول الأصحاب يجب التعيين في الصوم في غير شهر رمضان والنذر المعين يراد منه بنية التكفير ، لا خصوص كل شخص من أشخاص سببها المتحد ، كما هو واضح وبذلك يظهر لك أن هذا الكلام من جملة الكلام المغشوش.

وأما ما ذكره هنا من أنه يجوز تجديدها إلى الزوال فهو أمر خارج عما نحن فيه ، وقد استوفينا الكلام فيه في كتاب الصوم ، وأنه هل يختص بالناسي ومن بدا له أو مطلقا حتى من تعمد العدم في الليل حتى طلع الفجر ، فلاحظ وتأمل.

٢٣٨

( فروع : )

( على القول بعدم ) وجوب ( التعيين‌ )

( الأول : )

لو أعتق عبدا عن إحدى كفارتيه المتفقتين في الترتيب ، أو التخيير أو المختلفتين صح ، لتحقق نية التكفير التي اجتزأ بها القائل بذلك إذ لا عبرة بالسبب عنده ولا غيره من المميزات مع اتحاد الحكم الذي هو وجوب العتق مرتبا أو مخيرا ، نعم على ما سمعته من العلامة لا بد من إرادة الترتيب في الكفارتين أو التخيير فيهما من اتحاد الحكم فهو حينئذ أخص من الأول ، وحينئذ فإن كانتا مع اختلاف سببهما متفقتين في الجمع أو الترتيب أو التخيير بري‌ء من العتق عن أحدهما ، ولزمه في الأول عتق رقبة اخرى مطلقة كذلك فتبرأ ذمته منهما بالنسبة إلى العتق ، وكذا في الثاني أو المركب منهما ، وأما الثالث فإنه بالعتق تبرأ من إحداهما ويتخير ثانيا بين فعل إحدى الخصال الثلاث مطلقة فيبرأ منهما.

ولو كانت إحداهما مرتبة والآخرى مخيرة برئت ذمته من إحداهما أيضا لا على التعيين ، وتعين عليه العتق ثانيا عن إحداهما كذلك ، لتوقف البراءة مما في ذمته المتردد بين الأمرين عليه إن لم يصرف ذلك المطلق الأول بعد العتق إلى واحدة معينة وإلا لزمه حكم الآخرى خاصة ، ولو عجز ثانيا عن العتق تعين عليه الصوم ، لما عرفت من العلة في العتق.

٢٣٩

( الثاني : )

لو كان عليه كفارات ثلاث متساوية في الترتيب بين العتق والصوم والصدقة نحو كفارة الظهار والقتل والجز بناء على أنه كفارة ظهار ، أو متساوية في الخصال وإن اختلفت في الترتيب والتخيير ، كما لو كان مع الأولتين كفارة إفطار شهر رمضان فأعتق ونوى القربة والتكفير أجزأ عن واحدة غير معينة إذا لم يعينها بعد العتق.

ثم لو عجز عن العتق فصام شهرين متتابعين بنية القربة والتكفير بري‌ء من اخرى كذلك أيضا ثم لو عجز عن الصوم فأطعم ستين مسكينا كذلك بري‌ء من الثلاث ولو لم يعين وكذا لو كان إحدى الثلاث مثلا مخيرة ، أما لو كانت الثلاث مخيرة فلا حاجة إلى اعتبار العجز بخلافه على الأولين ، ولو اجتمع عليه ثلاث كفارات جمع فأعتق ونوى الكفارة مطلقا فإنه يبرأ من عتق واحدة غير معينة ، فاذا صام كذلك بري‌ء من صوم واحدة كذلك ، فإذا أطعم فكذلك ثم إن لم يصرفه إلى واحدة معينة وإلا افتقر في تعيين الخصال إلى الإطلاق ، والله العالم.

٢٤٠