جواهر الكلام - ج ٣٢

الشيخ محمّد حسن النّجفي

( المقصد الرابع )

( في جواز استعمال الحيل )

وهو باب واسع في الفقه ، يختلف باختلاف أذهان الفقهاء حدة وقصورا ، وقد أشار الأئمة عليهم‌السلام إليه في الجملة في التخلص من الربا والزكاة وغيرهما ، بل في‌ صحيح ابن الحجاج (١) نوع مدح لذلك ، قال : « سألته عن الصرف ـ إلى أن قال ـ فقلت له : أشتري ألف درهم ودينارا بألفي درهم ، قال : لا بأس ، إن أبي كان أجرا على أهل المدينة مني ، وكان يقول هذا ، فيقولون : إنما هذا الفرار ، لو جاء رجل بدينار لم يعط ألف درهم ، ولو جاء بألف درهم لم يعط ألف دينار ، وكان يقول لهم ، نعم الشي‌ء الفرار من الحرام إلى الحلال. » بل قد‌ ورد في الصلاة (٢) « لا يبطلها فقيه ، يحتال لها فيدبرها ».

وما دل في تفسير العسكري (٣) ـ في تفسير قوله تعالى (٤) ( وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ ، فَقُلْنا لَهُمْ : كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ ) عن علي بن الحسين عليهما‌السلام « كان هؤلاء قوم يسكنون على شاطئ بحر فنهاهم الله وأنبياؤه عن اصطياد السمك في يوم السبت ، فتوصلوا إلى حيلة ليحلوا منها لأنفسهم ما حرم الله تعالى ، فخدوا أخاديد وعملوا طرقا تؤدي إلى حياض ، فيتهيأ للحيتان الدخول من تلك الطرق ولا يتهيأ لها الخروج إذا همت بالرجوع ، فجاءت الحيتان يوم السبت‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٦ ـ من أبواب الصرف الحديث ١ من كتاب التجارة.

(٢) الوسائل الباب ـ ٢٩ ـ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة الحديث ١ من كتاب الصلاة مع الاختلاف في اللفظ.

(٣) البحار ج ١٤ ص ٥٦ الطبع الحديث.

(٤) سورة البقرة : ٢ ـ الآية ٦٥.

٢٠١

جارية على أمان لها ، فدخلت الأخاديد ، وحصلت في الحياض والغدران ، فلما كانت عشية اليوم همت بالرجوع منها إلى اللجج لتأمن من صائدها ، فرامت الرجوع فلم تقدر ، وبقيت ليلتها في مكان يتهيأ أخذها بلا اصطياد ، لاسترسالها فيه وعجزها عن الامتناع ، لمنع المكان لها ، وكانوا يأخذون يوم الأحد ، يقولون : ما اصطدنا في السبت ، إنما اصطدنا في الأحد ، وكذب أعداء الله تعالى ، بل كانوا آخذين لها بأخاديدهم التي عملوها يوم السبت ، حتى كثر من ذلك ما لهم » ـ إنما هو لعدم موافقة الحيلة للتخلص من النهي عن الاصطياد في يوم السبت ، أو لمعلومية منافاة ذلك للغرض المراد من النهي عن الاصطياد ، وهو الطاعة والامتثال في مقام الاختبار لهم.

ولعل من ذلك ما يتعاطاه بعض الناس في هذه الأزمنة من التخلص مما في ذمته من الخمس والزكاة ببيع شي‌ء ذي قيمة ردية بألف دينار مثلا من فقير برضاه ليحتسب عليه ما في ذمته عن نفسه ، ولو بأن يدفع له شيئا فشيئا ، مما هو مناف للمعلوم من الشارع من كون المراد بمشروعية ذلك نظم العباد وسياسة الناس في العاجل والأجل بكف حاجة الفقراء من مال الأغنياء ، بل فيه نقض للغرض الذي شرع له الحقوق ، وكل شي‌ء تضمن نقض غرض أصل مشروعية الحكم يحكم ببطلانه ، كما أومأ إلى ذلك غير واحد من الأساطين ، ولا ينافي ذلك عدم اعتبار اطراد الحكمة ، ضرورة كون المراد هنا ما عاد على نقض أصل المشروعية ، كما هو واضح.

ولعل ذلك هو الوجه في بطلان الاحتيال المزبور ، لا ما قيل من عدم القصد حقيقة للبيع والشراء بالثمن المزبور ، حتى أنه لذا جزم المحدث البحراني بعدم جوازه لذلك ، إذ هو كما ترى ، ضرورة إمكان تحقق القصد ولو لإرادة ترتب الحكم وتحصيل الغرض ، إذ لا يجب مراعاة تحقق جميع فوائد العقد ، كما اعترف هو به في العقد على الصغيرة آنا ما لتحليل النظر ، بل أشارت إليه النصوص (١) في بيع ما يساوي القليل بالكثير تحصيلا للربح الذي به يتخلص من الربا ،. الذي منه علم‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب الربا من كتاب التجارة.

٢٠٢

عدم منافاة ذلك لغرض الشارع مما حرمه من الربا ، فليس هو عائدا على نقض غرض أصل المشروعية ، وفالتحقيق حينئذ ما عرفت.

نعم قد يقال : إن فتح الباب المزبور يعود على الغرض بالنقض ، فلا ينافيه ما يصنعه بعض حكام الشرع في بعض الأحوال مع بعض الناس لبعض المصالح المسوغة لذلك ، ضرورة أنه قد يتفق شخص غلب الشيطان عليه في أول أمره ، ثم أدركته التوبة والندامة بعد ذلك ، ثم صار صفر الكف أو مات كذلك ، ولكن ذمته مشغولة بحق الخمس مثلا ، فان الظاهر جواز السعي في خلاصه ، بل رجحانه بالطرق الشرعية التي يندرج بها في الإحسان وتفريج الكربة عن المؤمن ، ونحو ذلك من الموازين الشرعية المأمور بها.

وكيف كان فلا إشكال ولا خلاف في أنه يجوز التوصل بالحيل المباحة شرعا دون المحرمة في إسقاط ما لو لا الحيلة لثبت لإطلاق الأدلة وعمومها مع عدم العلم بمنافاة ذلك لغرض الشارع ومطلوبه ، بل لو توصل بالمحرمة أثم وتمت الحيلة وترتب الحكم الشرعي عليها باعتبار تحقق موضوعه وعنوانه.

فلو أن امرأة مثلا حملت ولدها على الزنا بامرأة لتمنع أباه من العقد عليها أو بأمة يريد أن يتسرى بها فقد فعلت هي وولدها حراما ، ولكن حرمت الموطوءة على قول من ينشر الحرمة بالزنا لتحقق موضوعه وإن كان المقصود منه ذلك ، وهكذا غيره ، إلا أن يثبت من الشارع ما يقتضي معاملته بضد غرضه ، كما في طلاق المريض وحرمان القاتل من الإرث ونحوهما. أما لو توصل بالمحلل كما لو سبق الولد إلى العقد عليها في صورة الفرض لم يأثم وترتب حكم حرمة نكاح حليلة الولد ، وكذا لو كرهت المرأة زوجها وأرادت انفساخ العقد بينهما فارتدت بقول يترتب عليه ذلك وإن لم يزل اعتقادها انفسخ النكاح وبانت منه فعلا مع عدم الدخول ، وإلى انقضاء العدة معه إذا لم تتب ، والمناقشة فيها ـ في الحدائق بأن مرجعها إلى إظهار الكفر من غير زوال اعتقاد الإسلام ، وهو غير موجب للارتداد شرعا ـ يدفعها ما عرفت من إمكان فرضها بالارتداد القولي.

٢٠٣

نعم قد يناقش فيما عدوه من هذا الباب من الحيل لنكاح امرأة واحدة ذات عدة جماعة في يوم واحد ، بأن يتزوجها أحدهم ويدخل بها ثم يطلقها ، ثم يتزوجها ثانية ويطلقها من غير دخول ، فتحل للآخر باعتبار كونها غير مدخول بها. وتسقط العدة الأولى عنها بنكاح ذي العدة لها ، فإنها لا عدة عليها لنكاحه ، وهكذا الثاني والثالث ، لعدم تمامية الفرض أولا عندنا ، لاشتراط صحة الطلاق بكونه من غير طهر المواقعة ، نعم يتم ذلك عند العامة القائلين بعدم اشتراط ذلك.

ومن هنا حكي عن الفضل بن شاذان إلزامهم بمثل هذا مشنعا عليهم ـ في طلاق الخلع والطلاق البائن ، بل عن المفيد حكاية ذلك عن الفضل ، ثم قال : « والموضع الذي لزمت هذه الشناعة فقهاء العامة دون الإمامية أنهم يجيزون الخلع والظهار والطلاق في الحيض وفي طهر المواقعة من غير استبانة طهر ، والإمامية تمنع ذلك ، ولذا سلمت مما وقع فيه المخالفون ».

لكن فيه أنه لازم لهم في المتمتع بها إذا وهبها المدة ثم عقد عليها ثم طلقها قبل الدخول ، وهكذا الآخر إلى العشرة ، ولا مخلص من ذلك إلا بدعوى عدم سقوط العدة الأولى لغير الزوج الأول ، كما صرح به الكاشاني والمحدث البحراني والبهائي فيما حكي عنه ، لكن الانصاف عدم خلوه من الاشكال ، لانقطاع حكم العدة الأولى بالعقد الثاني عليها ، فلا وجه للعدة منها بعد الطلاق الذي لا دخول معه ضرورة عدم صدق ذات عدة من النكاح الأول عليها ، مع أنها ذات بعل فعلا.

ولعله لذا يحكى عن الفاضل الداماد التصريح بعدم العدة عليها معه ، بل ربما قيل : إنه ظاهر المشهور ، بل ستسمع تصريح المصنف وغيره في المسألة السادسة من اللواحق لنحو ذلك ، خلافا للقاضي ، والله العالم.

ولو ادعي عليه دين قد بري‌ء منه بإسقاط أو تسليم أو غيرهما فخشي من جواب دعواه بـ ( دعوى الإسقاط أن ينقلب اليمين إلى المدعى لعدم البينة ) فيحلف ويأخذ منه الدين فأنكر الاستدانة وحلف جاز ، لكن بشرط أن‌

٢٠٤

يوري ما يخرجه عن الكذب في أصل الكلام وعن الحنث في اليمين ، بل هو في الثاني آكد ، بأن يضمر في نفسه ظرفا أو مكانا أو زمانا أو حالا من الأحوال التي يخرج بها عن ذلك ، بل ظاهر ثاني الشهيدين في المسالك المفروغية من اشتراط الجواز بالتورية المزبورة.

وكذا الكلام لو خشي الحبس ظلما لإعسار ونحوه بدين يدعى عليه فأنكر موريا وحلف كذلك ، ولا يشكل ذلك بأن مقتضاه الخروج عن الكذب وعن الحلف كاذبا لو كان المدعي محقا ، لمعلومية اختصاص الجواز المزبور بمكان الضرورة وإلا فـ ( النية أبدا نية المدعي إذا كان محقا ) على وجه لا تجديه التورية المزبورة في رفع إثم الكذب. والحلف بالله كاذبا للمدعى عليه إذا كان ظالما ، كما أنها نية الحالف إذا كان مظلوما في الدعوى ففي‌ خبر مسعدة بن صدقة (١) « سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول « وقد سئل عما يجوز وما لا يجوز في النية على الإضمار في اليمين ، فقال : قد يجوز في موضع ولا يجوز في آخر ، فأما ما يجوز فإذا كان مظلوما فما حلف عليه ونوى اليمين فعلى نيته ، وأما إذا كان ظالما فاليمين على نية المظلوم » وبه يقيد إطلاق‌ صحيح صفوان (٢) « سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن الرجل يحلف وضميره على غير ما حلف عليه ، قال : اليمين على الضمير ».

لكن قد يناقش بعدم ظهور الخبر المزبور باشتراط الجواز بالتورية المزبورة ، بل أقصاه الجواز.

واحتمال الاكتفاء في الاستدلال على اعتبار ذلك بما دل على حرمة الكذب فضلا عن الحلف بالله كاذبا فمع فرض مشروعيته قسم خاص لا يتوقف خلاصه عن الظلم بالمحرم يدفعه ظهور جملة من النصوص بعدم حرمة الكذب في نحو الفرض.

قال زرارة (٣) : « قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : نمر بالمال على العشار فيطلبون‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٢٠ ـ من كتاب الايمان الحديث ١.

(٢) الوسائل الباب ـ ٢١ ـ من كتاب الايمان الحديث ٢.

(٣) الوسائل الباب ـ ١٢ ـ من كتاب الايمان الحديث ٦.

٢٠٥

منا أن نحلف لهم ويخلون سبيلنا ، ولا يرضون منا إلا بذاك ، قال : فاحلف ، فهو أحلى من التمر والزبد ».

وقال الوليد بن هشام المرادي (١) : « قدمت من مصر ومعي رقيق لي ومررت بالعشار فسألني ، فقلت : هم أحرار كلهم ، فقدمت المدينة فدخلت على أبى الحسن عليه‌السلام فأخبرته بقولي للعشار ، فقال : ليس عليك شي‌ء ».

وفي‌ صحيح الحلبي (٢) « سألته عن الرجل يحلف لصاحب العشور يحرز بذلك ماله ، قال : نعم ».

وخبر محمد بن مسعود الطائي (٣) « قلت لأبي الحسن عليه‌السلام : إن أمي تصدقت علي بدار لها أو قال بنصيب لها في دار ، فقالت لي : استوثق لنفسك ، فكتبت إني اشتريت وأنها قد باعتني وأقبضت الثمن ، فلما ماتت قال الورثة : احلف أنك اشتريت ونقدت الثمن ، فان حلفت لهم أخذته ، وإن لم أحلف لهم لم يعطوني شيئا ، فقال : عليه‌السلام : فاحلف وخذ ما جعلت لك ».

وخبر أبى محمد بن الصباح (٤) « قلت لأبي الحسن عليه‌السلام : إن أمي تصدقت علي بنصيب لها في دار ، فقلت : إن القضاة لا يجيزون مثل هذا ، ولكن أكتبه شراء ، فقالت : اصنع من ذلك ما بدا لك في كل ما ترى أنه يسوق لك ، فتوثقت ، فأراد بعض‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٦٠ ـ من كتاب العتق الحديث ١.

(٢) الوسائل الباب ـ ١٢ ـ من كتاب الايمان الحديث ٨.

(٣) أشار إليه في الوسائل في الباب ـ ٩ ـ من كتاب الوقوف والصدقات الحديث ٥ وذكره في الكافي ج ٧ ص ٣٣.

(٤) الوسائل الباب ـ ٩ ـ من كتاب الوقوف والصدقات الحديث ٥ عن محمد بن أبى الصباح وكذلك رواه عنه في الباب ـ ٤٣ ـ من كتاب الايمان الحديث ١ كما في التهذيب ج ٨ ص ٢٨٧ وج ٩ ص ١٣٨ الا أن الموجود في الفقيه ج ٣ ص ٢٢٨ محمد بن الصباح ، وفي ج ٤ ص ١٨٣ عن أبى الصباح.

٢٠٦

الورثة أن يستحلفني أني قد نقدتها الثمن ، وأنا لم أنقدها شيئا ، فما ترى؟ فقال : احلف له » إلى غير ذلك من النصوص المؤيدة بما ورد أيضا في الكذب مصلحة (١) من « أن المصلح ليس بكاذب » بناء على أن دفع الضرر عن نفسه أو غيره من المصلحة أيضا ، وبما اشتهر على ألسنة أهل العلم من حسن الكذب النافع وقبح الصدق الضار ، مدعين وصول العقل إلى ذلك ، فتأمل جيدا.

ومن الغريب أن ظاهر قول المصنف ولو أكرهه على اليمين أنه لا يفعل شيئا محللا فحلف ونوى ما يخرج به عن الحنث جاز ، مثل أن يوري أنه لا يفعله بالشام أو بخراسان أو في السماء أو تحت الأرض عدم الفرق في اعتبار التورية المزبورة في الجواز بين الإكراه وعدمه ، وقد عرفت سابقا وتعرف في كتاب الأيمان أنه لا ينعقد يمين المكره ، ولا إثم عليه به وإن لم يور كما اعترف به في المسالك ، ومن هنا قال : « المطابق من المثال أن يحمله على الحلف على ذلك لا على وجه الإكراه ، فيوري بما ذكر ونحوه من المخصصات الزمانية والمكانية والحالية ، فيخرج به عن الحنث ، وهو الإثم في مخالفة مقتضى اليمين ».

وكذا الكلام في قوله ولو أجبره على الطلاق كرها فقال : « زوجتي طالق » ونوى طلاقا سابقا أو قال : « نسائي طوالق » وعنى نساء الأقارب جاز بل وقوله ولو أكره على اليمين أنه لم يفعل كذا في الزمن الماضي فقال : « ما فعلت كذا » وجعل ما موصولة لا نافية صح اللهم إلا أن يريد بذلك بيان أصل الجواز أو رجحانه في الجملة ، لا أن ذلك شرط في صورة الإكراه ، بل قد عرفت قوة جواز الكذب في السابق للنصوص (٢) السابقة ، ولدفع الضرر من غير تورية.

بل الظاهر عدم الإشكال في الجواز بلا تورية في المثالين الأولين ، ضرورة أن اليمين والإيقاع يتبع القصد ، لأن المقام ليس مقام محاورة وتداع كي يلحظ‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٢ ـ من كتاب الصلح. راجع الباب ١٤١ من أحكام العشرة من كتاب الحج أيضا.

(٢) الوسائل الباب ـ ١٢ و ٢٠ و ٢١ ـ من كتاب الايمان.

٢٠٧

فيه مقام المخاطبة ، نعم في المثال الثالث لا إشكال في جوازه كذبا بلا تورية في صورة الإكراه ، بل وفي المصلحة التي يسوغ معها الكذب وإن كان الأولى مع ذلك قصد التورية.

أما بدونها ففي جواز التورية والخروج بها عن إثم الكذب والحلف كاذبا وعدمه قولان ، قد يظهر الثاني منهما مما تقدم للمصنف ومن قوله أيضا ولو اضطر إلى الإجابة بنعم فقال : « نعم » وعنى الإبل أو قال : « نعام » وعنى نعام البر قصدا للتخلص لم يأثم من حيث تقييد ذلك بالاضطرار ، ولعله لصدق الكذب عرفا معها في المحاورات ، إذ اللفظ محمول على حقيقته المتبادرة ، وكذا مجازه المقترن بقرائن الأحوال والمقال.

وقيل بالأول أي جواز التورية مطلقا ما لم يكن ظالما ، لأن العدول عن الحقيقة سائغ والقصد مخصص ، بل في المسالك « وهذا هو الأظهر لكن ينبغي قصره على وجه المصلحة ، كما يروى عن بعض السلف الصالح أنه كان إذا ناداه أحد ولا يريد الاجتماع به يقول لجاريته : قولي له : اطلبه في المسجد ، وكان آخر يخط دائرة في الأرض ، ويضع فيها إصبع الجارية ، ويقول لها : قولي له : ليس هنا واقصدي داخل الدائرة ».

قلت : وربما يؤيده ما في بعض النصوص من التعجب ممن يكذب مع أن الكلام له وجوه ، وفي آخر (١) إن الصادق عليه‌السلام في حديث طويل قال لأبي حنيفة عند تفسير رؤيا قصت عليه بمحضر منه : « أصبت يا أبا حنيفة ، ثم لما قام فسره الامام بخلاف ما ذكره أبو حنيفة ، فسئل عن قول أصبت ، فقال : إنما أردت أصبت عين الخطاء ».

ولكن الأولى بل الأقوى الاقتصار في الجائز منها مطلقا على ما لا يقتضي صدق الكذب معه عرفا مما ينشأ من فهم السامع وتخيله القرائن الدالة على ذلك ، نحو‌

__________________

(١) روضة الكافي ص ٢٩٢ ط طهران ١٣٨٩.

٢٠٨

ما سمعته من السلف الصالح ، لا مطلقا اعتمادا على التخصيص بالضمير الذي لا يكفي في صرف الكلام عن الكذب عرفا ، فما سمعته من المسالك لا يخلو من منع.

ونحوه ما ذكره في شرح قول المصنف وكذا لو حلف « ما أخذ جملا ولا ثورا ولا عنزا » وعنى بالجمل الحساب وبالثور القطعة الكبيرة من الأقط وبالعنز الأكمه لم يحنث فإنه قال : « هذا من أقسام التورية بصرف اللفظ المشترك إلى بعض معانيه التي على خلاف الظاهر في تلك المحاورة ، وهو قصد صحيح بطريق الحقيقة وإن كانت مرجوحة بحسب الاستعمال حتى يلزم فرض بلوغها حد المجاز من حيث تبادر الذهن إلى غيرها كان قصدها صارفا عن الكذب ، لأن استعمال المجاز أمر شائع وإن كان إطلاق اللفظ لا يحمل عليه عند التجرد عن القرينة ، فإن المخصص هنا هو النية فيما بينه وبين الله تعالى للسلامة من الكذب حيث لا يكون ظالما بالدعوى عليه بذلك ، وإلا لم تنفعه التورية كما مر ».

إذ قد عرفت سابقا أن اليمين المجردة عن تعلق للغير تتبع ضمير الحالف حتى لو أراد من اللفظ ما لا يدل عليه حقيقة ولا مجازا ، وأما مالها تعلق بالغير ولو على وجه المخاطبة والمحاورة والاخبار ونحوه فلا يجوز التورية بما تنافي ظاهر اللفظ اعتمادا على ما في ضميره ، لما عرفت من صدق الكذب عليه عرفا ، مع احتمال القول بعدم الحنث في اليمين مع التورية في الضمير وإن أثم لصدق الكذب عرفا ، لعدم مدخلية نية المحلوف له هنا في يمين الحالف إلا مع فرض كونه مدعيا بحق ، وظاهر آخر كلامه حمل ما في المتن على الثاني ، وحينئذ يتوجه عليه ما سمعت.

ولو اتهم غيره في فعل فحلف المتهم بالفتح للمتهم بالكسر ليصدقنه في هذا الأمر فطريق التخلص من ذلك مع إبقاء الأمر على إبهامه باخباره بالنفي وبالإثبات ، نحو أن يقول : فعلت وما فعلت وذلك لأن أحدهما صدق فيبر يمينه وإن كذب في الأخر ، فإن الاصداق في أحد الخبرين لا ينافي الكذب في الأخر ، نعم إنما يتم ذلك إذا لم يقصد التعيين‌

٢٠٩

والتعريف ، كما هو الظاهر من إطلاق اللفظ ، وإلا لم يبر إلا بالصدق في ذكر أحدهما خاصة ، كما هو واضح.

ولو حلف ليخبرنه صدقا بما في الرمانة مثلا من حبة قبل كسرها مع فرض عدم إرادة التعيين فالمخرج من ذلك أن يعد العدد الممكن فيها بأن يبتدئ بأقل عدد يعلم اشتمالها عليه ثم يضيف إليه إلى أن يعلم خروجها عن ذلك ، فيقول فيها مثلا « مأة حبة » و « مأة وواحدة » وهكذا إلى أن يعلم حصول ذلك في ضمن ما ذكره من الإخبار ، نعم لو أراد التعيين لم يبر بذلك بل لا بد من كسرها والإحاطة بما فيها من الحب ، كما أنه يبر بأول الإخبار إن أراد المطلق من الخبر في كلامه الذي هو أعم من الصدق والكذب والمحتمل لهما.

وكيف كان فذلك وأمثاله سائغ وقد أكثر العامة في الأمثلة لهم في الطلاق بناء منهم على جواز التعليق فيه والحلف به ، بل نحوه يجرى عند الخاصة في الظهار مثلا ، لقبوله للتعليق عندهم ، فلو قال مثلا لامرأته : « إن أكلت هذه الرمانة مثلا فأنت علي كظهر أمي » تخلصت مع فرض لزوم الأكل منها في الجملة بأكل البعض دون البعض على وجه يصدق عليها أنها ما أكلتها ، ولو قال لها وهي صاعدة على السلم مثلا : « إن نزلت عن هذا السلم فأنت على كظهر أمي وإن صعدت عليه فأنت علي كظهر أمي » تخلصت بالطفرة أو بحملها مقهورة ، فيصعد بها أو ينزل ، وبإضجاع السلم على الأرض وهي عليه ، وبانتقالها إلى سلم آخر يكون في جنبه ، ونحو ذلك مما يكون به تخلصا عن مصداق ما ذكره ، ولو قال لها : « كل كلمة كلمتني بها إن لم أقل لك مثلها فأنت على كظهر أمي » فقالت له : « أنت علي كظهر أمي » تخلص بقول ذلك مصرحا بعدم قصد الإنشاء ، ولو كان في يدها كوز من ماء فقال : « إن قلبت هذا الماء أو تركته أو شربته أو شربه غيرك فأنت على كظهر أمي » تخلصت بوضع خرقة مثلا فيه حتى ينفذ ،

٢١٠

ولو كانت في ماء فقال لها : « إن مكثت فيه أو خرجت فأنت على كظهر أمي » حملها إنسان منه في الحال (١) إلى غير ذلك من الأمثلة التي مرجع الجميع فيها إلى نحو ما عرفت من الإتيان بما لا يصدق عليه المعلق عليه.

( المقصد الخامس )

( في العدد )

جمع عدة من العدد لغة لاشتماله عليها غالبا ، وهي بحسب ما تضاف إليه فيقال : عدة رجال وعدة كتب ونحو ذلك ، ومعناها شرعا أيام تربص المرأة الحرة بمفارقة الزوج أو ذي الوطء المحترم بفسخ أو طلاق أو موت أو زوال اشتباه ، بل والأمة إذا كانت الفرقة عن نكاح أو وطء شبهة ، نعم لو كان عن وطء ملك سميت بالاستبراء ولعل منه التحليل ، والأمر سهل.

وكيف كان فقد تطابق الكتاب (٢) والسنة (٣) والإجماع على مشروعية العدة في الجملة ولكن تمام النظر في تفصيل ذلك يستدعي فصولا.

( الأول : )

لا عدة على من لم يدخل بها قبلا ولا دبرا سواء بانت بطلاق أو فسخ أو هبة مدة عدا المتوفى عنها زوجها ، فإن العدة تجب مع الوفاة ولو‌

__________________

(١) هكذا في النسختين الأصليتين المسودة والمبيضة ، والاولى بحسب سياق العبارة أن تكون هكذا « تخلصت بحملها انسان منه في الحال ».

(٢) سورة البقرة : ٢ ـ الآية ٢٢٨.

(٣) الوسائل الباب ـ ١٢ ـ وغيره من أبواب العدد.

٢١١

لم يدخل بها كما ستعرف ، بلا خلاف أجده في شي‌ء من ذلك ، بل الإجماع بقسميه عليه ، مضافا إلى قوله تعالى (١) ( ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها ) والنصوص المستفيضة أو المتواترة ، قال الصادق عليه‌السلام في صحيح الحلبي (٢) : « إذا طلق الرجل امرأته قبل أن يدخل بها فليس عليها عدة ، تزوج من ساعتها إن شاءت ، وتبنيها تطليقة واحدة » وفي‌ موثق أبي بصير (٣) : « إذا طلق الرجل امرأته قبل أن يدخل بها تطليقة واحدة فهي بائن منه ، وتزوج من ساعتها إن شاءت ».

وقال هو والباقر عليهما‌السلام في صحيح زرارة (٤) « في رجل تزوج امرأة بكرا ثم طلقها قبل أن يدخل بها ثلاث تطليقات في كل شهر تطليقة ، قال : بانت منه في التطليقة الأولى ، واثنتان فضل ، وهو خاطب يتزوجها متى شاءت وشاء بمهر جديد ، قيل له : فله أن يراجعها إذا طلقها تطليقة قبل أن تمضي ثلاثة أشهر؟ قال : لا ، إنما كان له أن يراجعها لو كان دخل بها أولا ، وأما قبل أن يدخل بها فلا رجعة له عليها ، قد بانت منه ساعة طلقها ».

ولا خلاف في أن كلا من الدخول والمس يتحقق بإيلاج الحشفة وإن لم ينزل بل وإن كان مقطوع الأنثيين فضلا عن معيبهما الذي من المعلوم عادة عدم الانزال منه وعدم الحمل لما عرفت من تحقق الدخول بالوطء منه لغة وعرفا ، وهو عنوان الحكم نصا (٥) وفتوى بل الإجماع بقسميه عليه ، ضرورة كونه المراد من التقاء الختانين الذي رتب عليه الغسل والعدة في المستفيض من النصوص (٦) أو المتواتر ، وحكمة كون العدة البراءة الرحم لا تنافي ترتيب الشارع الحكم على معلومية البراءة كما في غيرها من الحكم.

__________________

(١) سورة الأحزاب : ٣٣ ـ الآية ٤٩.

(٢) الوسائل الباب ـ ١ ـ من أبواب العدد الحديث ٤.

(٣) الوسائل الباب ـ ١ ـ من أبواب العدد الحديث ٣.

(٤) الوسائل الباب ـ ١ ـ من أبواب العدد الحديث ٢ عن أحدهما عليهما‌السلام.

(٥) الوسائل الباب ـ ١ ـ من أبواب العدد الحديث ٢ عن أحدهما عليهما‌السلام.

(٦) الوسائل الباب ـ ٥٤ ـ من أبواب المهور.

٢١٢

وبذلك يعلم المراد من إدخاله في‌ صحيح ابن سنان (١) عن الصادق عليه‌السلام « سأله أبى وأنا حاضر عن رجل تزوج امرأة فأدخلت إليه فلم يمسها ولم يصل إليها حتى طلقها هل عليها عدة منه؟ قال : إنما العدة من الماء ، قيل له : فان كان يواقعها في الفرج ولم ينزل ، فقال : إذا أدخله وجب المهر والغسل والعدة » وفي صحيحه الآخر (٢) عنه عليه‌السلام أيضا « ملامسة النساء هو الإيقاع » وموثق يونس بن يعقوب (٣) عنه عليه‌السلام أيضا « لا يوجب المهر إلا الوقاع في الفرج ».

بل لا فرق بين القبل والدبر في ذلك بلا خلاف أجده فيه ، عدا ما عساه يشعر به اقتصار الفاضل في التحرير على الأول ، بل ظاهرهم الإجماع عليه ، وإن توقف فيه في الحدائق بدعوى انصراف المطلق إلى الفرد الشائع الذي هو المواقعة في القبل ، بل به يتحقق التقاء الختانين ، خصوصا بعد ما تقدم من الخلاف في الغسل بدخولها فيه ، وتبعه في الرياض لو لا الوفاق.

لكن قد يقال بعد كون الدبر أحد المأتين وأحد الفرجين وما تقدم سابقا من النصوص (٤) في تفسير قوله تعالى (٥) ( فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ ) يمكن منع أن المنساق من الإيقاع والإدخال ونحوهما غيره ، بل ستسمع ترتب العدة على الالتذاذ في صحيح أبي عبيدة (٦) المنزل على ما يشمل ذلك ، كما أنك سمعت ترتبها على الماء الصادق بانزاله في الدبر ، ويتم بعدم القول بالفصل ، على أن كونه شائعا فيما يقع من الوطء لا يقتضي ندرة إطلاق الدخول والإتيان والوقاع والمس ، بل والوطء ونحوها عليه ، ولا أقل من كونه بالشهرة أو بالإجماع يقوى الظن بإرادة ما يشمل الفرد المزبور من الألفاظ المزبورة لو سلم انسياق خصوص القبل منها. ( وبالجملة )

__________________

(١) الوسائل في الباب ـ ٥٤ ـ من أبواب المهور الحديث ١.

(٢) الوسائل في الباب ـ ٥٤ ـ من أبواب المهور الحديث ٢.

(٣) الوسائل في الباب ـ ٥٤ ـ من أبواب المهور الحديث ٦.

(٤) الوسائل الباب ـ ٧٣ ـ من أبواب مقدمات النكاح من كتاب النكاح.

(٥) سورة البقرة : ٢ ـ الآية ٢٢٣.

(٦) الوسائل الباب ـ ٣٩ ـ من أبواب العدد الحديث ١.

٢١٣

فالمناقشة المزبورة في غاية السقوط.

كالمناقشة منهما بنحو ذلك فيما ذكره غير واحد من الأصحاب من عدم الفرق بين وطء الصغير والكبير ، بل هو ظاهر الجميع ، ضرورة ظهور النصوص المزبورة وغيرها وضعية الحكم المزبور على وجه لا يختلف الحال بين الصغير والكبير كالغسل ، وقوله عليه‌السلام في الصحيح (١) المزبور : « إنما العدة من الماء » لا ينافي تصريحه بعد ذلك بوجود سبب آخر وهو الإدخال.

بل قد يقال : لا فرق بين قصده الفعل وعدمه بعد تحقق اسم الدخول والالتقاء ونحوهما التي هي عنوان الحكم في النص (٢) والفتوى ، وحينئذ فلو أدخلته وهو نائم ترتب الحكم.

وبذلك كله ظهر لك أنه لا فرق بين القبل والدبر والصغير والكبير والفحل والخصى الذي يتحقق منه الإيلاج وإن لم ينزل ، بل يدل على الأخير مضافا إلى ما سمعت‌ صحيح أبي عبيدة (٣) « سئل أبو جعفر عليه‌السلام عن خصي تزوج امرأة وفرض لها صداقا وهي تعلم أنه خصي فقال : جائز ، فقيل : إنه مكث معها ما شاء الله ثم طلقها هل عليها عدة؟ قال : نعم ، أليس قد لذ منها ولذت منه؟ ».

ولا يعارضه‌ صحيح ابن أبي نصر (٤) قال : « سئل الرضا عليه‌السلام عن خصي تزوج امرأة على ألف درهم ثم طلقها بعد ما دخل بها ، قال : لها الألف الذي أخذت منه ، ولا عدة عليها » بعد قصوره عن المقاومة من وجوه ، فلا بأس بطرحه أو حمله على خصي لا يتحقق منه دخول ، فيكون المراد من دخوله بها الخلوة ، والندب من أخذها الألف ، وعلى كل حال فهو أولى من الجمع بينهما بحمل الاعتداد في الأول‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٥٤ ـ من أبواب المهور الحديث ١ من كتاب النكاح.

(٢) الوسائل الباب ـ ٥٤ ـ من أبواب المهور من كتاب النكاح والباب ـ ١ ـ من أبواب العدد.

(٣) الوسائل الباب ـ ٣٩ ـ من أبواب العدد الحديث ١.

(٤) الوسائل الباب ـ ٤٤ ـ من أبواب المهور الحديث ١ من كتاب النكاح.

٢١٤

على الندب المنافي لما عليه الأصحاب والنصوص (١) السابقة.

أما لو كان مقطوع الذكر سليم الأنثيين قيل في المبسوط تجب العدة إن ساحقها ، فان كانت حاملا فبالوضع وإلا فبالأشهر دون الأقراء لإمكان الحمل عادة بالمساحقة مع بقاء الأنثيين حينئذ ومن المعلوم أن الأصل في الاعتداد الحمل والتحرز عن اختلاط المائين ، ولذا انتفى عمن لا يحتمل ذلك فيها ، ولشمول المس والدخول لذلك وغيره ، خرج غيره من الملامسة بسائر الأعضاء بالإجماع ، ومس مجبوب الذكر والأنثيين جميعا بالعلم عادة ببراءة الرحم ، ويبقى هذا المس داخلا من غير مخرج له ، ولفظ المبسوط « وإن كان قطع جميع ذكره فالنسب يلحقه ، لأن الخصيتين إذا كانتا باقيتين فالانزال ممكن ، ويمكن أن يساحق فينزل ، فان حملت منه اعتدت بوضع الحمل ، وإن لم تكن حاملا اعتدت بالشهور ، ولا يتصور أن تعتد بالأقراء ، لأن عدة الأقراء إنما تكون عن طلاق بعد دخول ، والدخول يتعذر من جهته ».

ولكن مع ذلك كله فيه تردد لما عرفت ، ولأن العدة تترتب على الوطء والدخول ونحوهما مما لا يصدق على المساحقة ، والمس حقيقة في عرف الشرع أو مجاز مشهور في الوطء ، وكذا الدخول بها ، فلا أقل من تبادره إلى الفهم ، على أنه مطلق يقيد بما دل على اعتبار التقاء الختانين والإدخال ونحوهما ، وإمكان الحمل بمساحقته لا يكفي في العدة بعد أن كان موضوعها في النص (٢) والفتوى الدخول ونحوه مما لا يشملها.

نعم لو ظهر بالمساحقة حمل اعتدت منه بوضعه ، لإمكان الإنزال الذي يتكون منه الولد فيلحق به ، لأنه للفراش ، ويندرج بذلك تحت قوله تعالى (٣) ( وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ) بل في القواعد « وكذا‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١ ـ من أبواب العدد.

(٢) الوسائل الباب ـ ١ ـ من أبواب العدد.

(٣) سورة الطلاق : ٦٥ ـ الآية ٤.

٢١٥

لو كان مقطوع الذكر والأنثيين » أي تعتد بالوضع لو ساحقها فحملت ، ولكن قال : « على إشكال » ولعله من الفراش ، وكون معدن المنى الصلب بنص الآية (١) ومن قضاء العادة بالعدم مع انتفاء الأنثيين.

وفيه أن المتجه إلحاقه به مع الاحتمال المخالف للعادة ، لإطلاق‌ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) : « الولد للفراش » بل قد يتجه القول بالاعتداد من مساحقته فضلا عن الأول وإن لم نجد قائلا به ، كما أنا لم نجد موافقا للشيخ في الأول ، لقوله عليه‌السلام في صحيح ابن سنان (٣) المزبور : « إنما العدة من الماء » وقوله عليه‌السلام في صحيح أبى عبيدة (٤) : « لذت منه والتذ منها » وإن صرح بعد ذلك بوجوب العدة للإدخال ، إلا أن الجمع بينهما وجوبها بأحدهما ، بل مقتضى أولهما وجوبها باستدخال مائه من غير جماع أو مساحقة موطوءة حين قامت من تحته إن لم يكن إجماع ، كما هو الظاهر من إرساله إرسال المسلمات في كشف اللثام وغيره.

وفي المسالك بعد أن ذكر أن المعتبر من الوطء غيبوبة الحشفة قبلا أو دبرا قال : « وفي حكمه دخول منيه المحترم فرجا فيلحق به الولد إن فرض ، وتعتد بوضعه ، وظاهر الأصحاب عدم وجوبها بدون الحمل هنا » وفيه أن المتجه مع فرضه كونه بحكم الاعتداد قبل ظهور الحمل مخافة اختلاط المائين ، بل لعل وجوب العدة لها حاملا يقتضي ذلك أيضا ، ضرورة معلومية اشتراط العدة بطلاقها الدخولي ، فان لم يكن ذلك بحكمه لم يكن لها عدة حتى معه أيضا ، لظهور النصوص (٥) المزبورة في اعتبار الالتقاء والإدخال والمس ونحوها مما لا يندرج فيها المساحقة ، من غير‌

__________________

(١) سورة الطارق : ٨٦ ـ الآية ٧.

(٢) الوسائل الباب ـ ٥٨ ـ من أبواب نكاح العبيد والإماء من كتاب النكاح.

(٣) الوسائل الباب ـ ٥٤ ـ من أبواب المهور الحديث ١ من كتاب النكاح.

(٤) الوسائل الباب ـ ٣٩ ـ من أبواب العدد الحديث ١.

(٥) الوسائل الباب ـ ٥٤ ـ من أبواب المهور من كتاب النكاح والباب ـ ١ ـ من أبواب العدد.

٢١٦

فرق بين الحامل وغيرها ، والآية (١) إنما يراد منها بيان مدة العدة للحامل ، لا أن المراد منها بيان وجوب العدة على الحامل وإن لم تكن مدخولا بها ، كما هو واضح بأدنى تأمل.

فمن الغريب إثباتهم للعدة بالحمل من دون دخول مائه المحترم فيها ، مع أن نصوص العدة (٢) التي سمعتها لا فرق فيها بين الحامل وغيرها ، وقد عرفت أن الآية (٣) ليست في أسباب العدة ، بل هي في بيان أجل العدة ، نحو الثلاثة قروء والثلاثة الأشهر المذكورين لغيرها ، كما لا يخفى.

وأغرب من ذلك فرق الشيخ بين العدة بالأقراء والعدة بالأشهر باشتراط الأولى بالدخول بخلاف الثانية ، إذ هو كما ترى خارج عن النصوص المزبورة.

ونحو ذلك في الغرابة حكمهم بعدم العدة في المجبوب الذي لا فرق بينه وبين مقطوع الذكر خاصة ، بعد فرض حصول ماء من مساحقته يمكن تكون الولد منه ولو على خلاف العادة ، لإطلاق‌ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٤) « الولد للفراش » المفروض شموله لمساحقة سليم الأنثيين ، ولو كان الذي ألجأهم إلى ذلك حمل‌ قوله عليه‌السلام (٥) « إنما العدة من الماء » على إرادة بيان الحكمة لا السبب ، ولذا أعقبه باعتبار الإدخال في العدة ، ولم يجعلوا ذلك سببين للعدة ، وحمل‌ قوله عليه‌السلام (٦) « لذت منه ولذ منها » على خصوص الالتذاذ بالإدخال لا مطلقا بحيث يشمل المساحقة لكن كان المتجه عدم التزام العدة حتى مع الحمل منه ، وكون منيه محترما لا ينافي سقوط العدة

__________________

(١) سورة الطلاق : ٦٥ ـ الآية ٤.

(٢) الوسائل الباب ـ ٥٤ ـ من أبواب المهور من كتاب النكاح والباب ـ ١ ـ من أبواب العدد.

(٣) سورة الطلاق : ٦٥ ـ الآية ٤.

(٤) الوسائل الباب ـ ٥٨ ـ من أبواب نكاح العبيد والإماء من كتاب النكاح.

(٥) الوسائل الباب ـ ٥٤ ـ من أبواب المهور الحديث ١ من كتاب النكاح.

(٦) الوسائل الباب ـ ٣٩ ـ من أبواب العدد الحديث ١.

٢١٧

المشترطة بالدخول ، والفرض عدمه ، فيكون حملها نحو حملها باستدخال قطنة من منيه أو بمساحقة زوجة كانت تحته ، وصعوبة التزام ذلك باعتبار كونها حاملا منه كصعوبة التزام عدم العدة لمائه المحترم فيها المحتمل تكون ولد منه ، مع أن مشروعية العدة للحفظ من اختلاط الماء ، والحكمة وإن لم تطرد لكن ينتفي الحكم الذي شرع لها معها ، فليس إلا القول بأن للعدة سببين : أحدهما دخول مائه المحترم فيها بالمساحقة أو بإيلاج دون تمام الحشفة ، والثاني إيلاج الحشفة وإن لم ينزل بل وإن كان صغيرا غير قابل لنزول ماء منه ، فتأمل جيدا فان المقام غير منقح ، والله أعلم بالصواب.

وكيف كان فـ ( لا تجب العدة ) فيما بينها وبين الله بالخلوة منفردة عن الوطء وعن وضع مائه فيها على الأشهر بل المشهور ، بل المجمع عليه وإن كانت كاملة بالبلوغ وعدم اليأس ، وكانت الخلوة تامة بكونها في منزله ووطأها فيما دون القبل والدبر ، لما سمعته من النصوص (١) السابقة المؤيدة بالاعتبار ، وقد عرفت في كتاب النكاح معنى ما ورد من الأخبار (٢) الحاكمة بكون الخلوة كالدخول ، وما وافقها من كلام الأصحاب ، فلاحظ كي تعرف ذلك وتعرف الحكم أيضا فيما ( لو خلا ثم اختلفا في الإصابة فـ ) ان القول قوله في العدم مع يمينه للأصل أو قولها في الثبوت ترجيحا للظاهر على الأصل ، والله العالم.

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١ ـ من أبواب العدد.

(٢) الوسائل الباب ـ ٥٥ ـ من أبواب المهور الحديث ٢ و ٣ و ٦ من كتاب النكاح.

٢١٨

( الفصل الثاني )

( في ) عدة ( ذات الأقراء )

وهي المستقيمة الحيض أي التي يأتيها حيضها في كل شهر مرة على عادة النساء ، وفي معناها معتادة الحيض فيما دون الثلاثة أشهر ، وربما قيل : إنها التي تكون لها فيه عادة مضبوطة وقتا سواء انضبط العدد أولا ، وفيه أن معتادة الحيض فيما زاد على ثلاثة أشهر لا تعتد بالأقراء وإن كانت لها فيه عادة وقتا وعددا كما ستعرف.

وكيف كان فـ ( هي ( هذه خ ل ) تعتد بثلاثة أقراء ) بلا خلاف أجده فيه ، بل الإجماع بقسميه عليه ، مضافا إلى الكتاب (١) والسنة (٢) وهي الأطهار هنا عندنا على أشهر الروايتين (٣) عملا ورواية ، بل لم أقف فيه على مخالف وإن أرسله بعضهم ، بل عن صريح الانتصار والخلاف وظاهر الاستبصار وغيرها الإجماع عليه ، بل يمكن تحصيله أو القطع بذلك ولو بملاحظة النصوص (٤) والفتاوى ، كما أنه يمكن دعوى تواتر الأدلة فيه أو القطع به ، منها وما تسمعه من المفيد ـ من التفصيل بين الطلاق في مستقبل الطهر فثلاثة أطهار ، وفي آخره فثلاث حيضات ـ مسبوق بالإجماع وملحوق به وإن استقر به بعض جمعا بين النصوص التي ستسمعها ، لكنه مع أنه فرع المكافئة المفقودة من وجوه لا شاهد له.

ولا فرق فيما ذكرنا بين القول باشتراك لفظ القرء بين الحيض والطهر لفظا أو معنى أو بكونه حقيقة في أحدهما مجازا في الأخر ، كما أنه لا فرق بين القول‌

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ ـ الآية ٢٢٨.

(٢) الوسائل الباب ـ ١٢ ـ من أبواب العدد.

(٣) الوسائل الباب ـ ١٤ ـ من أبواب العدد.

(٤) الوسائل الباب ـ ١٤ ـ من أبواب العدد.

٢١٩

باختلاف معنى القرء بالفتح والضم ، وأن الأول للحيض ، ويجمع على أقراء ، والثاني للطهر ، ويجمع على قروء ، والقول باتحادهما ، وذلك لتصريح النص والفتوى بكون المراد هنا الأطهار على كل حال.

قال زرارة (١) في الصحيح أو الحسن : « سمعت ربيعة الرأي يقول : إن من رأيي أن الأقراء التي سمى الله في القرآن إنما هو الطهر بين الحيضتين ، فقال : كذب لم يقله برأيه ، ولكن إنما بلغه عن علي عليه‌السلام ، فقلت : أصلحك الله تعالى أكان علي عليه‌السلام يقول ذلك؟ فقال : نعم ، إنما القرء الطهر ، يقرأ فيه الدم فتجمعه ، فإذا جاء الحيض دفعته ».

وعنه أيضا (٢) عن أبى جعفر عليه‌السلام « القرء بين الحيضتين » ونحوه صحيح ابن مسلم (٣) عنه عليه‌السلام أيضا ، وفي‌ حسن زرارة (٤) عنه عليه‌السلام أيضا « الأقراء الأطهار ».

وفي المروي عن مجمع البيان وتفسير العياشي عن زرارة (٥) عن أبي جعفر عليه‌السلام « إن عليا عليه‌السلام كان يقول : إنما القرء الطهر يقرأ فيه الدم فتجمعه ، فإذا جاء الحيض قذفته ، قلت : رجل طلق امرأته من غير جماع بشهادة عدلين ، قال : إذا دخلت في الحيضة الثالثة انقضت عدتها وحلت للأزواج ، قلت : إن أهل العراق يرون أن عليا عليه‌السلام يقول : إنه أحق برجعتها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة ، فقال : كذبوا ».

وفي‌ صحيح زرارة (٦) عن أبي جعفر عليه‌السلام « المطلقة تبين عند أول قطرة من الحيضة الثالثة ، قال : قلت : بلغني أن ربيعة الرأي قال : من رأيي أنها تبين عند‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١٤ ـ من أبواب العدد الحديث ٤ راجع الكافي ج ٦ ص ٨٩.

(٢) الوسائل الباب ـ ١٤ ـ من أبواب العدد الحديث ١.

(٣) الوسائل الباب ـ ١٤ ـ من أبواب العدد الحديث ٢.

(٤) الوسائل الباب ـ ١٤ ـ من أبواب العدد الحديث ٣.

(٥) الوسائل الباب ـ ١٥ ـ من أبواب العدد الحديث ١٩.

(٦) الوسائل الباب ـ ١٥ ـ من أبواب العدد الحديث ٨ عن أبي عبد الله عليه‌السلام كما في الكافي ج ٦ ص ٨٧.

٢٢٠