جواهر الكلام - ج ٣٢

الشيخ محمّد حسن النّجفي

تعتد عدة المتوفى عنها زوجها ، وإن توفت وهي في عدتها ولم تحرم عليه فإنه يرثها » الحديث.

وخبر سماعة (١) « سألته عن رجل طلق امرأته ، ثم إنه مات قبل أن تنقضي عدتها ، قال : تعتد عدة المتوفى عنها زوجها ، ولها الميراث ».

وخبر محمد (٢) « سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن رجل طلق امرأته تطليقة على طهر ، ثم توفي عنها وهي في عدتها ، قال : ترثه ثم تعتد عدة المتوفى عنها زوجها ، وإن ماتت قبل انقضاء العدة منه ورثها وورثته » إلى غير ذلك.

مضافا إلى ما دل (٣) على أنها بحكم الزوجة الشامل للمقام ، فيشملها حينئذ عموم الآية (٤) وغيره. وإلى أصالة بقائها في العدة وغيرها ، بل لا إشكال في شي‌ء من ذلك على تقدير زيادة عدة الوفاة على عدة الطلاق.

أما لو انعكس كعدة المسترابة ففي الاجتزاء فيها بعدة الوفاة أي الأربعة أشهر وعشرا أو مع المدة التي يظهر فيها عدم الحمل أو وجوب إكمال عدة المطلقة بثلاثة أشهر بعد التسعة أو السنة أو وجوب أربعة أشهر وعشر بعدها أوجه ، أقواها الأول لإطلاق الأدلة المزبورة التي مقتضاها اندراجها في المتوفى عنها زوجها ، وبطلان حكم الطلاق بالنسبة إلى ذلك ، ولا ينافيه وصفها بأبعد الأجلين المنزل على الغالب فلا يعارض إطلاق غيره من النصوص المتروك فيه الوصف المزبور فيكتفى بها حينئذ ما لم يظهر الحمل لأصل العدم ، وإلا اعتدت بأبعد الأجلين من وضعه ومن الأربعة أشهر وعشر ، كالحامل غير المطلقة.

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٣٦ ـ من أبواب العدد الحديث ٩.

(٢) الوسائل الباب ـ ١٣ ـ من أبواب ميراث الأزواج الحديث ٥ من كتاب المواريث.

(٣) الوسائل الباب ـ ١ ـ من أبواب أقسام الطلاق والباب ـ ١٣ ـ منها الحديث ٦ والباب ـ ٢٠ ـ منها الحديث ١١ والباب ١٨ و ٢٠ و ٢١ من أبواب العدد.

(٤) سورة البقرة : ٢ ـ الآية ٢٣٤.

٢٦١

ودعوى أن انتقالها إلى عدة الوفاة انتقال إلى الأقوى والأشد ، فلا يكون سببا في الأضعف كما ترى مجرد استحسان لا يصلح دليلا للحكم ، كدعوى أن التربص بها مدة يظهر فيها عدم الحمل لا تحسب من العدة ، وإنما تعتبر بعدها ومن ثم وجب للطلاق ثلاثة أشهر بعدها ، فتجب للوفاة أربعة أشهر وعشرا التي هي أبعد الأجلين ، إذ هي كما ترى أيضا مناف لما تقدم سابقا من كون الجميع عدة ، على أن احتمال ذلك مخصوص في الطلاق بخلاف المقام الذي انقلبت فيه العدة إلى عدة الوفاة.

وأغرب من ذلك معارضة النصوص المزبورة بما دل على عدة المسترابة التي لا ينافيها ما هنا ، إذ أقصاه تربص الأربعة أشهر وعشرا من غير منع الزائد ، وقد عرفت أنها منحصرة في خبري سورة (١) وعمار (٢) وهما مع الإعراض عن الثاني منهما غير شاملين للفرض قطعا.

وأغرب منه ما في المسالك حيث إنه بعد أن ذكر الأوجه المزبورة قال : « والحق الاقتصار في الحكم المخالف للأصل على مورده ، والرجوع في غيره إلى ما تقتضيه الأدلة ، وغايتها هنا التربص بها إلى أبعد الأجلين من الأربعة أشهر وعشر ، والمدة التي يظهر فيها عدم الحمل ، ولا يحتاج بعدها إلى أمر آخر ، ودعوى الانتقال هنا إلى الأقوى مطلقا ممنوع ، وإنما الثابت الانتقال إلى عدة الوفاة كيف اتفق » ضرورة أن المتجه مع فرض كون الثابت ذلك عدم زيادة المدة المزبورة عليها ، لما عرفت من أن الأصل عدم الحمل ، ومجرد احتماله لا يجدي في وجوب التربص عليها ، كما هو واضح ، بل ستعرف عدم وجوب ذلك في المطلقة مع فرض حصول عدتها الأقراء أو الأشهر فضلا عنها ، هذا كله في الطلاق الرجعي.

وأما لو كان بائنا اقتصرت على إتمام عدة الطلاق بلا خلاف أجده فيه ، لأنها أجنبية ، فهي على استصحاب عدتها غير مندرجة في الآية (٣) والرواية (٤)

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١٣ ـ من أبواب العدد الحديث ٢.

(٢) الوسائل الباب ـ ١٣ ـ من أبواب العدد الحديث ١.

(٣) سورة البقرة : ٢ ـ الآية ٢٣٤.

(٤) الوسائل الباب ـ ٣٠ ـ من أبواب العدد.

٢٦٢

وإن ورثت ، كما لو طلقها في مرض الموت ، وخبر علي بن إبراهيم عن بعض أصحابنا (١) « في المطلقة البائنة إذا توفي عنها زوجها وهي في عدتها ، قال : تعتد بأبعد الأجلين » متروك ، للقطع والإرسال ، فلا يصلح معارضا للأصل فضلا عن المفهوم في النصوص السابقة ، أو محمول على الندب ، بل في كشف اللثام « الظاهر إنه رأي رآه بعض الأصحاب حكاه عنه علي بن إبراهيم ».

( فروع : )

( الأول : )

( لو حملت من زنا ثم طلقها الزوج اعتدت بـ ) السابق من الأشهر والأقراء ، كما لو لم يكن زنا ، لا بالوضع الذي قد عرفت سابقا اعتبار كون الموضوع لذي العدة في الاعتداد به ، بلا خلاف أجده في شي‌ء من ذلك ، بل ولا في أن لها التزويج حينئذ بعد انقضاء العدة ، لعدم العدة لها بوضعه ، وكذا لو لم تكن ذات بعل وكانت حاملة من زنا.

نعم لو لم تحمل فعن الفاضل في التحرير أن عليها العدة حينئذ ، وفي المسالك « لا بأس به حذرا من اختلاط المياه وتشويش الأنساب » بل في الحدائق اختياره لخبر إسحاق بن جرير (٢) عن أبى عبد الله عليه‌السلام « قلت له : الرجل يفجر بالمرأة ثم يبدو له في تزويجها هل يحل له ذلك؟ قال : نعم إذا هو اجتنبها حتى تنقضي عدتها باستبراء رحمها من ماء الفجور ، » وخبر علي بن شعبة المروي عن تحف العقول (٣) عن أبى جعفر الثاني عليه‌السلام « إنه سئل عن رجل نكح امرأة على زنا أيحل له أن يتزوجها؟ فقال : يدعها حتى‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٣٦ ـ من أبواب العدد الحديث ٦.

(٢) الوسائل الباب ـ ٤٤ ـ من أبواب العدد الحديث ١.

(٣) الوسائل الباب ـ ٤٤ ـ من أبواب العدد الحديث ٢.

٢٦٣

يستبرئها من نطفته ونطفة غيره ، إذ لا يؤمن منها أن يكون قد أحدثت مع غيره حدثا كما أحدثت معه ، ثم يتزوج بها إذا أراد ». مؤيدين بإطلاق ما دل (١) على العدة بالدخول والماء ، وإن الحكمة فيها اختلاط الأنساب.

لكن فيه ( أولا ) أن بعض الأدلة المزبورة تقتضي وجوب العدة في غير محل الفرض الذي لا عدة فيه إجماعا ، والخصم لا يخالف فيه. و ( ثانيا ) أن الخبر الثاني ظاهر في عدم العدة عليه ولو علم عدم زنا غيره بها بخلاف الأول ، مضافا إلى عدم اختلاط الأنساب بذلك ، ضرورة أنه مع الدخول بها واحتمال كون الولد منه الحق به لكون‌ « الولد للفراش وللعاهر الحجر » (٢) وإلا فهو لغيره ، فلا يبعد حمل الخبرين على ضرب من الندب ، خصوصا بعد إطلاق ما دل (٣) على جواز التزويج بالزانية على كراهة ، وغيره.

ولو وطئت المرأة شبهة والحق الولد بالواطي لبعد الزوج عنها ونحوه مما يعلم به عدم كونه له ثم طلقها الزوج اعتدت بالوضع من الواطئ ثم استأنفت عدة الطلاق بعد الوضع فلو فرض تأخر دم النفاس عنه لحظة حسب قرءا من العدة الثانية ، وإلا كان ابتداء العدة بعده ، بلا خلاف أجده في شي‌ء من ذلك ولا إشكال.

بل لو فرض تأخر الوطء المزبور عن الطلاق كان الحكم كذلك أيضا ، لعدم إمكان تأخير عدته التي هي وضع الحمل ، فليس حينئذ إلا تأخير إكمال عدة الطلاق ، بعد فرض عدم التداخل بين العدتين ـ كما هو المشهور ـ إذا كانتا لشخصين ، بل عن الخلاف الإجماع عليه.

بل‌ عن طبريات المرتضى « أن امرأة نكحت في العدة ففرق بينهما أمير المؤمنين عليه‌السلام (٤) وقال : « أيما امرأة نكحت في عدتها فان لم يدخل بها زوجها الذي‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٥٤ ـ من أبواب المهور من كتاب النكاح.

(٢) الوسائل الباب ـ ٥٨ ـ من أبواب نكاح العبيد والإماء من كتاب النكاح.

(٣) الوسائل الباب ـ ١٢ و ١٣ ـ من أبواب ما يحرم بالمصاهرة من كتاب النكاح.

(٤) لم نعثر عليه في الجوامع من الوسائل والمستدرك والبحار وغيرها والمسائل الطبرية للسيد المرتضى ( قده ) مخطوط ، نسخة منها في مكتبة « مشهد » على ما نقل عن بروكلمان والكنتورى في كشف الحجب.

٢٦٤

تزوجها فإنها تعتد من الأول ، ولا عدة عليها للثاني ، وكان خاطبا من الخطاب ، وإن كان دخل بها فرق بينهما ، وتأتي ببقية العدة عن الأول ثم تأتي عن الثاني بثلاثة أقراء مستقبلة » وروي مثل ذلك بعينه عن عمر (١) و « أن طليحة كانت تحت رشيد الثقفي فطلقها ، فنكحت في العدة ، فضربها عمر ، وضرب زوجها بمخفقة ، وفرق بينهما ، ثم قال : أيما امرأة نكحت في عدتها فان لم يدخل بها زوجها الذي تزوجها فإنها تعتد عن الأول ، ولا عدة عليها للثاني ، وكان خاطبا من الخطاب ، وإن كان دخل بها فرق بينهما ، وأتت ببقية عدة الأول ، ثم تعتد عن الثاني ، ولا تحل له أبدا » ولم يظهر خلاف لما فعل فصار إجماعا » انتهى.

مضافا إلى الأصل وحسن الحلبي (٢) سأل الصادق عليه‌السلام « عن المرأة الحبلى يموت زوجها فتضع وتتزوج قبل أن يمضي لها أربعة أشهر وعشرا ، فقال : إن كان دخل بها فرق بينهما ، ثم لم تحل له أبدا ، واعتدت بما بقي عليها من الأول ، وهو خاطب من الخطاب » ونحوه عن عبد الكريم ، عن محمد بن مسلم (٣).

فما عن أبي علي والصدوق وفي المحكي عن موضع من مقنعه من التداخل ـ لأصالة البراءة المقطوعة بما عرفت ، وحصول العلم بالبراءة بالاعتداد بأطولهما الذي لا ينافي مشروعيتها للتعبد ، كما في كثير من أفرادها ، وصحيح زرارة (٤) عن الباقر عليه‌السلام « في امرأة تزوجت قبل أن تنقضي عدتها؟ قال : يفرق بينهما ، وتعتد عدة واحدة منهما جميعا » ونحوه صحيح أبي العباس (٥) عن الصادق عليه‌السلام ،

__________________

(١) سنن البيهقي ج ٧ ص ٤٤١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٧ ـ من أبواب ما يحرم بالمصاهرة الحديث ٦ من كتاب النكاح وفي الجواهر سقط والحديث هكذا‌ « واعتدت بما بقي من الأول ، واستقبلت عدة أخرى من الآخر ثلاثة قروء ، وان لم يكن دخل بها فرق بينهما واعتدت بما بقي عليها من الأول وهو خاطب من الخطاب ».

(٣) الوسائل الباب ـ ١٧ ـ من أبواب ما يحرم بالمصاهرة الحديث ٢ من كتاب النكاح.

(٤) الوسائل الباب ـ ١٧ ـ من أبواب ما يحرم بالمصاهرة الحديث ١١ من كتاب النكاح.

(٥) الوسائل الباب ـ ١٧ ـ من أبواب ما يحرم بالمصاهرة الحديث ١٢ من كتاب النكاح.

٢٦٥

وخبر زرارة (١) عن الباقر عليه‌السلام أيضا « في امرأة فقدت زوجها أو نعي إليها فتزوجت ، ثم قدم زوجها بعد ذلك فطلقها ، قال : تعتد منهما جميعا بثلاثة أشهر عدة واحدة » التي حملها الشيخ على عدم دخول الثاني بها ، الذي يمكن إرادته من‌ قوله عليه‌السلام فيها « تعتد منهما » على معنى أنه لا عدة للثاني منهما ـ وإن كان بعيدا لكن لا بأس به بعد رجحان الأول عليه من وجوه.

نعم لو كان الاشتباه من المطلق نفسه مثلا اتجه التداخل ، وفاقا للفاضلين بأن تستأنف عدة كاملة للأخير واجتزأت بها ، لأنهما إنما تعلقتا بواحد ، والموجب لهما حقيقة إنما هو الوطء ، وإذا استأنفت عدة كاملة ظهرت براءة الرحم ، ولا ينافي ذلك إطلاق الأكثر إطلاق عدم تداخل العدتين بعد انسياق التعدد منه.

وحينئذ فلو وقع الوطء شبهة مثلا في القرء الأول أو الثاني أو الثالث فالباقي من العدة الأولى يحسب للعدتين ثم تكمل الثانية.

وكذا لو وطأ امرأة شبهة ثم وطأها شبهة أيضا في أثناء عدتها ، بل هي أولى بالتداخل المزبور من الأول ، ولا فرق في ذلك بين كون العدتين من جنس واحد أو من جنسين ، بأن تكون إحداهما مثلا بالأقراء والأخرى بالحمل ، خلافا للمحكي عن العامة من عدم التداخل في وجه مع اختلاف الجنس.

وكيف كان فوقت الاعتداد من الشبهة آخر وطئه لا وقت الانجلاء ، لأن المراد حصول العلم ببراءة رحمها من ذلك الوطء الذي هو في الحقيقة موجب للعدة لا غيره وإن كان عقدا فاسدا ، ودعوى أن الشبهة لما كانت بمنزلة النكاح الصحيح كان الانجلاء بمنزلة الفراق فتكون العدة منه كما ترى مجرد استحسان لا يصلح مدركا عندنا ، كما هو واضح.

نعم قد يقال : إن ظاهر النصوص (٢) المزبورة الدالة على عدم التداخل‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١٦ ـ من أبواب ما يحرم بالمصاهرة الحديث ٢ من كتاب النكاح.

(٢) الوسائل الباب ـ ١٧ ـ من أبواب ما يحرم بالمصاهرة من كتاب النكاح.

٢٦٦

الاعتداد للشبهة إذا كانت مع عقد تزويج بعد التفريق بينهما ، وهو لازم ارتفاع الشبهة ، نعم لو كانت الشبهة مجرد الوطء من دون عقد اتجه حينئذ الاعتداد من آخر وطء ، ومن هنا كان الاحتياط لا ينبغي تركه.

ولو تأخر الوطء شبهة عن الطلاق ولا حمل أتمت عدتها من الطلاق ، للأصل المؤيد بتقدمها وقوتها باستنادها إلى عقد جائز وسبب مسوغ ، فإذا فرغت منها استأنفت عدة الثاني ، وللزوج مراجعتها في عدته إن كان الطلاق رجعيا ، فان راجعها انقطعت عدته ، وشرعت في عدة الوطء بالشبهة ، وليس للزوج وطؤها قطعا ، لكونها في عدة ، بل في القواعد والمسالك المنع من الاستمتاع بها إلى أن تنقضي عدتها ، لكن لا دليل عليه يصلح لمعارضة ما دل (١) على الاستمتاع بالزوجة.

وبذلك يظهر لك جواز عقده عليها في أثناء عدته لو كان الطلاق بائنا وإن انفسخ بذلك عدته ودخلت في عدة المشتبه ، إلا أنه لا مانع منه للعمومات وحرمة الوطء عليه لا تنافي ذلك.

ومن الغريب ما في المسالك من ميلة إلى الجواز مع قوله بحرمة الاستمتاع معللا له بكونه كالعقد على الحائض والصغيرة اللتين لا يباح وطؤهما ، إذ لا يخفى عليك وضوح الفرق بينهما بحلية غير الوطء من أنواع الاستمتاع فيهما دونها ، وهو كاف في صحة عقد النكاح ، إذ المنافي له عدم ترتب حل أثر من آثاره عليه ، نحو النكاح في حال الإحرام ، ولذلك كان الأقرب عند الفاضل عدم الجواز ، لأن كل نكاح لم يتعقبه حل الاستمتاع كان باطلا ، نعم يتجه عليه منع عدم حل غير الوطء من الاستمتاع.

ولو كان المتقدم الاعتداد للشبهة فالمتجه بقاؤها عليها ، للأصل ثم استئناف عدة الطلاق ، وربما احتمل تقديم عدة الطلاق ثم إكمال عدة الشبهة بعدها ، لقوتها لكنه كما ترى.

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ ـ الآية ٢٢٣.

٢٦٧

نعم مع الاقتران ـ بل في المسالك وغيرها أو قبل الشروع في عدة الشبهة ـ قد يقال بتقديم عدة الطلاق لما عرفت ، مع أنه لا يخلو من نظر ومنع ، ضرورة توجه الخطابين إليها بهما ، فتخير في تقديم أيهما شاءت.

وهل له الرجعة في أثناء عدة الشبهة حيث تكون مقدمة؟ وجهان ، بل في المسالك أجودهما المنع ، قلت : قد يقال : إن المستفاد من أدلة الرجعة أن له الرجوع بها ما لم تنقض عدته ، لا أن شرط رجوعه كونها في عدته ، كما عساه يشهد له أنه لا إشكال في جواز الرجوع بالمطلقة رجعيا في زمن الحيض الذي هو ليس من العدة ، حتى لو فرض اتصال زمان صيغة الطلاق بالحيض ، كما أومأ إليه الشيخ فيما تسمع منه ، وإن كان فيه ما فيه.

وبذلك يفرق بينه وبين العقد لو كان الطلاق بائنا بناء على ظهور أدلة ذلك في عدم جواز تزويجها ، وهي في عدة الغير ، وإلا لاتجه الجواز فيهما.

ولعله لذا قال في محكي المبسوط في الحامل من الشبهة لو طلقت رجعيا : إن مذهبنا أن له الرجعة في زمن الحمل ، قال : « لأن الرجعة تثبت بالطلاق ، فلم تنقطع حتى تنقضي العدة ، وهذه ما لم تضع الحمل وتكمل عدة الأول فعدتها لم تنقض ، فتثبت الرجعة عليها وله الرجعة ما دامت حاملا ، وبعد أن تضع مدة النفاس وإلى أن تنقضي عدتها بالأقراء ـ إلى أن قال ـ : وإذا قلنا : لا رجعة له عليها في حال الحمل ـ فإذا وضعت ثبت له عليها الرجعة وإن كانت في مدة النفاس ـ لم تشرع في عدتها منه ، لأن عدة الأول قد انقضت ، فتثبت له الرجعة وإن لم تكن معتدة منه في تلك الحال ، كحالة الحيض في العدة ».

قلت : لكن يتفرع على ذلك جواز عقد الغير عليها زمن الحيض المتخلل في أثناء العدة فضلا عن المتصل بالطلاق ، وهو معلوم الفساد ، ضرورة احتساب ذلك كله من العدة ، ولذا يترتب التوارث مع موتها أو موته فيه ، مع معلومية اشتراط ذلك بكونه في العدة اللهم إلا أن يدعى أن مدار ذلك أيضا على عدم‌

٢٦٨

انقضائها لا على كونه فيها ، وفيه منع ، كمنع دعوى خروج زمن الحيض عن العدة فتأمل جيدا.

( الثاني : )

إذا اتفق الزوجان في زمن الطلاق واختلفا في زمن الوضع فعن الشيخ وجماعة كان القول قولها سواء ادعت تقدمه أو تأخره لأنه اختلاف في الولادة ، وهي من فعلها المؤتمنة عليه ، لأنها ذات يد ، فكما تصدق في أصله تصدق في وقته أيضا.

ومن هنا لو فرض أنهما ( اتفقا في زمن الوضع واختلفا في زمن الطلاق ، فـ ) ان القول حينئذ قوله سواء ادعى تقدمه أو تأخره لأنه اختلاف في فعله الذي هو الطلاق الذي كما يصدق في أصله يصدق أيضا في وقته.

ولكن في المسألتين إشكال ، لأن الأصل عدم الطلاق وعدم الوضع فالقول قول من ينكرهما وهي القاعدة المعلومة عندهم ، وهي تأخر مجهول التاريخ عن معلومه ، وليس في الأدلة ما يقتضي تقديم ذي الفعل على وجه يعارض القاعدة المزبورة في مقام الدعاوي ، من غير فرق بين التشخيص بالزمان والمكان وغيرهما من المشخصات التي يتصور فرض التداعي فيها.

والرجوع إليهن في العدة لا يشمل مثل الفرض ، بل في كشف اللثام أن ذلك إنما هو إذا تيقنت العدة ، بل وإذا لم يدع الزوج العلم بكذبها ، ولذا حكم في المبسوط وغيره بأنهما « إذا تداعيا وحلفا ، فيقول الزوج : « لم تنقض عدتك بالوضع ، فعليك الاعتداد بالأقراء » وتقول : « انقضت عدتي بالوضع » فالقول قوله : لأن الأصل بقاء العدة ».

نعم قد عرفت غير مرة الإشكال منا في اقتضاء القاعدة المزبورة التأخر عن‌

٢٦٩

ذلك ، فان مرجعه إلى كون الأصل مثبتا فيعارض حينئذ بأصل آخر مثله ، وحينئذ فالمتجه عدم الفرق بين العلم بتاريخ أحدهما وعدمه في اقتضاء الأصل عدم تقدم أحدهما على الأخر ، ويبقى معه ـ على تقدير كون (١) المدعى لتأخر الطلاق ـ أصالة بقاء سلطنة النكاح ، فيقدم قوله بيمينه ، ومعها ـ على تقدير دعواها تأخره ـ أصالة بقاء حقوق الزوجة من النفقة وشبهها.

ولو كان الجواب من أحدهما في جواب الدعوى من الآخر لا أدرى ففي القواعد والمسالك وكشف اللثام يلزم باليمين على الجزم أو النكول ، فيحلف المدعي حينئذ ، ويثبت حقه ، فان نكل عمل على مقتضى الأصل ، كما إذا كان كل منهما لا يدرى ، وظاهرهم المفروغية من ذلك ، بل في كشف اللثام أن الوجه فيه ظاهر ، فان الشك لا يعارض الجزم ، وفي المسالك « أنه لو لم يكن كذلك لم يعجز المدعي عليه في الدعاوي كلها عن الدفع بهذا الطريق ».

قلت : قد أطنبنا في كتاب القضاء في تحرير هذه المسألة ، وقلنا : إن الظاهر انحصار طريق ثبوت حق المدعى بالبينة إن لم يرض المدعى عليه بيمينه ، خصوصا في صورة علم المدعي بكون المدعى عليه لا يدري أو تصديقه في ذلك أو حلفه على ذلك ، فان تكليفه اليمين الجازمة حينئذ لا وجه له ، كما لا وجه لجعلها ناكلا ، فلم يكن للمدعي إلا البينة ، كما لو ادعى على غائب أو قاصر أو ميت ونحوه ممن لم يكن منهم إنكار ، فلاحظ وتأمل.

__________________

(١) هكذا في النسختين المسودة والمبيضة ، والصحيح « على تقدير كونه. ».

٢٧٠

( الثالث : )

لو أقرت بانقضاء العدة ثم جائت بولد لستة أشهر فصاعدا منذ طلقها قيل والقائل الشيخ في المحكي من مبسوطه لا يلحق به الولد إذا أتت به لأكثر من ستة أشهر من وقت انقضاء العدة ، لقبول قولها في العدة ، وهو يستلزم الخروج عن الفراش المستلزم لانتفاء الولد ، مع أصالة التأخر ، فلا يبطل قولها الصحيح ظاهرا بالأمر المحتمل.

والأشبه التحاقه به ما لم يتجاوز أقصى الحمل من آخر وطء أو من الطلاق أو من انقضاء العدة الرجعية ولم تكن ذات بعل ، لأنها حينئذ على حكم الفراش السابق في لحوق كل ما يحتمل كونه منه ، ولذا لو لم تخبر بانقضاء العدة لم يكن إشكال في لحوق الولد به ، بل في المسالك الإجماع عليه ، وإقرارها بانقضاء العدة لا يرفع الحق الثابت للفراش المشترك بين الأبوين والولد ، بل هو في الحقيقة إقرار في حق الغير ، مع أنه حصل له المعارض الذي هو في الحقيقة كما لو جاءت به لأقل من ستة أشهر مع إخبارها بانقضاء العدة فتأمل.

ثم إن مقتضي إطلاقه مجي‌ء الولد للمدة المزبورة منذ طلقها عدم الفرق بين عدة البائن والرجعية ، كما هو أحد القولين في المسألة ، لأنها بالطلاق قد حرمت عليه بغير الرجعة التي هي كالعقد في البائنة ، والآخر الفرق بينهما ، فيحسب من انقضاء العدة في الرجعية بخلاف البائنة ، لما عرفت من جواز وطئها من دون نية رجوع ، وإنما يكون هو رجوعا ، وبقاء لوازم النكاح من التوارث ووقوع الظهار والإيلاء ، وبقاء المعلول دليل على بقاء العلة ، فالنكاح باق ، وكذا الفراش ولو ببقاء حكمها ، ولعله الأقوى.

وأما إطلاق المصنف وغيره احتساب المدة من حين الطلاق ـ المقتضي لكون أقصى الحمل أكثر مما فرض أنه أقصاه كما اعترف به في المسالك قال : « لتقدم‌

٢٧١

العلوق على الطلاق لأن المعتبر كونه في الفراش ، وهو متقدم على الطلاق الذي لا يصح إلا في وقت متأخر عن الوطء بمقدار ما تنتقل من الطهر الذي أتاها فيه إلى غيره أو ما يقوم مقامه من المدة ، وذلك يوجب زيادة الأقصى بكثير » ـ فقد عرفت الحال فيه في بحث الاسترابة ، وأنه إما مبني على التسامح ، أو لأن حكم الفراش باق إلى حين الطلاق ، ويكفي فيه الاحتمال الذي لا يعلم به المطلق على وجه لا ينافي صدق كونها في طهر لم يواقعها فيه بزعمه ، مع أنه يمكن وطؤها في زمن الحيض ، فإنه وإن أثم لا ينافي لحوق الولد بناء على عدم منافاة ذلك لصحة الطلاق لو وقع بعد طهرها ، لصدق كونه حينئذ في طهر لم يواقعها فيه ، فلاحظ وتأمل.

ثم لا يخفى عليك أنه بناء على لحوق الولد بالمطلق تكون المطلقة باقية في العدة ، فله الرجعة بها حينئذ لو كان رجعيا ، ضرورة لزوم ذلك للحوق الولد به.

وأما احتمال الجمع بين تصديقها بانقضاء العدة ولحوق الولد به لحكم الفراشية فلم أجد من احتمله ، ولعله لمنافاته مقتضي الأدلة الظاهرية ، ولذلك التزام الشيخ بنفيه عنه مع القول بمقتضى التصديق ، فيتجه حينئذ بقاؤها في العدة على القول بلحوقه به ، هذا.

وقد بقي شي‌ء وهو أنه بناء على قول الشيخ بعدم لحوق الولد به لا يحكم بكونه من زنا ، لعدم حصول مقتضية ، فليس إلا الشبهة المقتضية للعدة المقدمة على عدة الطلاق إذا كانت بالحمل ، كما سمعته سابقا ، فلا بد من فرض المسألة في صورة إمكان انقضاء عدتها التي أقرب بها قبل حصول الشبهة ، فتأمل جيدا.

وكيف كان فلا إشكال في عدم لحوق الولد به مع فرض مجيئها به لأزيد من أقصى الحمل إلا مع دعوى فراش جديد ولو وطئ شبهة ، فان تصادقا عليه فلا إشكال وإن ادعت هي ذلك وأنكر هو فالقول قوله بيمينه ، فإذا نكل حلفت هي وثبت النسب إلا أن ينفيه باللعان ، فان نكلت فهل يحلف الولد إذا بلغ؟ ففي المسالك « فيه وجهان أجودهما ذلك إن فرض علمه وإن بعد » وفيه ما لا يخفى من الإشكال في‌

٢٧٢

إجراء حكم نكوله إلى زمن بلوغ الولد مع كون الدعوى بين الرجل والمرأة ، نعم لا بأس بإجراء حكم الدعوى الجديدة بين الرجل والولد ، فتأمل.

ولو سلم الفراش وأنكر أصل ولادتها له كان القول قوله بيمينه ، فان نكل حلفت وثبتت الولادة والنسب بالفراش ، إلا أن ينفيه باللعان.

وعلى كل حال ففي المسالك « وتنقضي العدة بوضعه وإن حلف الرجل على النفي ، لأنها تزعم أن الولد منه ، فكان كما لو نفي الرجل حملها باللعان ، فإنه ـ وإن انتفى الولد ـ تنقضي العدة بوضعه ، لزعمها أنه منه » ولا يخلو من غبار فتأمل.

ولو ادعت على الوارث بعد موت الزوج أنه كان راجعها أو جدد نكاحها فان كان واحدا ، فالحكم كما ادعت على الزوج ، إلا أن الوارث يحلف على نفي العلم ، ولا لعان معه ، وإن كان اثنين فان صدقاها أو كذباها وحلفا أو نكلا فحلفت فكما مر ، وإن صدقها أحدهما وكذب الآخر وحلف ففي المسالك « يثبت المهر والنفقة بنسبة حصة المصدق ، ولا يثبت النسب إلا أن يكون المصدق عدلين » وفيه أنه يثبت النسب أيضا في حق المصدق ، والله العالم.

٢٧٣

( الفصل الخامس )

( في عدة الوفاة )

لا خلاف في أنه تعتد الحرة المنكوحة بالعقد الصحيح الدائم أربعة أشهر وعشرا إن كانت حائلا بل الإجماع بقسميه عليه ، مضافا إلى الكتاب والسنة (١) التي تقدم جملة منها ، قال الله تعالى (٢) ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً ) ولا ينافيه قوله تعالى (٣) : ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ ) بناء على أن المراد منها الاعتداد بالسنة ، لأنها حينئذ منسوخة بالأولى.

ولا فرق في الزوجة صغيرة كانت أو كبيرة مسلمة أو ذمية من ذوات الأقراء أو لا بالغا كان زوجها أو لم يكن حرا كان أو عبد ادخل بها أو لم يدخل لإطلاق الأدلة والإجماع ، وخبر عمار (٤) المتضمن لعدمها على غير المدخول بها كالمطلقة من الشواذ المطرحة ، لمنافاته إطلاق الكتاب والسنة وإجماع المسلمين ، مضافا إلى ظهور الفرق بين عدة الطلاق وعدة الوفاة التي هي في الحقيقة لإظهار التحزن والتفجع على الزوج والاحترام لفراشه ، ولذلك اعتبرت بالأشهر ، وأمر فيها بالحداد بخلاف عدة الطلاق المعتبر فيها الأقراء أولا وبالذات.

وتبين بغروب الشمس من اليوم العاشر الذي يتحقق بذهاب الحمرة المشرقية ، كما حقق في محله. لأنه نهاية اليوم للاتفاق كما في كشف اللثام ، والإجماع كما في المسالك ، على أن المراد بالعشر عشر ليال مع عشرة أيام ، خلافا للأوزاعي‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٣٠ ـ من أبواب العدد.

(٢) سورة البقرة : ٢ ـ الآية ٢٣٤.

(٣) سورة البقرة : ٢ ـ الآية ٢٤٠.

(٤) الوسائل الباب ـ ٣٥ ـ من أبواب العدد الحديث ٤ عن محمد بن عمر الساباطي.

٢٧٤

فأبانها بطلوع فجر العاشر ، لتذكير العدد في الآية (١) المقتضي التأنيث في تمييزه ، فيكون ليالي ، لكن ذلك لا يعارض ما سمعت ، على أن المحكي عن بعض أهل العربية أن ذلك مع ذكر التميز ، أما مع عدمه كما في الآية فلا يدل على ذلك ، ويجوز تناوله للمذكر والمؤنث ، بل قد يقال : كونه مؤنثا ، لا ينافي إرادة عشر ليال بأيامها والأمر سهل بعد ما عرفت.

وعلى كل حال فلا يشترط عندنا أن تحيض حيضة في المدة ، لإطلاق الأدلة ، وعن العامة قول به ، وآخر باشتراط أن ترى فيها الحيض كما اعتادته.

والمراد بالشهر ما سمعته في أشهر المطلقة الذي قد تقدم البحث في المنكسر منه أيضا نعم ينبغي أن يعلم أنه لو مات وكان الباقي العشر فلا كسر ، بل تعتد بها وتضم إليها أربعة أشهر هلالية ، وإن كان الباقي أقل لم تعده ، وتحسب أربعا هلالية أيضا ، وتكمل باقي العشر من الشهر السادس ، وإن كان الباقي أكثر جاء البحث السابق في المنكسر فيه ، وإن انطبق الموت على أول الهلال حسبت أربعة أشهر بالأهلة ، وضمت إليها عشرة أيام من الشهر الخامس ، ولو كانت في حال لا تعرف الهلال لحبس أو غيره ولو باخبار من الغير اعتدت بالأيام ، وهي مائة وثلاثون يوما استظهارا للعدة المستصحبة.

ولو كانت حاملا اعتدت بأبعد الأجلين من وضع الحمل ومضي الأربعة أشهر وعشر ، وحينئذ فإن وضعت قبل استكمال الأربعة الأشهر والعشرة أيام صبرت إلى انقضائها وكذا العكس بلا خلاف أجده فيه عندنا ، بل الإجماع بقسميه عليه ، مضافا إلى النصوص (٢) المستفيضة أو المتواترة.

بل قيل : إنه مقتضى الجمع بين آيتي الأحمال (٣) والوفاة (٤) لدخول الحامل‌

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ ـ الآية ٢٣٤.

(٢) الوسائل الباب ـ ٣١ ـ من أبواب العدد.

(٣) سورة الطلاق : ٦٥ ـ الآية ٤.

(٤) سورة البقرة : ٢ ـ الآية ٢٣٤.

٢٧٥

حينئذ تحت عامين ، فامتثالها الأمر فيهما يحصل باعتدادها بأبعد الأجلين. وإن كان فيه ( أولا ) أن آية أولات الأحمال ظاهرة في المطلقة و ( ثانيا ) أن مقتضاه الترجيح لإحداهما على الأخرى ، ومع عدمه فالجمع بينهما.

نعم قد يقال : إنه لو عمل بإطلاق الوفاة لاقتضى خروجها عن العدة بمضيها وإن لم تضع ، فيلزم أن يكون عدة الوفاة أضعف من عدة الطلاق ، والأمر بالعكس ، كما يظهر من زيادة عدتها ومن شدة أمرها وكثرة لوازمها ، فيكون مراعاة الوضع على تقدير تأخره عن الأربعة أشهر وعشر أولى منه في الطلاق الثابت بالإجماع ، ولعل هذا هو السر في اعتدادها بأبعد الأجلين الذي استفاضت به نصوصنا (١) وانعقد عليه إجماعنا ، خلافا للعامة ، فأبانوها بالوضع ولو لحظة بعد وفاته ، وهو كما ترى.

وكيف كان فلا خلاف نصا (٢) وفتوى في أنه يلزم المتوفى عنها زوجها إذا كانت حرة الحداد بل الإجماع بقسميه عليه ، مضافا إلى المعتبرة (٣) المستفيضة بل المتواترة التي مر عليك بعض منها ، ويمر عليك آخر إنشاء الله.

وهو لغة وشرعا ترك ما فيه زينة من الثياب ، والإدهان المقصود بها الزينة ، والتطيب فيها أو في البدن ، والتكحيل بالأسود أو بغيره مما فيه زينة بلونه أو بغيره ، بل عن المبسوط أنهن يكتحلن بالصبر ، لأنه يحسن العين ويطري الأجفان ، فالمعتدة ينبغي أن تتجنبه ، لما‌ روت أم سلمة (٤) « أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لها : « استعمليه ليلا وامحيه نهارا ». إلى غير ذلك مما تتزين به النساء ، كالخطاط والحمرة وماء الذهب والديرم والسفداج ونحوها.

والحداد من الحد بمعنى المنع ، من حدت المرأة تحد حدا : أي منعت نفسها‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٣١ ـ من أبواب العدد.

(٢) الوسائل الباب ـ ٢٩ ـ من أبواب العدد.

(٣) الوسائل الباب ـ ٢٩ ـ من أبواب العدد.

(٤) سنن البيهقي ج ٧ ص ٤٤٠.

٢٧٦

من التزيين ، فهي حادة ، وكذا الإحداد من أحدت تحد إحدادا فهي محدة ، بل عن الأصمعي إنكار الأول ، لكن الأصح خلافه.

والأصل فيه ـ مضافا إلى النصوص (١) الدالة على الأمر بلفظه ـ صحيح ابن يعفور (٢) عن أبى عبد الله عليه‌السلام « سألته عن المتوفى عنها زوجها ، فقال : لا تكتحل للزينة ، ولا تطيب ، ولا تلبس ثوبا مصبوغا ، ولا تبيت عن بيتها ، وتقضي الحقوق ، وتمشط بغسلة ، وتحج وإن كانت في عدتها ».

وفي‌ خبر زرارة (٣) عن أبى جعفر عليه‌السلام في حديث « فتمسك عن الكحل والطيب والأصباغ ».

وفي‌ خبر أبى العباس (٤) عن الصادق عليه‌السلام « لا تكتحل للزينة ، ولا تطيب ، ولا تلبس ثوبا مصبوغا ، ولا تخرج نهارا ، ولا تبيت عن بيتها ، قلت : أرأيت إن أرادت أن تخرج إلى حق كيف تصنع؟ قال : تخرج بعد نصف الليل ، وترجع عشاء ».

وفي‌ خبر أبي بصير (٥) عن أبى عبد الله عليه‌السلام « سألته عن المرأة يتوفى عنها زوجها وتكون في عدتها أتخرج في حق؟ فقال : إن بعض نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سألته ، فقالت : إن فلانة توفي عنها زوجها ، فتخرج في حق ينوبها؟ فقال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أف لكن ، قد كنتن قبل أن أبعث فيكن ، وأن المرأة منكن إذا توفي عنها زوجها أخذت بعرة فرمت بها خلف ظهرها ، ثم قالت : لا أمتشط ولا أكتحل ولا أختضب حولا كاملا ، وإنما أمرتكن بأربعة أشهر وعشرا ، ثم لا تصبرن ، لا تمتشط ، ولا تكتحل ، ولا تختضب ، ولا تخرج من بيتها نهارا ، ولا تبيت عن بيتها ، فقالت :

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٢٩ ـ من أبواب العدد.

(٢) الوسائل الباب ـ ٢٩ ـ من أبواب العدد الحديث ٢ صحيح ابن أبى يعفور.

(٣) الوسائل الباب ـ ٢٩ ـ من أبواب العدد الحديث ١.

(٤) الوسائل الباب ـ ٢٩ ـ من أبواب العدد الحديث ٣.

(٥) الوسائل الباب ـ ٣٣ ـ من أبواب العدد الحديث ٧. في الطبع الحديث‌ « تخرج بعد زوال الشمس » الا أن الموجود في الكافي ج ٦ ص ١١٧‌ « تخرج بعد زوال الليل ».

٢٧٧

يا رسول الله : فكيف تصنع إن عرض لها حق؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : تخرج بعد زوال الليل ، وترجع عند المساء ، فتكون لم تبت عن بيتها ، قلت له : فتحج ، قال : نعم » إلى غير ذلك من النصوص.

نعم في‌ موثق الساباطي (١) عن الصادق عليه‌السلام « إنه سأل عن المرأة يموت عنها زوجها هل يحل لها أن تخرج من بيتها في عدتها؟ قال : نعم ، وتختضب ، وتدهن ، وتمشط ، وتصبغ وتصنع ما شاءت لغير ريبة من زوج » وهو ـ مع ما قيل من كونه من الشواذ بل في الوافي قد مضى حديث آخر (٢) بهذا الاسناد فيما تفعل المطلقة في عدتها ، وكان مضمونه قريبا من مضمون هذا الحديث إلا ما تضمن صدره ، ويشبه أن يكون الحديثان واحدا ، وإنما ورد في المتوفى عنها زوجها والمطلقة جميعا ، وقد سقط منه شي‌ء ـ يمكن حمله على إرادة جواز فعل ذلك للضرورة ، بل ربما كان في‌ قوله عليه‌السلام : « لغير ريبة من زوج » إشعار بذلك ، على أن التدهن والامتشاط ليس مطلقهما من الزينة.

نعم ما فيه من جواز الخروج من بيتها موافق للأصول وظاهر الاقتصار في الفتاوى على وجوب الحداد عليها الذي لا يدخل فيه ذلك قطعا ول‌ موثق ابن بكير (٣) « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن التي توفي عنها زوجها تحج؟ قال : نعم ، وتخرج ، وتنتقل من منزل إلى منزل » ونحوه‌ خبر عبيد بن زرارة (٤) عنه عليه‌السلام أيضا ، بل ولمكاتبة الصفار (٥) في الصحيح للعسكري عليه‌السلام « في امرأة مات عنها زوجها وهي في عدة منه ، وهي محتاجة لا تجد من ينفق عليها ، وهي تعمل للناس هل يجوز لها أن تخرج‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٢٩ ـ من أبواب العدد الحديث ٧ مع الاختلاف وفيه‌ « بغير زينة لزوج » الا أن الموجود في الوافي ج ١٢ ص ١٨٥ كالجواهر.

(٢) راجع الوافي ج ١٢ ص ١٨٣ وهو الذي أشار إليه في الوسائل في ذيل الحديث ٧ من الباب ـ ٢٩ ـ من العدد وذكره الشيخ في التهذيب ج ٨ ص ٨٣.

(٣) الوسائل الباب ـ ٣٣ ـ من أبواب العدد الحديث ٣.

(٤) الوسائل الباب ـ ٣٣ ـ من أبواب العدد الحديث ٥.

(٥) الوسائل الباب ـ ٣٤ ـ من أبواب العدد الحديث ١.

٢٧٨

وتعمل وتبيت عن منزلها في عدتها؟ فوقع عليه‌السلام : لا بأس بذلك إنشاء الله ».

ولعله لذا كان المحكي عن الشيخ الجمع بين النصوص بحمل النهي عن البيتوتة على الكراهة ، بل لم أجد أحدا من معتبري الأصحاب منعها من ذلك ، نعم في الحدائق استظهر الجمع بينها بمضمون مكاتبة الصفار على معنى جواز ذلك للضرورة دون غيرها ، مؤيدا لذلك أيضا بمكاتبة الحميري (١) لصاحب الزمان روحي له الفداء المروية في الاحتجاج وغيره « سألته عن المرأة يموت زوجها هل يجوز لها أن تخرج في جنازته أم لا؟ فوقع : تخرج في جنازته ، وهل يجوز لها وهي في عدتها أن تزور قبر زوجها أم لا؟ فوقع : تزور قبر زوجها ، ولا تبيت عن بيتها ، وهل يجوز لها أن تخرج في قضاء حق يلزمها أم لا تخرج من بيتها في عدتها؟ فوقع : إذا كان حق خرجت فيه وقضته ، وإن كان لها حاجة ولم يكن لها من ينظر فيها خرجت لها حتى تقضيها ، ولا تبيت إلا في منزلها ».

لكنه كما ترى منشأه اختلال الطريقة ، بل عدم معرفة اللسان ، فان النصوص المزبورة ظاهرة لمن رزقه الله معرفة رمزهم واللحن في قولهم فيما هو ظاهر الأصحاب من عدم منعها من ذلك ، وأنه يجوز لها من دون ضرورة ، لكن على كراهة ، خصوصا بعد ملاحظة النصوص المستفيضة الدالة على جواز قضاء عدتها فيما شاءت من المنازل ولو كل شهر في منزل.

كما في‌ مرسل يونس (٢) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « سألته عن المتوفى عنها زوجها أتعتد في بيت تمكث فيه شهرا أو أقل من شهر أو أكثر ثم تتحول منه إلى غيره فتمكث في المنزل الذي تحولت إليه مثل ما مكثت في المنزل الذي تحولت منه ، كذا صنعتها حتى تنقضي عدتها؟ قال : يجوز لها ذلك ، ولا بأس ».

وفي صحيح سليمان بن خالد (٣) « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن امرأة توفي عنها‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٣٣ ـ من أبواب العدد الحديث ٨.

(٢) الوسائل الباب ـ ٣٤ ـ من أبواب العدد الحديث ٢.

(٣) الوسائل الباب ـ ٣٢ ـ من أبواب العدد الحديث ١.

٢٧٩

زوجها أين تعتد ، في بيت زوجها تعتد أو حيث شاءت؟ قال : حيث شاءت ، ثم قال : إن عليا عليه‌السلام لما مات عمر أتى إلى أم كلثوم ، فأخذ بيدها وانطلق بها إلى بيته » وغير ذلك من النصوص ، فالمتجه حينئذ ما اقتصر عليه من المنع من الزينة في الثوب والبدن والطيب.

نعم لا بأس بالثوب الأسود والأزرق ونحوهما لبعده عن شبهة الزينة في العادة التي قد عرفت أنها المدار ، وربما تحصل ببعض الثياب الفاخرة التي لم تكن مصبوغة.

لكن في المبسوط « وأما الأثواب ففيها زينتان : إحداهما تحصل بنفس الثوب ، وهو ستر العورة وسائر البدن ، قال الله تعالى (١) ( خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ) والزينة الأخرى تحصل بصبغ الثوب ، فإذا أطلق فالمراد به الثاني ، والأول غير ممنوع منه للمعتدة وإن كان فاخرا مرتفعا مثل المروي المرتفع والسابوري والدبيقى والقصب والصيقلي وغير ذلك مما يتخذ من قطن وكتان وصوف ووبر ، وأما ما يتخذ من الإبريسم قال قوم : ما يتخذ منه من غير صبغ جاز لبسه وما صبغ لم يجز ، والأولى تجنبه على كل حال ، وأما الزينة التي تحصل بصبغ الثوب فثلاثة أضرب : ضرب يدخل على الثوب لنفي الوسخ عنه ، كالكحلي والسواد ، فلا تمنع المعتدة منه ، لأنه لا زينة فيه ، وفي معناه الديباج الأسود ، والثاني ما يدخل على الثوب لتزيينه ، كالحمرة والصفرة وغير ذلك ، فتمنع المعتدة منه ، لأنه زينة ، وأما الضرب الثالث فهو ما يدخل على الثوب ويكون مترددا بين الزينة وغيرها ، مثل أن يصبغ أخضر أو أزرق ، فإن كانت مشبعة تضرب إلى السواد لم تمنع منه ، وإن كانت صافية تضرب إلى الحمرة منعت منها ».

ولا يخفى عليك أنه تطويل بلا طائل ، ضرورة كون المدار على ما عرفت ، وهو مختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال ، ولا ضابطة للزينة والتزين وما‌

__________________

(١) سورة الأعراف : ـ الآية ٣١.

٢٨٠