جواهر الكلام - ج ٣١

الشيخ محمّد حسن النّجفي

للآخر بل لا يبعد كون ذلك بمعنى ارتفاع كل منهما عن الأخر عما وجب عليه ، نعم تحقق اسم الشقاق بخروج أحدهما دون الآخر بعيد ، كما أن ما عن نهاية الشيخ من تخصيص النشوز بخروج الزوج عن الحق كذلك ، بل هو خلاف الآية الأولى وغيرها ، ونحوه ما في ظاهر أحكام الراوندي في اختصاصه بالعكس ، إذ لا ريب في أنه قد يكون من الزوج ، كما يكون من الزوجة.

بل ربما ظهر من الصحاح والقاموس والمجمع صدق اسم النشوز لغة على المعنى العرفي ، فإن فيها « نشزت المرأة تنشز نشوزا استعصمت على زوجها وأبغضته ، ونشز عليها إذا ضربها وجفاها » وعن شمس العلوم « عصته وخالفته ، ونشز عليها : ضربها وجفاها » والمصباح المنير « عصته وامتنعت عليه ، ونشز عليها : تركها وجفاها » والنهاية « عصت عليه وخرجت عن طاعته ، ونشز عليها : جفاها وأضر بها وكرهها وأساء صحبتها ».

اللهم إلا أن يقال : إن حاصل ذلك منهم كون النشوز منها الاستعصاء والكراهة ، ومنه الضرب والهجر ، وهو خلاف ما في الشرع من كونه الامتناع من خصوص الحق الواجب عليه أو عليها ولذا قيل لم يكن من النشوز البذاء وإن أثمت به واستحقت التأديب ، ولا الامتناع من خدمته وقضاء حوائجه التي لا تعلق لها بالاستمتاع ، لعدم وجوب شي‌ء من ذلك عليها ، ولا غير ذلك مما لا ينقص الاستمتاع بها.

وعلى كل حال ف قد ذكر المصنف وغيره أنه متى ظهر من الزوجة أمارته أي النشوز مثل أن تتقطب في وجهه أو تبرم في حوائجه المتعلقة بالاستمتاع أو تغير عادتها في أدبها جاز له هجرها في المضجع بعد عظتها ، وصورة الهجر أن يحول إليها ظهره في الفراش ، وقيل : أن يعتزل فراشها ، والأول مروي عن الباقر والصادق عليهما‌السلام (١) ولا يجوز له ضربها والحال هذه ، أما لو وقع النشوز‌

__________________

(١) مجمع البيان ـ ذيل الآية ٣٤ من سورة النساء عن الباقر عليه‌السلام ومجمع البحرين مادة : « هجر » عن الصادق عليه‌السلام.

٢٠١

وهو الامتناع عن طاعته فيما يجب له جاز ضربها ولو بأول مرة ولكن يقتصر على ما يؤمل معه رجوعها ما لم يكن مدميا ولا مبرحا وظاهره الفرق بين الموعظة والهجر وبين الضرب ، فيجوز الأولان على ظهور أمارات النشوز بخلاف الأخير ، فلا يجوز إلا مع تحقق النشوز ، نعم معه يجوز من أول مرة ، ولا يعتبر تقدم الوعظ أو الهجر بخلاف الأولين ، فإن الثاني منهما مرتب على عدم نفع الأول ، وهو أحد الأقوال في المسألة ، محكي عن المبسوط والفاضل في القواعد ، وكان وجهه أن الأصل في هذا الحكم الآية الشريفة (١) وهي قوله تعالى ( وَاللاّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ ، فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً ) ولا ريب في ظهورها بترتب الأمور الثلاثة بخوف النشوز إلا أن الأخير منها لما علم بالإجماع المحكي عن المبسوط والخلاف اعتبار النشوز في جوازه المؤيد بقاعدة عدم جواز العقوبة إلا على فعل المحرم وجب تقدير ذلك بالنسبة إليه في الآية ، وبقيت على ظاهرها في الأولين ، وإطلاقها حينئذ يقتضي جواز الضرب مع تحقق النشوز من غير تقدم الوعظ والهجر ، أما هما فمترتبان على حسب ترتب النهي عن المنكر.

وفيه أن الهجر تفويت لحقها الواجب عليه أيضا ، فلا يجوز قبل تحقق الذنب ، إذ هو عقوبة أيضا لا تجوز بدون فعل المحرم ، وكونه أوسع من الضرب لا يقتضي جوازه بظهور أمارات المعصية ، وإلا لجاز الضرب ، ودعوى الاكتفاء بظاهر الآية في جوازه يقتضي جواز الضرب أيضا ، ضرورة اتحاد الجميع بالنسبة إلى دلالتها اللهم إلا أن يقال : إن الإجماع السابق منع منه بالنسبة إلى الضرب بخلاف الأولين ، أو يقال : إن ذلك أيضا محرم عليها وإن لم يكن نشوزا ، فجوز عقابها بالهجر بخلاف الضرب المشروط جوازه بالنشوز للإجماع السابق ، إلا أن الجميع كما ترى مجرد اقتراح وتعسف بلا شاهد معتد به.

ومن هنا كان ظاهر المصنف في النافع ترتب الثلاثة على ظهور أمارات النشوز‌

__________________

(١) سورة النساء : ٤ ـ الآية ٣٤.

٢٠٢

من غير فرق بين الضرب وغيره ، إلا أنها مترتبة على حسب ترتب النهي عن المنكر فجوازها حينئذ مع النشوز مستفاد من الأولوية ، وفيه أنه وإن وافق ظاهر الآية بالنسبة إلى ثبوت الثلاثة على خوف النشوز ، لكنه مناف لظاهرها بالنسبة إلى التخيير بين الثلاثة والجمع ، لأن الواو لمطلق الجمع ، اللهم إلا أن يستفاد من ترتب أفراد النهي عن المنكر ، لكن الكلام في أن ذلك منها؟ ضرورة عدم النشوز بها وعدم ثبوت حرمتها بدونه ، على أنه مناف أيضا لما سمعته من الإجماع المحكي المعتضد بما عرفت من عدم جواز الضرب إلا على النشوز.

ومن هنا عكس ابن الجنيد فيما حكي عنه بجعل الأمور الثلاثة مترتبة على النشوز بالفعل ، ولم يذكر الحكم عند ظهور أماراته ، وجوز الجمع بين الثلاثة ابتداء من غير تفصيل ، فقال : « وللرجل إن كان النشوز من المرأة أن يعظها ويهجرها في مضجعها ، وله أن يضربها غير مبرح » ويظهر منه جواز الجمع بين الثلاثة والاجتزاء بأحدها أو باثنين منها ، ولعله لأن ذلك حقه ، فله فيه الخيار ولأن الواو لمطلق الجمع المقتضي جوازه والتخيير ، والمراد من الخوف في الآية العلم ، لقوله تعالى (١) : ( فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً ) فأول الخوف واستغنى عن الإضمار الذي تكلفه غيره.

لكنه فيه أنه مناف لقاعدة ترتب أفراد النهي عن المنكر ، بل يمكن دعوى أن يكون المراد من الآية ذلك ، ولعله لذا جعل العلامة في الإرشاد الثلاثة مترتبة على النشوز بالفعل ، كما سمعته من ابن الجنيد ، لكن جعلها مترتبة مراتب الإنكار.

ولعل ذلك أولى من جميع ما تقدم ، ومما عن بعض العلماء من التفصيل أيضا من جعل الأمور الثلاثة مترتبة على مراتب ثلاثة من حالها ، فمع ظهور أمارات النشوز يقتصر على الوعظ ، ومع تحققه قبل الإصرار ينتقل إلى الهجر ، فان لم ينجع وأصرت انتقل إلى‌

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ ـ الآية ١٨٢.

٢٠٣

الضرب ، فيكون معنى الآية : واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن ، فان نشزن فاهجروهن في المضاجع ، فان أصررن فاضربوهن. إذا هو أيضا كما ترى وإن حكي عن العلامة في التحرير موافقته.

وانما المتجه ما سمعته من الإرشاد الذي هو يرجع أيضا إلى إرادة وإن خفتم استمرار نشوزهن ، بل يمكن القطع بذلك بملاحظة ما ورد من النصوص (١) في قوله تعالى (٢) ( وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً ) وفي قوله تعالى (٣) ( وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما ) ضرورة اتحاد المساق في الجميع ، كضرورة اتحاد المراد من الخوف والنشوز في الكل وإن كان للرجل مع كراهته للمرأة مفرا بطلاقها بخلافها هي.

فمن الغريب تكثير القيل والقال هنا واتفاقهم ظاهرا على إرادة ذلك في آية الشقاق ، بل لا يبعد إرادة الكراهة من النشوز في الآية على وجه ينقص استمتاعه بها ولو بالتقطب في وجهه وإسماعه الكلام الغليظ ، ونحو ذلك مما يذهب الرغبة في مقاربتها والاستمتاع بها ، كما تسمع إنشاء الله النصوص (٤) الواردة في قوله تعالى (٥) : ( وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً ) إلى آخره بل في‌ خبر زرارة (٦) المروي في تفسير العياشي عن أبي جعفر عليه‌السلام « إذا نشزت المرأة على الرجل فهي الخلعة ، فليأخذ منها ما قدر عليه ، وإذا نشز الرجل مع نشوز المرأة فهو الشقاق » ‌إشارة إليه.

ومن ذلك كله يظهر لك النظر في جملة من كلماتهم حتى ما في المسالك وغيرها من أن المراد بظهور أمارات النشوز تغير عادتها معه في القول أو الفعل ،

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١١ و ١٢ و ١٣ ـ من أبواب القسم والنشوز.

(٢) و (٣) النساء : ٤ ـ الآية ـ ١٢٨ ـ ٣٥

(٤) الوسائل الباب ـ ١١ ـ من أبواب القسم والنشوز.

(٥) سورة النساء : ٤ ـ الآية ١٢٨.

(٦) الوسائل الباب ـ ١١ ـ من أبواب القسم والنشوز الحديث ٥.

٢٠٤

بأن تجيبه بكلام خشن بعد أن كان بلين ، أو غير مقبلة بوجهها معه بعد أن كانت تقبل ، أو تظهر عبوسا أو إعراضا وتثاقلا ودمدمة بعد أن كانت تلطف به وتبادر اليه وتقبل عليه ، ونحو ذلك ، والتقييد بتغيير العادة احترازا عما لو كان ذلك من طبعها ابتداء ، فإنه لا يعد أمارة النشوز ، نعم مثل التبرم في الحوائج لا يعتبر فيه العادة ، لأن ذلك حقه ، فعليها المبادرة إليها ابتداء ، ولا عبرة بالعادة بخلاف الآداب ، وهذه الأمور ونحوها لا تعد نشوزا ، فلا تستحق عليه ضربا على الأقوى ، بل يقتصر على الوعظ ، فلعلها تبدئ عذرا أو ترجع عما وقع من غير عذر.

ويظهر من مجوز الضرب بل الهجر أنها أمور محرمة وإن لم يكن نشوزا ، والضرب لأجل فعل المحرم ، ثم قال : « ليس من النشوز ولا من مقدماته بذاءة اللسان والشتم ، ولكنها تأثم به وتستحق التأديب عليه ، وهل يجوز للزوج تأديبها على ذلك ونحوه مما لا يتعلق بالاستمتاع أم يرفع أمره إلى الحاكم؟ قولان تقدما في كتاب الأمر بالمعروف ، والأقوى أن الزوج فيما وراء حق المساكنة والاستمتاع كالأجنبي وإن نغص ذلك عيشه وكدر الاستمتاع ـ وقال أيضا ـ المراد بحوائجه التي يكون التبرم بها أمارة النشوز ما يجب عليها فعله من الاستمتاع ومقدماته ، كالتنظيف المعتاد وإزالة المنفر والاستحداد ، بأن تمتنع وأو تتثاقل إذا طلبها على وجه يحوج زواله إلى تكلف وتعب ، ولا أثر لامتناع الدلال ولا للامتناع من حوائجه التي لا تتعلق بالاستمتاع ، إذ لا يجب عليها ذلك ، وفي بعض الفتاوى المنسوبة إلى فخر الدين أن المراد بها نحو سقى الماء وتمهيد الفراش ، وهو بعيد جدا ، لأن ذلك غير واجب عليها ، فكيف يعد تركه نشوزا؟ » فان الجميع كما ترى ، ضرورة تحقق النشوز بالعبوس والاعراض والتثاقل وإظهار الكراهة له بالفعل والقول ونحوهما مما ينقص استمتاعه بها وتلذذه بها ، بل لا ينبغي التأمل في تحققه بتبرمها بحوائجه المتعلقة بالاستمتاع أو الدالة على كراهتها له ، بل لعل ما سمعته من الفخر يراد منه ذلك ، بل لعل إطلاق المتن مثله أيضا ، كضرورة اقتضاء آية ( الرِّجالُ قَوّامُونَ

٢٠٥

عَلَى النِّساءِ ) (١) و ( قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً ) (٢) إلى آخرها وغيرهما تولى تأديبها ، خصوصا فيما يتعلق به نفسه.

وعلى كل حال فالمراد بالهجر في المضجع ما صرح به غير واحد من الأصحاب توليتها ظهره في الفراش ، كما عن الفقه المنسوب إلى الرضا عليه‌السلام (٣) بل عن المبسوط نسبته إلى رواية أصحابنا (٤) ، وعن مجمع البيان إلى الباقر عليه‌السلام (٥) ولكن عن المبسوط والسرائر هو أن يعتزل فراشها ، وعن المفيد التخيير بينهما ، وفي الرياض أنه أقوى ، لاندراجهما في الهجر عرفا.

قلت : يمكن دعوى الترتيب في أفراده أيضا على حسب الترتيب في أفراد النهي عن المنكر ، نعم ما عن تفسير علي بن إبراهيم (٦) من سبها لا دليل عليه ، وكذا الكلام في الضرب ، فيقتصر على ما يؤمل معه طاعتها ، فلا يجوز الزيادة عليه مع حصول الغرض به ، وإلا تدرج إلى الأقوى فالأقوى ما لم يكن مدميا ولا مبرحا ، وابتداؤه الضرب بالسواك.

وعليه يحمل ما عن الباقر عليه‌السلام (٧) من تفسيره به ، لا أنه منتهاه ، ضرورة منافاة إطلاقه الآية (٨) وما دل على النهي عن المنكر (٩) وبعده عن حصول الغرض به دائما ، مضافا إلى إطلاق كلمات الأصحاب.

نعم ينبغي اتقاء المواضع المخوفة كالوجه والخاصرة ومراق البطن ونحوه ،

__________________

(١) سورة النساء : ٤ ـ الآية ٣٤.

(٢) سورة التحريم : ٦٦ ـ الآية ٦.

(٣) و (٦) البحار ج ١٠٤ ص ٥٨ ط الحديث.

(٤) المبسوط ج ٤ ص ٣٣٨ ط الحديث.

(٥) و (٧) مجمع البيان ذيل الآية ٣٤ من سورة النساء.

(٨) سورة النساء : ٤ ـ الآية ٣٤.

(٩) سورة آل عمران : ٣ ـ الآية ١٠٤.

٢٠٦

وأن لا يوالي الضرب على موضع واحد ، بل يفرق على المواضع الصلبة مراعيا فيه الإصلاح لا التشفي والانتقام ، بل في المسالك أنه يحرم بقصده مطلقا ، بل بدون القصد المأذون لأجله ، ولو حصل بالضرب تلف وجب الغرم ، لإطلاق أدلته الذي لا ينافيه الرخصة فيه ، مع أن المرخص فيه غير المفروض من الضرب ، كما لا ينافيه عدم الضمان بضرب الولي الصبي تأديبا الذي يمكن الفرق بينهما بعد تسليم ذلك فيه بأن ضرب الزوج لمصلحته بخلافه في الولي الذي هو محسن محض ، ولذا كان للأول العفو بل في بعض النصوص النهي عن الضرب (١) بخلاف الثاني ، والله العالم هذا كله في نشوز الزوجة.

وأما إذا ظهر من الزوج النشوز بمنع حقوقها الواجبة من قسم ونفقة ونحوهما فلها المطالبة بها ووعظها إياه ، وإلا رفعت أمرها إلى الحاكم وكان للحاكم إلزامه بها ، وليس لها هجره ولا ضربه ، كما صرح به غير واحد مرسلين له إرسال المسلمات وإن رجت عوده إلى الحق بهما ، لأنهما متوقفان على الاذن الشرعي وليست ، بل في الآيتين (٢) ما ينبه على تفويض ذلك إليه لا إليها ، وأنه هو اللائق بمقامه ومقامها ، ولا بأس به وإن نافى إطلاق أدلة الأمر بالمعروف ، إذ يمكن دعوى سقوط هذه المرتبة منه هنا ، كما تسقط بالنسبة للولد والوالد ، نعم إن عرف الحاكم ذلك باطلاع أو إقرار أو شهود مطلعين عليهما نهاه عن فعل ما يحرم ، وأمره بفعل ما يجب ، فان نفع وإلا عزره بما يراه ، وله أيضا الإنفاق من ماله مع امتناعه من ذلك ولو ببيع عقاره إذا توقف عليه.

وإن كان لا يمنعها شيئا من حقوقها الواجبة ولا يفعل ما يحرم عليه بها إلا أنه يكره صحبتها لكبر أو غيره فيهم بطلاقها ف لها ترك بعض حقوقها‌

__________________

(١) المستدرك الباب ـ ٦٥ ـ من أبواب مقدمات النكاح الحديث ٣ ـ ٥.

(٢) سورة النساء : ٤ ـ الآية ٣٤ وسورة التحريم : ٦٦ ـ الآية ٦.

٢٠٧

أو جميعها من قسمة أو نفقة استمالة له ويحل للزوج قبول ذلك بلا خلاف أجده فيه ، بل الإجماع بقسميه عليه ، مضافا إلى الأصل والكتاب والسنة ، إذ هو المراد من قوله تعالى (١) ( وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً ) كما استفاضت به النصوص ، ففي‌ صحيح الحلبي أو حسنه (٢) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « سألته عن قول الله تعالى ( وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ ) ـ إلى آخره ـ فقال : هي المرأة تكون عند الرجل فيكرهها ، فيقول لها اني أريد أن أطلقك فتقول له : لا تفعل إني أكره أن تشمت بي ، ولكن انظر في ليلتي فاصنع بها ما شئت ، وما كان سوى ذلك من شي‌ء فهو لك ، ودعني على حالتي ، فهو قوله : فلا جناح ـ إلى آخره ـ وهذا هو الصلح ».

وخبر أبي حمزة (٣) « سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن قول الله عز وجل ( وَإِنِ امْرَأَةٌ ) ـ إلى آخره ـ فقال : إذا كان كذلك فهم بطلاقها فقالت له : أمسكني وأدع لك بعض ما هو عليك وأحلك من يومي وليلتي حل له ذلك ، ولا جناح عليهما ».

وخبر أبي بصير (٤) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « سألته عن قول الله عز وجل ( وَإِنِ امْرَأَةٌ ) ـ إلى آخره ـ قال : هذا تكون عنده الامرأة لا تعجبه فيريد طلاقها ، فتقول له : أمسكني ولا تطلقني وأدع لك ما على ظهرك ، وأعطيك من مالي وأحلك من يومي وليلتي فقد طاب ذلك كله » ‌ونحوه خبر الشحام (٥) عنه عليه‌السلام أيضا.

وفي‌ خبر أحمد بن محمد (٦) عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام « في قول الله عز وجل : ( وَإِنِ امْرَأَةٌ ) ـ إلى آخره ـ قال : النشوز : الرجل يهم بطلاق امرأته فتقول : أدع‌

__________________

(١) سورة النساء : ٤ الآية ١٢٨.

(٢) الوسائل الباب ـ ١١ ـ من أبواب القسم والنشوز الحديث ١.

(٣) الوسائل الباب ـ ١١ ـ من أبواب القسم والنشوز الحديث ٢ عن على بن أبي حمزة.

(٤) و (٥) و (٦) الوسائل الباب ـ ١١ ـ من أبواب القسم والنشوز الحديث ٣ ـ ٤ ـ ٦

٢٠٨

ما على ظهرك وأعطيك كذا وكذا وأحلك من يومي وليلتي على ما أصلحا فهو جائز » ‌وفي‌ خبر زرارة (١) « سئل أبو جعفر عليه‌السلام عن النهارية يشترط عليها عند عقدة النكاح أن يأتيها ما شاء نهارا أو من كل جمعة أو من كل شهر يوما وأن النفقة كذا وكذا ، قال : فليس ذلك الشرط بشي‌ء ، من تزوج امرأة فلها ما للمرأة من القسمة والنفقة ، ولكنه إن تزوج امرأة فخافت منه نشوزا أو خافت أن يتزوج عليها فصالحت من حقها على شي‌ء من قسمتها أو بعضها فان ذلك جائز لا بأس به » ‌إلى غير ذلك من النصوص الدالة على ذلك.

إلا أنها جميعا كما ترى متفقة على جواز قبوله ما تبذله له من حقوقها في مقابلة ما يريد فعله معها مما هو غير محرم عليه كطلاق ونحوه ، لا أنه جائز له وإن كان لدفع ما يفعله مما هو محرم عليه ، كما تسمعه من بعض ، ويأتي تحقيق الحال فيه إنشاء الله.

( القول في الشقاق )

وهو مصدر على وزن فعال من الشق بالكسر : الناحية كأن كل واحد منهما صار في شق أي ناحية غير ناحية الأخر باعتبار حصول الكراهة والارتفاع والمعصية والاختلاف من كل منهما ، فإن المشاقة والشقاق الخلاف والعداوة ، كما في الصحاح ، ولعل الأولى كونه من الشق بمعنى التفرق الذي منه شق فلان العصا ، أي فارق الجماعة ، وانشقت العصا أي تفرق الأمر.

وعلى كل حال فإذا كان النشوز منهما وخشي الشقاق بينهما بعث الحاكم حكما من أهل الزوج وآخر من أهل المرأة على الأولى ، ولو كان من غير أهلهما أو كان أحدهما جاز أيضا والأصل فيه قوله تعالى (٢) : ( وَإِنْ خِفْتُمْ

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١١ ـ من أبواب القسم والنشوز الحديث ٧.

(٢) سورة النساء : ٤ ـ الآية ٣٥.

٢٠٩

شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها ، إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما ، إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً ) وفي‌ خبر علي بن حمزة (١) « سألت العبد الصالح عليه‌السلام عن قول الله عز وجل ( وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ ) ـ إلى آخره ـ فقال : يشترط الحكمان إن شاءا فرقا وإن شاءا جمعا ، ففرقا أو جمعا جاز » ‌ونحوه خبر أبي بصير (٢) عن الصادق عليه‌السلام.

وخبر سماعة (٣) « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله تعالى ( فَابْعَثُوا حَكَماً ) ـ إلى آخره ـ أرأيت إن استأذن الحكمان فقالا للرجل والمرأة : ألستما قد جعلتما أمركما إلينا في الإصلاح والتفريق؟ فقال الرجل والمرأة : نعم ، وأشهدا بذلك شهودا عليهما أيجوز تفريقهما عليهما؟ قال : نعم ، ولكن لا يكون إلا على طهر من المرأة من غير جماع من الزوج ، قيل له : أرأيت إن قال أحد الحكمين : قد فرقت وقال الأخر : لم أفرق بينهما؟ فقال : لا يكون تفريقا حتى يجتمعا جميعا على التفريق ، فإذا اجتمعا جميعا على التفريق جاز تفريقهما » ‌وفي‌ خبر محمد بن مسلم (٤) عن أحدهما عليهما‌السلام « سألته عن قول الله تعالى ( فَابْعَثُوا ) ـ إلى آخره ـ قال : ليس للحكمين أن يفرقا حتى يستأمرا » ‌وفي‌ صحيح الحلبي (٥) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « سألته عن قول الله عز وجل ( فَابْعَثُوا ) ـ إلى آخره ـ قال : ليس للحكمين أن يفرقا حتى يستأمرا الرجل والمرأة ، ويشترطا عليهما إن شئنا جمعنا وإن شئنا فرقنا فان فرقا فجائز وإن جمعا فجائز ».

والظاهر تحقق الشقاق بينهما بالنشوز من كل منهما ، ومن هنا كان المحصل‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١٠ ـ من أبواب القسم والنشوز الحديث ٢ عن على بن أبي حمزة كما يأتي في ص ٢١٦.

(٢) الوسائل الباب ـ ١٢ ـ من أبواب القسم والنشوز الحديث ٢.

(٣) الوسائل الباب ـ ١٣ ـ من أبواب القسم والنشوز الحديث ١.

(٤) الوسائل الباب ـ ١٢ ـ من أبواب القسم والنشوز الحديث ١.

(٥) الوسائل الباب ـ ١٠ ـ من أبواب القسم والنشوز الحديث ١.

٢١٠

من الأصحاب في المراد بالاية إضمار الاستمرار ، بمعنى وإن خفتم استمرار الشقاق بينهما ، أو كون المراد بالخوف العلم والتحقق ، ومنه يعلم المراد بالاية السابقة ، لكن في الرياض بعد ذكر الأول قال : « وفيه نظر ، لتوقفه على كون مطلق الكراهة بينهما شقاقا وليس ، لاحتمال أن يكون تمام الكراهة بينهما فيكون المراد أنه إذا حصل كراهة كل منهما لصاحبه وخفتم حصول الشقاق فابعثوا ، مع أنه المتبادر عند الإطلاق ، والأولى من الإضمار على تقدير مجازيته ، نعم على هذا التقدير يتردد الأمر بين المجاز المزبور وبين التجوز في الخشية ، بحملها على العلم والمعرفة وإبقاء الشقاق على حقيقته التي هي مطلق الكراهة » ولا يخفى عليك ما فيه بعد الإحاطة بما سمعت من تفسير الشقاق والاتفاق على بعث الحكمين بحصوله وعدم انقطاعه لا على تمام الكراهة ، بل من ذلك يعلم ما في كشف اللثام أيضا من احتمال إضمار شدة الشقاق بينهما والتأدي إلى التساب والتهاجر والتضارب ، فان ذلك ليس عنوان بعث الحكمين قطعا.

وعلى كل حال فالظاهر ما عن الأكثر كما في المسالك من أن المخاطب بالبعث الحكام المنصوبين لمثل ذلك ، بل في كنز العرفان أنه المروي (١) عن الباقر والصادق عليهما‌السلام ، وفي‌ المرسل عن تفسير علي بن إبراهيم عن أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه (٢) « في رجل وامرأة في هذا الحال فبعث حكما من أهله وحكما من أهلها » ‌ونحوه عن مجمع البيان خلافا لظاهر المصنف في النافع والمحكي عن الصدوقين من أنه الزوجان ، فان امتنعا فالحاكم ، لظاهر النصوص (٣) السابقة وصريح المحكي عن‌ فقه الرضا عليه‌السلام (٤) « يختار الرجل رجلا وتختار المرأة رجلا » ‌إلى آخره.

__________________

(١) كنز العرفان ص ٣١٥ ط حجر.

(٢) المستدرك الباب ـ ١١ ـ من أبواب القسم والنشوز الحديث ٢.

(٣) الوسائل الباب ـ ١٢ و ١٣ ـ من أبواب القسم والنشوز.

(٤) المستدرك الباب ـ ٨ ـ من أبواب القسم والنشوز الحديث ١.

٢١١

وفيه أنه مناف لاختلاف الضميرين بالغيبة والحضور والتثنية والجمع ، وليس المقام مقام التفات ، على أن المأمور بالبعث الخائف من شقاقهما ، وهو غيرهما ، والإنسان لا يبعث أحدا إلى نفسه ، ولا منافاة بين كون الباعث الحاكم وبين اشتراطهما على الزوجين مما يريد ان اشتراطه.

وقريب منه ما عن الإسكافي إلا أنه جعل الحاكم بأمر الزوجين بأن يبعثا من يختارانه من أهلهما ، وفي المسالك « وفيه جمع بين الفائدتين والقولين ، وفي موثق سماعة (١) السابق ما يرشد إليه ، بل قال : ويمكن أن يستدل به على أن المرسل الزوجان » وفيه ما لا يخفى.

وأضعف منهما ما عن بعض من شذ من كون المرسل أهلوهما ، وهو مع كونه شاذا مناف لظاهر الآية والنصوص وإن قيل إنه يشعر به بعض الأخبار (٢).

نعم لو تعذر الحاكم قام عدول المسلمين مقامه في ذلك ، ولو تعذر الجميع فبعث الزوجان كان المبعوث وكيلا محضا لا حكما ، فيفعل ما تقتضيه الوكالة من عموم أو خصوص.

هذا ولكن في كشف اللثام بعد أن ذكر ما سمعته من النافع قال : « وهو حق ، ولا يستلزم أن يكون الخطاب في الآية للزوجين ليستبعد ، ولا ينافيه ظاهرها فان من المعلوم أن بعثهما الحكمين جائز وأنه أولى من الترافع إلى الحاكم ، وكذا إذا بعث أولياؤهما الحكمين مع جواز الخطاب في الآية لهم عموما أو خصوصا أو البعث منهم أو منهما ، فيقسم إلى الواجب وغيره كما في بعث الحاكم ، واقتصر في النهاية على نفي البأس عن بعث الزوجين ، وبالجملة ينبغي أن لا يكون خلاف في جواز البعث من كل من هؤلاء ، ووجوبه إذا توقف الإصلاح عليه ، خصوصا الحاكم والزوجين ، ولا ينشأ الاختلاف في الآية الاختلاف في ذلك ».

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١٣ ـ من أبواب القسم والنشوز الحديث ١.

(٢) الوسائل الباب ـ ١٣ ـ من أبواب القسم والنشوز الحديث ٦ والمستدرك الباب ـ ١١ ـ منها الحديث ١ وسنن البيهقي ج ٧ ص ٣٠٥.

٢١٢

قلت : قد يناقش بإمكان منع بعث الزوجين حكمين والأهلين على وجه يترتب عليه إمضاء حكمهما عليهما بالصلح وإن لم يرضيا بناء على اختصاص الخطاب في الآية للحكام ، لعدم دليل حينئذ على ذلك ، وكذا الكلام في العكس ، وهذا ونحوه أحد ثمرات الخلاف في المسألة.

وكيف كان فالظاهر وجوب هذا البعث وفاقا لجماعة ، لظاهر الأمر ، ولكون ذلك من الأمر بالمعروف ، ومن الحسب التي نصب الحاكم لأمثالها ، خلافا للمحكي عن التحرير من الاستحباب ، للأصل وظهور الأمر في الإرشاد ، على أنه من الأمور الدنيوية التي لا يظهر إرادة الوجوب منه فيها ، وفيه أن الأصل مقطوع بما عرفت والأخيرين لا ينافيان ظهوره في الوجوب المؤيد بما عرفت.

نعم قد يقال بعدم تعين وجوب الكيفية المخصوصة مع إمكان إصلاح حالهما بغيرها أما لو انحصر فيها تعين وجوبها.

وكذا الكلام في كون الحكمين من الأهلين ، ضرورة عدم اعتبار القرابة في الحكومة ، والغرض يحصل بالأجنبي كما يحصل بها ، والآية مسوقة للإرشاد ، فمع عدم انحصار الأمر فيهم يجوز الأجانب ، كما إذا لم يكن ثم قريب ، نعم لو انحصر الأمر فيهم اتجه الوجوب حينئذ ، كما أنه لو انحصر الأمر في الأجنبي تعين.

هذا وفي الرياض بعد اختيار الاختصاص بالأهل قال في شرح قوله في النافع : « ويجوز أن يكونا أجنبيين » « أما مطلقا كما هو ظاهر المتن أو مقيدا بعدم الأهل كما هو الأقوى ، لكن مع ذلك ليس لهما حكم المبعوث من أهلهما من إمضاء ما حكما عليهما ، لمخالفته الأصل ، فيقتصر فيه على مورد النص ، ويكون حكمهما حينئذ الاقتصار على ما أذن به الزوجان وفيه وكلا ، وليس لهما من التحكيم ـ الذي هو حكم الحكمين كما يأتي ـ شي‌ء جدا ، وفي حكم فقد الأهل توقف الإصلاح على الأجنبي ».

وهو من غرائب الكلام يمكن دعوى الإجماع على خلافه ، مضافا إلى ظهور النصوص (١) في الآية في عموم الحكم للزوجين ذي الأهل وغيرهم ، على أن التقييد‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١٠ و ١٢ و ١٣ ـ من أبواب القسم والنشوز.

٢١٣

الذي ذكره معناه مضي حكم الأجنبي وصيرورته كالأهل مع عدمهم ، وإلا فالتوكيل لا ريب في جوازه مع وجود الأهل فضلا عن حال عدمهم ( وبالجملة ) لا يخفى ما في كلامه من الغبار ، خصوصا مع ملاحظة كلام الأصحاب والتأمل في الآية الشريفة (١) ونصوص (٢) الباب ، والله المسدد للصواب.

وكيف كان ف هل بعثهما على سبيل التحكيم أو التوكيل قولان إلا أن الأظهر منهما والأشهر بل المشهور بل عن ظاهر السرائر وفقه القرآن الإجماع عليه ، وفي محكي المبسوط أنه مقتضى المذهب أنه تحكيم لأنه مقتضى تسميتهما حكمين في الكتاب (٣) والسنة (٤) والفتاوى ومقتضى خطاب غير الزوجين ببعثهما ، والوكيل مأذون ليس بحكم ، والمخاطب به الزوجان لا غيرهما ، ولأنهما إن رأيا الإصلاح فعلاه من غير استئذان ، ويلزم ما يشترطانه عليهما من السائغ ، ولو كان توكيلا لم يقع إلا ما دل عليه لفظهما ، وكون الزوج والزوجة رشيدين ، والحق لهما لا ينافي حكم الشارع عليهما كالمماطل ، فإنهما بالإصرار على الشقاق صارا كالممتنعين عن قبول الحق ، فجاز الحكم عليهما ، كما أن عدم اعتبار الاجتهاد فيهما لا ينافي مضى حكمهما ، لأن محله أمر معين جزئي يجوز تفويض أمره إلى الآحاد كنظائره ، وليس هو من الرئاسة العامة التي يعتبر فيها الاجتهاد ، مع أن مثل ذلك لا يعارض ظاهر الكتاب والسنة ، خصوصا والحاكم في الحقيقة الحاكم الذي أرسلهما ، فهما بمنزلة الوكيلين.

والظاهر عدم اعتبار رضا الزوجين في بعثهما بناء على المختار ، ضرورة كون ذلك سياسة شرعية.

نعم قد يقال باعتبار رضاهما على التوكيل مع احتمال عدمه أيضا ، على معنى أنهما مع الامتناع يوكل عنهما الحاكم قهرا.

ولا ريب في اشتراط البلوغ والعقل والاهتداء إلى ما هو المقصود من بعثهما ،

__________________

(١) و (٣) سورة النساء : ٤ ـ الآية ٣٥.

(٢) و (٤) الوسائل الباب ـ ١٠ و ١٢ و ١٣ ـ من أبواب القسم والنشوز.

٢١٤

قيل : والإسلام ، وهو جيد فيما كان الشقاق بين المسلمين أما غيرهم فلا يخلو من نظر.

وأما العدالة والحرية ففي المسالك « إن جعلناهما حكمين اعتبرا قطعا وإن جعلناهما وكيلين ففي اعتبارهما وجهان ، أجودهما العدم ، لأنهما ليسا شرطا في الوكيل » وفيه إمكان منع اعتبار ذلك على الأول أيضا ، وما دل على اعتبارهما في الرئيس العام لا يقتضيه في مثل المقام المجبور بنظر الرئيس ، كما أنه احتمل اعتبارهما على الثاني بدعوى أن الوكالة إذا تعلقت بنظر الحاكم اعتبر فيها ذلك كأمر الحاكم.

وكيف كان فيجب عليهما البحث والاجتهاد في حالهما وفي السبب الداعي إلى الشقاق بينهما ، ثم يسعون في أمرهما فإن اتفقا على الإصلاح فعلاه من غير مراجعة لهما ، لأنه مقتضى تحكيمهما أو توكيلهما على ذلك ، وإن اتفقا على التفريق فعلى التوكيل لم يصح إلا ب فرض التوكيل الدال على رضا الزوج في الطلاق ورضا المرأة في البذل إن كان خلعا ، وأما على التحكيم فالأشهر بل المشهور عدم جوازه أيضا إلا مع مراجعتهما ، ولعله لظاهر كون المراد من التحكيم فعل ما يتحقق به الإصلاح والتأليف ، كما أومأ إليه بقوله تعالى (١) ( إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما )‌ وقال الحلبي (٢) في الحسن : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله عز وجل (٣) : ( فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها ) ، قال : ليس للحكمين بأن يفرقا حتى يستأمرا الرجل والمرأة ويشترطا عليهما إن شئنا جمعنا وإن شئنا فرقنا ، فان فرقا فجائز ، وإن جمعا فجائز ».

وفي‌ صحيح ابن مسلم (٤) عن أحدهما عليهما‌السلام « سألته عن قول الله عز وجل :

__________________

(١) و (٣) سورة النساء : ٤ ـ الآية ٣٥.

(٢) الوسائل الباب ـ ١٠ ـ من أبواب القسم والنشوز الحديث ١.

(٤) الوسائل الباب ـ ١٢ ـ من أبواب القسم والنشوز الحديث ١.

٢١٥

( فَابْعَثُوا حَكَماً ) ـ إلى آخره ـ قال : ليس للحكمين أن يفرقا حتى يستأمرا ».

وفي‌ خبر علي بن أبي حمزة (١) « سألت العبد الصالح عليه‌السلام عن قول الله تعالى ( وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما ) ـ إلى آخره ـ فقال : يشترط الحكمان إن شاءا فرقا وإن شاءا جمعا ففرقا أو جمعا جاز » ‌ونحوه خبر أبي بصير (٢) عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، وفي خبر سماعة (٣) « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله عز وجل ( فَابْعَثُوا ) ـ إلى آخره ـ أرأيت إن استأذن الحكمان ، فقالا للرجل والمرأة : أليس قد جعلتما أمركما إلينا في الإصلاح والتفريق؟ فقال الرجل والمرأة : نعم وأشهدا بذلك شهودا عليهما ، أيجوز تفريقهما عليهما؟ قال : نعم ، ولكن لا يكون إلا على طهر من المرأة من غير جماع كالزوج ، قيل له : أرأيت إن قال أحد الحكمين : قد فرقت بينهما ، وقال الآخر : لم أفرق بينهما؟ فقال : لا يكون تفريق حتى يجتمعا جميعا على التفريق ، فإذا اجتمعا على التفريق جاز تفريقهما ».

لكن لا يخفى عليك ظهور هذه النصوص في أن التفريق لهما مع اشتراطهما ذلك ، ولعله لا ينافي كلام المشهور المنزل على أنه ليس لهما التفريق مع الإطلاق بل على ذلك نزل كلام ابن الجنيد ، فإنه قال على ما حكى عنه : « ويشترط الوالي أو المرضي بحكمه على الزوجين أن للمختارين جميعا أن يفرقا بينهما أو يجمعا إن رأيا ذلك صوابا ، وعلى كل واحد من الزوجين إنفاذ ذلك والرضا به ، وأنهما قد وكلاهما في ذلك ، ومهما فعلاه فهو جائز عليهما ».

وفي المسالك « قد روى (٤) « أن عليا صلوات الله وسلامه عليه بعث حكمين وقال تدريان ما عليكما ، عليكما إن رأيتما أن تجمعا جمعتما وإن رأيتما أن تفرقا‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١٠ ـ من أبواب القسم والنشوز الحديث ٢.

(٢) الوسائل الباب ـ ١٢ ـ من أبواب القسم والنشوز الحديث ٢.

(٣) الوسائل الباب ـ ١٣ ـ من أبواب القسم والنشوز الحديث ١.

(٤) الوسائل الباب ـ ١٣ ـ من أبواب القسم والنشوز الحديث ٦ والمستدرك الباب ـ ١١ ـ منها الحديث ١ وسنن البيهقي ج ٧ ص ٣٠٥.

٢١٦

فرقتما ، فقالت المرأة : رضيت بما في كتاب الله علي ولي فقال الرجل : أما الفرقة فلا ، فقال علي عليه‌السلام : كذبت والله حتى تقر بمثل الذي أقرت به » وقد احتج بهذا الخبر الفريقان ، فالأول من حيث إنه اعتبر رضاهما وإقرارهما ، والثاني من حيث جعل الجمع والتفريق إلى الحكمين ، وقوله عليه‌السلام : « حتى تقر » أي ليس لك أن تمتنع ، بل عليك أن تنقاد لحكم الله تعالى ، كما انقادت هي ، وهذا أشبه بمذهب ابن الجنيد ».

قلت : يمكن تنزيل الخبر على تلك الأخبار أيضا على معنى أنه لا بد من اتفاقهما على كيفية الحكم على الإصلاح خاصة أو عليه وعلى التفريق ، نعم يظهر منه وجوب تبعية الأخر عن إرادة تعميم التحكيم.

وكيف كان فعلى ما قلناه إذا رأى حكم الرجل أن يطلق بغير عوض طلق مستقلا به ، لأن حكم المرأة لا صنع له بالطلاق ، ولا يزيد على واحدة ، لكن إن راجع الزوج وداما على الشقاق زاد إلى أن يستوفي الطلقات الثلاث ، وإن رأي الخلع وساعده حكم المرأة تخالعا : وإن اختلفا وقف ، وينبغي أن يخلو حكم الرجل بالرجل وحكم المرأة بالمرأة خلوة غير محرمة ليعرفان ما عندهما وما فيه رغبتهما ، وإذا اجتمعا لم يخف أحدهما على الأخر بما علم ، ليتمكنا من رأي الصواب وينقدح ما رأياه صوابا بشرطه ، فان اختلف رأيهما بعث إليهما آخرين حتى يجتمعا على شي‌ء ، وينبغي للحكمين إخلاص النية في السعي وقصد الإصلاح فمن حسنت نيته فيما تحراه أصلح الله مسعاه ، وكان ذلك سببا لحصول مسعاه ، كما ينبه عليه قوله تعالى (١) ( إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما ) ومفهوم الشرط يقتضي أن عدم التوفيق بين الزوجين يدل على فساد قصد الحكمين وأنهما لم يجتمعا على قصد الإصلاح ، بل في نية أحدهما أو هما فساد ، فلذلك لم يبلغا المراد والظاهر أنه هو السبب في الفساد في تحكيم ابن العاص وأبي موسى الأشعري في أيام‌

__________________

(١) سورة النساء : ٤ ـ الآية ٣٥.

٢١٧

صفين (١) فإن نية كل منهما فاسدة وإن كان الأول أشد من الثاني ، ولذا ترتب عليه ما ترتب ، والله العالم.

( تفريع : )

لو بعث الحكمان فغاب الزوجان أو أحدهما ففي المسالك نفذ حكمها قطعا بناء على التوكيل ، لأن تصرف الوكيل فيما وكل فيه نافذ مع حضور الموكل وغيبته ومع بقائه على الخصومة والشقاق وعدمه ، وفيه إمكان منع نفوذه مع فرض ارتفاع الخصومة ، ضرورة انتفاء موضوع التوكيل حينئذ على الصلح الرافع للنزاع والشقاق المفروض ارتفاعهما قبل حكم الحكمين.

وأما على التحكيم ف قيل والقائل الشيخ في المحكي من مبسوطة :

لم يجز الحكم ، لأنه حكم للغائب لا عليه والجائز الثاني لا الأول ولو قيل بالجواز كان حسنا لا لما ذكره المصنف من أن حكمهما مقصور على الإصلاح ، أما التفرقة فموقوفة على الاذن ضرورة عدم انطباق ذلك على حجة المدعى ، بل لمنع عدم جواز الحكم للغائب وعليه في المقام ، لإطلاق الأدلة الذي لا يعارضه القياس على حكم الفقيه للغائب لو سلم المقيس عليه ، ولذا لا يكون الغائب منهما على حجته في المقام بخلافه هناك ، ودعوى عدم معلومية بقاء الشقاق بينهما مع الغيبة خروج عن عنوان البحث الذي هو الحكم عليهما من حيث الغيبة التي يمكن أن تجامع العلم ببقاء الشقاق بينهما ، على أن الاستصحاب كاف وإن كان قد يقوى عدم نفوذ الحكم عليهما لو فرض تأخره عن ارتفاع الشقاق بينهما ، وكذا الحكم فيما لو سكت أحدهما ، بل لا يبعد نفوذ حكم الحكمين فيما لو خرجا أو أحدهما عن قابلية التكليف بجنون أو إغماء فضلا عن الغيبة ، لإطلاق الأدلة. والله العالم.

__________________

(١) الكامل لابن الأثير ـ ج ٣ ص ٣١٨.

٢١٨

( مسألتان الاولى )

ما يشترطه الحكمان عليهما أو على أحدهما يلزم إن كان سائغا بلا خلاف ولا إشكال ، لإطلاق الأدلة وإلا كان باطلا ، بل يقوى بطلان الحكم بما أوقعاه من الاصطلاح لا أن لهما نقضه كما عبر به المصنف مشعرا بأن لهما الرضا به ولهما نقضه ، وهو غير متصور في الشرط لغير السائغ.

لكن في المسالك « إذا اشترط الحكمان شرطا نظر فيه ، فان كان مما يصلح لزومه شرعا لزم وإن لم يرض الزوجان ، كما لو شرطا عليه أن يسكنها في البلد الفلاني أو في المسكن المخصوص أو لا يسكن معها في الدار أمة ولو في بيت منفردا ولا يسكن معها الضرة في دار واحدة ، أو شرطا عليها أن تؤجله بالمهر الحال إلى أجل أو ترد عليه ما قبضته منه قرضا ونحو ذلك ، لعموم « المؤمنون عند شروطهم » (١) بعد جعل الحكم إليهما. وإن كان غير مشروع كما لو شرط عليها ترك بعض حقوقها من القسم أو النفقة أو المهر أو عليه أن لا يتزوج أو لا يتسرى أو لا يسافر بها لم يلزم ذلك بلا خلاف. ثم إن كان الشرط مما للزوجين فيه التصرف كترك بعض الحق فلهما نقضه والتزامه تبرعا ، وإن كان غير مشروع أصلا كعدم التزويج والتسري فهو منقوض في نفسه ، ويمكن أن يريد المصنف بقوله « كان لهما نقضه » مطلقا الشامل للجميع الدال بمفهومه على أن لهما أيضا التزامه التزام مقتضاه ، بأن لا يتزوج ولا يتسرى تبرعا بذلك وإن لم يكن لازما له بالشرط ، وإلى هذا يشير كلام الشيخ في المبسوط ، حيث قال في هذا القسم : « فان اختار الزوجان المقام على ما فعله الحكمان كان جميلا ، وإن اختارا أن يطرحا فعلا فان ظاهر فعل الجميل كونه تبرعا وتفضلا بغير استحقاق » وتبعه على ذلك في كشف اللثام.

ولكن لا يخفى عليك ما فيه من النظر في أصل المطلب فضلا عن بعض‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب المهور الحديث ٤.

٢١٩

الخصوصيات ، ضرورة لزوم كل شرط سائغ عليهما أو على أحدهما ، لعموم الأدلة القاضية بكونهما حكمين ، وأنه لا يبطل منه إلا الباطل بأصل الشرع ، فليس حينئذ من الشروط ما لهما الالتزام به ولهما نقضه ، كما هو واضح.

( المسألة الثانية )

لو منعها شيئا من حقوقها المستحبة أو أغارها بما لا يحرم عليه فبذلت له بذلا ليخلعها صح ، وليس ذلك إكراها قطعا وإن قصد بذلك ذلك بل الظاهر عدم الإكراه بترك حقوقها الواجبة عصيانا لا لإرادة البذل ، كما جزم به في المسالك وإن كان آثما ، بل فيها « وكذا لو قصد بترك حقها ذلك ولم يظهره لها وإن كان آثما أيضا ـ قال : ـ أما لو أظهر لها أن تركه لأجل البذل كان ذلك إكراها وأظهر منه ما لو أكرهها على نفس البذل ـ ثم قال : ـ وما ذكره المصنف قول الشيخ في المبسوط (١) ووافقهما عليه العلامة في الإرشاد ، وفي التحرير نسب القول إلى الشيخ ساكتا عليه مؤذنا بتردده فيه أو ضعفه ، وفي القواعد قيد حقوقها بالمستحب ، ومفهومه أنه لو منع الواجبة كان إكراها ، وهذا القول نقله الشيخ في المبسوط أولا عن بعض العامة ، ثم قال : الذي يقتضيه مذهبنا أن هذا ليس إكراها ، وهو المعتمد ».

قلت : لا إشكال في تحقق الإكراه بالصورتين المذكورتين ، وأما الصورة السابقة فهي إن لم تكن إكراها فقد يقال بحرمة البذل عليه أيضا لاندراجه في قوله تعالى (٢) ( وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا ) المفسر بذلك ، بل قد يقال : بحرمته‌

__________________

(١) في النسخة الأصلية المبيضة « وما ذكره المصنف والشيخ في المبسوط » وفي المخطوطة بخط المصنف طاب ثراه « وما ذكره المصنف الشيخ في المبسوط » والصحيح ما أثبتناه ، كما أن الموجود في المسالك أيضا كذلك.

(٢) سورة البقرة : ٢ ـ الآية ٢٣١.

٢٢٠