جواهر الكلام - ج ٣٢

الشيخ محمّد حسن النّجفي

١

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‌

( القسم الثالث )

من الأقسام التي بنى عليها الكتاب في الإيقاعات جمع إيقاع ، وهو اللفظ الدال على إنشاء خاص من طرف واحد وهي أحد عشر كتابا أولها‌

كتاب الطلاق

الذي قيل : إنه لغة محل عقد ، ويطلق على الإرسال والترك ، يقال : ناقة طالق : أي مرسلة ترعى حيث تشاء ، وطلقت القوم : إذا تركتهم ، وشرعا إزالة قيد النكاح بصيغة « طالق » وشبهها ، وفي الصحاح بعد أن ذكر له معان متعددة قال : « وطلق الرجل زوجته تطليقا ، وطلقت هي بالفتح تطلق طلاقا في طالق وطالقة ـ إلى أن قال ـ : وقال الأخفش : لا يقال : طلقت بضم اللام » وفي المسالك « عن ديوان الأدب أنه لغة ».

٢

وعلى كل حال فظاهره أنه بمعنى فراغ ( ق ) الامرأة من اللغة أيضا ، وهو كذلك كما حقق في محله أنه ليس في العقود والإيقاعات حقيقة شرعية ، ضرورة وجودها في هذه المعاني قبل زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكن اعتبر في الصحيح منها أمورا ، وبهذا المعنى جعله الأصحاب معنى شرعيا مقابلا للمعنى اللغوي.

هذا وقد عرفت في كتاب البيع الخلاف في أن البيع اسم للنقل أو للعقد أو للأثر الحاصل منه ، وأن الأصح الأول ، ومثله يأتي في المقام ، وإن لم نقل بشرعية المعاطاة فيه بخلاف البيع ، لكن ذلك لا ينافي كونه اسما لا نشاء فراق الامرأة وإن اعتبر الشارع في الصحيح منه الصيغة الخاصة (١) ومن ذلك يظهر لك ما في التعريف المزبور من المعلوم بناؤه على التسامح ، والأمر سهل بعد أن تكرر منا في العقود خصوصا البيع ما يستفاد منه تحقيق الحال في ذلك وفي غيره من المباحث ، فلا حظ وتأمل.

وكيف كان فتمام النظر في هذا الكتاب يكون في الأركان والأقسام واللواحق ، الأول في الأركان وأركانه أربعة :

__________________

(١) كما ستسمع إنشاء الله ما في النصوص من حصر الطلاق بقوله : « أنت طالق » ( منه رحمه‌الله ).

٣

( الركن الأول )

( في المطلق )

( ويعتبر فيه شروط أربعة : )

( الأول : )

البلوغ بلا خلاف أجده فيه في الجملة ، بل الإجماع بقسميه عليه والنصوص به مستفيضة أو متواترة ، ففي‌ خبر السكوني (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه والصبي أو مبرسم أو مجنون أو مكره » وخبر أبى الصباح (٢) عنه عليه‌السلام أيضا « ليس طلاق الصبي بشي‌ء » وخبر أبى بصير (٣) عنه عليه‌السلام أيضا « لا يجوز طلاق الصبي والسكران ».

فلا اعتبار بعبارة الصبي قبل تمييزه قطعا ، بل وبعده قبل بلوغه عشرا ، وإن حكي عن ابن الجنيد أنه أطلق صحة طلاقه مع تمييزه ، لمضمر سماعة (٤) « سألته عن طلاق الغلام ولم يحتلم وصدقته ، فقال : إذا طلق للسنة ووضع الصدقة في موضعها وحقها فلا بأس ، وهو جائز » وموثق ابن بكير (٥) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « يجوز طلاق الغلام إذا كان قد عقل وصدقته ووصيته وإن لم يحتلم » لكن في‌ مرسل ابن أبي عمير (٦) الذي هو بحكم الصحيح عند الأصحاب عن أبى عبد الله عليه‌السلام « يجوز‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٣٢ ـ من أبواب مقدمات الطلاق الحديث ـ ٣.

(٢) الوسائل الباب ـ ٣٢ ـ من أبواب مقدمات الطلاق الحديث ـ ١.

(٣) الوسائل الباب ـ ٣٢ ـ من أبواب مقدمات الطلاق الحديث ـ ٤.

(٤) الوسائل الباب ـ ٣٢ ـ من أبواب المقدمات الطلاق الحديث ٧.

(٥) الوسائل الباب ـ ٣٢ ـ من أبواب المقدمات الطلاق الحديث ٥ راجع الاستبصار ج ٣ ص ٣٠٣.

(٦) الوسائل الباب ـ ٣٢ ـ من أبواب المقدمات الطلاق الحديث ٢.

٤

طلاق الصبي إذا بلغ عشر سنين » بل عن الشيخ روايته عن ابن بكير ، وتبعه في المسالك وإن قيل : إنه وهم ، وعلى كل حال فيقيد به إطلاق النصوص السابقة.

ولعله إلى ذلك أشار المصنف بقوله وفيمن بلغ عشرا عاقلا وطلق للسنة رواية بالجواز فيها ضعف وإلا فليس فيما حضرنا من النصوص خبر جامع للوصفين ، وحكي عن الشيخين وجماعة من القدماء العمل بذلك ، إلا أن المشهور بين المتأخرين بل لعل عليه عامتهم اعتبار البلوغ بالعدد أو بالاحتلام أو بغير ذلك من إماراته لقوة الإطلاق السابق المؤيد بنصوص (١) رفع القلم الشامل للوضعي والتكليفي ، وبالأصول ، وبعدم الفرق بين الطلاق وغيره من العقود التي قد عرفت سلب عبارة الصبي فيها ، وبالشهرة العظيمة ، وب‌ خبر الحسين بن علوان (٢) المروي عن قرب الاسناد ، عن جعفر ابن محمد ، عن أبيه ، عن علي عليه‌السلام « لا يجوز طلاق الغلام حتى يحتلم » بل لا يبعد من ذلك إرادة بيان إمكان صحة طلاق الصبي إذا بلغ عشرا عاقلا ولو لبعض الأمزجة في بعض البلدان التي ينبت فيها الشعر أو يحصل فيها الاحتلام ، فلا ريب حينئذ في أن ذلك هو الأقوى ، وإن وسوس فيه بعض متأخري المتأخرين بتوهم أنه مقتضي الجميع بين النصوص بعد حمل مطلقها على مقيدها ، وفيه أنه فرع المكافئة ، على أنه غير تام في خبر قرب الاسناد منها ، كما هو واضح.

وكيف كان فـ ( لو طلق وليه ) عنه لم يصح بلا خلاف فيه منا ، بل الإجماع بقسميه عليه ، للنبوي المقبول (٣) « الطلاق بيد من أخذ بالساق » الدال بمقتضى الحصر على اختصاص الطلاق بمالك البضع على وجه ينافي الطلاق‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٣٦ ـ ـ من أبواب القصاص في النفس الحديث ٢ من كتاب القصاص والباب ـ ٨ ـ من أبواب مقدمات الحدود من كتاب الحدود والباب ـ ٤ ـ من أبواب مقدمة العبادات الحديث ١١ من كتاب الطهارة.

(٢) الوسائل الباب ـ ٣٢ ـ من أبواب مقدمات الطلاق الحديث ٨.

(٣) كنز العمال ج ٥ ص ١٥٥ ـ الرقم ٣١٥١.

٥

بالولاية دون الوكالة التي هي في الحقيقة طلاق من المالك عرفا ، بل لو سلم تناوله لمنع الوكالة أيضا كفى في خروجها عن ذلك النص (١) والإجماع ، فيبقى الطلاق بالولاية على المنع الذي لا ينافيه عموماتها بعد فرض ظهور الخبر المزبور بالتخصيص ، كل ذلك مع التأييد باستصحاب بقاء النكاح المبني على الشهوة والتلذذ لخصوص الزوج على وجه لا يقوم الولي مقامه في ذلك بعد فرض توقع زوال حجره غالبا فلا مصلحة ـ حتى تعطيل الزوجة ـ تقتضي قيام الولي مقامه في ذلك.

وبذلك يظهر لك وجه الحكمة في الفرق بينه وبين من اعتراه الجنون المطبق بعد بلوغه ، باعتبار عدم أمد له ينتظر الذي ستعرف قيام الولي عنه في ذلك.

بل وبه يظهر لك الوجه فيما ذكره المشهور بين الأصحاب نقلا وتحصيلا شهرة عظيمة من أنه لو بلغ فاسد العقل طلق وليه مع مراعاة الغبطة بل عن فخر المحققين الإجماع على ذلك وإن منع منه قوم : منهم الشيخ في المحكي عن خلافه ، وابن إدريس ، بل ادعى أولهما الإجماع عليه ولكن هو كما ترى بعيد عن مذاق الشرع ، ضرورة منافاته لمصلحة الزوج والزوجة بلا أمد ينتظر بل قيل : ول‌ صحيح أبي خالد القماط (٢) « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الرجل الأحمق الذاهب العقل أيجوز طلاق وليه عليه؟ قال : ولم لا يطلق؟ قلت : لا يؤمن إن طلق هو أن يقول غدا : لم أطلق أولا يحسن أن يطلق ، قال : ما أرى وليه إلا بمنزلة السلطان » وخبره الآخر (٣) قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : « رجل يعرف رأيه مرة وينكر اخرى يجوز طلاق وليه عليه ، قال : ما له هو لا يطلق؟ قلت : لا يعرف حد الطلاق ، ولا يؤمن عليه إن طلق اليوم أن يقول غدا لم أطلق ، قال عليه‌السلام : ما أراه إلا بمنزلة الإمام ، يعني الولي » المراد منهما كونه بمنزلة الإمام في الطلاق عنه ، كما‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٣٩ ـ من أبواب مقدمات الطلاق.

(٢) الوسائل الباب ـ ٣٥ ـ من أبواب مقدمات الطلاق الحديث ١.

(٣) الوسائل الباب ـ ٣٤ ـ من أبواب مقدمات الطلاق الحديث ١.

٦

صرح به في‌ خبره الثالث (١) عنه عليه‌السلام أيضا « في طلاق المعتوه ، قال : يطلق عنه وليه فإني أراه بمنزلة الامام » وخبر شهاب بن عبد ربه (٢) عنه عليه‌السلام أيضا « المعتوه الذي لا يحسن أن يطلق يطلق عنه وليه على السنة ».

لكن في المسالك المناقشة بعدم وضوح دلالتها ، فإن السائل وصف الزوج بكونه ذاهب العقل ، ثم يقول له الامام : « ما له لا يطلق؟ » مع الإجماع على أن المجنون ليس له مباشرة الطلاق ولا أهلية التصرف ، ثم يعلل السائل عدم طلاقه بكونه ينكر الطلاق أو لا يعرف حدوده ، ثم يجيبه بكون الولي بمنزلة السلطان.

قلت : قد يقال : إن المراد بالمعتوه ناقص العقل من دون جنون ، قال في محكي المصباح المنير : « عته عتها من باب تعب وعتاها بالفتح : نقص عقله من غير جنون أو دهش » وعن التهذيب « المعتوه المدهوش من غير مس أو مجنون » وعن القاموس « عته فهو معتوه : نقص عقله أو فقد أو دهش » إلى غير ذلك من كلماتهم التي تقضي بالفرق بين العته والجنون ، وحينئذ لا يبعد أن يكون المراد منه من لا عقل له كامل ، ومثله يصح مباشرته للطلاق لكن بإذن الولي ، لأنه من السفيه فيه كالسفيه في المال.

وعلى هذا لا يكون إشكال في النصوص المزبورة ، بل ربما يكون ذلك جمعا بين ما دل على أنه « لا طلاق له » كما في جملة من النصوص (٣) وبين ما دل على جواز طلاقه من النصوص السابقة (٤) وغيرها كخبر أبي بصير (٥) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « أنه سئل عن المعتوه أيجوز طلاقه؟ فقال : ما هو؟ فقلت : الأحمق الذاهب العقل ، فقال : نعم » بإرادة الصحة من ذلك مع الاذن من الولي ، لعدم سلب عباراته باعتبار عدم جنونه ، وإنما أفصاه النقص الموجب للسفه في ذلك ، وعدمها من تلك النصوص مع عدم الاذن ، فيثبت حينئذ سفه في الطلاق ، ولا عيب في ذلك ، غير أني لم أجده مصرحا به في كلام الأصحاب ، نعم ربما كان ظاهر بعض متأخري المتأخرين بل‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٣٥ ـ من أبواب مقدمات الطلاق الحديث ـ ٣.

(٢) الوسائل الباب ـ ٣٥ ـ من أبواب مقدمات الطلاق الحديث ـ ٢.

(٣) الوسائل الباب ـ ٣٤ ـ من أبواب مقدمات الطلاق.

(٤) الوسائل الباب ـ ٣٥ ـ من أبواب مقدمات الطلاق.

(٥) الوسائل الباب ـ ٣٤ ـ من أبواب مقدمات الطلاق الحديث ٨.

٧

قد يقال : بإرادته من مثل المتن ، للتعبير عنه بفاسد العقل ، وهو غير المجنون الذي ذكره بعد ذلك في الشرط الثاني ، واحتمال أنه ذكره هنا باعتبار اتصال فساد عقله بحال الصبا يدفعه أن البحث حينئذ من هذه الجهة في كون الولاية حينئذ للأب والجد مثلا أو للحاكم لا في طلاق الولي عنه وعدمه الذي ذكره المصنف.

وعلى كل حال لا إشكال في دلالة النصوص المزبورة على صحة طلاق الولي عنه ، فما سمعته من الشيخ وابن إدريس ـ من عدم جوازه لخبر (١) « الطلاق بيد من أخذ بالساق » وظهور قوله تعالى (٢) ( فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ ) إلى آخرها في وقوع الطلاق منه ، ولمشاركته للصبي في المعنى ، وللإجماع المحكي عن الشيخ ـ واضح الضعف ، ضرورة أنه لو سلم دلالة الخبر المزبور على نفي طلاق الولي فالنصوص المزبورة حاكمة عليه ، وكذا الآية التي هي أضعف دلالة من الخبر على ذلك ، والقياس على الصبي مع أنه غير جائز يدفعه أنك قد عرفت الفرق بينهما ، مضافا إلى النصوص ، والإجماع مع وهنه بمصير المشهور إلى خلافه حتى من حاكيه في غير الكتاب معارض بما عن الفخر من الإجماع على الجواز هذا ، ولا يخفى عليك أنه بعد تنزيل النصوص المزبورة على ما ذكرنا تدل بالأولوية حينئذ على جواز طلاق ولى المجنون عنه ، كما هو واضح.

( الشرط الثاني )

العقل بلا خلاف أجده فيه بيننا ، بل الإجماع بقسميه عليه فلا يصح طلاق المجنون مطبقا أو أدوارا حال جنونه ولا السكران ولا من زال عقله بإغماء أو شرب مرقد أو نوم أو نحو ذلك لعدم القصد الذي يترتب‌

__________________

(١) كنز العمال ج ٥ ص ١٥٥ الرقم ٣١٥١.

(٢) سورة البقرة : ٢ ـ الآية ٢٣.

٨

عليه الحكم ، بعد استفاضة‌ النصوص (١) على أنه « لا طلاق لهم ».

بل ولا يطلق الولي عن السكران وشبهه ( لـ ) لأصل وللنبوي (٢) بناء على ظهوره في ذلك ، ولفحوى المنع في الصبي باعتبار أن زوال عذره غالب مثله ( فـ ) له أمد يرتقب ، بل هو حينئذ كالنائم الذي لا إشكال ولا خلاف في عدم جواز طلاق الولي عنه ، بل ولا غيره من التصرفات المالية فضلا عن مثل الطلاق.

نعم يطلق الولي عن المجنون لنصوص المعتوه (٣) أو لفحواها التي منها ما قد عرفت ، ومنه يعلم ضعف المحكي عن الشيخ وابن إدريس من عدم الجواز ، للأدلة التي قد سمعت أيضا ما فيها.

ولو لم يكن له ولي من أب أوجد طلق عنه السلطان أو من نصبه للنظر في ذلك وظاهره كغيره عدم الفرق هنا بين المتصل جنونه بالبلوغ وعدمه ، وقد عرفت الكلام فيه في غير المقام ، أما فيه فقد يقال : إن ظاهر ما سمعته من نصوص المعتوه (٤) خصوصا الأخير منها ذلك ، ولا ينافيه تنزيله منزلة الامام المشعر بان للإمام ذلك أيضا بعد قوة احتمال إرادة أنه بمنزلته ، حيث يكون له الولاية ، وإلا فمن المعلوم أن السلطان ولي من لا ولي له ، فلا شركة بينهما فيها ، فتأمل جيدا فإنه يمكن أن يستدل بما هنا على غير المقام بعد الإجماع على عدم الفصل ، فيقال : إن ولاية المجنون مطلقا للأب والجد من غير فرق بين المتصل والمنفصل. والمراد بالمجنون الذي يطلق عنه الولي المطبق.

أما الأدواري فإذا كان له حال عقل كامل يرتقب فالظاهر كونه كالسكران حينئذ لأن له أمدا يرتقب ، وللنبوي (٥) وغيره وإن أطلق المصنف وغيره ، نعم لو فرض تأثير حال جنونه في حال إفاقته على وجه يكون كالمعتوه اتجه حينئذ جوازه‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٣٤ ـ و ٣٦ ـ من أبواب مقدمات الطلاق.

(٢) كنز العمال ج ٥ ص ٥٥١ ـ الرقم ٣١٥١.

(٣) الوسائل الباب ـ ٣٥ ـ من أبواب مقدمات الطلاق.

(٤) الوسائل الباب ـ ٣٥ ـ من أبواب مقدمات الطلاق.

(٥) كنز العمال ج ٥ ص ٥٥١ ـ الرقم ٣١٥١.

٩

عنه أيضا ، كما أن المتجه ـ بناء على عدم ظهور النبوي في نفي طلاق الولي كالوكيل وإنما هو بالنسبة للفضولي ونحوه ـ صحته منه حينئذ ، لإطلاق أدلة الولاية أو عمومها ، فمن الغريب ما في المسالك من الجزم بعدم جوازه عنه ، مع قوله بعدم ظهور النبوي في نفي ذلك ، وأغرب منه احتمال تنزيل نصوص المعتوه على الأدواري ، فالتحقيق حينئذ ما عرفت من عدم جواز طلاق الولي عنه ، لكن في قواعد الفاضل « لو امتنع من الطلاق وقت إفاقته مع مصلحة الطلاق ففي الطلاق عنه ـ أي حال الجنون ـ إشكال » وفيه ما لا يخفى ، ضرورة عدم اقتضاء ذلك الولاية عليه.

بقي شي‌ء ، وهو ثبوت الولاية في غير المقام على المغمى عليه والسكران وشارب المرقد وعدمه ، وفيه وجهان قد يستفاد من فحوى ما هنا عدمها في غيره حتى المال ، مضافا إلى الأصل وغيره ، ولعله كذلك فيما لا ضرر في انتظاره ، أما غيره فثبوت الولاية فيه قوى ، والله العالم.

( الشرط الثالث )

الاختيار بلا خلاف أجده فيه عندنا ، بل الإجماع بقسميه عليه ، مضافا إلى‌ النصوص العامة مثل « رفع عن أمتي » (١) والخاصة كحسن زرارة (٢) عن أبى جعفر عليه‌السلام « سألته عن طلاق المكره وعتقه ، فقال : ليس طلاقه بطلاق ، ولا عتقه بعتق ». وخبر عبد الله بن الحسن (٣) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « لا يجوز الطلاق في استكراه ـ إلى أن قال ـ : إنما الطلاق ما أريد به الطلاق من غير استكراه ولا إضرار على العدة والسنة على طهر بغير جماع وشاهدين ، فمن خالف هذا فليس‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٥٦ ـ من أبواب جهاد النفس من كتاب الجهاد.

(٢) الوسائل الباب ـ ٣٧ ـ من أبواب مقدمات الطلاق الحديث ١.

(٣) الوسائل الباب ـ ١٨ ـ من أبواب مقدمات الطلاق الحديث ٦ عن يحيى بن عبد الله بن الحسن.

١٠

طلاقه بشي‌ء ، يرد إلى كتاب الله عز وجل » والمرسل (١) عنه عليه‌السلام « لو أن رجلا مسلما مر بقوم ليسوا بسلطان فقهروه حتى يتخوف على نفسه أن يعتق أو يطلق ففعل لم يكن عليه شي‌ء » وفي آخر (٢) « لا يقع الطلاق بإكراه ولا إجبار ولا مع سكر ولا على غضب » إلى غير ذلك من النصوص.

فلا يصح طلاق المكره حينئذ بلا خلاف ولا إشكال ، والمرجع فيه كغيره من الألفاظ التي هي عنوان لحكم شرعي إلى العرف واللغة ، إذ ليس له وضع شرعي ولا مراد ، وقد قيل : إن الإكراه لغة حمل الإنسان على ارتكاب ما يكرهه بتخويفه مما يحذره.

ولكن جرت عادة المصنفين من العامة والخاصة التعرض لموضوعه في المقام وقد أشار المصنف وغيره إلى اعتبار أمور فيه منها يظهر المراد به ، فقال ولا يتحقق الإكراه ما لم تحصل أمور ثلاثة : كون المكره قادرا على فعل ما توعد به بولاية أو تغلب أو نحوهما ، وزاد بعضهم مع عجز من هدد عن دفعه بنحو فرار أو مقاومة أو استغاثة وغلبة الظن أنه يفعل ذلك مع امتناع المكره ، وأن يكون ما توعد به مضرا بالمكره في خاصة نفسه أو من يجرى مجرى نفسه كالأب والولد ، سواء كان ذلك الضرر قتلا أو جرحا أو شتما أو ضربا ، ولكن الإكراه بالأخيرين يختلف بحسب منازل المكرهين في احتمال الإهانة وعدمه ، فرب وجيه تنقص فيه

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٣٧ ـ من أبواب مقدمات الطلاق الحديث ٢ عن إبراهيم بن هاشم عن ابن أبى عمير أو غيره ، عن عبد الله بن سنان وفي الكافي ج ٦ ص ١٢٦ عن إبراهيم بن هاشم ، عن بعض أصحابه ، عن ابن أبى عمير أو غيره ، عن عبد الله بن سنان.

(٢) وردت هذه الجملة في الفقيه ج ٣ ص ٣٢١ عقيب رواية محمد بن مسلم عن أبى جعفر عليه‌السلام ، وفرق بينها وبين الرواية في طبعه النجف ، كما وأنه نقل الرواية في الوسائل في الباب ـ ١٠ ـ من أبواب مقدمات الطلاق الحديث ٩ من دون تتميمها بهذه الجملة ، الا أن صاحب الحدائق ( قده ) استدل بهذه الفقرة بعنوان رواية محمد بن مسلم عن أبى جعفر عليه‌السلام. والله العالم.

١١

الشتمة الواحدة فضلا عن الضربة بخلاف المبتذل ، وليس كذلك الجرح والقتل اللذان يستوي فيهما جميع الناس من جهة الألم.

ولا يخفى عليك أن إيكال الأمر إلى ما سمعت أولى ، ضرورة عدم اعتبار غلبة الظن بالفعل ، بل يكفى تحقق الخوف كما سمعته في المرسل (١) فضلا عن العرف ، بل لا يعتبر فيه أيضا عدم التمكين من الفرار عن بلاده أو التوسل بالغير أو نحو ذلك مما فيه ضرر عليه أيضا ، وبالجملة تحديد مثل ذلك على وجه جامع متعذر أو متعسر ، فايكال عنوان الحكم في النص والفتوى إلى العرف أولى.

ولا ريب في تحققه بالتخويف بأخذ المال المعتد به أو المضر به على اختلاف القولين وإن تركه المصنف ، بل عن بعض العامة التصريح بأنه ليس إكراها ، لكنه كما ترى.

نعم لا يتحقق الإكراه مع الضرر اليسير الذي لا يستحسن العقلاء فعل المكره عليه لأجله ولا يعد مثله إكراها في العرف ، كل ذلك في الاندراج تحت لفظ الإكراه ، وإلا فقد عرفت العنوان في النص به وبالإضرار ، ولا ريب في تحقق الأخير في الخوف على المال المزبور.

وكيف كان فيستثنى من الحكم بالبطلان الإكراه بحق ، ولعل منه ما في‌ خبر محمد بن الحسن الأشعري (٢) قال : « كتب بعض موالينا إلى أبى جعفر عليه‌السلام معي أن امرأة عارفة أحدث زوجها فهرب ، فتبع الزوج بعض أهل المرأة فقال : إما طلقت وإما رددتك فطلقها ومضى الرجل على وجهه ، فما ترى للمرأة؟ فكتب بخطه عليه‌السلام تزوجي يرحمك الله تعالى » وعن بعض الناس أن منه أيضا التهديد بقتل أو قطع مستحق عليه وقد يقال : إنه ليس إكراها أصلا ، وعلى كل حال فالطلاق الواقع بسببه صحيح.

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٣٧ ـ من أبواب مقدمات الطلاق الحديث ٢ راجع التعليقة (١) من ص ١١.

(٢) الوسائل الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب مقدمات الطلاق الحديث ٤.

١٢

ولا إشكال في ترتب الحكم على لفظ المكره بحق بعد أن جعله الشارع من الأسباب ، من غير فرق بين العقود والإيقاعات وغيرها ، كالإسلام الحاصل من التلفظ بالشهادتين ولو إكراها ، لكن في المسالك « لا يخلو ذلك من غموض من جهة المعنى وإن كان الحكم به ثابتا من فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فما بعده ، لأن كلمتي الشهادة نازلتان في الإعراب عما في الضمير منزلة الإقرار ، والظاهر من حال المحمول عليه بالسيف أنه كاذب ، لكن لعل الحكمة فيه أنه مع الانقياد ظاهرا وصحبة المسلمين والاطلاع على دينهم يوجب له التصديق القلبي تدريجا فيكون الإقرار اللساني سببا في التصديق القلبي » قلت : قد يقال إن ظاهر الأدلة الحكم بإسلام قائلهما ما لم يعلم كذبه ، فالمنافق المعلوم حاله لا إشكال في كفره ، نعم لا عبرة بالظاهر المزبور ، إذ يمكن مقارنة الإسلام واقعا للإكراه الظاهري ، بل يمكن صيرورته داعيا له في الواقع ، وحينئذ فلا غموض ، ودعوى تنزيلهما منزلة الإقرار بالنسبة إلى ذلك ممنوعة ، نعم هي سبب شرعي في الحكم بالإسلام وحقن المال والدم ما لم يعلم مخالفة باطن قائلها.

ثم لا يخفى عليك أن لفظ المكره كغيره من الألفاظ يراد به المحمول على المكروه له واقعا ، ولكن اكتفي في تحققه بظاهر الحال المستفاد من تعقب الفعل للتهديد ، فلو فرض حصول ما يرفع الظهور المزبور منه حكم بصحة الطلاق ، للعمومات بناء على أن الكراهة مانع ولم يتحقق ، أو حصول ما يظهر منه الاختيار بناء على أنه الشرط ، ويكفي في الحكم بتحققه ظهوره ، وعلى كل حال فقد ذكروا أن من ذلك ما إذا خالف المكره وأتى بغير ما حمله عليه ، فان مخالفته له تشعر بالاختيار أو ترفع ظهور الكراهة ، وله صور :

منها أن يكرهه على طلقة واحدة فيطلق ثلاثا ، فإنه يشعر برغبته واتساع صدره له حتى الاولى ، فيقع الجميع ، مع احتمال وقوع الأخيرتين دون الأولى التي لا معارض لمقتضى الإكراه فيها ، ولو أوقع الثلاث بصيغة واحدة وكان ممن معتقد وقوع الواحدة بها فهو كمن أوقعها واحدة ، وإن كان ممن يعتقد وقوعها ثلاثا‌

١٣

وقع عليه الثلاث ، بل لا يحتمل الالتزام بالاثنين هنا كما هو في السابق ، لأنه لفظ واحد مخالف للمكره عليه ابتداء بخلاف الثلاث المترتبة.

ومنها أن يكرهه على ثلاث طلقات فيوقع واحدة ، فإنه بالمخالفة المزبورة يظهر منه الاختيار ، إلا أنه كما ترى ، ضرورة كون الواحدة بعض المكره عليه وقد يقصد دفع المكروه بالإجابة إلى بعضه؟.

ومنها لو أكره على طلاق زوجة معينة فطلقها مع غيرها بلفظ واحد ، فإنه يشعر باختياره أيضا ، نعم لو طلقهما بصيغتين وقع الطلاق على غير المكره عليها وبطل في الأخرى ، وقد يحتمل عدم الفرق بينهما.

ومنها لو أكرهه على طلاق زوجتيه فطلق واحدة منهما ، وفيه ما سمعته في الطلقات ، نعم لو أكرهه على طلاق واحدة معينة فطلق غيرها ففي المسالك لا شبهة في الوقوع ، لأن ذلك مغاير لما أكره عليه بكل وجه ، وفيه أنه يمكن قصده التوصل إلى رفع الإكراه بذلك.

ومنها لو أكرهه على طلاق إحدى زوجتيه فطلق واحدة معينة ، وفيه أن ذلك أحد أفراد الكلي المكره عليه ، نعم لو كان الإكراه على الإبهام وعدل إلى التعيين وقع عليها ، بل في المسالك لا شبهة في ذلك ، لأنه غير المكره عليه جزما.

ومنها لو أكرهه على أن يطلق بكناية من الكنايات فطلق باللفظ الصريح ، أو بالعكس عند القائل بصحته ، أو عدل من صريح مأمور به إلى صريح آخر ، فإنه يقع الطلاق خصوصا في الأول ، لأنه قد حمله على طلاق فاسد فعدل إلى صحيح ، وعند مجوزة عدل إلى غير الصيغة المكره عليها ، إلى غير ذلك من الفروع الكثيرة المذكورة في كتب العامة والخاصة المبتنية على ما قلناه ، وكان الأولى تحرير الأصل المزبور وإلا فكثير من هذه الفروع محل للنظر ، حتى فيما نفوا الشبهة عن عدم الإكراه فيه ، فإنه قد يكون وقوعه بالإكراه ، والتحقيق في الأصل المزبور الحكم بالصحة مع الشك في تحقق الإكراه ، ولذا كانت البينة على مدعيه.

١٤

ولا يعتبر عندنا في الحكم ببطلان طلاق المكره عدم التمكن من التورية بأن ينوي غير زوجته أو طلاقها من الوثاق أو يعلقه في نفسه بشرط أو نحو ذلك وإن كان يحسنها ولم تحصل له الدهشة عنها ، فضلا عن الجاهل بها أو المدهوش عنها ، لصدق الإكراه ، خلافا لبعض العامة ، فأوجبها للقادر.

ولو قصد المكره إيقاع الطلاق ففي المسالك وغيرها « في وقوعه وجهان : من أن الإكراه أسقط أثر اللفظ ومجرد النية لا تعمل ، ومن حصول اللفظ والقصد ، وهذا هو الأصح » قلت : مرجع ذلك إلى أن الإكراه في الظاهر دون الواقع ، وقد تكرر من العامة والخاصة خصوصا الشهيد الثاني في المسالك والروضة في المقام وفي البيع أن المكره حال إكراهه لا قصد له للمدلول ، وإنما هو قاصد للفظ خاصة ، وفيه منع واضح ، ضرورة تحقق الإنشاء والقصد فيه ، ولذا ترتب عليه الأثر مع الإكراه بحق ، ومع تعقب الإجازة بالعقد بل ظاهر‌ قوله عليه‌السلام (١) : « إنما الطلاق » إلى آخره تحقق الإرادة من المكره ، بل لعل عدم القصد للمدلول في المكره من التورية التي لم نوجبها عليه ، وحينئذ فالمكره قاصد على نحو غيره إلا أنه قصد إكراه لا قصد اختيار ، وإن شئت عبرت عن ذلك بالرضا وعدمه.

ومن هنا يظهر لك ما في عنوان الوجهين السابقين المبنى على كون المكره غير قاصد ، وعليه كان المتجه حينئذ إدراجه في الشرط الرابع ، لا أنه يجعل شرطا مستقلا ، نعم قد يقال : إن الهازل يقصد اللفظ دون المعنى فلا إنشاء له حينئذ ، وبه يتضح الفرق فيهما ، أو يقال : إنه قاصد أيضا إلا أنه قصد هزلي لا أثر له في الشرع للأدلة الخاصة ولو تعقبه الرضا ، بل قد عرفت اشتمالها على بطلان طلاق الغضبان وإن كنت لم أعرف من أفتى به إلا مع ذهاب العقل به أو القصد ، فتأمل جيدا ، ولاحظ ما ذكرناه في كتاب البيع.

ولو قال : طلق زوجتي وإلا قتلتك فطلق ففي المسالك في وقوع الطلاق‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٣٧ ـ من أبواب مقدمات الطلاق الحديث ٤.

١٥

وجهان : أصحهما الوقوع ، لأنه أبلغ في الاذن ، قال : « ووجه المنع أن الإكراه يسقط حكم اللفظ فصار كما لو قال لمجنون : طلقها فطلق ، والفرق بينهما أن عبارة المجنون مسلوبة أصلا بخلاف عبارة المكره ، فإنها مسلوبة بعارض تخلف القصد ، فإذا كان الأمر قاصدا لم يقدح إكراه المأمور » قلت : هذا مبنى أيضا على ما سمعت من خلو المكره عن القصد ، وقد عرفت الحال ، نعم قد يشكل بناء على عدم جواز الفضولية في الطلاق بأن اللفظ المزبور الواقع من المكره لم يكن لفظ المكره لأن الفرض عدم الوكالة عنه شرعا ، وكونه أبلغ في الاذن لا يقتضي صيرورة لفظه لفظه ليترتب عليه حكمه ، ودعوى الاكتفاء بقصد الأمر وإن خلا المكره عن القصد لا دليل عليها ، وكذا الكلام فيما لو أكره الوكيل على الطلاق دون الموكل فتأمل جيدا.

ولو توعده بفعل مستقبل كقوله : إن لم تفعل لأقتلنك مثلا ففي عده إكراها نظر ، من حصول الخوف بإيقاع الضرر ، ومن سلامته منه الان والتخلص من الضرر يحصل بإيقاعه عند خوف وقوعه في الحال ، وفي المسالك « وهذا أقوى ، نعم لو كان محصل الإكراه في الأجل على أنه إن لم يفعل الان أوقع به المكروه في الأجل وإن فعله ذلك الوقت ورجح وقوع المتوعد به اتجه كونه إكراها ، لشمول الحد له » قلت : الظاهر عده إكراها عرفا.

هذا وفي المسالك أيضا « ولو تلفظ بالطلاق ثم » قال : كنت مكرها وأنكرت المرأة فإن كان هناك قرينة تدل على صدقه بأن كان محبوسا قدم قوله بيمينه ، وإلا فلا ، ولو طلق في المرض ثم قال : كنت مغشيا على أو مسلوب القصد لم يقبل قوله إلا ببينة تقوم على أنه كان زائل العقل في ذلك الوقت ، لأن الأصل الصحة ، وإنما عدلنا في دعوى الإكراه عن ذلك بالقرائن ، لظهورها وكثرة وقوعها ووضوح مراتبها بخلاف المرض » قلت : ستعرف قبول قوله في عدم القصد على وجه لا يعارضه أصل الصحة ، نعم قد يفرق بين نسبته مع ذلك إلى سبب كالإكراه والغشيان وعدمه ،

١٦

وحينئذ يكون المدار على صدق كونه مكرها ومغشيا عليه عرفا ولو بالطرق المفيدة لذلك ، ولا مدخلية لمطلق القرائن إذا لم تفد علما ، ضرورة اعتبار العلم في مصاديق الألفاظ والأوصاف الواقعية أو ما يقوم مقام العلم ، والله العالم.

( الشرط الرابع )

القصد بمعنى كونه قاصدا بلفظ الطلاق معناه في المقام وفي غيره من التصرفات القولية بلا خلاف أجده فيه بيننا ، بل الإجماع بقسميه عليه ، مضافا إلى قول الباقر والصادق عليهما‌السلام في خبر عبد الواحد (١) وصحيح هشام (٢) وخبر اليسع (٣) ومرسل ابن أبى عمير (٤) : « لا طلاق إلا لمن أراد الطلاق » وقول الباقر عليه‌السلام (٥) « لا طلاق على سنة وعلى طهر بغير جماع إلا بنية ، ولو أن رجلا طلق ولم ينو الطلاق لم يكن طلاقه طلاقا » ويقرب منه خبر اليسع (٦) إلى غير ذلك من النصوص المعتضدة‌ بعموم (٧) « لا عمل إلا بنية » و (٨) « إنما الأعمال بالنيات » بناء على إرادة القصد منها لا خصوص القربة ، وكان استفاضة النصوص في خصوص المقام في مقابل المحكي عن العامة من عدم اعتبار القصد مع النطق بالصريح ، نعم هو معتبر في الكناية.

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١١ ـ من أبواب مقدمات الطلاق الحديث ٥.

(٢) الوسائل الباب ـ ١١ ـ من أبواب مقدمات الطلاق الحديث ٤.

(٣) الوسائل الباب ـ ١١ ـ من أبواب مقدمات الطلاق الحديث ٢.

(٤) الوسائل الباب ـ ١١ ـ من أبواب مقدمات الطلاق الحديث ٣ مرسل ابن أبى عمير عن ابن بكير ، عن زرارة.

(٥) ذكر صدره في الوسائل في الباب ـ ١٠ ـ من أبواب مقدمات الطلاق الحديث ٨ وذيله في الباب ـ ١١ ـ منها الحديث ١ وفيه‌ « من غير جماع إلا ببينة. » كما في الكافي ج ٦ ص ٢٦ والتهذيب ج ٨ ص ١٥.

(٦) ما تقدم من قول الباقر عليه‌السلام انما ورد في خبر اليسع فقط ، وليس هناك خبر آخر بهذا المضمون غير خبر اليسع حتى يقرب منه خبره.

(٧) الوسائل الباب ـ ٥ ـ من أبواب مقدمة العبادات الحديث ١ من كتاب الطهارة.

(٨) الوسائل الباب ـ ٥ ـ من أبواب مقدمة العبادات الحديث ١٠ من كتاب الطهارة.

١٧

ولعله لذا قال المصنف وهو شرط في الصحة مع قولنا بـ ( اشتراط النطق بالصريح ) ضرورة عدم الاكتفاء بذلك عنه ، فإن مطلق النطق بالصريح أعم من قصد الطلاق به.

وحينئذ فلو لم ينو الطلاق وإن نطق به لم يقع ، كالساهي المرفوع عنه حكم سهوه (١) والنائم الذي هو أحد من رفع القلم عنه حتى يفيق (٢) والغالط الذي هو في الحقيقة لم يقصد اللفظ ولا المعنى ، لأنه أراد أن يقول مثلا : « أنت طاهرة » فسبق لسانه فقال : « طالق » فما في المسالك ـ من الفرق بينه وبين الأولين بأنه قد تخلف فيه قصد المعنى دون اللفظ بخلاف الأولين الذين تخلفا معا فيهما ـ لا يخلو من نظر إن أراد قصد خصوص لفظ الطلاق.

وأغرب من ذلك قوله متصلا بما سمعت : « وهل يقبل دعوى سبق اللسان ظاهر العبارة يدل عليه ، ووجهه أن ذلك أمر باطني لا يعلم إلا من قبله ، فيرجع إليه فيه ، ولأن الأصل عدم القصد ، ويحتمل عدم القبول ، لأن الأصل في الأفعال والأقوال الصادرة عن العاقل المختار وقوعها عن قصد ، ويمكن حمل عدم الوقوع في كلام المصنف عليه في نفس الأمر لا في الظاهر وأما في الظاهر فان وجد قرينة تدل عليه قوى القبول ، وإلا فلا » إذ هو سهو واضح ، فإن عبارة المصنف لا تعرض فيها لذلك. وإنما فيها اعتبار القصد واقعا وتخلفه كذلك ، نعم سيأتي له التعرض لذلك بقوله : « ولو قال » إلى آخره.

وكيف كان فلا خلاف عندنا في بطلان طلاق الثلاثة بل ظني أنه كذلك عند العامة فضلا عن الخاصة وإن لم يعتبروا القصد في النطق بالصريح ، لكن ذلك إنما هو في مقابلة اعتبار قصده بالكناية ، بمعنى الإكتفاء في النطق بالصريح بقصد معناه بخلاف الكناية التي يعتبر قصد الطلاق بها ، ولا يكفى قصد معناها.

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٣٧ ـ من أبواب قواطع الصلاة الحديث ٢ من كتاب الصلاة والباب ـ ٥٦ ـ من أبواب جهاد النفس من كتاب الجهاد.

(٢) الوسائل الباب ـ ٤ ـ من أبواب مقدمة العبادات الحديث ١١ من كتاب الطهارة.

١٨

نعم قد جوزوا طلاق السكران عصيانا مؤاخذة له بسوء اختياره ، نحو ما سمعته منا في القصاص منه ونحوه مما لا يقاس عليه المقام الذي قد استفاضت النصوص أو تواترت ببطلان طلاقه ، وجوزوا طلاق الهازل لأنه قاصد اللفظ والمعنى ، لكن قصدا هزليا ، وقد‌ رووا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) « ثلاثة جدهن جد وهزلهن جد : النكاح والطلاق والرجعة » ولم يثبت الخبر المزبور عندنا ، بل من المقطوع به خلافه ، بل الظاهر من الإرادة في النصوص (٢) المزبورة وغيرها الرضا والعمد إلى ذلك على وجه ينافيه ، ومن هنا‌ قال العبد الصالح عليه‌السلام لمنصور بن يونس (٣) لما سأله عن طلاق زوجته مداراة لأخته وخالته ولم يرد الطلاق حقيقة : « أما ما بينك وبين الله تعالى فليس بشي‌ء ، ولكن إن قدموك إلى السلطان أبانها منك ».

ومن ذلك أو يقرب منه عدم جريان حكم الطلاق على من ذكر الصيغة للتعليم أو للحكاية أو تلقينا من غير قصد لمعناها ولا فهم له أو نحو ذلك مما لا يريد منها الطلاق بالمعنى المزبور ، وبذلك ظهر لك أن بطلان طلاق الهازل لما عرفت لا لتخلف القصد إلى المدلول وإن قصد اللفظ ، نحو ما سمعته من بعضهم في المكره ، ضرورة تحقق القصد فيهما معا إلى المدلول ، لكن على الوجه المزبور الذي لم يعتبره الشارع نصا وفتوى كما هو واضح.

وعلى كل حال فقد ذكر غير واحد تفريعا على الشرط المزبور أنه لو نسي أن له زوجة فقال : « نسائي طوالق » أو « زوجتي طالق » ثم ذكر لم يقع به فرقة بل لا خلاف أجده فيه ، لأنه غير قاصد لطلاق زوجته من اللفظ أصلا ، وكذا لو قال لزوجته : « أنت طالق » لظنه أنها زوجة الغير هازلا أو وكالة منه ، أو قال : « زوجتي طالق » بظن خلوه من الزوجة ، وظهر أن وكيله زوجه ، وغير ذلك مما هو فاقد قصد الفراق بينها وبينه والعمد إليه ، بل لم أجد من احتمل‌

__________________

(١) سنن البيهقي ج ٧ ص ٣٤١.

(٢) الوسائل الباب ـ ١١ ـ من أبواب مقدمات الطلاق.

(٣) الوسائل الباب ـ ٣٨ ـ من أبواب مقدمات الطلاق الحديث ١.

١٩

الصحة في المقام وإن ذكروه فيمن باع مال الغير فبان أنه ماله ، ولعله لظهور الأدلة في المقام باعتبار القصد على الوجه المزبور ، بحيث لا يجرى فيه احتمال المذكور ، ومع فرض اتحاد المقامين يتجه الاستدلال بها على نفيه هناك فتأمل.

وكيف كان فـ ( لو أوقع وقال ) بعد النطق بصيغته لم أقصد الطلاق بها قبل منه ظاهرا ودين بنيته باطنا وإن تأخر تفسيره ما لم تخرج المرأة عن العدة وفاقا لما صرح به الشيخ في المحكي من مبسوطة وخلافه وغيره ، بل في المسالك نسبته إلى الأكثر ، بل عن ظاهر المبسوط وصريح الخلاف الإجماع ، على ذلك لأنه إخبار عن نيته التي لم تعلم إلا من قبله ، ومقتضى الأصل عدمها ، وإنما حكم بها قبل التفسير اعتمادا على ظاهر حال العاقل المختار المعلوم حجيته في ذلك ما لم تصدر الدعوى منه بما ينافيه.

لكن أشكله في المسالك وأتباعها باقتضاء مثل ذلك في البيع وغيره من العقود والإيقاعات ، مع الاتفاق على عدم قبول قوله فيه ، مع أن الأمر في الطلاق أشد ، لما سمعته في النبوي (١) من أن هزله جد ، على أن الدعوى المزبورة وإن كانت عن نيته إلا أنها متعلقة بحق الغير الذي يمنع من قبول الدعوى فيه وإن تعلقت بما لا يعلم إلا من قبله ، ولو فرق بين الطلاق وغيره بأن القبول فيه مقيد بالعدة المقتضية لبقاء علقة الزوجية ، بخلاف البيع والنكاح وغيرهما لانتقض ذلك بالعدة البائنة ، فان الزوجية زائلة معها بالكلية ، وإنما فائدتها استبراء الرحم من أثر الزوج ، وهو أمر خارج عن الزوجية ، ولذا ثبت للوطي بالشبهة مع انتفاء الزوجية أصلا ، وربما خص بعضهم الحكم المزبور بالعدة الرجعية ، وفيه أنه حينئذ لا ثمرة له ، لأن للزوج الرجوع بكل لفظ دل عليه ، ومنه دعواه عدم القصد كإنكار الطلاق ، بل لعله أقوى في الدلالة على ذلك منه ، فقبول قوله من حيث إنه رجعة ، لا من حيث الرجوع إليه في القصد.

ثم قال : ويمكن أن يكون مستند حكمهم بذلك وتخصيص الطلاق رواية‌

__________________

(١) سنن البيهقي ج ٧ ص ٣٤١.

٢٠