جواهر الكلام - ج ٣١

الشيخ محمّد حسن النّجفي

( وأما اللواحق )

( فمسائل : )

( الأولى : )

لو قالت : أنا أخدم نفسي ولي نفقة الخادم لم يجب إجابتها لما عرفت من كون التخيير في طرف الخدمة إليه ، بل في كشف اللثام « أن عليه الإخدام إن كانت من أهله وإن تواضعت ، كما أن عليه الإنفاق عليها بما هي أهله ، وإن رضيت بالتقتير » ونحوه في المسالك قال فيها : « لأن ذلك يسقط مرتبتها ، وله أن لا يرضى بها ، لأنها تصير مبتذلة ، وله في رفعتها حق وغرض صحيح وإن رضيت بإسقاط حقها » وفيه أنه لا وجه للوجوب مع الرضا على وجه الاسقاط للحق ، نعم ليس لها النفقة إن لم تقبل الخادم ، لأن الخدمة للنزاهة والدعة فإذا لم تخترها لم يكن لها عوض عنها.

كما أنها لو بادرت بالخدمة من غير إذن لم يكن لها المطالبة بالأجرة ولا نفقة الخادم وإن ادعت أنها ما تبرعت بمقتضى إطلاق المصنف وغيره ، وإن كان قد يشكل أصل الحكم بعدم الفرق بين الإخدام والكسوة والإطعام في الرجوع بالعوض مع عدم ظهور إسقاط منها بالاعراض عما بذله لها من ذلك مثلا ، إذ الظاهر أنه لا يتوقف استحقاقها النفقة على المطالبة ، فما في المسالك ـ من تعليل هذا الحكم بكونها متبرعة فلا أجرة لها ولا نفقة زائدة بسبب الخدمة ـ يلزمه مثل ذلك في الإطعام والكسوة ، ولعله لا يلتزمه ، ضرورة إطلاق الأدلة في استحقاقها ذلك عليه على وجه إن لم يدفعه إليها يكون دينا عليه إلا إذا أسقطت حقها منه كما هو واضح ، والله العالم.

٣٤١

( المسألة الثانية )

لا خلاف في أن الزوجة تملك المطالبة ب نفقة يومها في صبيحته مع التمكين وأنه إذا قبضتها كانت ملكا لها ، لقوله عليه‌السلام في‌ صحيح شهاب (١) المتقدم « وليقدر لكل إنسان منهم قوته ، فان شاء أكله وإن شاء وهبه وإن شاء تصدق به » ‌وظاهرهم بل هو صريح المسالك أن ذلك كذلك في كل ما يتوقف الانتفاع به من النفقة على إتلاف عينه من مأكل ومشرب ودهن وطين وصابون ونحو ذلك وإن كان هو لا يقتضي اعتبار الملكية فيه ، ضرورة إمكان الاكتفاء بالبذل والإباحة المطلقة ، بل يمكن أن تجامع حتى ما في الصحيح المزبور من التسلط على بيعه وهبته فإنه من الإباحة ما يكون كذلك ، ومن هنا اعترف في كشف اللثام بإمكان القول بعدم اعتبار الملك فيه وأن الواجب إنما هو البذل والإباحة.

قلت : بل لعله متعين بناء على اعتبار التمكين على وجه الجزئية في سبب ملكها ، إذ لا وجه حينئذ لتقدم المسبب على السبب والمعلول على العلة ، نعم قد يتوجه بناء على شرطيته بمعنى أنه يكون شرطا كاشفا أو شرطا للاستقرار فحينئذ لو قبضتها من الصبح يبقى الملك فيها مراعى حتى ينقضي ذلك اليوم متمكنة ، فينكشف استقراره بأول القبض حينئذ أو يستقر حينئذ ، وعبارة المتن محتملة للوجوه الثلاثة وإن كانت لا تخلو من إشعار بالأخير بقرينة ما بعد.

لكن فيه أن ذلك يتم لو كان في الأدلة ما يقتضي سببية قبضها للملك كي يجمع بينهما حينئذ بما عرفت ، كما هو الشأن في الشرائط الكاشفة وليس ، إذ أقصى ما ذكروه في وجه ذلك أنه لما كان المقصود من النفقة القيام بحاجتها وسد خلتها لكونها محبوسة لأجله وجب أن يدفع إليها يوما فيوما ، إذ لا وثوق باجتماع الشرائط في باقي الزمان ، والحاجة تندفع بهذا المقدار ، فيجب دفعها في صبيحة كل‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٢ ـ من أبواب النفقات الحديث ١.

٣٤٢

يوم إذا طلع الفجر ، ولا يلزمها الصبر إلى الليل ليستقر الوجوب ، لأنها ربما تجوع فتتضرر بالتأخير ، وربما زاد الضرر إذا افتقرت إلى خبز أو طبخ أو إصلاح ، إذ الواجب عليه دفع الحب مئونة إصلاحه ، وكذا الإدام من اللحم ونحوه ، لا عين المأكول.

بل في قواعد الفاضل التصريح بعدم وجوب تسليم الدقيق في الخبز أو القيمة إلا مع التراضي منهما ، وفي كشف اللثام « أما القيمة فالأمر فيها ظاهر ، فان الواجب انما هو الطعام ، وأما الدقيق والخبز فظاهر أنه لا يجبر الزوج عليهما إذا دفع الحب مع مئونة الطحن والخبز والطبخ ، وأما الزوجة فالظاهر أنها تجبر على القبول ، كما يعطيه كلام الإرشاد ، ويحتمل العدم ، كما هو قضية الكلام هنا ، لأنهما لا يصلحان لجميع ما يصلح له الحب » وإن كان لا يخفى عليك ما في جميع ذلك بعد الإحاطة بما في نصوص (١) المقام من الاقتصار فيها على أن حقها سد جوعتها ونحو ذلك مما هو أظهر فيما لا يحتاج بعد ذلك إلى عمل كالخبز والطبيخ والتمر وما أشبه ذلك مما لا يتوقف إلا على تناول المرأة.

بل جزم المحدث البحراني بكون الواجب على الزوج ذلك ، فلا تجبر المرأة حينئذ على قبول الحب ومئونته ، بل يجبر الزوج على ما لا يحتاج إلى مئونة غير التناول ، وإن كان قد يناقش بمخالفته المعتاد في الإنفاق المحمول إطلاقه عليه ، كإطلاق سد الجوعة ، لا أقل من أن يكون الزوج مخيرا بين الأمرين إن لم يكن غضاضة على الزوجة في فعل المطبوخ عليها على وجه ينافي عادة أمثالها.

وعلى كل حال فليس في شي‌ء من ذلك ما يقتضي اعتبار الملكية ، فضلا عن كون القبض سببا فيها ، ولو سلم لكان المتجه ذلك أيضا في قبض نفقة الأيام المتعددة ، ولا أظن القائل يلتزم به ، ضرورة عدم الفرق في كيفية اشتراط التمكين بين اليوم الحاضرة وغيره ، اللهم إلا أن يقال بالفرق بينهما بحضور هذا اليوم الذي هو بمنزلة‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١ ـ من أبواب النفقات.

٣٤٣

تحقق السبب فيه ، ولذا قدم قوته على الغرماء في المفلس بخلاف ما عداه ، بل لعل الأمر بالإنفاق منزل على ذلك ، ضرورة عدم كونه نفقة له بعد انقضائه ، بل هو وفاء دين ، فليس نفقته إلا استقباله بما تقع الحاجة فيه إلى صبيحة اليوم الأخر ، لكنه كما ترى أيضا ، فليس حينئذ إلا الإجماع على ذلك وما في صحيح الشهاب (١) السابق ، فيكون حينئذ هما الدليل على وجوبها وملكها قبل حصول التمكين ، نحو تقديم غسل الجمعة يوم الخميس ، وتقديم الفطرة قبل الهلال ، وإلا لأمكن القول بأن المقدم ما يساوى استحقاقها المؤخر حينئذ ، فبعد حصول شرطه أو تمام سببه يقع التهاتر قهرا ، ومع عدمه يرجع عليها بما دفع إليها.

وكيف كان فلو منعها وانقضى اليوم ممكنة استقرت نفقة ذلك اليوم في ذمته إن لم تكن قد قضت ، وملكها لها إن كانت قد قبضت وكذا الكلام في نفقة الأيام الأخر وإن لم يقدرها الحاكم ولم يحكم بها بلا خلاف فيه بيننا ولا إشكال ، ضرورة ثبوت الحق لها وإن سكتت ولم تطالب ولا وقع التقدير خلافا لمن اعتبر التقدير من العامة.

إنما الكلام فيما لو ماتت في أثناء النهار أو طلقها أو نشزت ، وفي موضع من القواعد الجزم بعدم استردادها في الأولين ، لأنها ملكتها ، والاسترداد في الأخير على إشكال من تقديم القبض الموجب للملك قبل النشوز ، ومن أن الملك مشروط بالتمكين ، فبالقبض إنما ملكته ملكا مراعي.

وفي كشف اللثام هذا مع بقاء العين ، إذ مع الإتلاف لا دليل فيه على وجوب العوض مع إباحة المالك والاذن شرعا في الإتلاف ، ولا يخفى عليك أن الوجه الأخير من الاشكال آت أيضا في الأولين ، كما لا يخفى عدم الفرق بين الإتلاف وعدمه بعد أن كان الدفع بعنوان النفقة التي بان عدمها بفوات التمكين.

هذا ولكن قال في موضع آخر من القواعد في مسألة ما لو دفع لها نفقة لمدة وانقضت تلك المدة ممكنة فقد ملكت النفقة قولا واحدا وكذا‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٢ ـ من أبواب النفقات الحديث ١.

٣٤٤

لو استفضلت منها شيئا بالتقتير عليها أو بأن أنفقت على نفسها من غيرها كانت ملكا لها بلا خلاف فيه بينهم ، لما عرفته فيما تقدم ما لفظه « فان طلقها في الأثناء استعاد نفقة الباقي إلا يوم الطلاق ، ولو نشزت أو ماتت أو مات هو استرد الباقي » أي من النفقة لذلك اليوم ولغيره ، وهو مناف لما سمعته منه سابقا ، بل قد يشكل الفرق بين يوم الطلاق وغيره بعد اشتراط التمكين وإن قيل : إنها في صورة الطلاق مسلمة للعوض الذي هو التمكين ، وإنما رده الزوج بالطلاق بخلاف غيره من الصور التي لا تسليم فيها ، لكنه كما ترى ، ضرورة صدق عدم حصوله بفوات الزوجية بسبب الطلاق المأذون فيه شرعا ، والمشروط عدم عند عدم شرطه ، كدعوى الفرق بين يوم الطلاق وغيره من الأيام ، وبأنها ملكت النفقة ملكا مستقرا في صبيحته ببذل التمكين أوله بخلاف غيره الذي لا ملك لها فيه أصلا ، إذ هي إنما تملك متجددا بتجدد كل يوم ، وذلك لما عرفت من عدم الفرق بين الأيام في كيفية اشتراط التمكين ، فهي وإن ملكت المدفوع إليها في يومه لكنه مراعي بالتمكين الذي هو كالمعوض ، فان سلم فذاك وإلا استرد بإزائه ، نحو المؤجر الذي يملك تمام الأجرة ملكا مراعي بسلامة العوض للمستأجر بل اللازم على تقدير الاكتفاء ببذل التمكين أول اليوم الاستقرار في ذمته لها إن لم يدفع لو طلقها في أثناء اليوم ، والظاهر أنهم لا يلتزمون به ، ولعله لذلك كله اعترف في كشف اللثام بأن الفرق مشكل بعد أن حكاه عن قطع الشيخ وغيره ، قال : « ولذا احتمل بعض العامة استرداد نفقة يوم الطلاق ».

قلت : وهو المتجه بناء على ما قدمنا ، بل ربما احتمل استرداد جميع نفقة اليوم والليلة بفوات التمكين ولو في الجزء الأخير منها ، لكونه في تمام اليوم والليلة ، ولعله ظاهر بعض العبارات ، وإن كان الذي يقوى في النظر التوزيع ، نحو توزيع الأعواض على المعوضات ، وهذا متجه في نفقة اليوم والليلة الحاضرين ، أما ما زاد عليهما فلا إشكال ولا خلاف في استردادها بالموت والطلاق والنشوز وغير ذلك ، قال‌

٣٤٥

زرارة (١) « سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن رجل سافر وترك عند امرأته نفقة ستة أشهر أو نحوا من ذلك ثم مات بعد شهر أو اثنين ، فقال : ترد ما فضل عندها في الميراث ».

وكذا لا خلاف ولا إشكال في أنه لو دفع إليها كسوة لمدة جرت العادة ببقائها إليها صح ذلك نفقة ، ضرورة كونه المعتاد في مثلها ، لعدم كونها كالطعام الذي يمكن توزيعه يوما فيوما ، إنما الكلام في أن ذلك ملك لها أو إمتاع وكذا الكلام في غير ذلك من أعيان النفقة التي لا يتوقف الانتفاع بها على إتلافها وإن كان الاستعمال يتلفها لكن بعد مدة نحو فراش النوم واليقظة وآلات التنظيف من المشط ونحوه ، وحينئذ تكون النفقة أقساما ثلاثة : ( أحدها ) ملك بلا خلاف وهو طعام اليوم والليلة ونحوها مما يتوقف انتفاعه على إتلافه ، كالصابون ونحوه. و ( الثاني ) إمتاع بلا خلاف ، كالمسكن والخادم ونحوهما مما علم من الأدلة عدم اعتبار الملك في إنفاقهن. و ( الثالث ) محل البحث ، وهو الكسوة وما شابهها.

ففي القواعد ومحكي المبسوط وغيره أنها ملك ، ولعله الظاهر مما تسمعه من المصنف وفي الإرشاد وكشف اللثام وغيرهما أنها إمتاع ، ومال إليه في فوائد الشرائع ، بل في الرياض أنه أشهر وأجود ، ولعله كذلك خصوصا بعد ما عرفت في الإطعام ، مع أن الأصل يقتضي ذلك أيضا ، ضرورة عدم ما يدل على اعتبار الملك في صدق الإنفاق المأمور به شرعا ، والفرض عدم قصد الباذل له ، فلا سبب للملك شرعا ولا قصدا.

ودعوى أن بذل شخصي الكسوة عن كليها الثابت في الذمة بالتمكين أو بالزوجية موجب لذلك نحو المدفوع وفاء للدين واضحة المنع ، ضرورة أعمية خطاب الإنفاق من اقتضاء ملك مال في الذمة على الزوج كي يكون شخص المدفوع وفاء عنه بل هو ليس إلا خطابا شرعيا نحو الخطاب بالنفقة للأرحام والمماليك ونحوها مما لا يقتضي ملكيته.

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٩٩ ـ من كتاب الوصايا.

٣٤٦

كما أن الآية الكريمة (١) ( وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ ) لا تقتضي ذلك أيضا وإن عطف فيه الكسوة على الرزق المعتبر فيه الملكية على ما عرفت ، لكن العطف إنما يقتضي المشاركة في الحكم المثبت للمعطوف عليه في العبارة لا الأحكام الخارجة الثابتة له بغيرها من الأدلة ، نعم الحكم الثابت للمعطوف عليه وجوب ذلك ، فالعطف يقتضي مشاركته له في ذلك ، وهو أعم من الملكية والإمتاع ، وتعين الأول في الأول من خارج لا يستلزم تعين إرادته في الآية.

وأما‌ النبوي (٢) « لهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف » ‌فمع ضعف سنده وعدم وجوده في كتبنا المعتبرة قد يمنع إرادة الملكية من اللام هنا ، خصوصا على القول باشتراكها بين معان المقتضي توقف إرادة واحد بخصوصه منها على قرينة هي في المقام مفقودة ، ومجرد ثبوت الملكية في الرزق غير ملازم لثبوتها في الكسوة إلا على تقدير قيام الدلالة على إرادتها بالنسبة إليه من اللام المذكور في الرواية ، وهو محل مناقشة ، إذ ليس إلا الإجماع الذي حكاه جماعة ، ولا يستفاد منه سوى ثبوت الملكية له في الجملة المجامع لثبوتها له من غير الرواية ، وأما هي فلا يستفاد منها سوى الاستحقاق الذي هو أعم من ذلك ، نحو قوله تعالى (٣) ( وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ ) وكالمفهوم من‌ قوله عليه‌السلام (٤) « إذا خرجت من بيتها بغير إذنه فلا نفقة لها » ‌خصوصا بعد استفاضة التعبير في النصوص (٥) بكون ذلك من حقوق الزوجة على الزوج ، فلا ريب حينئذ في بقائها على ملكية الزوج إلا مع التصريح بإنشاء التمليك لها ، فيكون حينئذ خارجا عن محل النزاع الذي هو أن دفع الكسوة من حيث خطاب النفقة يقتضي الملك شرعا وإن لم يقصده الدافع في دفعه ، بل ولا القابض في قبضه ، اللهم إلا أن يقال : إنه يجب على الزوج في إنفاقه أن يملك الزوجة الكسوة على وجه إن لم يملكها‌

__________________

(١) و (٣) سورة البقرة : ٢ ـ الآية ٢٣٣ ـ ٢٢٨

(٢) سنن البيهقي ج ٧ ص ٣٠٤.

(٤) الوسائل الباب ـ ٦ ـ من أبواب النفقات الحديث ١. نقل بالمعنى.

(٥) الوسائل الباب ـ ١ ـ من أبواب النفقات.

٣٤٧

لم يكن منفقا ، فيكون ذلك شرطا في إنفاق الكسوة شرعا ، وإن كان هو كما ترى مناف للسيرة المستمرة مع عدم دليل يقتضي ذلك ، والله العالم.

وعلى كل حال فقد ذكروا أنه تظهر فائدة الخلاف في أمور :

( منها ) أنه لو أخلقتها أى الكسوة المدفوعة إليها للمدة التي جرت العادة ببقائها إليها قبل المدة لم يجب عليه بدلها على الملك ويجب على الإمتاع ، وفيه أن المتجه الإبدال عليهما مع فرض عدم التقصير في ذلك ، وكون العادة تقتضي بقاؤها إلى المدة لا يستلزم انحصار خطاب النفقة فيها وإلا لكان المتجه عدم الإبدال على التقديرين ، نعم قد يقال : على فرض التقصير لا يجب الإبدال على الملك بخلافه على الإمتاع وإن ضمنت حينئذ له ما أتلفته بتقصيرها ، مع إمكان القول بأنه لا إبدال عليه أيضا ، لقاعدة الاجزاء واحتساب ما قبضته نفقة عليها للمدة ، فهي كما لو قبضت تمام نفقتها ثم أتلفتها ، ومن هنا قال في المسالك : « ولو أتلفتها بنفسها فلا إبدال على القولين ، لأنه على الإمتاع يلزمها ضمانها ، فكأنها لم تتلف ـ إلى أن قال ـ ولو تخلقت قبل مجي‌ء الوقت لكثرة تحاملها عليها زيادة على المعتاد أو قصرت في حفظها ونشرها حيث يفتقر إليه فهو كما لو أتلفتها » فتأمل جيدا.

و ( منها ) أنه لو انقضت المدة والكسوة باقية طالبته بكسوة ما يستقبل على الأول دون الثاني ، لبقائها على ملكه ، وفرض صلاحيتها لاكتسائها ، وفيه أيضا أن ذلك إن كان لاتفاق حسن الكسوة وعدم عروض ما اقتضى خلقها أمكن منع وجوب الإبدال على الأول أيضا ، ضرورة أن ملكها لها على جهة الإنفاق لا مطلقا ، ولا تقدير للمدة شرعا وإنما هو يزعم بقاء الكسوة إليها ، فمع فرض اتفاق بقائها إليها لا دليل على خطابه بالإنفاق ، نعم لو استفضلت ذلك بلبس ثياب منها أو بتحمل العرى أو نحو ذلك أمكن حينئذ القول بأن لها المطالبة على الملك ، لنحو ما سمعته في استفضال الطعام.

و ( منها ) كما في المسالك وكشف اللثام أنه إذا لم يكسها مدة صارت الكسوة دينا عليه على الأول دون الثاني الذي معناه تمكينها من الانتفاع الذي لا يتصور ضمانه‌

٣٤٨

بعد انقضاء مدته ، إذ ليس هو منفعة لها ولا عين ، وفيه أنه يكفى في ضمانه كونه حقا ماليا لها ، ولعل ذلك هو مقتضى اللام الذي سمعته في الآية (١) والرواية (٢) وإن لم نقل بكون الكسوة ملكا لها ، ولعله لذا احتمله في المسالك ، بل هو المتجه.

و ( منها ) كما في كشف اللثام أنه لا يصح الاعتياض عنها على الإمتاع ، ويصح على التمليك ، وفيه أنه مبني على السابق من كون الإمتاع بشي‌ء يرجع إلى الممتع نفسه ، فلا يقضى من فواته ولا ينقل عينه ، ولذا لا يصح الاعتياض عنه ، لكن فيه ما عرفت من أنه حق مالي يكون كالدين يقضى مع فواته ويصح الاعتياض عنه ولو لإرادة إسقاطه عمن عليه ، ولعله لذا وجد مضروبا عليه في نسخة الأصل ، والله العالم و ( منها ) أن له أخذ المدفوع إليها وإعطاؤها غيره على الإمتاع دون التمليك إلا برضاها ، وفيه أنه يمكن القول بذلك أيضا عليه باعتبار تزلزل ملكها وعدم انحصاره فيما قبضته ، بل هو مخير في ذلك ابتداء واستدامة إلا أنه كما ترى.

و ( منها ) أنه لا يصح لها بيع المأخوذ ولا التصرف فيه بغير اللبس من إجارة أو إعارة ونحوهما على الإمتاع بخلاف الملك ما لم يناف غرض الزوج من التزين والتجمل ونحوهما ، مثل نفقة الطعام التي يؤدي تصرفها بغير الأكل إلى الضعف وما لا يليق بالزوج من الأحوال ، وفيه أنه قد يمنع تصرفها فيه على الملك بناء على أنه ملك مراعي ببقائها ممكنة إلى تمام المدة ، فإنه حينئذ يكون نحو ملك الفضولي المال الذي لا يجوز له المبادرة إلى التصرف في عينه قبل معرفة الحال ، إلى غير ذلك مما هو مذكور في كتب الأصحاب.

وعلى كل حال ف لو سلم إليها نفقة طعام لمدة ثم طلقها قبل انقضائها استعاد نفقة الزمان المتخلف الذي لم تكن قد ملكته بالقبض ، لما‌

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ ـ الآية ٢٢٨.

(٢) الوسائل الباب ـ ٦ ـ من أبواب النفقات الحديث ١.

٣٤٩

عرفته من أنها لا تملك عندهم إلا بتجدد كل يوم ، بل لو قلنا بملكها به فإنما هو في مقابلة التمكين ، فإذا لم يسلم له بعض العوض استرد ما بإزائه ، فملكها حينئذ مراعي بسلامة العوض ، كما أن المؤجر يملك تمام الأجرة ملكا مراعي بسلامة العوض للمستأجر ، نعم في القواعد وغيرها إلا نصيب يوم الطلاق فلا يستعاد منها ، قيل : لأنها تملكه في صبيحته ملكا مستقرا ببذل التمكين أوله ، بل هو المحكي عن قطع الشيخ وغيره في الحكمين ، لكن قد نقدم لك سابقا ما فيه ، وأن المتجه استعادته أيضا كما لو نشزت أو مات هو أو هي ، واحتمال الفرق بأنها في صورة الطلاق مسلمة للعوض الذي هو التمكين وإنما رده الزوج بالطلاق بخلاف النشوز والموت كما ترى ، بل قد عرفت فيما تقدم عدم الفرق فيما حكم باستعادته بين بقاء عينه وعدمه ، لكونه من المضمون عليها بعد أن كان مدفوعا على وجه خاص ، وإن تقدم في كشف اللثام الفرق بينهما ، هذا كله في نفقة الطعام.

وأما الكسوة فله استعادتها ما لم تنقض المدة المضروبة لها بل وإن انقضت بناء على الإمتاع ، بل وعلى التمليك في وجه قد تقدم سابقا ، نعم لو لم تكن قد لبستها وقد انقضت المدة اتجه حينئذ استقرار ملكها بناء على التمليك نحو الطعام المستفضل ، وفي القواعد في فروع الإمتاع والتمليك « لو طلقها قبل انقضاء شي‌ء من المدة المضروبة للكسوة كان له استعادتها ، ولا يكون له استعادتها إن طلقها بعدها » أي على التمليك دون الإمتاع ثم قال : « ولو انقضت نصف المدة سواء لبستها أولا ثم طلقها احتمل على التمليك التشريك واختصاصها به ، وكذا لو ماتت » ولعل وجه الاختصاص أنها ملكتها بالقبض واستحقتها بالتمكين الكامل ، فيكون كنفقة اليوم إذا طلقها في الأثناء ، ولكن فيه ما عرفت ، فالمتجه حينئذ انفساخ ملكها عنها مع فرض لبسها له ، أما مع عدمه كما لو أبقتها لإرادة الاستفضال كان المتجه التشريك بينهما ، هذا كله على التمليك دون الإمتاع فإن المتجه عليه استعادتها مطلقا ، فتأمل جيدا.

٣٥٠

المسألة ( الثالثة )

إذا دخل بها واستمرت تأكل معه وتشرب على العادة لم يكن لها مطالبته بمدة مؤاكلته لصدق الإنفاق عليها ، وحصول الملك لها فيما تتناوله ، وللسيرة المستمرة على ذلك ، نعم لها الامتناع من المؤاكلة ابتداء بمعنى أن لها طلب كون نفقتها بيدها تفعل بها ما تشاء من أكل أو غيره ، لا أن المراد امتناعها عن خصوص هذا الفرد من الإنفاق وطلب كون طعامها حبا مثلا أو نحو ذلك ، ضرورة عدم دليل معتد به على وجوب دفع فرد خاص من النفقة ، بل ظاهر الأدلة تخيير الزوج بين جميع أفراد النفقة المناسبة لعادة أمثالها وإن كان هي تملك الفرد المدفوع إليها منها.

نعم في المسالك « هذا إذا كانت المرأة بالغة رشيدة أو كانت تأكل معه بإذن الولي ، أما لو كانت مولى عليها ولم يأذن الولي فالزوج متطوع به ، ولا يسقط نفقتها ، لتوقفها على قبضه أو إذنه ».

وفيه أولا أنه إن كان القبض له مدخلية في كون الشي‌ء نفقة وفي الملك لم يجد إذن الولي ضرورة سلب أفعال المجنون مثلا وأقواله عن القابلية ، فلا بد حينئذ من قبضه أو وكيله في حصول الملك ، وإن كان لا مدخلية له في ذلك ـ باعتبار أن الزوج هو المخاطب بالإنفاق ، وإن كان من ينفق عليه يملك ما يكون في يده منه ، لكنه تمليك شرعي لا مدخلية فيه للقبض ونحوه من الأسباب التي يعتبر فيها العقل ـ فلا يحتاج إلى استئذانه في ذلك ، ويسقط عنه خطاب النفقة بالمؤاكلة المزبورة ، ولعل السيرة والطريقة على ذلك ، وعلى عدم اعتبار قصد الزوج التمليك فيما يدفعه من الطعام إلى زوجته وعدم قصدها التملك له وإن كان هو ملك لها شرعا.

ومن ذلك ينقدح أن الزوجة إذا كانت أمة كان له النفقة عليها بالمؤاكلة‌

٣٥١

ونحوها وإن ملك السيد حينئذ ما يكون في يدها من ذلك ، وليس هذا تمليكا للعبد ، بل هو مقتضى إطلاق دليل الإنفاق ، فتأمل جيدا.

وكيف كان ف لو تزوجها ولم يدخل بها وانقضت مدة لم تطالبه بنفقة لم تجب النفقة على القول بأن التمكين موجب للنفقة أو شرط فيها ، إذ لا وثوق بحصول التمكين لو طلبه والمشروط عدم عند عدم شرطه ، كما أن المسبب لا يحصل بدون سببه ، نعم تجب عليه النفقة بناء على أن سببها العقد والفرض حصوله ، وأن النشوز مانع والفرض عدمه.

هذا ولكن في المسالك وغيرها توجيه نحو ما في المتن من عدم التمكين بأن المراد منه على ما فسره به غيره أن تقول باللفظ : « سلمت نفسي إليك في أي وقت شئت وأى مكان شئت » ونحو ذلك ، ولا يكفى السكوت وإن وثق ببذلها التمكين على تقدير طلبه منها ، قال : « وتعليل المصنف بعدم الوثوق بحصول التمكين يريد ذلك ، لكن العبارة عنه غير جيدة ، بل الأولى التعليل بعدم التمكين كما ذكرناه ، سواء حصل الوثوق أولا ، وقد أجاد الشيخ في المبسوط ، حيث علل عدم الوجوب بقوله : لأن النفقة لا تجب إلا بوجود التمكين لا بإمكانه ، وفي القواعد جمع بين العلتين ، وكان يستغنى بإحداهما ، وهو عدم التمكين وإن تكلف متكلف للجمع بينهما فائدة ما » وتبعه على ذلك بعض الأفاضل فاعتبر في التمكين التصريح باللفظ مع عدم صدور ما ينافيه ، أو الدخول بها مرة والوثوق بحصوله بعد ذلك ، وفي الفرض لا تصريح ولا دخول ، فلا تمكين فلا نفقة.

وفيه منع اعتبار ذلك في التمكين ، ضرورة صدق حصوله عرفا بالوثوق بحصوله منها لو طلبه في أي زمان أو مكان سواء دلت على ذلك بقول أو فعل أو علم من حالها ذلك ، ولكن عدم النفقة في الفرض باعتبار عدم الوثوق بالحصول لو طلبه ، وحينئذ فالصحيح ما في المتن ، بل يمكن أن يكون قد قصد بذلك التعريض بما سمعته من المبسوط ، فتأمل جيدا ، والله العالم.

٣٥٢

ولو فرض كونها مولى عليها بالجنون مثلا قيل : اعتبر في التمكين التصريح من وليها المتمكن منها ببذلها للزوج في كل مكان أو زمان ، ولا يجدى بذلها نفسها ، وفيه أن إطلاق الأدلة يقتضي الاجتزاء به ، ضرورة صدق كونها حينئذ امرأة ممكنة ، فيثبت حقها على الرجل الذي هو سد جوعتها وستر عورتها ، وليس هذا من التسبيب المسلوب في أفعال المجنون وأقواله ، بل هو أشبه شي‌ء بالحكم الشرعي المترتب على حصول موضوعه بأي طريق كان ، وعدم كونها ممن يصح تصرفها غير قادح بعد استحقاق الزوج قبضها ، ولا اعتبار في كون المقبوض من أهل الإقباض ، كما لو دفع ثمن المبيع وقبضه من صبي أو مجنون أو وجده في الطريق ، وكذا لو كان الزوج مجنونا وقد بذلت الامرأة نفسها له على وجه يصدق تمكينها كفى في مطالبة الولي بالنفقة ، للإطلاق المزبور ، فتأمل جيدا.

( تفريع )

على التمكين : لو كان الزوج غائبا بعد أن مكنته الزوجة وجبت نفقتها عليه بلا خلاف ولا إشكال مع فرض بقائها على الصفة التي فارقها عليها ، وإن كان قد غاب ولم يكن قد دخل بها فحضرت عند الحاكم مثلا وبذلت التمكين الكامل لم تجب النفقة إلا بعد إعلامه المتوقف صدق التمكين عليه ووصوله إليها أو وكيله وتسليمها نفسها إياه لو أراد نقلها من مكان إلى آخر ونحو ذلك نعم لو أعلم فلم يبادر ولم ينفذ وكيلا سقط عنه نفقة زمان قدر وصوله نفسه أو وكيله إليها وألزم ب نفقة ما زاد على ذلك ، لأن الامتناع حينئذ منه ، ولو أعلمته الحال من غير توسط حاكم فكذلك أيضا ، بل في المسالك لو لم يعرف موضعه كتب الحاكم إلى حكام البلاد التي تتوجه إليها القوافل من تلك البلد عادة ليطلب وينادى باسمه ، فإن لم يظهر فرض الحاكم نفقتها في ماله الحاضر ، وأخذ منها كفيلا بما يصرفه إليها ، لأنه لا يؤمن أن تظهر وفاته أو طلاقه وإن كان قد يناقش بأن المتجه حينئذ سقوطها ، لعدم حصول التمكين المتوقف على إعلامه المفروض عدمه ، إذ المشروط عدم عند عدم شرطه ، نحو ما اعترف به‌

٣٥٣

فيها من وقوف النفقة فيما لو لم يظهر له خبر ، أو لم يتمكن الحاكم من الإرسال والبحث عنه بناء على اعتبار التمكين ، ضرورة اتحادهما في المدرك الذي هو ما عرفته.

وكيف كان ف لو نشزت وقد غاب عنها وهي كذلك ثم عادت إلى الطاعة لم تجب النفقة حتى يعلم وينقضي زمان يمكنه الوصول إليها أو وكيله لنحو ما عرفته سابقا ، بل هي في الحقيقة من المسألة السابقة وإن فارقتها باستمرار عدم التمكين في الأولى من حين العقد وتجدده بالنشوز في الثانية ، وفي المسالك أنها تفارقها أيضا في جريان حكم هذه المسألة على القولين أي القول بشرطية التمكين والقول بكون النشوز مانعا ، ضرورة تحققه بخلاف المسألة السابقة ، فإنها مبنية على اعتبار التمكين ، ونحوه في كشف اللثام أيضا ، وقد يناقش بمنع جريانها على القول الثاني الذي مبناه على سببية العقد للنفقة وأن النشوز مانع ، فمع فرض عودها إلى الطاعة تحقق ارتفاع المانع ، فيكون السبب تام السببية ، وليس التمكين شرطا حتى يتوقف صدقه على إعلامه ، كما أن عدم النشوز وارتفاعه لا يتوقف صدقه على إعلامه ، وإنما أقصى ذلك عدم وجوب المبادرة إلى الإنفاق عليه عملا بالاستصحاب ، فإذا بان بعد ذلك عودها إلى الطاعة وجب عليه قضاؤها.

ثم إن ظاهر المتن وغيره الاجتزاء في المسألة السابقة وغيرها بناء على اعتبار التمكين بإعلامه ومضي زمان قدر وصوله أو وكيله في وجوب النفقة ، من غير فرق بين حصول المانع له من الوصول بنفسه أو وكيله ولو خوف الطريق أو حبس ظالم وعدمه ، ولعله لصدق التمكين حينئذ من قبلها : فهي حينئذ كما لو مكنته وقد عرض له نحو هذه العوارض وهو حاضر ، فإنه لا ريب في وجوب النفقة لها ، لأن المراد به عندهم رفع الموانع من قبلها لا جعل الاستمتاع ممكنا من كل وجه ، وهو صادق في الفرض ، واستثناء زمان الوصول إنما هو من جهة توقف صدق التمكين منها في حال الغيبة عليه ، إذ تمكين كل شي‌ء بحسبه ، فمن هذه الجهة حسب عليها مقدار زمان الوصول بخلاف غيره من الموانع التي لا مدخلية لها فيهن ، كما هو‌

٣٥٤

واضح ، فتأمل جيدا فإنه ربما دق ، والله العالم.

ولو ارتدت الزوجة الممكنة سقطت النفقة لخروجها بذلك عن الزوجية ظاهرا فيتبعها سقوط النفقة حينئذ ولكن لو غاب وأسلمت عادت نفقتها عند إسلامها وإن كان قد انكشف بذلك عدم خروجها عن حكم الزوجية بالارتداد السابق الذي فرض تعقبه الإسلام بالعدة إلا أنه لما فوتت عليه التمكين من الاستمتاع بها بسوء اختيارها الارتداد كان ذلك موجبا لسقوط نفقتها على القولين ، ضرورة كونه بحكم النشوز أو أعظم منه بالنسبة إلى ذلك وإن فارقه عند المصنف والمحكي عن الشيخ بعود النفقة بعودها في غيبته وإن لم يعلم بذلك ، بخلافه فإنه لا تعود حتى يعلم ويمضي زمان وصوله أو وكيله إليها كما عرفت ، وذلك لأن الردة سبب السقوط وقد زالت فيزول المسبب بزوالها ، لأن المعلول عدم عند عدم علته ، فيبقى حينئذ مقتضى النفقة الذي هو العقد والتمكين بحاله ، لأن الفرض عدم خروجها عن قبضته بالارتداد وإن منعه الشارع عن وطئها والاستمتاع بها. وليس كذلك الأولى أي الناشزة وقد غاب عنها ناشزة لأنها بالنشوز خرجت عن قبضته فلا تستحق النفقة إلا بعودها إلى قبضته وذلك لا يكون إلا بعد إعلامه ومضى الزمان المذكور.

وربما أشكل ذلك بأن الارتداد مانع شرعي من الاستمتاع وقد حدث من جهتها ، ومتى لم يعلم الزوج بزواله فالواجب عليه الامتناع منها وإن حضر ، ولا يكفى مجرد كونها في قبضته مع عدم العلم بزوال المانع الذي جاء من قبلها فأسقط النفقة ، نعم هذا الفرق يتم لو كان المانعان حصلا في غيبته ولم يعلم بهما فان نشوزها بخروجها من بيته إذا أسقط النفقة لم تعد برجوعها إلى بيته ، لخروجها عن قبضته ، فلا بد من عودها إليه ، ولا يحصل ذلك حال الغيبة ، بخلاف ما لو ارتدت ثم رجعت ولما يعلم بهما ، فان التسليم حاصل مستصحب ، والمانع حصل وزال وهو لا يعلم به ، فلم يتحقق من جهته الامتناع منها لأجله بخلاف ما لو علم.

لكن في المسالك « يمكن الجواب عن ذلك بأن العقد لما اقتضى وجوب النفقة‌

٣٥٥

إما مع التمكين أو بدونه وهو شرط ، فالأصل يقتضي وجوبها إلى أن يختل الشرط ، والارتداد لا يحصل معه الإخلال به ، لأن التمكين من قبلها حاصل ، وإنما كانت الردة مانعا ، فإذا زال المانع عمل المقتضي لوجوب النفقة عمله ، كما أشرنا إليه ، بخلاف النشوز ، فان الشرط والسبب قد انتفى ، فلا بد للحكم بوجوب النفقة من عوده ، ولا يحصل إلا بتسليم جديد ، فان قيل : الارتداد لما أسقط وجوبها توقف ثبوتها حينئذ على سبب شرعي جديد وإلا فحكم السقوط مستصحب ، قلنا : السبب موجود ، وهو العقد السابق المصاحب للتمكين لأنه الفرض ، فالردة ما رفعت حكم العقد ، ولهذا لو أسلمت عادت إلى الزوجية بالعقد السابق ، فعلى هذا لا يفرق بين علمه بعودها وعدمه ».

ولا يخفى عليك ما فيه بعد أن كان وجه الاشكال المزبور عدم كفاية كونها في قبضته مع عدم العلم بزوال المانع الذي حدث من قبلها وأسقط النفقة ، نعم بناء على ما ذكرناه من أن سقوط النفقة بالارتداد باعتبار فوات الزوجية ظاهرا ، وقد انكشف بإسلامها في العدة بقاء السبب الأول بحاله ، وإنما سقط نفقة المتخلل باعتبار حصول الحائل من قبلها ، فلم يكن ثم حينئذ فوات تمكين كي يحتاج في عودها إلى عوده بخلاف النشوز الذي هو سبب تام في فوات التمكين ، فاحتاج حينئذ عود النفقة إلى عوده ، ولا يحصل إلا مع العلم به ، إلا أن ذلك كما ترى لا يتم إلا على القول باعتبار التمكين في النفقة ، أما على القول بكون النشوز مانعا فالمتجه عدم الفرق بينه وبين الارتداد في وجوب النفقة بمجرد ارتفاعه ، لصدق كونها زوجة غير ناشز ، وعدم توقف ذلك على علمه ، والفرض كونه السبب في النفقة لا تمكينها المحتاج إلى العلم بحصوله.

اللهم إلا أن يقال : إن الموجب لها صدق ذلك عنده ، وهو لا يكون إلا مع علمه بارتفاع النشوز ، وفيه أنه مناف لإطلاق الأدلة ، واستصحابه نشوزها إنما يفيده عدم الإثم في المبادرة إلى نفقتها ، لا سقوطها بعد أن تبين فساده بسبق ارتفاعه ،

٣٥٦

فلا محيص حينئذ عن القول بوجوبها بارتفاعه وإن لم يعلم به ، فهو حينئذ كالردة على هذا القول ، بل قد يقال بذلك أيضا على القول الأخر بناء على توقف حصول التمكين على العلم به ، ضرورة أنه وإن قلنا بأن إسلامها يكشف عن بقاء الزوجية ، السابقة ، إلا أنه مع فرض عدم العلم به لا يصدق معه كونها ممكنة ، ودعوى عود الزوجية المصاحبة للتمكين السابق واضحة المنع ، على أن التمكين السابق بعد أن تعقبته الردة التي لا يعلم ارتفاعها غير مجد في حصول التمكين الفعلي الذي هو السبب في وجوب الإنفاق ، فتأمل جيدا ، فان منه أيضا يظهر لك الحال في المانعين الحاصلين في غيبته ، وأن المتجه عدم سقوط النفقة بهما معا من غير فرق بين الردة والنشوز ، وذلك لعدم صدق فوات التمكين المفروض استصحابه ومقارنته للواقع وإن تخلل في أثنائه ما كان يحتاج إلى العلم بارتفاعه في تحقق التمكين لو كان قد علم به ، نعم لا بأس بالقول بسقوط النفقة زمان التخلل ، لانتفاء التمكين الذي هو سبب أو شرط في النفقة ، بل هو كالعوض عنها ، والله العالم.

المسألة ( الرابعة : )

إذا ادعت المطلقة البائن أنها حامل صرفت النفقة إليها يوما فيوما جوازا أو وجوبا ، لأن ابتداءه لا يعلم إلا من قبلها ، فلو لم يجب الإنفاق عليها بادعائها لزم الحرج بحسبها عليه من غير إنفاق ، مع نهيهن عن كتمان ما خلق الله في أرحامهن (١) والأمر بالإنفاق على أولات الأحمال (٢) مع كون المرجع فيه غالبا إلى ادعائهن ، ولأن ذلك جمع بين حقها وحقه المنجبر بالرجوع عليها لو تبين عدمه ، والعكس ينافيه الإضرار بها مع حاجتها إلى النفقة ، أو مطلقا لو قلنا : إن النفقة للحمل الذي لا تقتضي نفقته باعتبار كونه من الأرحام.

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ ـ الآية ٢٢٨.

(٢) سورة الطلاق : ٦٥ ـ الآية ٦.

٣٥٧

لكن عن الشيخ في المبسوط تعليق الوجوب على ظهور الحمل ، والسرائر على شهادة أربع قوابل ، وفي المسالك « لعله أجود ، لانقطاع وجوب الإنفاق على الزوجة بالطلاق البائن ، والوجوب معه مشروط بالحمل ، كما هو مقتضى قوله تعالى (١) ( وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ ) والأصل عدمه ، وهذا الوصف لا يتحقق بمجرد الدعوى ».

وفيه أن محل البحث في قبول دعواها وعدمه ، إذ على فرضه لا تنفع قاعدة الشرط ولا غيرها ، لكونه حينئذ طريقا شرعيا للحكم بتحققه ، كما أنه لا وجه للوجوب مع عدمه لما ذكر ، ودعوى المقدمية المنافية لقاعدة الشرطية في نحو المقام واضحة الفساد ، لعدم تحقق الخطاب بذي المقدمة ، كوضوح فساد دعوى كون المقام من قاعدة كل ما لا يعلم إلا من قبل المدعي ، ضرورة عدم الفرق بين المدعي وغيره في عدم معرفة الواقع على وجه اليقين ، وفي اشتراكهما في الطمأنينة بالأمارات الظاهرة على وجه يصدق عليها أنها حامل ، كما في غير المقام مما علق عليه حكم للحمل ، والظاهر أن ذلك هو المدار في وجوب الإنفاق ، فإن صادف وإلا استعيد ، كما ستعرف.

وكيف كان فان تبين الحمل فذاك وإلا استعيدت النفقة ، لعموم « على اليد » (٢) ‌و « من أتلف » (٣) والتسليط الذي وقع منه مقيد بكونه نفقة على حامل لا مطلقا ، ودعوى تنزيل خطاب النفقة على مظنونة الحمل بعدم العلم يدفعها إمكان تنزيلها على الواقع ، كما هو مقتضي عنوان كل خطاب ، والظن إنما هو طريق للإلزام بالمبادرة ، فما في الرياض ـ من أن الأظهر عدم الرجوع بالمأخوذ للأصل إلا إذا دلست عليه الحمل فرجع به للغرور ـ واضح الضعف ، ضرورة أن الإنفاق خلاف الأصل بعد أن كان النص (٤) الإنفاق على أولات الأحمال ، فلما‌

__________________

(١) سورة الطلاق : ٦٥ ـ الآية ٦.

(٢) سنن البيهقي ج ٦ ص ٩٥ وكنز العمال ج ٥ ص ٣٢٧ الرقم ٥٧١٣.

(٣) راجع التعليقة من ص ٩١.

(٤) سورة الطلاق : ٦٥ ـ الآية ٦.

٣٥٨

ظهر فساد الظن علم الخروج من النص ، واستحقاقها بالظن إنما كان استحقاقا مراعي.

ومن ذلك يعرف أيضا ما في المحكي عمن لم يوجب التعجيل من أنه إن عجل بأمر الحاكم استرد ، وإلا فان لم يذكر عند الدفع أنه نفقة معجلة لم يسترد ، وكان تطوعا ، وإن ذكر وشرط الرجوع استرد ، وإلا فوجهان ، أصحهما الرجوع نعم هل تطالب الامرأة بكفيل لاحتمال ظهور الخلاف؟ وجهان ، وفي المسالك لا يخلو أولهما من قوة ، للجمع بين الحقين ، وفيه أن ثانيهما أقوى بعد فرض وجوب الدفع ، لإطلاق الأدلة وأصل البراءة ، والله العالم.

وكيف كان فقد عرفت فيما تقدم أنه لا ينفق على بائن غير المطلقة الحامل للأصل والنصوص (١) السابقة وقال الشيخ في المحكي من مبسوطة : ينفق على البائن الحامل مطلقا لأن النفقة للولد وقد عرفت ضعفه بما لا مزيد عليه ، وأن مبناه دعوى وجوبها للمطلقة الحامل لأجل الحمل من حيث كونه ولدا للمتعلق لا لأجلها ، فتجب حينئذ حتى للحامل من نكاح فاسد شبهة ، وإطلاق الأخبار وجوبها على الحامل (٢) وهي واضحة الفساد ، ضرورة رجوع الأول إلى القياس المحرم عندنا ، إذ الآية (٣) كالصريحة في الحامل المطلقة وليس فيها ولا في غيرها من النصوص إشارة إلى كون النفقة للحمل ، وإنما المعلوم منها كونها للحامل وإن كان ذلك بسبب الحمل ، بل قد عرفت فيما مضى أنه لا وجه لدعوى كون النفقة للحمل نفسه ، وأما الأخبار التي ادعى عمومها فلم نعثر فيها إلا على‌ خبر محمد بن قيس (٤) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « الحامل أجلها أن تضع حملها ، وعليها نفقتها‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٩ ـ من أبواب النفقات.

(٢) الوسائل الباب ـ ٨ ـ من أبواب النفقات.

(٣) سورة الطلاق : ٦٥ ـ الآية ٦.

(٤) الوسائل الباب ـ ٧ ـ من أبواب النفقات الحديث ٣ عن أبي جعفر عليه‌السلام كما في التهذيب ج ٨ ص ١٣٤ والكافي ج ٦ ص ١٠٣.

٣٥٩

بالمعروف حتى تضع حملها » ‌المحتاج إلى جابر وليس ، الممكن بل لعله الظاهر إرادة المطلقة فيه ، فلا وجه للخروج عن الأصل بمثله ومثل تخريج العلة المزبورة.

ومن ذلك يظهر لك حال ما في قواعد الفاضل من الإشكال في نفقة الحامل البائنة بفسخ العيب مثلا بناء على أنها للحامل والجزم بها بناء على أنها للحمل كما تقدم سابقا ، فلاحظ وتأمل.

( فرع )

على قوله أي الشيخ ره إذا لاعنها لنفي الولد فبانت منه وهي حامل فلا نفقة لها لانتفاء الولد عنه باللعان ، فهي كالحائل بالنسبة اليه على القولين ، نعم لو كان لعانها للقذف مع الاعتراف بالولد اتجه بناء نفقتها حينئذ على القولين ، فان قلنا : إنها للحمل وجب هنا ، لوجوب الإنفاق عليه لولده ، وإن قلنا إنها للحامل سقطت ، لعدم الدليل على إلحاق البائنة بغير الطلاق به.

وكذا لو طلقها ثم ظهر بها حمل فأنكره ولاعنها فإنها وإن كانت مطلقة إلا أنها صارت كالحائل بالنسبة إليه بعد نفي الولد باللعان. فلا نفقة حينئذ لها على القولين أيضا ولو أكذب نفسه بعد اللعان واستلحقه لزمه الإنفاق بناء على أنه للحمل ، لأنه حينئذ من حقوق الولد الذي لحقه بإقراره ، فيجب حينئذ النفقة لأمه قبل الوضع ، نعم ظاهر المصنف بل هو صريح المسالك عدم وجوب النفقة فيما لو أكذب نفسه بناء على أنها للحامل في الصورتين ، وقد يناقش فيه بأن الثانية حينئذ مطلقة حامل فالمتجه وجوب النفقة لها على كل حال. اللهم إلا أن يقال : إنها باللعان صارت بائنة بغير الطلاق أيضا ، وقد عرفت أنه لا نفقة للبائنة بغيره وإن كانت حاملا ، وفيه منع إبطال اللعان صدق‌

٣٦٠