جواهر الكلام - ج ٣٢

الشيخ محمّد حسن النّجفي

وفي رواية يلقى عليها القناع ، فيكون ذلك طلاقا وفي‌ خبر أبان بن عثمان (١) « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن طلاق الأخرس ، قال : يلف قناعها على رأسها ويجذبه » محمول على أن ذلك من أفراد الإشارة ، لا اختصاص صحة الطلاق بذلك منها ، لضعف الخبرين وإن كان هو الأحوط تخلصا مما حكي عن جماعة منهم الصدوقان من اعتبار ذلك وإن أمكن حمله على ما سمعته أيضا كصحيح ابن أبي نصر (٢) قال : « سألت الرضا عليه‌السلام عن الرجل تكون عنده المرأة فيصمت فلا يتكلم ، قال : أخرس؟ قلت : نعم ، قال : يعلم منه بغض لامرأته وكراهة لها؟ قلت : نعم ، يجوز له أن يطلق عنه وليه؟ قال : لا ، ولكن يكتب ويشهد على ذلك ، قلت : أصلحك الله تعالى لا يكتب ولا يسمع كيف يطلقها؟ قال : بالذي يعرف به من فعله مثل ما ذكرت من كراهته لها أو بغضه لها » المحمول على أن الكتابة أيضا من جملة أفراد الإشارة ، بل لعلها أقواها ، لأنها أضبط وأدل على المراد ، ولعله لذا قدمها ابن إدريس على غيرها من أفراد الإشارة ، لكن لا دليل عليه سوى الصحيح المزبور الذي لا دلالة فيه على اعتبار الترتيب ، وأقصاه الدلالة على ذكر أفراد الإشارة ، لخبر يونس (٣) « في رجل أخرس كتب في الأرض بطلاق امرأته ، قال : إذا فعل ذلك في قبل الطهر بشهود وفهم عنه كما يفهم عن مثله ويريد الطلاق جاز طلاقه على السنة ».

وبالجملة لا يخفى على من له أدنى علم بروايات أهل العصمة عليهم‌السلام ظهورها فيما ذكرنا من المعنى ، وقد تقدم في البيع وغيره ما يؤكد ذلك وما يستفاد منه حكم من لا يستطيع إلا العربية الملحونة مادة أو إعرابا أو غير ذلك ، فلاحظ وتأمل.

وكيف كان فـ ( لا يقع الطلاق بالكتابة من الحاضر وهو قادر على‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١٩ ـ من أبواب مقدمات الطلاق الحديث ٢.

(٢) الوسائل الباب ـ ١٩ ـ من أبواب مقدمات الطلاق الحديث ١.

(٣) الوسائل الباب ـ ١٩ ـ من أبواب مقدمات الطلاق الحديث ٤.

٦١

التلفظ قولا واحدا ، للأصل والنصوص (١) السابقة الحاصرة للطلاق بالقول المخصوص ، وغيرها كقوله عليه‌السلام (٢) : « إنما يحرم الكلام ويحلل الكلام » مضافا إلى معلومية عدم وقوع الطلاق بالأفعال ، بل ربما ادعى أنه اسم للألفاظ المخصوصة المؤثرة للطلاق ، وإلى‌ صحيح زرارة (٣) « قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : رجل كتب بطلاق امرأته أو بعتق غلامه ثم بدا له فمحاه ، قال : ليس ذلك بطلاق ولا عتاق حتى يتكلم به » ومضمر ابن أذينة (٤) « سألت عن رجل كتب إلى امرأته بطلاقها أو كتب بعتق مملوكه ولم ينطق به لسانه ، قال : ليس بشي‌ء حتى ينطق به » من غير فرق في ذلك بين الغائب والحاضر ، لإطلاق الأدلة ، بل في الخلاف والمبسوط الإجماع على ذلك على أن مقتضى قاعدة السببية عدم الفرق فيها بين الجميع في العقود والإيقاعات نعم لو عجز عن النطق ولو لعارض في لسانه فكتب ناويا به الطلاق صح بلا خلاف ، لما سمعته في الأخرس نصا (٥) وفتوى.

ولكن مع ذلك كله قيل والقائل ابنا حمزة والبراج تبعا للشيخ في النهاية التي هي معدة لذكر متون الأخبار ، وإلا فقد سمعت دعواه الإجماع على العدم في كتابي الفتوى يقع بالكتابة إذا كان غائبا عن الزوجة لصحيح الثمالي (٦) « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل قال لرجل : اكتب يا فلان إلى امرأتي بطلاقها أو اكتب إلى عبدي بعتقه يكون ذلك طلاقا وعتقا فقال : لا يكون طلاق ولا عتق حتى ينطق به لسانه ، أو يخطه بيده وهو يريد به الطلاق أو العتق ،

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١٦ ـ من أبواب مقدمات الطلاق.

(٢) الوسائل الباب ـ ٨ ـ من أبواب أحكام العقود الحديث ٤ من كتاب التجارة.

(٣) الوسائل الباب ـ ١٤ ـ من أبواب مقدمات الطلاق الحديث ٢.

(٤) الوسائل الباب ـ ١٤ ـ من أبواب مقدمات الطلاق الحديث ١ عن عمر بن أذينة عن زرارة ، قال : « سألته. ».

(٥) الوسائل الباب ـ ١٩ ـ من أبواب مقدمات الطلاق الحديث ١ و ٤.

(٦) الوسائل الباب ـ ١٤ ـ من أبواب مقدمات الطلاق الحديث ٣ عن أبى جعفر عليه‌السلام.

٦٢

ويكون ذلك منه بالأهلة والشهور ، ويكون غائبا عن أهله » المعلوم قصوره عن مقاومة ما تقدم من وجوه : ( منها ) موافقة الصحيح المزبور للعامة الذين أوقعوا الطلاق بالكتابة كالكناية ، لأنها أحد الخطابين ، وأحد اللسانين المعربين عما في الضمير ، ونحو ذلك من الاعتبارات التي لا توافق أصول الإمامية.

و ( منها ) الشذوذ حتى من القائل به ، لعدم اعتباره الكتابة بيده على وجه لا يجوز له التوكيل ، بل قد سمعت دعوى الإجماع في مقابله ، مؤيدا بالتتبع لكلمات الأصحاب قديما وحديثا ، بل لا يخلو ذيله من تشويش ما أيضا.

مضافا إلى ما سمعته من النصوص ، فكيف يحكم بمثله على غيره ، وإن كان هو مقيدا والأول مطلقا إلا أن من المعلوم اعتبار المقاومة فيه من غير جهتي الإطلاق والتقييد ، كما تحرر في الأصول ، ولا ريب في فقدها كما عرفت. وحينئذ فالمتجه طرحه أو حمله على التقية أو على كون « أو » فيه للتفصيل الذي يكفي فيه الجواز حال العجز ، لا للتخير أو غير ذلك من الاحتمالات التي هي أولى من الطرح بعد أن عرفت مرجوحيته بالنسبة إلى مقابله وعلى كل حال فالقول ليس بمعتمد.

فمن الغريب ما في المسالك من الإطناب في ترجيح مضمون الخبر المزبور لمكان صحة سنده وكونه مقيدا والمعارض له مطلق ، لكن لا عجب بعد أن كان منشأ ذلك اختلال طريقة الاستنباط كما وقع له ، وتسمع مثل ذلك غير مرة ، ونسأل الله العفو لنا وله من أمثال ذلك ، وأغرب من ذلك تأييده القول بالصحة بالاعتبارات المذكورة في كتب العامة ، فلاحظ وتأمل.

ثم قال في المسالك : « واعلم أنه على تقدير القول بوقوعه بها يعتبر القصد بها إلى الطلاق ، وحضور شاهدين يريان الكتابة : وهل يشترط رؤيته حال الكتابة أم يكفي رؤيتهما لها بعدها ، فيقع حين يريانها؟ وجهان ، والأول لا يخلو من‌

٦٣

قوة ، لأن ابتداءها هو القائم مقام اللفظ ، وإنما تعلم النية بإقراره ، ولو شك فالأصل عدمها ، وحينئذ فتكون الكتابة كالكناية ، ومن ثم ردها الأصحاب مطلقا اطرادا للقاعدة ، مع أنهم نقضوها في مواضع كما ترى ، ولا فرق في الغائب بين البعيد بمسافة القصر وعدمه ، مع احتمال شموله للغائب عن المجلس ، لعموم النص (١) والأقوى اعتبار الغيبة عرفا ، ولتكن الكتابة للكلام المعتبر في صحة الطلاق ، كقوله : « فلانة طالق » أو يكتب إليها « أنت طالق » ولو علقه بشرط كقوله : « إذا قرأت كتابي فأنت طالق » فكتعليق اللفظ إلى غير ذلك مما ذكره العامة مفرعين له على أصلهم الفاسد.

والأصحاب إنما ردوا عليهم الكنايات القولية فضلا عن الفعلية ، ولولا النهي عن اللغو في الكلام لأمكن مناقشتهم في كثير مما ذكروه من هذه الفروع على ذلك الأصل الفاسد ، والله أعلم بحقيقة الحال.

وعلى كل حال فـ ( لو قال ) « أنت خلية من الزوج » أو « برية منه » أو « حبلك على غاربك » أو « ألحقى بأهلك » أو « بائن » أو « حرام » أو « بتة » أي مقطوعة الزوجية أو « بتلة » أي متروكة النكاح أو « لا أنده سربك » أو « اغربى عني » أي غيبي ، أو « اغربى » أى تباعدى ، أو « اذهبي » أو « أخرجي » أو « ترجعى كأس الفراق » أو « ذوقى مرارته » أو « كلي زاده » أو « اشربي شرابه » أو غير ذلك من ألفاظ الكناية التي ذكرها العامة في كتبهم أمثلة للظاهر منها والخفي لم يكن شيئا عندنا سواء نوى الطلاق بها أو لم ينوه بلا خلاف أجده فيه ، بل الإجماع بقسميه عليه ، مضافا إلى النصوص (٢) السابقة الحاصرة للطلاق بما سمعت والمصرحة بعدم وقوع الطلاق بأمثال ذلك.

وخلافا لهم ، فجوزها وقوع الطلاق بها مع مقارنة النية لجميع اللفظ كما‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١٤ ـ من أبواب مقدمات الطلاق الحديث ٣.

(٢) الوسائل الباب ـ ١٦ و ١٥ ـ من أبواب مقدمات الطلاق.

٦٤

في قول ، ولأوله سواء استمرت إلى آخره أولا في آخر ، بخلاف ما إذا تقدمت عليه أو تأخرت عنه ، نعم لو اقترنت بآخره وجهان ، كما أن القولين لهم في أن أولها « أنت » أو الباء من « بائن » إلى غير ذلك من خرافاتهم التي تمجها الأسماع ، لأنها من وحي الشياطين ( بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً ) ، وكان اعتبارهم النية هنا للفرق عندهم بين صريح اللفظ وكنايته ، فلم يعتبروا النية في الأول ، فجوزوه من السكران والهازل بخلاف الثاني ، فاعتبروا فيه النية على الوجه المزبور.

أو يقال : إن الصريح لا اشتراك فيه بين معنى الطلاق وغيره ، بخلاف الكنائي فإنه مشترك بين معنيين ، فلا بد من قصد المعنى الطلاقي منه بخلاف الأول ، وفيه أنه لا صريح في الطلاق على وجه لا يحتمل غيره حتى « أنت طالق » المحتمل للإنشاء والإخبار ، ومنه حل الوثاق وغيره.

أو يقال : إن المراد عدم اعتبار العلم بحصول النية في الحكم بالطلاق إذا كان بالصريح ، بخلاف الكنائي فإنه لا بد من العلم بذلك بتصريح منه أو بغيره من قرائن الأحوال ، أو غير ذلك مما لا حاجة لنا في تحقيقه بعد أن عرفت عدم الوقوع بالكناية عندنا ، بل وبالصريح مع عدم القصد إلى الطلاق به وإن أطنب بعض الناس هنا في ذلك.

وكيف كان فقد بان لك من جميع ما ذكرنا أنه لو قال : « اعتدى » ونوى به الطلاق أو استبرئى رحمك لم يكن شيئا ، لما سمعته من الأدلة السابقة ، مضافا إلى الإجماع في الانتصار ومحكي الخلاف عليه بالخصوص ، وإلى أنه من الكناية بل الخفي منها الذي قد عرفت الإجماع وغيره على عدم الطلاق به ، نعم قد ذكره العامة في ألفاظ كناية الطلاق ، حتى صرح بعضهم بوقوعه به وإن كان غير مدخول بها.

ولكن قيل والقائل محمد بن أبي حمزة والإسكافي منا يصح الطلاق بقول : « اعتدى » بل عن الطاطري أنه الذي أجمع عليه وهي رواية الحلبي (١)

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١٦ ـ من أبواب مقدمات الطلاق الحديث ٤.

٦٥

ومحمد بن مسلم (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام المتقدمتان سابقا ، إلا أن الجميع كما ترى. ولذا منعه كثير بل الجميع وهو الأشبه بأصول المذهب وقواعده التي منها طرح الخبر الشاذ الموافق للعامة المهجور بين الأصحاب ، حتى حكوا الإجماع عليه ، بل عن ابن سماعة أنه قال : « غلط محمد بن أبي حمزة في ذلك » وأما الإسكافي فمن المعلوم ميلة إلى ما عليه العامة من القياس فضلا عن ذلك ، فلا محيص للفقيه المستضي‌ء بأنوار أهل العصمة عليهم‌السلام عن رد هذين الخبرين إليهم بالنسبة إلى ذلك ، أو الحمل على التقية التي لا ينافيها ذكر عدم الوقوع بنحو « خلية » و « برية » مما يقع الطلاق بها عندهم ، لا مكان الإبهام عليهم بالفرق بين ألفاظ الكنايات كما وقع لبعضهم ، أو على إرادة معنى الواو من « أو » على معنى ذكر ما يدل على إرادة الطلاق من « أنت طالق » في مقابل قول العامة بوقوع الطلاق بها مطلقا ، أو على إرادة بيان كون الطلاق يقع بحضورها أو غيبتها ، فان كان الثاني يرسل إليها رسولا يقول لها : « اعتدى ».

كما عساه يشهد له‌ الصحيح أو الحسن (٢) عن أبى جعفر عليه‌السلام « الطلاق للعدة أن يطلق الرجل امرأته عند كل طهر ، يرسل إليها أن اعتدى فإن فلانا قد طلقك » والموثق (٣) عن أبى عبد الله عليه‌السلام « يرسل إليها فيقول الرسول : اعتدي فإن فلانا قد فارقك » قال ابن سماعة راوي الموثق « إنما معنى قول الرسول : اعتدي فإن فلانا قد فارقك : يعنى الطلاق أنه لا يكون فرقة إلا بطلاق » وفي الكافي متصلا بذلك : حميد بن زياد عن ابن سماعة عن علي بن الحسن الطاطري (٤) قال : « الذي أجمع عليه في الطلاق أن يقول : أنت طالق أو اعتدى ، وذكر أنه قال لمحمد بن‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١٦ ـ من أبواب مقدمات الطلاق الحديث ٣ عن أبى جعفر عليه‌السلام كما تقدم في ص ٥٦.

(٢) الوسائل الباب ـ ١٦ ـ من أبواب مقدمات الطلاق الحديث ٥.

(٣) الوسائل الباب ـ ١٦ ـ من أبواب مقدمات الطلاق الحديث ٢.

(٤) الكافي ج ٦ ص ٧٠.

٦٦

أبى حمزة : كيف يشهد على قوله : اعتدى؟ قال : يقول : اشهدوا اعتدى ، قال ابن سماعة : غلط محمد بن أبي حمزة أن يقول : اشهدوا اعتدى ، قال الحسن بن سماعة : ينبغي أن يجي‌ء بالشهود إلى حجلتها ، أو يذهب بها إلى الشهود في منازلهم ، وهذا المحال الذي لا يكون ، ولم يوجب الله عز وجل هذا على العباد ، وليس الطلاق إلا كما روى بكير بن أعين » إلى آخر ما سمعت سابقا.

ومن الغريب بعد ذلك كله ميل ثاني الشهيدين إلى القول المزبور ، بل زاد عليه بالتعدي إلى كل كناية هي أولى منه ، وربما تبعه على ذلك بعض من تأخر عنه ، وأطنب في الكلام ، وأظهر العجب ، والانصاف أنه أحق بذلك ، بل في كلامه نظر من وجوه ، زيادة على كون منشئه الخلل في طريقة الاستنباط ، بل فيما نقله عن الحسن ابن سماعة خلل على ما في الكافي من أنه روى ذلك عن بكير بن أعين ، لا عن ابن بكير الذي طعن فيه وفي روايته ، وكان الاعراض عن كلامه وعما فيه أولى ، فلاحظ وتعجب ، واشكر الله المؤيد المسدد ، والله العالم.

ولو خيرها وقصد تفويض الطلاق إليها وجعله بيدها فان اختارته أي الزوج أو سكتت ولو لحظة تقدح في الاتصال عرفا فلا حكم له عندنا. بل وعند المخالفين عدا مالك منهم ، فإنه قال : « تكون عنده مع اختيارها له على طلقة » وفي إيضاح الفخر « إذا تأخر اختيارها لم يقع اتفاقا وإن اختارت عقيب قوله بلا فصل فالأكثر كالشيخ أنه لا يقع » لكن عن ابن أبى عقيل الاكتفاء باختيارها في المجلس ، ولعله لخبر زرارة (١) عن أبي جعفر عليه‌السلام « قلت له : رجل خير امرأته ، فقال : إنما الخيار لهما ما داما في مجلسهما ، فإذا تفرقا فلا خيار لهما ».

وإن اختارت نفسها بقصد الطلاق في الحال قيل والقائل بعض العامة تقع الفرقة بائنة نعم عن ابن الجنيد منا ذلك إذا كان بعوض.

وقيل والقائل بعض آخر منهم وابن أبى عقيل منا تقع الفرقة رجعية.

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٤١ ـ من أبواب مقدمات الطلاق الحديث ٧.

٦٧

وقيل : لا حكم له أصلا وعليه الأكثر بل لم يحك الخلاف في ذلك إلا من ابني أبي عقيل والجنيد والمرتضى ، بل ظاهر ما حضرني من انتصار الأخير منهم عدم القول به ، فينحصر الخلاف حينئذ في الأولين ، وأما الصدوق فأقصاه أنه روى ما يدل على ذلك (١) ، وقد رجع عما ذكره في أول كتابه من أنه لا يروى فيه إلا ما يعمل عليه ، كما لا يخفى على المتصفح له. وعلى كل حال فهو من الأقوال النادرة المهجورة ، نحو ما سمعته من القول بوقوعه بقول : « اعتدى » أو نحوه من الكنايات.

وحينئذ فحجة المشهور مضافا إلى ما تسمعه من الروايات الخاصة (٢) ما تقدم من الروايات (٣) الحاصرة للطلاق بالصيغة الخاصة ، ضرورة كون المحصل من كلمات العامة والخاصة كون التخيير من الطلاق الكنائي ، لا أنه قسم مستقل برأسه كالخلع والمبارأة واللعان كي لا يستدل عليه بالحصر في صيغة الطلاق وإن كان يوهمه بعض النصوص (٤).

وظاهرهم أن الكناية بقولها : « اخترت نفسي » وحينئذ فلو قالت : « أنا طالق » في جوابه لم يكن إشكال في وقوعه حينئذ عند من يجوز مباشرتها له بالاذن فيه ، لكونه بالصريح ، فيكون البحث حينئذ عندنا في صحته بخصوص هذه الكناية وعدمه.

وقد يحتمل كون الكناية تخييره لها بقصد الطلاق ، ومرجعه إلى الطلاق منه ، لكنه معلق على اختيارها ، وهو مبني عند العامة على صحة وقوعه بالكناية‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٤١ ـ من أبواب مقدمات الطلاق الحديث ١٤ و ١٥.

(٢) الوسائل الباب ـ ٤١ ـ من أبواب مقدمات الطلاق.

(٣) الوسائل الباب ـ ١٦ ـ من أبواب مقدمات الطلاق.

(٤) الوسائل الباب ـ ٤١ ـ من أبواب مقدمات الطلاق الحديث ١٥ والباب ـ ٦ ـ من كتاب الخلع والمبارأة.

٦٨

ومعلقا أما عند الخاصة المخالفين في الأصلين ففي جوازه حينئذ في خصوص ذلك منهما. ولعله لذا استدل بعض أصحابنا في المقام على البطلان بما دل على فساد التعليق ، وكان السبب في ذلك تشويش كلمات العامة والخاصة في تحقيقه ، وإن كان الأصح بطلانه على الاحتمالات الثلاثة التي أظهرها كونه طلاقا بالكناية بقولها : « اخترت نفسي » للمعتبرة المستفيضة المعتضدة بالعمل قديما وحديثا.

كخبر عيسى بن القاسم (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « سألته عن رجل خير امرأته فاختارت نفسها بانت منه؟ قال : لا ، إنما هذا شي‌ء كان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاصة ، أمر بذلك ففعل ، ولو اخترن أنفسهن لطلقهن ، وهو قول الله تعالى (٢) ( قُلْ لِأَزْواجِكَ ) إلى آخره » وهو ظاهر في الاحتياج إلى الطلاق بعد الاختيار ، وعن بعض النسخ « لطلقن » وحينئذ يكون وجه اختصاصه واضحا أما على الأول الموافق لظاهر استدلاله بالاية يكون اختصاصه بوجوب الطلاق عليه لو اخترن أنفسهن.

وخبر محمد (٣) « سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن الخيار ، فقال : وما هو؟ وما ذاك؟ إنما ذاك شي‌ء كان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ».

وخبره الآخر (٤) « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إني سمعت أباك يقول : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خير نساءه ، فاخترن الله ورسوله ، فلم يمسكهن على طلاق ، ولو اخترن أنفسهن لبن ، فقال : إن هذا حديث كان يرويه أبي عن عائشة ، وما للناس والخيار ، إنما هذا شي‌ء خص الله به رسوله » وهو صريح في الرد على مالك القائل بأن المخيرة على طلقة إذا اختارت زوجها ، وفي أن الحديث الذي يرويه أبي بن كعب عن عائشة من أكاذيبها وافتراءاتها ، وإنما ألحق ما سمعته من تخييرهن في ذلك ، ولو أنهن اخترن أنفسهن لطلقهن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بطلاق.

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٤١ ـ من أبواب مقدمات الطلاق الحديث ٤ عن عيص بن القاسم كما في الكافي ج ٦ ص ١٣٧ والاستبصار ج ٣ ص ٣١٢.

(٢) سورة الأحزاب : ٣٣ ـ الآية ٢٨.

(٣) الوسائل الباب ـ ٤١ ـ من أبواب مقدمات الطلاق الحديث ١.

(٤) الوسائل الباب ـ ٤١ ـ من أبواب مقدمات الطلاق الحديث ٣.

٦٩

وخبره الآخر (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « ما للنساء والتخيير؟ إنما هذا شي‌ء خص الله به رسوله ».

وخبره الآخر (٢) عن أبي عبد الله عليه‌السلام أيضا « في الرجل إذا خير امرأته فقال : إنما الخيرة لنا ليس لأحد ، وإنما خير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمكان عائشة ، فاخترن الله ورسوله ، ولم يكن لهن أن يتخيرن غير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ».

بل‌ وخبر زرارة (٣) « سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول : إن الله عز وجل أنف لرسوله من مقالة قالتها بعض نسائه ، فأنزل الله تبارك وتعالى آية التخيير ، فاعتزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تسعا وعشرين ليلة في مشربة أم إبراهيم ، ثم دعاهن فخيرهن ، فاخترنه ، فلم يك شيئا ، ولو اخترن أنفسهن كانت واحدة بائنة ، قال : وسألته عن مقالة المرأة ما هي؟ فقال : إنها قالت : يرى محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه لو طلقنا أنه لا يأتينا الأكفاء من قومنا يتزوجونا » بناء على أن المراد من أن الله تعالى أنف له ، وخصه بهذا التخيير ، ومن قوله عليه‌السلام : « ولو اخترن » إلى آخرها أي كانت تطليقة بعد اختيار أنفسهن تطليقة واحدة بائنة ، وكأنه لم يصرح بذلك ليكون أقرب إلى التقية.

ومنه حينئذ يظهر وجه الدلالة في خبر الكناني (٤) وخبر عبد الأعلى (٥) وخبر داود بن سرحان (٦) وخبر أبي بصير (٧) بل قد يستفاد مما مر من النصوص في كتاب النكاح الدالة على عدم صحة تولية النساء هذا الأمر (٨) حتى لو جعل‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٤١ ـ من أبواب مقدمات الطلاق الحديث ١٣.

(٢) الوسائل الباب ـ ٤١ ـ من أبواب مقدمات الطلاق الحديث ٢.

(٣) الكافي ج ٦ ص ١٣٧ و ١٣٨.

(٤) الكافي ج ٦ ص ١٣٨.

(٥) الكافي ج ٦ ص ١٣٨.

(٦) الكافي ج ٦ ص ١٣٨ و ١٣٩.

(٧) الكافي ج ٦ ص ١٣٩.

(٨) الوسائل الباب ـ ٤١ ـ من أبواب مقدمات الطلاق الحديث ٥ و ٦ والباب ـ ٤٢ ـ منها.

٧٠

ذلك شرطا كان باطلا.

( منها ) : مرسل مروان عن بعض أصحابنا (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « ما تقول في رجل جعل أمر امرأته بيدها؟ قال : فقال : ولي الأمر من ليس أهله ، وخالف السنة ، ولم يجز النكاح ».

و ( منها ) صحيح ابن قيس (٢) عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « قضى على عليه‌السلام في رجل تزوج امرأة فأصدقها واشترطت أن بيدها الجماع والطلاق ، قال : خالفت السنة ووليت الحق من ليس بأهله ، قال : وقضى على عليه‌السلام أن على الرجل النفقة ، وبيده الجماع والطلاق ، وذلك السنة » ونحوه مرسل ابن فضال (٣).

ولا يخفى ظهور الجميع في عدم جواز التولية المزبورة ، ولذا لم يصح اشتراطها فبناء على أن المراد من التخيير هذه التولية لا أنه قسم من التوكيل والتفويض يتجه دلالة هذه النصوص حينئذ على فساده من أصله ، وربما كان في‌ قوله عليه‌السلام في خبر ابن مسلم (٤) « ما للنساء والتخيير » إشارة إلى ذلك.

وعلى كل حال فلا ريب في أن مذهب الإمامية قديما وحديثا عدم التخيير المزبور في مقابلة العامة القائلين بجوازه على شدة اختلافهم فيه ، وأنه يقتضي الطلاق البائن أو الرجعي ، وللتقية منهم وردت جملة من النصوص مختلفة كاختلافهم.

( منها ) : صحيح ابن مسلم (٥) عن أبي جعفر عليه‌السلام « إذا خيرها وجعل أمرها بيدها في قبل عدتها من غير أن يشهد شاهدين فليس بشي‌ء ، وإن خيرها‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٤١ ـ من أبواب مقدمات الطلاق الحديث ٥.

(٢) الوسائل الباب ـ ٢٩ ـ من أبواب المهور الحديث ١ من كتاب النكاح مع اختلاف يسير ، وذكره بلفظة في التهذيب ج ٧ ص ٣٦٩.

(٣) الوسائل الباب ـ ٤٢ ـ من أبواب مقدمات الطلاق الحديث ١ عن ابن فضال عن ابن بكير ، عن بعض أصحابنا ، عن أبى عبد الله عليه‌السلام.

(٤) الوسائل الباب ـ ٤١ ـ من أبواب مقدمات الطلاق الحديث ١٣.

(٥) الوسائل الباب ـ ٤١ ـ من أبواب مقدمات الطلاق الحديث ١٤.

٧١

وجعل أمرها بيدها بشهادة شاهدين في قبل عدتها فهي بالخيار ما لم يتفرقا ، فان اختارت نفسها فهي واحدة ، وهو أحق برجعتها ، وإن اختارت زوجها فليس بطلاق » وخبر الصيقل (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « الطلاق أن يقول الرجل لامرأته : اختاري ، فإن اختارت نفسها فقد بانت منه ، وهو خاطب من الخطاب ، وإن اختارت زوجها فليس بشي‌ء ، أو يقول : أنت طالق ، فأي ذلك فعل فقد حرمت عليه ، ولا يكون طلاق ولا خلع ولا مباراة ولا تخيير إلا على طهر من غير جماع بشهادة شاهدين ».

و ( منها ) : صحيح ابن يسار (٢) « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل قال لامرأته : قد جعلت الخيار إليك ، فاختارت نفسها قبل أن تقوم ، قال : يجوز ذلك عليه ، قلت : فلها متعة؟ قال : نعم ، قلت : فلها ميراث إن مات الزوج قبل أن تنقضي عدتها؟ قال : نعم ، وإن ماتت هي ورثها الزوج ».

و ( منها ) : خبر زرارة (٣) عن أبي جعفر عليه‌السلام « قلت له : رجل خير امرأته ، قال : إنما الخيار لهما ما داما في مجلسهما ، فإذا افترقا فلا خيار لهما ، قلت : أصلحك الله فان طلقت نفسها ثلاثا قبل أن يتفرقا من مجلسهما ، قال : لا يكون أكثر من واحدة ، وهو أحق برجعتها قبل أن تنقضي عدتها ، قد خير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نساءه فاخترنه ، فكان ذلك طلاقا ، قال : فقلت : لو اخترن أنفسهن؟ قال : ما ظنك برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لو اخترن أنفسهن أكان يمسكهن؟ ».

و ( منها ) : صحيحه ومحمد بن مسلم (٤) عن أحدهما عليهما‌السلام « لا خيار إلا على طهر من غير جماع بشهود ».

و ( منها ) : خبر زرارة (٥) أيضا عن أحدهما عليهما‌السلام « إذا اختارت نفسها فهي تطليقة بائنة ، وهو خاطب من الخطاب ، فان اختارت زوجها فلا شي‌ء ».

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٤١ ـ من أبواب مقدمات الطلاق الحديث ١٥.

(٢) الوسائل الباب ـ ٤١ ـ من أبواب مقدمات الطلاق الحديث ١٧.

(٣) الوسائل الباب ـ ٤١ ـ من أبواب مقدمات الطلاق الحديث ١٢.

(٤) الوسائل الباب ـ ٤١ ـ من أبواب مقدمات الطلاق الحديث ٨.

(٥) الوسائل الباب ـ ٤١ ـ من أبواب مقدمات الطلاق الحديث ٩.

٧٢

و ( منها ) : خبر يزيد الكناسي (١) عن أبي جعفر عليه‌السلام « لا ترث المخيرة من زوجها شيئا في عدتها ، لأن العصمة قد انقطعت فيما بينها وبين زوجها من ساعتها فلا رجعة له عليها ، ولا ميراث بينهما » ونحوه حسن حمران (٢).

وهي كما ترى ظاهرة فيما ذكرناه ، ولا ينافي ذلك صحة سندها وكثرة عددها ، بل اختلافها في أنه رجعي أو بائن كاف في الإرشاد إلى ذلك ، ضرورة أنه إن كان طلاقا ولكنه بلفظ « اخترت » فالمتجه جريان حكمه عليه ، لا أنه بائن على كل حال ، وإن كان سببا آخر من أسباب الفراق فليس هو إلا بائنا كاللعان والفسخ بالعيب ونحوهما.

واحتمال الجمع بينهما بإرادة البينونة إذا حصل سببها من عوض أو عدم دخول أو نحو ذلك كما في المسالك حاكيا له عن ابن الجنيد يأباه ظهورها في أن ذلك حكم التخيير من حيث نفسه ، فليس حينئذ إلا الجري على مذاق العامة. على أنه لم يحك عن أحد الثلاثة منا القائلين بمشروعية التخيير المزبور باقتضائه البينونة التي دل عليها ما سمعته منها وإن نسبه المصنف إلى القيل ، فتكون حينئذ شاذة لا قائل بها ، كما أن ما فيها من ثبوت الخيار ما داما في المجلس أو قبل أن تقوم قد سمعت دعوى الاتفاق من الفخر على خلافه ، بل لعله ظاهر عبارة المصنف ، بل هو المحكي عن صريح ابن الجنيد من القائلين بالقول المزبور ، فهو شذوذ آخر وإن حكى عن العماني التعبير بمضمونها.

وربما حمل الجميع على إرادة التخيير والخيار بما لا يقدح في الفورية العرفية من المجلس ، إلا أنه كما ترى.

وربما بنى احتمال الاتصال بين التخيير والاختيار على أن ذلك عقد تمليك أو توكيل ، فعلى الأول يعتبر الاتصال كما في غيره من العقود بخلاف الثاني.

وفيه ( أولا ) أن مقتضاه عدم اعتبار المجلس على الثاني ، بل يجوز مطلقا و ( ثانيا ) أن احتمال كونه عقد تمليك في غاية السقوط ، ضرورة أنه ليس من‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٤١ ـ من أبواب مقدمات الطلاق الحديث ١٠.

(٢) الوسائل الباب ـ ٤١ ـ من أبواب مقدمات الطلاق الحديث ١١.

٧٣

موضوعه كما هو واضح ، ومن هنا احتمل بعض الناس كونه أمرا آخر مستقلا غيرهما.

و ( ثالثا ) أنه إن كان من عقد التمليك فيكفي في قبوله ما يدل على الرضا بذلك من قول : « قبلت » ونحوه ، لا اختصاص قبوله بوقوع الاختيار. وبالجملة فهذه الخرافات ونحوها مما تزيد ما ذكرناه قوة والمقابل ضعفا ، وهي لائقة بأهلها.

فمن الغريب بعد ذلك كله ميل الشهيد الثاني إلى القول المزبور ، لهذه الأخبار التي قد عرفت حالها وما يعارضها وقوة خروجها مخرج التقية ، بل قد عرفت التصريح في بعضها بأن ذلك حديث ابى عن عائشة.

بل يمكن الجمع بينها بأن المراد من هذه الأخبار التخيير التوكيلى أو ما يشبهه ، كما عساه يومئ إليه ما سمعته في بعضها من أنها‌ « لو طلقت نفسها ثلاثا وقعت واحدة » لا التولية الممنوعة المنافية لكون‌ « الطلاق بيد من أخذ بالساق » المنزل عليها الأخبار السابقة أو غير ذلك.

هذا وفي المسالك « أن موضع الخلاف ما لو جعل التخير على الوجه المدلول عليه بلفظه ، بأن يريد منها أن يتخير بلفظه أو ما أدى معناه ، أما لو كان مراده من التخيير توكيلها في الطلاق إن شاءت كان ذلك جائزا بغير خلاف عند من جوز وكالة الامرأة فيه ، ولم يشترط المقارنة بين الإيجاب والقبول ، كغيره من الوكالات ، وكان فرضها حينئذ في إيقاعه بلفظ الطلاق المعهود وما أداه ، والعامة لم يفرقوا بين قوله : « اختاري نفسك » وبين قوله : « طلقي نفسك » في أنه تمليك للطلاق أو توكيل فيه ، وأنه يتأدى باختيارها الفراق بلفظ الطلاق وبلفظ الاختيار وبما أدى معناهما بناء على أن جميع ذلك كناية عن الطلاق أو طلاق صريح ، وأنه يقع بالأمرين ».

قلت : قد يقال : إن العمدة في الخلاف العامة ، فمع فرض كون العامة على‌

٧٤

ما ذكر ينحصر وجه النزاع معهم بوقوعه بلفظ « اخترت » لصحة وقوعه بالكناية عندهم ، أو لخصوص النصوص (١) المخصوصة بذلك ، نحو ما سمعته من الخلاف في وقوعه بلفظ « اعتدى » كما هو دليل من وافقهم على ذلك من أصحابنا وعدمه ، لما عرفت من نصوص الحصر (٢) وخصوص الأخبار (٣) التي لا يقاومها الأخبار الآخر (٤) لما عرفت ، وحينئذ فلا وجه لما ذكره أولا من أن موضع الخلاف ما ذكر.

على أنه مبنى على استفادة كون التخيير اسما للإنشاء المخصوص من الآية (٥) والنصوص (٦) فالاختيار حينئذ إيقاع مخصوص مشروط صحته بسبق التخيير ، أو أنه بمنزلة العقود شبه الخلع ، فيكون قبولا للإيجاب الذي هو التخيير ، وبالجملة هو قسم من أقسام الطلاق سمى بالطلاق التخييري.

لكن فيه أنه لا دلالة في الآية (٧) بل ولا في الرواية على شي‌ء من ذلك ، وإن كان قد يشم من بعض النصوص (٨) إلا أن الظاهر بمعونة الآية كون التخيير على حسب غيره من أفراد التخيير الذي مرجعه التفويض والاذن لها في ذلك ، وحينئذ فإن طلقت بلفظ الطلاق لم يكن فيه إشكال عند العامة والخاصة ، وإن طلقت بقول : « اخترت نفسي » جاز عند العامة بناء على صحته بالكناية ، ووافقهم عليه بعض‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٤١ ـ من أبواب مقدمات الطلاق.

(٢) الوسائل الباب ـ ١٦ ـ من أبواب مقدمات الطلاق.

(٣) الوسائل الباب ـ ٤١ ـ من أبواب مقدمات الطلاق الحديث ١ و ٢ و ٣ و ٤.

(٤) الوسائل الباب ـ ٤١ ـ من أبواب مقدمات الطلاق الحديث ٧ و ٨ و ٩ و ١٠ و ١١ و ١٢ وغيرها.

(٥) سورة الأحزاب : ٣٣ ـ الآية ٢٨.

(٦) الوسائل الباب ـ ٤١ ـ من أبواب مقدمات الطلاق.

(٧) سورة الأحزاب : ٣٣ ـ الآية ٢٨.

(٨) الوسائل الباب ـ ٤١ ـ من أبواب مقدمات الطلاق الحديث ١٥ والباب ـ ٦ ـ من كتاب الخلع والمبارأة الحديث ٤.

٧٥

الخاصة ، لما سمعته من النصوص (١) والمعروف العدم ، وهو الذي استفاض في النصوص (٢) التعرض له بخلاف الأول.

وأما التخيير بالمعنى الأول الذي مرجعه إلى تولية الطلاق وجعل أمره إليها بعنوان كونها ولية له فهو الذي قد استفاض في النصوص (٣) بطلانه ، ولذلك لا يصح اشتراطه في عقد النكاح ، وهو الذي أومأ إليه بقوله عليه‌السلام (٤) : « ما للنساء والتخيير؟ » و « وليت الحق غير أهله » (٥) ونحو ذلك ، بل مقتضى ما حكاه عن العامة عدم جوازه عندهم ، ضرورة رجوعه إلى أمر شرعي ليس للناس تسلط عليه ، ولذا جعلوا التخيير بمنزلة التوكيل الذي قد سمعت حكايته له عنهم ، وبذلك بان لك أنه لا وجه لما ذكره أصلا ، فتأمل جيدا.

ثم إنه رحمه‌الله قد حكى عن ابن الجنيد أنه لو جعل الاختيار إلى وقت بعينه فاختارت قبله جاز اختيارها ، وإن اختارت بعده لم يجز ، وقال : « وهذا القول يشكل على إطلاقه باشتراط اتصال اختيارها بقوله ، فلا يناسبه توقيته بمدة تزيد على ذلك ، إلا أن يتكلف توقيته بمدة يسيرة لا تنافيه ، بحيث يمكن فيه فرض وقوع اختيارها أو بعضه خارج الوقت المحدود مع مراعاة الاتصال ، ولا يخلو من تكلف ».

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٤١ ـ من أبواب مقدمات الطلاق الحديث ٧ و ٨ و ٩ و ١٠ وغيرها.

(٢) الوسائل الباب ـ ٤١ ـ من أبواب مقدمات الطلاق الحديث ١ و ٢ و ٣ و ٤ وغيرها.

(٣) الوسائل الباب ـ ٢٩ ـ من أبواب المهور من كتاب النكاح والباب ـ ٤١ ـ من أبواب مقدمات الطلاق الحديث ٥ و ٦ والباب ـ ٤٢ ـ منها.

(٤) الوسائل الباب ـ ٤١ ـ من أبواب مقدمات الطلاق الحديث ١٣.

(٥) الوسائل الباب ـ ٢٩ ـ من أبواب المهور الحديث ١ من كتاب النكاح.

٧٦

قلت : هذا مؤيد لما قلناه من كون التخيير على نحو غيره من أفراده ، وليس هو بمنزلة العقود ، بل هو من التفويض والاذن في الشي‌ء ، ولكن مع عدم التوقيت قد يفهم منه الحالية ، ومع التصريح بالمدة تعتبر هي دون ما بعدها.

وأغرب من ذلك أنه ذكر فيها أيضا « أنه يجوز له الرجوع في التخيير ما لم يتخير مطلقا ، وهو الظاهر من رواية زرارة (١) ولأنه إن كان تمليكا فالرجوع فيه قبل القبول جائز ، وإن كان توكيلا فكذلك بطريق أولى ـ ثم قال ـ : ومقتضى‌ قوله عليه‌السلام (٢) : « إن الخيار لهما » إلى آخره جواز فسخه لكل منهما في المجلس وإن وقع التخيير من كل منهما ، وهو مشكل من جانبها مطلقا ، إذ لا خيار لها في الطلاق مطلقا ، ومن جانبه لو كان بائنا ، إلا أن الأمر فيه أسهل ، لإمكان تخصيصه بالرجعي » إذ فيه أن المراد من الخيار لهما في نفس التخيير ، لا في الاختيار المتعقب للتخيير ، كما هو واضح بأدنى تأمل.

ثم ذكر فيها أيضا « أنه يشترط في هذا التخيير ما يشترط في الطلاق : من استبراء المرأة ، وحضور الشاهدين ، وغير ذلك » وفيه أن ذلك يتم بناء على أنه طلاق بالكناية ، أما على احتمال كونه سببا من أسباب الفراق فالمتجه الاقتصار على ما دل عليه نصوصه منها دون غيره.

ثم قال : « وهل يكفي سماع الشاهدين نطقهما معا أو نطقها خاصة؟ ظاهر الرواية (٣) والفتوى الأول ، وأن الفراق يقع بمجموع الأمرين ، فيعتبر سماعهما له ، وينزل حينئذ منزلة الخلع ، وإن اختلفا في كون الطلاق هنا من جانبها لا جانبه » وفيه أن ظاهر الفتاوى حصول الطلاق باختيارها وإن اشترط صحة ذلك بتخيرها ، فهو كطلاق الوكيل حينئذ ، بل وكذا لو قلنا بكونه تمليكا لها ، إذ هو

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٤١ ـ من أبواب مقدمات الطلاق الحديث ٧.

(٢) الوسائل الباب ـ ٤١ ـ من أبواب مقدمات الطلاق الحديث ٧ وفيه « انما الخيار لها » وفي الاستبصار ج ٣ ص ٣١٣ « انما الخيار لهما ».

(٣) الوسائل الباب ـ ٤١ ـ من أبواب مقدمات الطلاق الحديث ١٤ و ١٥.

٧٧

على كل حال شرط ترتب الأثر على اختيارها ، لا أنه جزء من الطلاق ، والفرق بينه وبين الخلع في غاية الوضوح ، وأما النصوص فهي ظاهرة في كون التخيير في قبل العدة وحضور شاهدين إلا أنه يمكن بناء ذلك على اتصال الاختيار بالتخيير ، فشهوده حينئذ شهوده ، ويتفق النص والفتوى حينئذ.

وبذلك كله بان لك الحال في فروع القول المزبور ، كما بان لك الحال في فساد القول من أصله : ومن هنا اقتصرنا على المقدار المزبور من فروعه ، وإلا ففي كتب العامة ، خرافات كثيرة فرعوها على ذلك ، وكفى بالله حاكما وشاهدا ورفيقا ومؤيدا ومسددا.

وكيف كان فـ ( لو قيل : هل طلقت فلانة؟ فقال : نعم ) منشئا له بذلك وقع الطلاق عند الشيخ في النهاية وبعض أتباعه والمصنف لخبر السكوني (١) الذي لا جابر له كي يصلح معارضا لنصوص (٢) الحصر وغيرها مما يقتضي العدم ، مضافا إلى الاعتراف بعدم وقوع الطلاق بالمقدر الذي قام مقامه « نعم » فهو أولى حينئذ بالمنع ، وإلى ضعف الدلالة ، لاحتمال إرادة الحكم بطلاقها للإقرار من‌ قوله عليه‌السلام فيه : « فقد طلقها حينئذ » كما عرفت الكلام في ذلك مفصلا.

وأما لو قيل : هل فارقت أو خليت أو أبنت؟ فقال : نعم لم يكن شيئا عندنا لعدم صلاحية المقدر لانشاء الطلاق أصلا لو صرح به فصلا عما قام مقامه ، والفرض عدم نص بالخصوص.

ويشترط في الصيغة تجردها عن التعليق على الشرط المتحمل وقوعه ، نحو « إن جاء زيد » وعلى الصفة المعلوم حصولها ، نحو « إذا طلعت الشمس » في قول مشهور ، بل لم أقف فيه على مخالف منا بل في الانتصار والإيضاح والتنقيح والروضة ومحكي السرائر وغيرها الإجماع عليه ، وهو الحجة بعد ظهور نصوص (٣) الحصر ، ومنافاته لقاعدة عدم تأخر المعلول‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١٦ ـ من أبواب مقدمات الطلاق الحديث ٦.

(٢) الوسائل الباب ـ ١٦ ـ من أبواب مقدمات الطلاق.

(٣) الوسائل الباب ـ ١٦ ـ من أبواب مقدمات الطلاق.

٧٨

عن علته ، إذ السبب الشرعي كالسبب العقلي بالنسبة إلى ذلك إلا ما خرج بالدليل ، بل هو في الحقيقة من الشرائط المخالفة للكتاب والسنة والمحللة حراما ، ضرورة أنه بعد ظهور الأدلة في ترتب الأثر على السبب الذي هو الصيغة فاشتراط تأخره إلى حصول المعلق عليه شرع جديد ، أو اشتراط لأمر لا يرجع مثله إلى المشترط وإنما يرجع به إلى الشارع ، فلا وجه حينئذ لدعوى اقتضاء الإطلاقات وعموم « المؤمنون » (١) الصحة ، مؤيدا ذلك كله باستصحاب بقاء النكاح ، وبغير ذلك مما سمعته في العقود التي لا ريب في أولوية الطلاق منها بعدم الجواز.

وبذلك كله يتضح لك فساد الطلاق بفساد الشرط ، ضرورة اختلال القصد حينئذ ، فيبطلان معا ، ضرورة الفرق بين القصد المنجز المفروض اعتباره في صحة الطلاق والقصد المعلق ، فمن الغريب بعد ذلك كله ميل ثاني الشهيدين في المسالك إلى الصحة لذلك ، وقياسا له على الظهار ونحوه مما ثبت في الأدلة ، مؤيدا له بأن في تعليقه حكمة لا تحصل في المنجز ، فإن المرأة قد تخالف الرجل في بعض مقاصده ، فتفعل ما يكرهه ، وتمتنع مما يرغب فيه ، ويكره الرجل طلاقها من حيث إنه أبغض المباحات إلى الله تعالى شأنه ، ومن حيث أنه يرجو موافقتها ، فيحتاج إلى تعليق الطلاق بفعل ما يكرهه أو ترك ما يريده ، فإما أن تمتنع فيحصل غرضه ، أو تخالف فتكون هي المختارة للطلاق ، وبما تقدم من خبر (٢) من علق طلاق امرأة على تزويجها ، وسؤاله‌ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأجاب بأنه « لا طلاق قبل النكاح » ولم يجبه بأن الطلاق المعلق على شرط باطل.

وهو كما ترى لا يرجع إلى محصل ينطبق على أصول الإمامية ، وإنما هو مناسب لخرافات العامة ، ولذا أطبقوا على الجواز فيه ، وملؤوا كتبهم من فروعه ، والحمد لله الذي عافانا من كثير مما ابتلى به خلقه ، ولو شاء لفعل ، وكان خلو‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب المهور الحديث ٤ من كتاب النكاح.

(٢) راجع التعليقة (٢) من ص ٢٧.

٧٩

نصوصنا من هذه الخرافات والحصر بالصيغة المنجزة للتعريض بهم.

ولا فرق عندنا في عدم جواز التعليق المزبور بين المشيئة وغيرها ، نعم لا بأس بها للتبرك ، لكن عن المبسوط والخلاف « الاستثناء بمشيئة الله يدخل في الطلاق والعتاق ، سواء كانا مباشرين مثل : « أنت طالق إنشاء الله » و « أنت حر إنشاء الله » أو معلقين بصفة نحو : « إذا دخلت الدار فأنت طالق إنشاء الله » و « إذا دخلت الدار فأنت حر إنشاء الله » وإن كان الطلاق والعتق بصفة لا يصح عندنا ، وفي اليمين بهما وفي الإقرار وفي اليمين بالله فيوقف الكلام ، ومن خالفه لم يلزمه حكم ذلك ، لأصالة البراءة ، وثبوت العقد ، وإذا عقب كلامه بلفظ « إنشاء الله » في هذه المواضع فلا دليل على زوال العقد في النكاح أو العتق ، ولا على تعلق حكم بذمته ، فمن ادعى خلافه فعليه الدلالة ، وروى ابن عمر (١) أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « من حلف على يمين وقال في أثرها : إنشاء الله لم يحنث فيما حلف عليه » وهو على العموم في كل الأيمان بالله وبغيره ».

وكأنه مناف لما ذكره في كتاب الأيمان من الخلاف ، قال فيه على ما حكى عنه : « لا يدخل الاستثناء بمشيئة الله تعالى إلا في اليمين فحسب ، وبه قال مالك ، وقال أبو حنيفة : ويدخل في الأيمان بالله وبالطلاق والعتاق وفي النذور وفي الإقرار ، دليلنا : أن ما ذكرناه مجمع على دخوله فيه ، وما قالوه ليس عليه دليل ».

ومن هنا قال ابن إدريس : « لا يدخل الاستثناء بمشيئة الله عندنا بغير خلاف بين أصحابنا معشر الإمامية إلا في اليمين بالله حسب ، لأنه لا أجد أحدا من أصحابنا قديما وحديثا يتجاسر ويقدم على أن رجلا أقر عند الحاكم بمال لرجل آخر وقال بعد إقراره : إنشاء الله لا يلزمه ما أقربه ، فأما شيخنا أبو جعفر فهو محجوج بقوله ، فإنه رجع عما قاله في كتاب الطلاق من الخلاف بما قاله في كتاب الأيمان ، ففي المسألة الأولى اختار مذهب أبي حنيفة ، وفي الثانية مذهب مالك » ثم استدل على صحة المسألتين.

__________________

(١) سنن البيهقي ج ١٠ ص ٤٦ و ٤٧.

٨٠