جواهر الكلام - ج ٣١

الشيخ محمّد حسن النّجفي

كونها مطلقة حاملا ، وحينئذ فالمتجه الوجوب لها بل وقضاء ما فات منها ، كما أن المتجه عدم وجوب قضاء ما فات بناء على أنها للحمل ، لكونها حينئذ من نفقة الأقارب التي لا تقضى.

لكن عن المبسوط أن لها الرجوع بذلك وبما أنفقته عليه بعد الوضع ، ولعله لأن النفقة وإن كانت للحمل إلا أنها مصروفة إليها ، فهي صاحبة حق بها ، فتكون دينا كنفقة الزوجة ، ولأنه السبب في الحكم حاكم بوجوب النفقة عليها ، فيضمن لكونه أقوى من المباشر ، بل اللعان من الشهادة التي من حكمها ضمان الشاهد بما يتلف بسبب شهادته لو رجع عنها.

إلا أن الجميع كما ترى ، ضرورة عدم كون اللعان من الشهادة وإن أطلقت عليه ، وعدم استناد نفقتها على الولد إلى الحكم حاكم بها عليها ، هذا كله بناء على أنها للحمل.

أما على القول بأنها للحامل فلا نفقة لها أصلا في الصورتين وإن كان قد أكذب نفسه بصيرورتها حينئذ بائنا باللعان الذي هو غير الطلاق ، وهو واضح كوضوح جريان الكلام منا هنا على مذاقهم في تفسير كونها للحمل أو للحامل ، لا على ما قلناه سابقا ، فلاحظ وتأمل.

( المسألة الخامسة )

قال الشيخ في المحكي من مبسوطة ما حاصله أن نفقة زوجة المملوك المأذون في التزويج تتعلق بكسبه إن كان مكتسبا وبرقبته إن لم يكن مكتسبا ويباع منه في كل يوم بقدر ما يجب عليه منها إن أمكن ، وإلا بيع كله كما في الجناية ، ووقف ثمنه للإنفاق ، وقد انتقل ملك سيده منه إلى آخر.

وقال آخرون تجب النفقة في ذمته يتبع بها بعد العتق واليسار‌

٣٦١

ولو قيل تلزم السيد لوقوع العقد باذنه والإذن في الشي‌ء إذن في لوازمه كان حسنا بل هو المحكي عن ابني حمزة وإدريس ، بل وابن الجنيد ، وقد تقدم سابقا الكلام فيه.

وقال الشيخ ره أيضا ولو كان مكاتبا لم تجب عليه نفقة ولده من زوجته ، وتلزمه نفقة الولد من أمته التي اشتراها باذن السيد لأنه حينئذ بحكم ماله فتجب عليه نفقته من كسبه كنفقة الحيوان المملوك له ، ولا ينعتق عليه ، لعدم استقرار ملكه عليه بخلاف الولد من الزوجة ، فإنه إن كانت حرة كان الولد حرا ، ونفقته على أمه حينئذ لكون الأب مملوكا لا يقدر على شي‌ء ، وإن كانت أمة وقد اشترط مولاها الانفراد بالرق كان الولد ملكا له ، فتجب نفقته عليه ، وإلا كان مشتركا بين الموليين ، فتجب نفقته عليهما دونه ، ولكن الانصاف مع ذلك قد يستشكل في الأول كما في كشف اللثام بأنه لا دليل على جواز الإنفاق ثم لزومه على مملوك السيد من ماله بغير إذنه اللهم إلا أن مقتضي الكتابة ذلك ، وعلى كل حال لا نفقة عليه لولده الحر.

نعم لو تحرر منه أي المكاتب شي‌ء كانت نفقته أي الولد الحر في ماله بقدر ما تحرر منه لأن الرق مانع من الوجوب ، فإذا زال بعضه زال بعض المانع وثبت بعض الممنوع ، وإن كان له التصرف في نصيبه مما يملكه كيف شاء وأمكنه تمام الإنفاق منه ، فما عن العامة من الوجه بوجوب تمام النفقة في غير محله ، وأما نفقة زوجة المكاتب فالظاهر أنها باقية على السيد إلى أن يتحرر أجمع فيكون عليه ، أو بعضه فعليه بقدر ما تحرر منه ، فما في المسالك من وجوبها في كسبه لا دليل عليه.

٣٦٢

( المسألة السادسة : )

إذا طلق الحامل التي علم أنها كذلك في زمان من الأزمنة رجعية فادعت أن الطلاق قد كان بعد الوضع فلها النفقة عليه لكونها حينئذ في العدة وأنكر هو ذلك وادعى أن طلاقها قد كان قبل الوضع فلا نفقة لها لخروجها عن العدة به حينئذ فالقول قولها مع يمينها لأصالة تأخره ، وأصالة بقائها في العدة وبقاء النفقة ولكن يحكم عليه بالبينونة منها وعدم الرجوع له بها تديينا له بإقراره المسموع في حقه دون حق غيره ولها النفقة حينئذ عليه وإن كانت بائنا في حقه وخارجة من العدة استصحابا لدوام حكم الزوجية.

ولو انعكس الفرض بأن ادعى هو تأخير الطلاق لإرادة إثبات حق الرجعة بها وأنكرت هي ذلك وادعت أنه قبل الوضع كان القول قوله بيمينه ، لما عرفت لكن ليس لها المطالبة بالنفقة ، لاعترافها بعدم استحقاقها.

هذا وظاهر إطلاق المصنف عدم الفرق في الحكم المزبور بين اتفاقهما على تاريخ أحدهما وعدمه ، لكن في المسالك « ولو قيل بتخصيص هذا الحكم بما إذا لم يعينا زمانا لأحدهما أما لو اتفقا عليه واختلفا في تقدم الآخر وتأخره فالقول قول مدعي تأخره مطلقا لأصالة عدم تقدمه واستقرار حال ما اتفقا عليه كان حسنا فلو فرض أن الطلاق وقع يوم الجمعة مثلا واختلفا في زمان الوضع ، وادعت أنه يوم الخميس في المسألة الأولى وادعى هو وقوعه يوم السبت مثلا فالقول قوله ، لأصالة عدم تقدم الوضع ، ولو انعكست الدعوى بأن ادعت هي تأخره وادعى هو تقدمه فالقول قولها لما ذكر ، ولو اتفقا على وقوع الوضع يوم الجمعة مثلا واختلفا في تقدم الطلاق وتأخره فالقول قول مدعي التأخير في المسألتين ».

وفيه أن مفروض البحث تقدم الطلاق وتأخره ، ولا ريب في أن القول قول من‌

٣٦٣

يدعي تأخره ، والوضع وعدمه لا مدخلية له في ذلك ، وإنما هو من المقارنات ولازم إحدى الدعويين نعم لو كان الاختلاف بينهما في دعوى تقدم الطلاق على الوضع وتقدم الوضع على الطلاق اتجه ما ذكره حينئذ.

مع أنا نقول أيضا على تقديره فيه ما ذكرناه غير مرة من أن أصالة تأخر الحادث إنما تقضي تأخره في نفسه لا عن مفروض الدعوى وإلا كانت من الأصول المثبتة المعارضة بمثلها ، إذ الأصل أيضا عدم تأخره عنه ، لكونه من الحوادث أيضا فالتحقيق حينئذ عدم الفرق بين العلم بزمان أحدهما وعدمه الذي قد عرفت حكمه ، وأنه لا يحكم فيه بالاقتران الذي هو أيضا من الحوادث ، والأصل عدمه.

وبذلك ظهر قوة إطلاق المصنف وضعف التقييد المزبور ، وأضعف منه ما حكاه هو أيضا قال : « وربما قيل بأنه مع الاتفاق على أحدهما والاختلاف في الأخر يقدم قول الزوج في الطلاق مطلقا لأنه من فعله ، وقولها في الوضع مطلقا كذلك » (١) ضرورة عدم الدليل على قبول كل ما كان من فعل المدعي وإن كان لا يعسر اطلاع الغير عليه ، بل ظاهر الأدلة التي‌ منها « البينة على المدعي » (٢) ‌خلافه ، كما هو واضح.

( المسألة السابعة : )

إذا كان له على زوجته دين وامتنعت عن أدائه جاز له أن يقاصها يوما فيوما إن كانت موسرة لإطلاق الأدلة فينوي الاستيفاء بما لها عليه في صبيحة كل يوم يوم ، ولا يجوز له ذلك مع عدم امتناعها ، لأن التخيير في جهات القضاء من أموالها إليها ، إلا أن يفرض التهاتر قهرا بأن يكون له عليها مثل النفقة التي تستحقها منه.

__________________

(١) هكذا في النسخة الأصلية وفي المسالك « لذلك ».

(٢) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من أبواب كيفية الحكم من كتاب القضاء.

٣٦٤

وكذا لا يجوز له المقاصة مع إعسارها لأن قضاء الدين فيما يفضل عن القوت ولذا استثنى للمفلس ، نعم لو رضيت هي بذلك لم يكن له الامتناع إلا مع المخالفة لجنس الحق أو مع التضرر له بضعفها عن حقه.

بقي شي‌ء ، وهو أنه لو فرض مساواة ماله عليها لما تستحقه عليه هل يقع التهاتر قهرا وإن كانت معسرة؟ يحتمل ذلك ، واستثناء القوت إنما هو فيما لو استوفى لا ما إذا حصل الوفاء قهرا ، باعتبار عدم تصور أنه يملك عليه ما يملكه عليه ، إذ ليس هو إلا كلى واحد ، وحينئذ فلا ينقدح إشكال في قوله : « ولو رضيت بذلك » إلى آخره بأن يقال مع اتحاد الجنس يقع التهاتر قهرا ، ومع اختلافه له الامتناع حينئذ فتأمل جيدا ، والله العالم.

( المسألة الثامنة )

نفقة النفس مقدمة على نفقة الزوجة عند التعارض بلا خلاف ولا إشكال ، لأهمية النفس عند الشارع. والزوجة مقدمة على الأقارب لكونها من المعاوضة ، ولذا تجب لها مع غناها وفقرها مع غنى الزوج وفقره ، ولو بأن تكون دينا عليه ، بخلاف نفقة الأقارب التي هي من المواساة ، ولذا لا تقضي ولا تكون دينا مع الإعسار ، وحينئذ فما فضل عن قوته صرفه إليها ثم لا يدفع إلى الأقارب إلا ما يفضل عن واجب الزوجة لما عرفت من أنها نفقة معاوضة وتثبت في الذمة نعم تقدم نفقة الأقارب على ما فات من نفقة الزوجة الذي قد صار دينا ، بخلاف النفقة الحاضرة التي هي أعظم من الدين ، ولذا قدمت عليه في المفلس ، فما عن بعض الشافعية ـ من تقديم نفقة الطفل على الزوجة ـ في غير محله ، وأضعف منه احتمال تقديم نفقة القريب مطلقا عليها باعتبار كونها من الديون التي تقدم نفقة القريب عليها كما في المفلس ، وربما أيد بما‌ روى (١) من « أن رجلا جاء إلى‌

__________________

(١) سنن البيهقي ج ٧ ص ٣٦٦ وليس فيه‌ « أنفقه في سبيل الله » ‌وانما هو مذكور في الرواية التي رواها الشيخ ( قده ) في المبسوط ج ٦ ص ٣.

٣٦٥

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : معي دينار فقال : أنفقه على نفسك ، فقال : معي آخر ، فقال : أنفقه على ولدك ، فقال : معي آخر ، فقال : أنفقه على أهلك ، فقال : معي آخر ، فقال : أنفقه على خادمك ، فقال : معي آخر ، فقال : أنفقه في سبيل الله » ‌فقدم نفقة الولد على الأهل كما قدم نفقة النفس عليه ، إلا أن الجميع كما ترى ، خصوصا بعد كون الخبر من غير طرقنا ومحتملا للإنفاق على وجه التبرع توسعا في النفقة ، كما يومئ إليه ما في آخره الذي لم يعلم وجوبه ، والله العالم.

( وأما القول )

في نفقة الأقارب فتفصيل البحث وتمام الكلام فيه يكون فيمن ينفق عليه وكيفية الإنفاق واللواحق.

أما الأول ف تجب أي النفقة على الأبوين والأولاد إجماعا من المسلمين فضلا عن المؤمنين ونصوصا مستفيضة أو متواترة ، قال حريز (١) : « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : من الذي أجبر عليه وتلزمني نفقته؟ فقال : الوالدان والولد والزوجة » ونحوه صحيح الحلبي (٢) لكن مع زيادة « والوارث الصغير ، يعني الأخ وابن الأخ وغيره » ‌قال محمد بن مسلم (٣) : « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : من يلزم الرجل من قرابته ممن ينفق عليه؟ قال : الوالدان والولد والزوجة ».

وفي مرسل جميل (٤) عن أحدهما عليهما‌السلام « لا يجبر الرجل إلا على نفقة الأبوين والولد ، قلت لجميل : فالمرأة؟ قال : روى بعض أصحابنا وهو عنبسة بن ابن مصعب وسورة بن كليب عن أحدهما عليهما‌السلام أنه إذا كساها ما يواري عورتها وأطعمها‌

__________________

(١) و (٣) الوسائل الباب ـ ١١ ـ من أبواب النفقات الحديث ٣ ـ ٥

(٢) الوسائل الباب ـ ١ ـ من أبواب النفقات الحديث ٩. راجع الفقيه ج ٣ ص ٥٩ الرقم ٢٠٩.

(٤) الوسائل الباب ـ ١ ـ من أبواب النفقات الحديث ٤.

٣٦٦

ما يقيم صلبها أقامت معه وإلا طلقها ، قال : قلت لجميل : فهل يجبر على نفقة الأخت؟ قال : إن جبر على نفقة الأخت كان ذلك خلاف الرواية » ‌إلى غير ذلك من النصوص المتفقة على وجوب نفقة العمودين والأولاد.

إنما الكلام في وجوب الإنفاق على آباء الأبوين وأمهاتهم ففي النافع تردد من الأصل وعدم دخولهم في إطلاق الوالدين والأبوين ، ومن ظهور الأصحاب عليه ، بل في كتاب المقدس البغدادي أنه حكى الإجماع عليه فضلا عن إشعار جملة من العبارات به ، كما اعترف به في الرياض وغيره ، بل لم نعرف المناقشة من أحد منهم سوى المصنف هنا والنافع ، مع أنه قال : أشبهه وأظهره الوجوب للظن إن لم يكن القطع بإرادة من علا منهم من الوالدين والأبوين هنا ولو بمعونة الاتفاق ظاهرا ، مضافا إلى ما يشعر به‌ الخبر (١) « في الزكاة يعطى منها الأخ والأخت والعم والعمة والخال والخالة ، ولا يعطى الجد والجدة » ‌خصوصا بعد استفاضة النصوص (٢) وانعقاد الإجماع على حرمتها لواجبي النفقة ، فليس النهي عن إعطائهما حينئذ إلا لوجوب نفقتهما ، بل لا بد من إرادتهما من الأب والأم حينئذ‌ في الصحيح (٣) « خمسة لا يعطون من الزكاة شيئا : الأب والأم والولد والمملوك والزوجة ، وذلك لأنهم عياله لازمون له ».

وكذا الكلام في أولاد الأولاد ولو البنات منهم وإن نزلوا الذي لم يتردد فيهم المصنف ، بل يدل على الإنفاق عليهم مضافا إلى ما سمعت قوله تعالى (٤) : ( وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيّاكُمْ ) هذا كله بعد تسليم عدم انصراف إطلاق الوالدين والأبوين والولد لمن علا وإن نزل ، وإلا كما أوضحناه‌

__________________

(١) و (٣) الوسائل الباب ـ ١٣ ـ من أبواب المستحقين للزكاة الحديث ٣ من كتاب الزكاة.

(٢) الوسائل الباب ـ ١٣ و ١٤ ـ من أبواب المستحقين للزكاة من كتاب الزكاة.

(٤) سورة الإسراء : ١٧ ـ الآية ٣١.

٣٦٧

في كتاب الخمس فلا إشكال حينئذ في أصل المسألة ، ولعل المقام من الشواهد لما ذكرناه هناك أيضا ، والله العالم.

نعم لا إشكال بل ولا خلاف محقق في أنه لا تجب النفقة على غير العمودين والأولاد من الأقارب ممن كان على حاشية النسب كالاخوة والأعمام والأخوال وغيرهم بل في الرياض الإجماع في الظاهر عليه ، للأصل والحصر في النصوص (١) السابقة الذي قد سمعت الاعتراف به من جميل واستفاضة النصوص (٢) في إعطائهم الزكاة المنافي لوجوب الإنفاق عليهم كما عرفت ، مؤيدة بما عرفت من ظهور الإنفاق عليه.

وما في القواعد من حكاية قول بالوجوب على الوارث لم نعرف قائله وإن أسنده شراحه إلى الشيخ ، إلا أن المحكي عنه في المبسوط القطع بخلاف ذلك ، بل ظاهره الإجماع ، نعم عن الخلاف احتماله ، وفي محكي المبسوط إسناد الوجوب إلى رواية (٣) حملها على الاستحباب ، مع أنه أنكر جملة ممن تأخر عنه ـ كما قيل ـ العثور عليها ، وإن كان فيه أنه يمكن إرادة الصحيح السابق وإن كان هو أخص من ذلك أو‌ خبر غياث (٤) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « اتى أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه بيتيم فقال : خذوا بنفقته أقرب الناس إليه من العشيرة ممن يأكل ميراثه » ‌الذي حمله الشيخ في محكي الإستبصار على الندب أو على ما إذا لم يكن وارث غيره بحيث إذا مات أحدهما ورث الأخر لا كل وارث ، مع أن المحمول عليه أخيرا أيضا لا وجه له ولا دليل عليه ، بل هو محجوج بما عرفت ، ونحوه ما عن‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١ ـ من أبواب النفقات الحديث ٤ ـ ٩ والباب ـ ١١ ـ منها.

(٢) الوسائل الباب ـ ١٣ ـ من أبواب المستحقين للزكاة الحديث ٣ والباب ـ ١٤ و ١٥ ـ منها.

(٣) المبسوط ج ٦ ص ٣٥ ط الحديث.

(٤) الوسائل الباب ـ ١١ ـ من أبواب النفقات الحديث ٤.

٣٦٨

سيد المدارك من الميل إلى العمل بمضمون الصحيح (١) السابق المتضمن لوجوب الإنفاق على الوارث الصغير.

ضرورة عدم الالتفات إلى أمثال ذلك بعد استقرار الكلمة في الأعصار المتعددة على عدم الوجوب ، وبعد ما سمعت من الأدلة المعتضدة بما يشعر به‌ مرسل زكريا المروي (٢) عن الخصال عن أبي عبد الله عليه‌السلام « من عال ابنتين أو أختين أو عمتين أو خالتين حجبناه من النار باذن الله » وبالمروي من تفسير العسكري عليه‌السلام (٣) لقوله تعالى (٤) ( وَمِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ ) من الصدقات والزكاة والحقوق اللازمات ـ إلى أن قال ـ : وذوي الأرحام القريبات والإباء والأمهات وكالنفقات المستحبة على من لم يكن فرض عليهم النفقة وسائر القرابات » ‌وبعد معروفية القول المزبور لابن أبى ليلى الذي هو من الذين جعل الله الرشد في خلافهم ، مستدلا عليه بقوله تعالى (٥) ( وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ ) بناء على أن المراد منه وعلى الوارث للصبي ، وفيه أنه خلاف الظاهر ، بل المراد به الكناية عن الصبي الرضيع ، أى عليه في ماله الذي ورثه من أبيه مثل ما كان على أبيه من الإنفاق بالمعروف على أمه ، كما أشار إليه في‌ المروي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام (٦) « أنه قضى في رجل توفي وترك صبيا واسترضع له أن أجر رضاع الصبي مما يرث من أبيه وأمه » ‌أو المراد به الباقي ، نحو‌ قوله عليه‌السلام (٧) « واجعلهما الوارثين مني » ‌أي الباقين فيكون المعنى : وعلى الباقي من الأبوين مثل ذلك.

وعلى كل حال فلا ريب في عدم ظهور الآية فيما ذكره ، خصوصا بعد ما‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١ ـ من أبواب النفقات الحديث ٩.

(٢) و (٣) الوسائل الباب ـ ١٢ ـ من أبواب النفقات الحديث ١ ـ ٢

(٤) و (٥) سورة البقرة : ٢ ـ الآية ٣ ـ ٢٣٣

(٦) الوسائل الباب ـ ٧١ ـ من أبواب أحكام الأولاد الحديث ٢ ـ ٣.

(٧) ورد ذلك في الدعاء المعروف للحسين عليه‌السلام في يوم عرفة الا أن فيه : « واجعل سمعي وبصري الوارثين مني ». ‌

٣٦٩

أكثروا فيها من الاحتمالات ، بل لم يدعوا وجها يمكن القول به إلا قال به بعضهم ، فعن ابن عباس أن المراد به وارث الأب ، وعن الحسن وقتادة وأبي مسلم والقاضي وغيرهم وارث الولد ، وهؤلاء اختلفوا ، فعن عمر والحسن ومجاهد وعطاء وسفيان وإبراهيم أنه العصبات دون الأم وإخوة الأم ، وعن قتادة وابن أبي ليلى مطلق وارثه من الرجال والنساء على قدر النصيب من الميراث ، وعن أبي حنيفة وأصحابه أنه الوارث ممن كان ذا رحم محرم دون غيرهم من ابن العم والمولى ، وعن بعضهم أن المراد بالوارث الباقي من الأبوين ، وعن مالك والشافعي أن المراد به الصبي نفسه الذي هو وارث أبيه المتوفى ، على معنى أن أجرة رضاعه فيما له الذي ورثه من أبيه إن كان له مال ، وإلا أجبرت الأم على رضاعه.

بل اختلفوا في المراد بمثل ذلك ، فقيل : إنه النفقة والكسوة ، وقيل ترك الإضرار ، وقيل منهما كما عن أكثر أهل العلم ، وفي‌ الصافي عن العياشي عن الباقر عليه‌السلام (١) أنه سئل عنه أى قوله ( وَعَلَى الْوارِثِ ) فقال : « النفقة على الوارث مثل ما على الوالد » وعن الصادق عليه‌السلام (٢) أنه سئل عنه ، فقال : « لا ينبغي للوارث أن يضار المرأة ، فيقول : لا أدع ولدها يأتيها ويضار ولدها إن كان عبد لهم عنده شي‌ء فلا ينبغي أن يقتر عليه » وفي الكافي عنه عليه‌السلام (٣) في قوله تعالى : ( وَعَلَى الْوارِثِ ) إلى آخره « إنه نهى أن يضار بالصبي أو تضار أمه في رضاعه ، وليس لها أن تأخذ في رضاعه فوق حولين كاملين» ‌إلى غير ذلك مما هو مذكور في كتب العامة والخاصة مما يقتضي إجمال الآية ، أو إرادة غير ما نحن فيه ، أو ما ذكرناه مما هو موافق لما سمعت من النص والفتوى ، فلا وجه للاستدلال بل لا ينبغي حتى على الاستحباب الذي يتسامح فيه ، كما وقع من بعضهم ، نعم لا بأس‌

__________________

(١) و (٢) الوسائل الباب ـ ١٢ ـ من أبواب النفقات الحديث ٣ عن أحدهما عليهما‌السلام.

(٣) الوسائل الباب ـ ٧٠ ـ من أبواب أحكام الأولاد الحديث ٣ راجع الكافي ج ٦ ص ٤١.

٣٧٠

في حمل الخبر (١) المزبور عليه أى الندب أو التقية أو طرحه ، لقصوره عن المقاومة لما سمعت من وجوه ، والاتفاق على أنه من الشواذ التي أمرنا بالإعراض عنها ، والله العالم.

هذا ولكن تستحب نفقتهم التي هي من صلة الرحم الذي قال الله تعالى شأنه فيه (٢) ( وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ )‌ وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣) : « لا صدقة وذو رحم محتاج » ‌ويتأكد الاستحباب في الوارث منهم لما عرفته من الخبر (٤) المزبور وغيره ، والله العالم.

وكيف كان فلا خلاف في أنه يشترط في وجوب الإنفاق الفقر في المنفق عليه ، بمعنى عدم وجدانه تمام ما يقوته ، بل ربما ظهر من بعضهم الإجماع عليه ، للأصل السالم عن معارضة الأدلة السابقة بعد انصرافها لغير المفروض.

وإنما الكلام في أنه هل يشترط مع ذلك العجز عن الاكتساب اللائق بحاله؟ الأظهر عند المصنف بل لعله الأشهر اشتراطه بل لم أعثر فيه على مخالف هنا لأن النفقة معونة على سد الخلة ، والمكتسب قادر فهو كالغنى ولذا منع من الزكاة والكفارة المشروطة بالفقر ، فعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٥) « لا حظ في الصدقة لغني ولا لقوي مكتسب » ‌لكن قد يناقش بمنع صدق الغنى عرفا على القادر المعرض عن الاكتساب ، بل يصدق عليه أنه محتاج ، ولا دليل على أنه‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١١ ـ من أبواب النفقات الحديث ٤.

(٢) سورة النساء : ٤ ـ الآية ١.

(٣) الوسائل الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب الصدقة الحديث ٤ من كتاب الزكاة راجع الفقيه ج ٢ ص ٣٨ ـ الرقم ١٦٦ وج ٤ ص ٢٦٧.

(٤) الوسائل الباب ـ ١١ ـ من أبواب النفقات الحديث ٤.

(٥) المستدرك الباب ـ ٦ ـ من أبواب المستحقين للزكاة الحديث ٢ من كتاب الزكاة وفيه « لا يحل ».

٣٧١

بحكم الغنى شرعا ، نعم لو تلبس بالاكتساب الساد لخلته كان غنيا أو بحكمه ، ولعل هذا هو المراد من الخبر المزبور ، بل يمكن تنزيل كلام الأصحاب أيضا عليه ، كما أوضحنا ذلك في باب الزكاة.

ومن الغريب ما وقع من بعضهم هنا أن الامرأة القادرة على التكسب بالتزويج كذلك بحكم الغني ، إذ من الواضح عدم اندراج نحو ذلك في القدرة على التكسب الذي هو بحكم الغني ، وأغرب من ذلك ما عن شرح النافع من احتمال اشتراط عدم تمكن القريب من آخذ من الزكاة ونحوها من الحقوق ، والله العالم.

وعلى كل حال ف لا عبرة عندنا كما عن الخلاف بنقصان الخلقة بعمي أو إقعاد ونحوهما ولا بنقصان الحكم بجنون أو صغر مع الفقر والعجز لإطلاق الأدلة خلافا لبعض العامة فتجب حينئذ نفقة الصحيح الكامل في الأحكام إذا كان فقيرا غير مكتسب ، كما أنها لا تجب للأعمى ولا للمقعد وغير الكامل مع الغنى بالمال أو بالتكسب ، بل صرح بعضهم بعدم وجوبها للطفل مثلا إذا بلغ حدا يستطيع تحصيل نفقته بالتكسب بإذن الولي ، وإن كان فيه ما فيه بناء على ما سمعته منا ما لم يتلبس بذلك ، كما هو واضح.

وتجب النفقة بلا خلاف أجده فيه لمن عرفت من الأصول والفروع ولو كان فاسقا أو كافرا بلا خلاف أجده فيه ، بل عن جماعة الإجماع عليه ، لإطلاق الأدلة وخصوصا في الوالدين المأمور بمصاحبتهما بالمعروف مع كفرهما (١) لكن قد يناقش بمعارضة ذلك للنهي (٢) عن الموادة لمن نصب لله المحادة ولو من وجه ، فان مقتضاه التساقط والرجوع إلى الأصل المنافي للوجوب ، ويدفع بأنه لا ريب في ترجيح الأول بما سمعت من الإجماع المحكي المعتضد بفتوى الأصحاب مع إمكان منع كون ذلك موادة ، خصوصا بعد الأمر بالمصاحبة بالمعروف للوالدين الكافرين ، فهو حينئذ كالخاص بالنسبة إلى ذلك ، ويتم بالنسبة للأولاد ،

__________________

(١) سورة لقمان : ٣١ ـ الآية ١٥.

(٢) سورة المجادلة : ٥٨ ـ الآية ٢٢.

٣٧٢

لعدم القول بالفصل.

ولعله لذا قال في محكي المبسوط « كل سبب يجب به الإنفاق من زوجية ونسب وملك يمين فانا نوجبها مع اختلاف الدين كما نوجبها مع اتفاقه ، لأن وجوبها بالقرابة ، وتفارق الميراث ، لأنه يستحق بالقرابة في الموالاة واختلاف الدين يقطع الموالاة » وفي المسالك « أنه أغرب المحقق الشيخ فخر الدين حيث جعل المانع من الإرث كالرق والكفر والقتل مانعا من وجوب الإنفاق ، وربما نقل عنه أن ذلك إجماعي ».

قلت : لعل وجهه وجوب نفقة المملوك على المولى دون القريب ، وإسقاط التكليف عن المقتول بالقتل ، والنهي عن الموادة للكافر المنافية للإنفاق على القرابة الذي منشؤه المواساة وصلة الرحم ، وإن كان في الأخير ما سمعت. وما يقال ـ من أن ذلك في الرق لا يمنع النفقة على القريب ، بل أقصاه أولوية المالك منه باعتبار استيفائه لمنافعه ، وإلا تجب على القريب مع فرض إعسار المولى أو تقصيره على وجه لا يمكن جبره عليها أو على بيعه ـ يمكن منعه بعد تخصيص أدلة المقام بما دل على وجوبها على المالك ، وفرض إعساره أو تقصيره لا ينافي الإنفاق على العبد برقيته وإن لم يمكن جبره على البيع ، بل هو الموافق لقول المصنف وغيره وتسقط أي النفقة إذا كان مملوكا وتجب على المولى بلا خلاف أجده فيه ، بل في الرياض الإجماع على اشتراط الحرية الموافق للسقوط المفروض في المتن ، إذ المشروط عدم عند عدم شرطه ، وليس هو إلا معنى السقوط المذكور المراد منه عدم خطاب القريب بها أصلا ولو لتحكيم ما دل (١) على كونها على المولى على أدلة (٢) المقام بعد القطع بعدم وجوبها عليهما معا ، فان مقتضاه حينئذ السقوط لا الخطاب بها مرتبا على حسب ما سمعت ، وحينئذ فكلامه في الرق والقتل تام على معنى سقوط النفقة.

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١٣ ـ من أبواب النفقات والباب ـ ١٤ ـ من كتاب العتق.

(٢) الوسائل الباب ـ ١١ و ١٢ ـ من أبواب النفقات.

٣٧٣

أما الكفر فقد يقال بتمامه أيضا في غير محقون الدم كالمرتد عن فطرة والحربي ونحوهما ، فإن الإنفاق المنافي للحكم بإزهاق نفسه غير متجه ، وأما محقونه فظاهر الأصحاب والأدلة ما سمعت من وجوب الإنفاق ، ولكنه غير مناف لما ذكرناه من عدمه في غير المحقون ، لكون المراد أن المخالفة في الدين من حيث كونها مخالفة لا يقتضي سقوط النفقة كالإرث ، لا أن المراد الوجوب على كل كافر ، فتأمل جيدا ، والله العالم.

وكيف كان فلا خلاف ولا إشكال في أنه يشترط في وجوب النفقة على المنفق القدرة عليها بعد نفقته ونفقة زوجته التي قد عرفت تقدمها على نفقة القرابة فلو فرض أنه حصل له قدر كفايته خاصة اقتصر على نفسه المقدمة شرعا وعادة على غيرها فان فرض أنه فضل منه شي‌ء فلزوجته كما عرفته سابقا فان فرض أنه فضل منه شي‌ء فللأبوين والأولاد ولا ريب في تحقق القدرة بها على التكسب لنفقة نفسه التي يجب عليه دفع الضرر عنها ، ويحرم عليه إلقاؤها إلى التهلكة ، نعم في كشف اللثام « ويدخل في التكسب السؤال والاستيهاب إن لم يقدر على غيره ـ ثم قال ـ : ويمكن القول بوجوب التكسب بغيره إذا قدر عليه ، لما ورد (١) من التشديد على السؤال ، و « أن المؤمن لا يسأل بالكف» ‌قلت : الظاهر عدم حرمة مطلق السؤال الذي هو بمعنى الاستيهاب ، للأصل والسيرة وغيرهما ، وإنما يحرم منه ما به يحصل هتك العرض الذي يجب على الإنسان حفظه كالنفس والمال ، بل هو أعظم من الأخير منهما ، وإن كان قد يجب مقدمة لحفظ النفس مع فرض الانحصار فيه ، فاحتمال وجوب التكسب بغيره مع التمكن في غير محله.

وكذا يجب عليه التكسب لنفقة زوجته لوجوبها عليه معاوضة ، ولوجوب الإنفاق عليها اتفاقا ، مع أن الغالب في الناس التكسب ، والأصل في الواجب الإطلاق فما عن بعض العامة ـ من عدم وجوبه لها ، لأنها كالدين ـ واضح الضعف ، نعم‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٣١ و ٣٢ ـ من أبواب الصدقة من كتاب الزكاة.

٣٧٤

الظاهر عدم وجه عليه بالسؤال الهاتك للعرض مع فرض الانحصار فيه ، بل لا يبعد عدم وجوبه بالاستيهاب ، لما فيه من المشقة التي يسقط مثل هذا التكليف معها ، بل لعل قبول الهبة من ذلك فضلا عن الاستيهاب ، لما فيها من المنة.

وأما نفقة الأقارب ففي أصل وجوب التكسب لها إشكال من إطلاق الأمر بإعطاء الأجر (١) للرضاع ، وهو نفقة المولود ، وإطلاق أخبار الإنفاق (٢) وأن القادر على التكسب غني في الشرع ، وقد اتفقوا على وجوبها على الغني ، ونحو‌ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣) : « ملعون من ضيع من يعول به » وقول الصادق عليه‌السلام (٤) « إذا أعسر أحدكم فليضرب في الأرض ، يبتغي من فضل الله ولا يغم نفسه وأهله » ‌وهو المحكي عن التحرير والمبسوط ، ومن الاقتصار فيما خالف أصالة البراءة وغيرها على محل اليقين ، وهو الوجوب بشرط الغني وأن النفقة عليهم مواساة ولا مواساة على الفقير ، وقوله تعالى (٥) ( لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمّا آتاهُ اللهُ ) ولم يقل فليكتسب وإن كان قد يقال أنه لبيان قدر النفقة وكيفية الإنفاق لا الوجوب مع أنه إدخال القادر على الاكتساب في كل من ذي السعة وخلافه ، وعلى كل حال فالأقوى الأول ، وللعامة قول بالفرق بين الولد وغيره ، فيجب الاكتساب للولد لأنها من تتمة الاستمتاع بالزوجة ، ولأن الولد بعضه ، فكما يجب الاكتساب لنفسه فكذا لبعضه ، وضعفه واضح.

هذا وفي القواعد « أنه يباع عبده وعقاره فيه » أي الإنفاق على القريب ، ولعله‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٧١ ـ من أبواب أحكام الأولاد.

(٢) الوسائل الباب ـ ١١ و ١٢ ـ من أبواب النفقات.

(٣) الوسائل الباب ـ ٢١ ـ من أبواب النفقات الحديث ٥.

(٤) راجع الوسائل الباب ـ ٤ ـ من أبواب مقدمات التجارة الحديث ١٢ والمستدرك الباب ـ ١ ـ منها الحديث ٣ والباب ـ ٣ ـ منها الحديث ٢.

(٥) سورة الطلاق : ٦٥ ـ الآية ٧.

٣٧٥

لإطلاق الأدلة وعدم الاستثناء ، وفيه أنه يمكن أن يكون ذلك اتكالا على ما ذكروه من تقديم نفقة النفس التي منها داره وعبده ونحوهما مما استثنى في الدين ، نعم يتجه بيع ما لا يرجع إلى ذلك منها ، كما أنه يتجه استثناء نحو ذلك للمنفق عليه ، فلا يكفي في سقوط النفقة عمن هي علة وجود نحو ذلك عند من وجبت النفقة له ، ضرورة أنها من جملة النفقة التي يستنغي بها عن المنفق.

هذا ولا إشكال في أنه لا تقدير في النفقة كما لا خلاف أجده فيه هنا ، بل عن جماعة الإجماع عليه ، للأصل وإطلاق الأدلة بل الواجب قدر الكفاية من الإطعام والكسوة والمسكن وما يحتاج إليه من زيادة الكسوة في الشتاء للتدثر يقظة ونوما وغير ذلك مما يحتاج إليه مما جرت العادة بإنفاقه مع اعتبار اللائق بحاله في الجميع نحو ما سمعته سابقا في نفقة الزوجة وإن فرق بينهما بكون المدار هنا على الحاجة ، فلو فرض استغناؤه بضيافة ونحوها لم تجب له نفقة بخلاف الزوجة ، وبأنه هنا إمتاع بلا خلاف أجده فيه دونه في الزوجة التي قد عرفت اعتبار الملك في المأكول ونحوه من نفقتها ، وفي الملبوس ونحوه البحث السابق.

لكن قد يناقش بأن مقتضى صحيح شهاب (١) المتقدم الذي هو العمدة في اعتبار الملك هناك عدم الفرق بين الزوجة وغيرها في ملك الطعام منها ، لقوله عليه‌السلام : « وليقدر لكل إنسان منهم قوته ، إن شاء وهبه وإن شاء تصدق به » ‌ولا ينافي ذلك كون النفقة هنا للمواساة والرحم باعتبار سد الخلة الذي لا يتوقف على الملك ، بل ليس له المطالبة به مع فرض الاستغناء عنه ولو بضيافة ونحوها ، بخلافه في الزوجة التي لها ادخار نفقتها والمطالبة بها وإن كانت غير محتاجة إليها ، لكونها من قبيل المعاوضة ، ضرورة اقتضاء ذلك ونحوه عدم الملك عليه على وجه يكون كالدين له ، لا أنه لا يكون ملكا له بعد أن قبضه مستحقا لقبضه له باعتبار حاجته إليه ، فله حينئذ التقتير على نفسه وهبته والصدقة به.

بل قد يقال له ذلك لو فرض استغناؤه عنه بعد قبضه له ولو ببذل أحد له ما يقوم‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٢ ـ من أبواب النفقات الحديث.

٣٧٦

مقامه ، بل لو قلنا بعدم جواز التصرف له فيه بغير الأكل أمكن دعوى كونه ملكا له أيضا ، لكنه على الوجه المخصوص ، باعتبار كونه مدفوعا إليه بعنوان الإنفاق على نفسه ، والملك على وجه خاص غير عزيز في الشرع ، وقد تقدم نظيره في كتاب الزكاة التي تدفع للفقير على وجه خاص ، وربما يؤيد ذلك إن كان القطع بالاجتزاء عن تكليف النفقة بالدفع إليه كما جزم به في القواعد فقال : « ولو أعطاه النفقة فهلكت في يده لم يستحق ثانيا » بل لعل ذلك كذلك وإن قصر هو وأتلفه في غيرها ، ولا يجب على المنفق البذل جديدا ، ولو كان إمتاعا لكان المتجه ذلك ، وإن اشتغلت ذمته بمثله له أو قيمته يؤديه له عند اليسار ، نحو ما سمعته في نفقة الزوجة الامتاعية ، والتزامه كما هو ظاهر بعض وصريح آخر بعيد عن مذاق الفقه ، نعم قد يقال به ولو قلنا بكونه إمتاعا لقاعدة الاجتزاء.

وعلى كل حال فقد ظهر لك أنه إن لم يكن إجماعا أمكن القول بالملك في خصوص القوت ، بل وغيره مما يتوقف الانتفاع على إتلاف عينه بناء على أن ذلك هو المدرك في الملك لذلك.

ولا يجب إعفاف من تجب النفقة له ولدا كان أو والدا بتزويج أو إعطاء مهر أو تمليك أمة أو نحو ذلك مما يناسب حاله في الإعفاف ، بلا خلاف معتد به أجده فيه ، للأصل السالم عن معارضة إطلاق النفقة في الأدلة السابقة بعد القطع أو الظن بعدم إرادة ما يشمل ذلك من النفقة المزبورة المراد منها ما هو المتعارف في الإنفاق من سد العورة وستر العورة وما يتبعهما ، والمصاحبة بالمعروف المأمور بها في الوالدين (١) إنما يراد بها المتعارف من المعروف ، وليس هو إلا ما ذكرنا ، لا أقل من الشك في ذلك ، والأصل البراءة ، فما عن بعض العامة ـ وجوب إعفاف الأب مع الإعسار ونقصان الخلقة والأحكام أو مع الإعسار فقط لكونه من المصاحبة بالمعروف ، بل في المسالك حكايته عن بعض الأصحاب لذلك ، ولأنه من وجوه حاجاته المهمة فيجب على الابن القيام به ـ واضح الضعف ، ولو كان قادرا على التزويج مالكا للمهر لم يجب‌

__________________

(١) سورة لقمان : ٣١ ـ الآية ١٥.

٣٧٧

على القولين وإن وجبت نفقته بعد ذلك ، وفي المسالك « ويشترط حاجته إلى النكاح ويقبل قوله في الرغبة من غير يمين ، لكن لا يحل له طلبه حيث نقول بوجوبه إلا إذا صادفت شهوته وشق عليه الصبر » وفيه أنه يمكن دعوى عدم اعتبار ذلك بناء على أنه من النفقة التي يكفي فيها تعارف ذلك بالنسبة إليه كغيره من أفراد الإنفاق ، ولا مدخلية للشهوة ونحوها فيه ، بل قد يقال : إن محل البحث بين الأصحاب وجوبه من حيث كونه إعفافا باعتبار أنه من النفقة عرفا ، أما مع فرض الاحتياج إليه لشدة شق أو أذية في مزاج أو نحو ذلك فهو خارج عن البحث وإن كان مندرجا حينئذ في البحث عما يتفق الاحتياج إليه من دواء ونحوه مما لم يكن من النفقة المعتادة ، وفيه وجهان تقدما في الزوجة المأمور بمعاشرتها بالمعروف (١) أيضا كالمصاحبة للوالدين ، وإن كان قد صرح بعضهم هناك بعدم وجوب الدواء وأجرة الفصد ونحو ذلك لها ، إلا أنه تقدم لك أيضا الكلام في ذلك ، فراجع وتأمل ، فإن كثيرا من أحكام النفقة هنا يمكن استنباطه من حكم النفقة هناك ، ضرورة أولوية تلك منها ، ولذا تقدم عليها عند التعارض وتكون دينا كما عرفت.

وكيف كان فقد عرفت أنه يجب على الولد أن ينفق على أبيه مع الشرط في المنفق والمنفق عليه ، وفي بعض نسخ المتن « وعلى زوجة أبيه على تردد » ولم أجده لأحد من أصحابنا ، بل في كشف اللثام حكايته للعامة وجها ، وفي آخر وجوبه لزوجة كل قريب ، وفي ثالث لزوجة الابن أيضا ، لكن في المسالك « ونفقة الزوجة تابعة للاعفاف ، فان وجب وجبت وإلا استحبت ، وكذا القول في نفقة زوجة الأب التي يتزوجها بغير واسطة الابن وأوجب الشيخ في المبسوط نفقة زوجته وإن لم يجب إعفافه ، لأنها من جملة مؤنته وضرورته ، كنفقة خادمه الذي يحتاج إليه ».

قلت : قد يقال : إن محل البحث في وجوبها للزوجة من حيث وجوبها على الأب والتحقيق حينئذ عدم وجوبها عليه ، ضرورة اختصاص الأدلة في وجوب نفقته لا أداء ما عليه من كفارة أو قضاء دين أو أرش جناية أو حق زوجة أو نحوه مما يمكن‌

__________________

(١) سورة النساء : ٤ ـ الآية ١٩.

٣٧٨

أن يكون دينا عليه للميسرة ، ودعوى اندراج نفقتها في نفقته الواجبة على المنفق واضح المنع ، لا أقل من الشك ، والأصل البراءة ، وقياسها على نفقة الخادم والدابة التي هي من تتمة نفقة الإخدام والمركب الواجب عليه نحو ما سمعته في الزوجة محرم عندنا ، ولو فرض حاجته إلى الزوجة التي لا بد من بذل نفقة لها وكانت عنده أو قلنا بوجوب ذلك على المنفق أمكن أن يقال : إنها واجبة من هذه الجهة ، لا أنها واجبة من حيث كونها نفقة زوجة على وجه يجرى فيها البحث السابق في ملك ما يملك منها وامتناع غيره والقضاء ونحو ذلك ، فتأمل جيدا. ومما ذكرنا ظهر لك وجه التردد في كلام المصنف.

كما أنه ظهر لك الوجه أيضا في إعفاف الولد والنفقة على زوجته وإن كان الذي في بعض نسخ المتن « النفقة على زوجة الأب ».

وعلى كل حال فالنفقة على الأب دون أولاده الصغار وإن وجبت نفقتهم على الأب لو كان موسرا لأنهم إخوة المنفق الذي قد عرفت عدم وجوب نفقة حواشي النسب عليه ولكن ينفق على ولده وأولاده لأنهم أولاد حقيقة أو في خصوص الإنفاق ، لما سمعته من الأدلة السابقة.

ولا تقضى نفقة الأقارب بلا خلاف أجده فيه ، بل ظاهر بعضهم الإجماع عليه لأنها مواساة لسد الخلة الذي لا يمكن تداركه بعد فواته وإن كان عن تقصير وحينئذ ف لا تستقر في الذمة بمضي يوم مثلا ولو قدرها الحاكم خلافا لبعض العامة.

نعم لو أمره أي الحاكم المنفق عليه بالاستدانة عليه أي المنفق لغيبته أو لمدافعته أو نحو ذلك فاستدان وجب عليه القضاء تنزيلا لأمر الحاكم منزلة أمره ، لكونه وليا بالنسبة إلى ذلك ، فلو استدان حينئذ من غير إذن الحاكم مع إمكانه لم يجب عليه لما عرفت ، ولو فرض تعذر الحاكم قام مقامه عدول المسلمين ، ومع تعذرهم أمكن الاجتزاء حينئذ بنيته ، بل في كشف اللثام‌

٣٧٩

« تتجه الاستدانة عليه مع التعذر دفعا للحرج ، وللعامة قول بوجوب الاشهاد على استدانته إن تعذر الحاكم ».

قلت : قد يشكل ذلك بعدم ثبوت ولاية لغير الحاكم أو عدول المسلمين على وجه يمضي عليه مثل ذلك ، نعم قد يشكل أصل عدم وجوب القضاء بأن الأصل القضاء في كل حق مالي لا دمي ، ودعوى كون الحق هنا خصوص السد الذي لا يمكن تداركه واضحة المنع بعد إطلاق الأدلة المزبورة ، وحرمة العلة المستنبطة عندنا ، على أنه لو سلم فهو مخصوص بما إذا كان الفائت السد لضيافة أو تقتير أو نحوهما ، أما إذا كان قد فات بقرض ونحوه فان تداركه ممكن بدفع عوض ما حصل بالسد فالعمدة حينئذ الإجماع وهو مع فرض تماميته في غير المفروض ، فتأمل.

وكيف كان ف تشتمل اللواحق للبحث في القول المزبور على مسائل :

( الأولى )

في ترتيب المنفقين : تجب نفقة الولد ذكرا كان أو غيره على أبيه بلا خلاف ولا إشكال وإن كان معه أم موسرة ، لقوله تعالى (١) ( فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ ) وأصالة الأب المستفادة من قوله تعالى (٢) ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ) وترك الاستفصال في حديث هند زوجة أبي سفيان (٣) وللإجماع على عدم وجوب الإرضاع على الأم ، ولظاهر النصوص (٤) المزبورة التي لا يتعدى فيها إلى الأم ، بل مطلق الأنثى إلا بقاعدة الاشتراك المفقود هنا بالإجماع‌

__________________

(١) سورة الطلاق : ٦٥ ـ الآية ٦.

(٢) سورة الأعراف : ٧ ـ الآية ١٧٢.

(٣) سنن البيهقي ج ٧ ص ٤٧٧.

(٤) الوسائل الباب ـ ١١ ـ من أبواب النفقات.

٣٨٠