جواهر الكلام - ج ٢٩

الشيخ محمّد حسن النّجفي

( ومنها ) خبر أبى العباس (١) قال : « إذا جاءت بولد لستة أشهر فهو للأخير ، وإن كان أقل من ستة أشهر فهو للأول » إلا أنها غير وافية بتمام المطلوب الذي منه وطء الشبهة لا بعقد ، اللهم إلا أن يدعى عدم القول بالفصل ، أو يدعى أن خبر أبى العباس شامل له ، أو يقال : إن الحكم فيه للأول لعدم زوال فراشه ، أو تتعين فيه القرعة ، كما لعله ظاهر المسالك ، قال فيها : « وإنما قيد المصنف بالطلاق مع أن إلحاقه بهما ممكن بدونه ، كما لو وطأ زوجته ثم وطأها آخر شبهة ، فإن الأقسام تأتي فيه ، إلا أنه هنا لا يتوجه الخلاف المذكور في هذه ، لثبوت الفراش الملحق للنسب بهما ، بخلاف صورة الفرض ، فان فراش الأول قد زال بالطلاق ، فكان الثاني أرجح من هذا الوجه ، فيتصور الخلاف ، وظاهره القرعة ».

ومنه صورة الجهل بتاريخ الوطء ، فان ظاهر النصوص المزبورة معلوم الإمكان ، لا ما دار بينه وبين الامتناع. اللهم إلا أن يدعى كون المفهوم منها أعم من ذلك ، لكنه مشكل ، ولعل المتجه فيه القرعة أيضا بعد ما عرفت من فساد ما في المسالك من دعوى أصالة اللحوق بالثاني ، لما عرفته من زوال فراشه ، بزوال الشبهة ، نعم قد يقال بترجيح الفراش الفعلي على الزائل كما عساه الظاهر من أكثر النصوص السابقة مؤيدا بخبر الصيقل (٢) عن أبى عبد الله عليه‌السلام « سمعته يقول وقد سئل عن رجل اشترى جارية ثم وقع عليها قبل أن يستبرئ رحمها ، قال : بئسما صنع ، يستغفر الله ولا يعود ، قلت : فان باعها من آخر ولم يستبرئ رحمها ثم باعها الثاني من رجل آخر فوقع عليها ولم يستبرئ رحمها فاستبان حملها عند الثالث ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : الولد للفراش ، وللعاهر الحجر » والمراد الأخير الذي عنده الجارية بقرينة‌ خبره الآخر في ذلك (٣) إلا أنه قال : « قال أبو عبد الله عليه‌السلام : الولد للذي عنده الجارية ، لقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الولد للفراش وللعاهر الحجر » وخبر سعيد الأعرج (٤) عنه عليه‌السلام أيضا « سألته عن رجلين وقعا على جارية في طهر واحد لمن يكون الحمل ،

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١٧ ـ من أبواب أحكام الأولاد الحديث ١٢.

(٢) الوسائل الباب ـ ٥٨ ـ من أبواب نكاح العبيد والإماء الحديث ٢.

(٣) الوسائل الباب ـ ٥٨ ـ من أبواب نكاح العبيد والإماء الحديث ٣.

(٤) الوسائل الباب ـ ٥٨ ـ من أبواب نكاح العبيد والإماء الحديث ٤.

٢٦١

قال : للذي عنده الجارية ، لقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الولد للفراش » بل منها يستفاد كون الجارية فراشا ، وفيه بحث يأتي في محله ، ولعل المراد هنا بعد العلم بوطء المالك ، ويأتي تمام البحث فيه.

أما إذا لم يكن فراش فعلي كما لو فرض اشتباه الجميع فالمتجه القرعة بعد ما عرفت من عدم جريان الأصول على وجه تفيد الإلحاق ، والمرسل (١) وخبر أبي العباس (٢) لا جابر لهما بالنسبة إلى الإلحاق بالأخير ، بل لعل من ذلك‌ خبر معاوية بن عمار (٣) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « إذا وطأ رجلان أو ثلاثة جارية في طهر واحد فولدت فادعوه جميعا أقرع الوالي بينهم ، فمن قرع كان الولد ولده ، ورد قيمة الولد على صاحب الجارية » الخبر. وخبر سليمان (٤) عنه عليه‌السلام أيضا « قضى علي عليه‌السلام في ثلاثة وقعوا على امرأة في طهر واحد ، وذلك في الجاهلية قبل أن يظهر الإسلام ، فأقرع بينهم ، فجعل الولد لمن قرع ، وجعل عليه ثلثي الدية للآخيرين ، فضحك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى بدت نواجده ، وقال : لا أعلم فيها شيئا إلا ما قضى علي » وخبر أبي بصير (٥) عن أبى جعفر عليه‌السلام قال : « بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليا الى اليمن ، فقال له حين قدم : حدثني بأعجب ما مر عليك ، فقال : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أتاني قوم تبايعوا جارية فوطؤوا أجمع في طهر واحد ، فولدت غلاما ، فاحتجوا به كلهم يدعيه ، فأسهمت بينهم ، وجعلته للذي خرج سهمه وضمنته نصيبهم ، فقال : النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنه ليس من قوم تنازعوا ثم فوضوا أمرهم الى الله إلا أخرج سهم المحق » فتأمل جيدا.

وأما اللبن فلا ريب في تبعيته بثبوت النسب وإن حكي التردد فيه في وطء الشبهة عن ابن إدريس ، لكنه في غير محله ، ضرورة اندراجه في نحو‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١٧ ـ من أبواب ما يحرم بالمصاهرة الحديث ١٤.

(٢) الوسائل الباب ـ ١٧ ـ من أبواب أحكام الأولاد الحديث ١٢.

(٣) الوسائل الباب ـ ٥٧ ـ من أبواب نكاح العبيد والإماء الحديث ١.

(٤) الوسائل الباب ـ ٥٧ ـ من أبواب نكاح العبيد والإماء الحديث ٢.

(٥) الوسائل الباب ـ ٥٧ ـ من أبواب نكاح العبيد والإماء الحديث ٤.

٢٦٢

( أُمَّهاتُكُمُ اللاّتِي أَرْضَعْنَكُمْ ) (١) بعد فرض تحقق النسب بوطء الشبهة ، كما هو واضح.

الفرع ( الثالث )

لو أنكر الولد ولاعن انتفى عن صاحب الفراش بلا خلاف ولا إشكال ، وكان اللبن تابعا ، فلا ينشر حرمة بالنسبة اليه وإن نشر بالنسبة إلى الامرأة ، للحكم به بوطء صحيح بالنسبة إليها بخلافه ، وحينئذ يكون كلبن الشبهة من طرف المرأة الذي ستعرف الكلام فيه إنشاء الله ، وإن كان قد يشكل بعدم الفحل شرعا ، فيكون كلبن الدر ، وقد يدفع بأنه ليس كذلك في حقها بخلاف الملاعن نفسه.

نعم يحرم الولد عليه إن كان بنتا مع الدخول بالأم ، لكونها ربيبته حينئذ ، أما إذا لم يكن قد دخل فلعل المتجه عدم الحرمة ، للعمومات بعد أن قطع الشارع نسبه عنها باللعان ، وما يقال : إنه غير منتفية عنه قطعا ، بدليل أنه لو أقر بها بعد اللعان ورثته ، يدفعه أن ذلك غير كاف في التحريم ، فان البنت المجهولة النسب التي يمكن تولدها عنه لو ادعى كونها بنته قبل مع أنها لا تحرم عليه قبل ذلك.

وكيف كان ف لو أقر به بعد ذلك اللعان عاد نسبه إليه بمعنى أنه يرثه الولد وإن كان هو لا يرث الولد بل يقوى في النظر أن ذلك لعدم عود النسب بإقراره ، لا أنه يعود به وعدم الإرث عقوبة ، ضرورة عموم ما دل على انقطاع النسب باللعان ، والإرث منه مؤاخذة له بإقراره لا ينافيه ، فيبقى حينئذ حكم انقطاع النسب بالنسبة الى غير ذلك ، فيقتص منه بقتله ، ويحبس في دينه ، ويقطع بالسرقة من ماله ، وتقبل شهادته عليه ، وغير ذلك من أحكام الأجانب ، بل لا يعود حكم اللبن إلا بالنسبة إليه خاصة مؤاخذة له بالإقرار ، وربما احتمل عوده مطلقا ، ولكنه واضح الضعف ، وربما يأتي لذلك تتمة إن شاء الله في محله.

__________________

(١) سورة النساء : ٤ ـ الآية ٢٣.

٢٦٣

( السبب الثاني )

من أسباب التحريم

( الرضاع )

كتابا (١) وسنة متواترة (٢) وإجماعا وضرورة من المذهب أو الدين ولكن النظر في شروطه وأحكامه‌ إذ لا ريب في أن انتشار الحرمة بالرضاع يتوقف على شروط : الأول أن يكون اللبن عن نكاح أى وطء بعقد صحيح أو ملك يمين فلو در من الامرأة من دون نكاح فضلا عن غيرها من الذكر والبهيمة لم ينشر حرمة بلا خلاف أجده فيه ، بل الإجماع بقسميه عليه ، للأصل والموثق (٣) « عن امرأة در لبنها من غير ولادة فأرضعت جارية أو غلاما بذلك اللبن هل يحرم بذلك اللبن ما يحرم من الرضاع؟ قال : لا » والخبر (٤) « عن امرأة در لبنها من غير ولادة فأرضعت ذكرانا وإناثا أيحرم من ذلك ما يحرم من الرضاع؟ قال : لا » وبهما مع الإجماع يخص العام ويقيد المطلق لو سلم شمولهما المثل الفرض ، بل ظاهرهما عدم النشر به بعد الولادة وإن كانت منكوحة ، بل وأن كانت حاملا ، كما هو مجمع عليه في الأولى والأشهر في الثانية ، بل عن الخلاف والغنية والسرائر الإجماع عليه.

بل ربما استدل عليه بظاهر‌ صحيح ابن سنان (٥) « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن لبن الفحل ، فقال : هو ما أرضعت امرأتك من لبنك ولبن ولدك ولد امرأة‌

__________________

(١) سورة النساء : ٤ ـ الآية ٢٣.

(٢) الوسائل الباب ـ ١ ـ من أبواب ما يحرم بالرضاع.

(٣) الوسائل الباب ـ ٩ ـ من أبواب ما يحرم بالرضاع الحديث ١.

(٤) الوسائل الباب ـ ٩ ـ من أبواب ما يحرم بالرضاع الحديث ٢.

(٥) الوسائل الباب ـ ٦ ـ من أبواب ما يحرم بالرضاع الحديث ٤.

٢٦٤

أخرى فهو حرام » بل‌ في خبره الآخر (١) عنه عليه‌السلام أيضا « عن لبن الفحل ، فقال ما أرضعت امرأتك من لبن ولدك ولد امرأة أخرى فهو حرام » بتقريب عدم صدق لبن الولد على الحمل ، لكن قد يقال : إنه وإن كان في تعريف لبن الفحل إلا أنه لم يسبق لبيان ذلك ، ولا لإرادة القيدية في جميع ما ذكره ، ضرورة عدم انحصاره في ذلك ، فالعمدة حينئذ ما سمعت ، خلافا للقواعد والمسالك والروضة وظاهر عبارة المصنف الآتية ، للإطلاق الواجب تقييده بما عرفت لو سلم شموله للفرض وعدم انسباق الولادة من الرضاع فيها ، لتعارفه كما عساه يومئ اليه إرادته من لفظ الرضاع في الخبرين السابقين.

نعم هل يعتبر في الولادة كونها في محل يعيش الولد أو بعد ولوج الروح فيه أو لا يعتبر شي‌ء من ذلك ، بل يكفي مطلق الوضع له وإن قلت أيامه ما لم يعرف كونه درا؟ لم أجد لهم نصا في ذلك ، ولا ريب في أن الأخير أحوط إن لم يكن أقوى ، للإطلاق الذي لا يعارضه عموم الحل بعد أن كان موضوعه ما وراء المحرمات.

بقي شي‌ء ، وهو أن ظاهر المصنف وغيره اعتبار الوطء في ترتب حكم الرضاع ، ومقتضاه حينئذ عدم العبرة بمن حملت امرأته من مائه السابق الى فرجها من دون دخول ثم ولدت ، ولكن فيه أنه مناف لإطلاق الأدلة الذي لا يقدح فيه ندرة اتفاق ذلك ، فالأولى جعل المدار على تكون الولد من مائه على وجه ينسب اليه الولد الذي يتبعه اللبن حتى في نكاح الشبهة الذي ستعرف كونه بحكم النكاح الصحيح بالنسبة الى ذلك ، ولعل تعبير الأصحاب بالوطء باعتبار الغلبة ، لا أن المراد اشتراط ذلك على وجه يخرج به ما عرفت وإن كان ربما حكي عن ثاني الشهيدين التصريح باعتبار الدخول ، ولكن فيه ما عرفت ، والله العالم.

وكذا لا ينشر لو كان عن وطء زنا ولو مع الولادة إجماعا وذكره في الكافي ج ٥ ص ٤٤٠.

__________________

(١) أشار إليه في الوسائل في الباب ـ ٦ ـ من أبواب ما يحرم بالرضاع الحديث ٤.

٢٦٥

بقسميه وهو الحجة بعد ما‌ في الدعائم عنه أي علي عليه‌السلام (١) إنه قال : « لبن الحرام لا يحرم الحلال ، ومثل ذلك امرأة أرضعت بلبن زوجها ثم أرضعت بلبن فجور قال : ومن أرضع من فجور بلبن صبية لم يحرم نكاحها ، لأن اللبن الحرام لا يحرم الحلال » وبعد ظهور الأدلة في غيره ، خصوصا بعد ما عرفت من عدم تحقق النسب المقتضي لكون اللبن من غير فحل شرعي ، فما عن ابن الجنيد ـ من أنها لو أرضعت بلبن حمل من زنا حرمت وأهلها على المرتضع ، وكان تجنبه أهل الزاني أحوط وأولى ـ في غير محله ، سيما فرقه بين الزاني والزانية.

نعم في نكاح الشبهة تردد كما هو ظاهر من السرائر أشبهه تنزيله على النكاح أى الوطء بالعقد الصحيح وفاقا للأكثر ، بل لم نجد فيه خلافا محققا ، فان ظاهر المحكي عن الحلي التردد ، ولعله للأصل ومنع العموم في الرضاع المطلق في الآية (٢) والأخبار (٣) المنصرف الى غير الشبهة ، لندرتها واختصاص الملحق لها بالنسب من الإجماع بغير محل الخلاف ، ولا نص عام يدل عليه ، مضافا الى مفهوم الصحيح (٤) السابق الذي عرفت عدم كونه مساقا لإرادة القيدية كمنع دعوى الانصراف المزبور الذي لا ينافيه ندرة وقوع الشبهة ، فلا ريب حينئذ في اللحوق بالصحيح ، للعمومات المؤيدة بما يحصل من استقراء مشاركته للصحيح في لحوق الأولاد به والاعتداد والمهر ونحو ذلك من الظن ، لتنزيله منزلته إلا ما خرج ، وإن كنا لم نعثر في النصوص على تشبيهه به أو تنزيله منزلته أو حمله عليه ، اللهم إلا أن يقال : إن من الشبهة ما‌ ورد فيه (٥) « لكل قوم نكاح » والمراد منه أن ما بأيديهم من العقود الفاسدة لها حكم النكاح ، لا أن المراد منه أنه نكاح حقيقة ، ضرورة‌

__________________

(١) المستدرك الباب ـ ١١ ـ من أبواب ما يحرم بالرضاع الحديث ١.

(٢) سورة النساء : ٤ ـ الآية ٢٣.

(٣) الوسائل الباب ـ ١ ـ من أبواب ما يحرم بالرضاع.

(٤) الوسائل الباب ـ ٦ ـ من أبواب ما يحرم بالرضاع الحديث ٤.

(٥) الوسائل الباب ـ ٨٣ ـ من أبواب نكاح العبيد والإماء الحديث ٢.

٢٦٦

معلومية بطلان نكاح الأم والأخت.

هذا كله في الشبهة من الطرفين ، وإلا ففي الروضة ثبت الحكم في حق من ثبت له النسب ، وهو إن تم إجماعا فذاك ، وإلا أمكن التوقيف ، سيما فيما إذا كان الزاني الزوج لبعض ما سمعته في الزنا من عدم الفحل شرعا وغيره.

وكيف كان فلا ريب في اعتبار العلم بالامرأة في الحرمة ، فلو ارتضع من خنثى مشكل وإن كان قد وطئت بالشبهة لم ينشر حرمة ، لتخصيص عمومات الرضاع بما ذكرناه ، فإنه لا يكاد يشك من لحظ النصوص ، خصوصا نحو‌ قول الباقر عليه‌السلام (١) : « لا يحرم من رضاع أقل من رضاع يوم وليلة أو خمس عشرة رضعة متواليات من امرأة واحدة » ونحوه مما كان ظاهره إرادة القيدية من جميع ما يذكر فيه ظهورها في اعتبار الأنوثة ، لا أن الخارج الذكر خاصة كما يشهد له أيضا ما عساه يظهر من بعضهم من دعوى الوفاق على عدم النشر بالرضاع منها.

نعم لا يعتبر في النشر بقاء الامرأة في حبال الرجل قطعا وإجماعا ف لو طلق الزوج وهي حامل منه ثم وضعت بعد ذلك أو أرضعت وهي حامل بناء على كونه كالولادة أو طلقها وهي مرضع أو مات عنها كذلك فأرضعت ولدا نشر هذا الرضاع الحرمة كما لو كانت في حباله بلا خلاف أجده فيه ، بل الإجماع بقسميه عليه ، بل في المسالك وغيرها أنه لا فرق بين أن يرتضع في العدة ولا بعدها ، ولا بين طول المدة وقصرها ، ولا بين أن ينقطع اللبن ثم يعود وعدمه ، لأنه لم يحدث ما يحال اللبن عليه ، فهو على استمراره منسوب اليه ، لكن إن شرطنا كون الرضاع وولد المرضعة في الحولين اعتبر كون الرضاع قبلهما من حين الولادة ، وإلا فلا.

وكذا لو تزوجت ودخل بها الزوج الثاني ولم تحمل منه ، بل وإن حملت منه مع كون اللبن بحاله لم ينقطع ولم تحدث فيه زيادة ، فإنه للأول أيضا بلا خلاف أجده فيه ، كما عن التذكرة الاعتراف به ، للأصل الذي مقتضاه ذلك‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٢ ـ من أبواب ما يحرم بالرضاع الحديث ١.

٢٦٧

أيضا حتى مع زيادته الممكنة كونه للثاني ، وعن التذكرة القطع به أيضا ، بل لم أجد فيه خلافا عندنا ، يحكي عن الشافعي في أحد قوليه أنه إن زاد بعد أربعين يوما من الحمل الثاني فهو لهما عملا بالظاهر من أن الزيادة بسبب الحمل الثاني ، فيكون اللبن للزوجين ، وفي المسالك « وهذا قول موجه على القول بالاكتفاء بالحمل وإن كان العمل على الأول » قلت : هو فيها ممن اكتفى بالحمل ، وحينئذ فالذي ينبغي له العمل عليه لا على الأول.

أما لو انقطع اللبن انقطاعا بينا ثم عاد في وقت يمكن أن يكون لل حمل من ال ثاني وربما حدد بمضي أربعين يوما من انقطاعه الى عوده حينئذ كان اللبن له دون الأول بلا خلاف أجده فيه عندنا ، بل في المسالك نسبته الى قطع المصنف والأصحاب ، نعم عن الشافعي قول إنه للأول ما لم تلد من الثاني مطلقا ، لأن الحمل لا يقتضي اللبن ، وإنما يخلقه الله للولد عند خروجه لحاجته اليه ، وهو غذاء الولد لا غذاء الحمل الذي يتغذى بدم الحيض ، وقول آخر إنه يكون لهما مع انتهائه إلى حال ينزل معه اللبن ، وأقله أربعون يوما ، لأن اللبن كان للأول ، فلما عاد بحدوث الحمل فالظاهر أنه رجع بسبب الحمل للثاني فكان مضافا إليهما ، كما لو لم ينقطع ، وأما أصحابنا فقد عرفت اتفاقهم على كونه للثاني.

نعم لو اتصل اللبن ولم ينقطع اللبن حتى تضع الحمل من الثاني كان ما قبل الوضع للأول زاد عما قبل الحمل أولا ، لأن الأصل عدم الحدوث من الثاني ، وكما يزيد بالحمل يزيد بدونه ، وما بعد الوضع للثاني خاصة إجماعا من الكل كما عن التذكرة ، سواء زاد أم لم يزد انقطع أم اتصل ، لأن لبن الأول انقطع بولادة الثاني ، فإن حاجة المولود الى اللبن يمنع كونه لغيره ، وفي كشف اللثام نسبته إلى إجماع أهل العلم ، لأن الولادة أقوى من أصالة استمرار اللبن ، هذا حاصل ما عند من وقفنا عليه من الأصحاب. ولكن لا يخفى عليك إشكاله في كثير من أفراده ، ضرورة عدم مدخلية للعقل في ذلك ، ولا دليل شرعي‌

٢٦٨

قاطع للعذر يؤخذ به ، ولعله لذا قال في كشف اللثام في الأول الذي لا خلاف فيه عندهم ولم يتجدد فيه سبب غير السبب الأول ، بعد أن حكى عن التذكرة تعميمه بما ذكرنا : فيه تأمل ، إذ ربما طال حتى علم أنه در بنفسه لا من الأول ، ونحوه يجري في غيره من الأفراد ، ودعوى أن العرف كاف في تحقيق هذه النسبة جيدة إن تمت على وفق ما ذكروه ، ضرورة إمكان دعوى كون اللبن لهما فيه في بعض الأفراد ، وحينئذ يمكن أن يكون حكمه نشر الحرمة بالنسبة إليهما معا ، لإطلاق أدلة الرضاع وعدمه مطلقا بظهور اعتبار وحدة اللبن ، وإلا كان كمن ارتضع من لبن في أثناء كل رضعة من لبن آخر ، ولعل هذا أقوى ، وكيف كان فالمدار على صدق نسبة اللبن وإجراء الحكم عليه ، والله العالم.

( الشرط الثاني )

الكمية إذ لا يكفي في التحريم مسمى الرضاع إجماعا بقسميه ، ونصوصا (١) مستفيضة أو متواترة ، بل ولا الرضعة الكاملة على المشهور بين الأصحاب شهرة عظيمة كادت تكون إجماعا ، بل هي كذلك في محكي الخلاف ونهج الحق وعدة مواضع من التذكرة ، للنصوص (٢) المستفيضة أو المتواترة الواردة في التحديد بغيرها ، بل صرح جملة منها بعدم الاعتداد بالرضعة والرضعتين كما ستعرف.

فما عن كثير من العامة ـ كأبي حنيفة وأصحابه ومالك والأوزاعي والثوري والبلخي والليث بن سعد من التحريم بمطلق الرضاع وإن قل راوين ذلك عن علي عليه‌السلام وابن عباس وابن عمر ـ معلوم البطلان ، ومن الغريب دعوى الليث منهم إجماع أهل العلم على نشر الحرمة بمثل ما يفطر به الصائم ، مع أن المحكي عن الأكثر منهم موافقتنا.

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٢ و ٣ و ٤ ـ من أبواب ما يحرم بالرضاع.

(٢) الوسائل الباب ـ ٢ و ٣ و ٤ ـ من أبواب ما يحرم بالرضاع.

٢٦٩

وأغرب منه ما عن الشيخ في التبيان وابن إدريس في السرائر من حكاية ذلك عن بعض أصحابنا ولم نعرفه ، نعم‌ عن المصري في دعائم الإسلام إنه روي (١) عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه قال : « يحرم من الرضاع كثيره وقليله حتى المصة الواحدة » ثم قال وهذا قول بين صوابه لمن تدبره ووفق لفهمه ، لأن الله تعالى شأنه يقول (٢) ( وَأُمَّهاتُكُمُ اللاّتِي أَرْضَعْنَكُمْ ) والرضاع يقع على القليل والكثير ، وعن ابن الجنيد إنه قال : قد اختلفت الرواية من الوجهين جميعا في قدر الرضاع المحرم ، إلا أن الذي أوجبه الفقه عندي واحتاط المرء لنفسه أن كلما وقع عليه اسم رضعة وهو ملأه بطن الصبي إما بالمص أو الوجور محرم للنكاح ، إلا أنه قد استقر المذهب على خلافهما وعلى رميهما بالشذوذ ، مع أنه لا دليل لهما إلا العمومات ومكاتبة علي بن مهزيار (٣) في الصحيح أبى الحسن عليه‌السلام « يسأله عما يحرم من الرضاع ، فكتب إليه : قليله وكثيره حرام » والضعيف برجال العامة والزيدية‌ عن زيد بن علي (٤) عن آبائه عن علي عليهم‌السلام إنه قال : « الرضعة الواحدة كالمائة رضعة لا تحل له أبدا » والقوي (٥) « الرضاع الذي ينبت اللحم والدم هو الذي يرضع حتى يتملأ ويتضلع » والحسن المضمر (٦) « سألته عما يحرم من الرضاع ، قال : إذا رضع حتى يمتلئ بطنه ، فان ذلك ينبت اللحم والدم ، وذلك الذي يحرم ».

لكن الجميع كما ترى ضرورة تخصيص العمومات ، وقصور غيرها عن معارضة النصوص الصحيحة الصريحة المشهورة رواية وفتوى بما فيها من الشذوذ والضعف‌

__________________

(١) المستدرك الباب ـ ٢ ـ من أبواب ما يحرم بالرضاع الحديث ٤ وفيه‌ « يحرم من الرضاع قليله وكثيره المصة الواحدة تحرم ».

(٢) سورة النساء : ٤ ـ الآية ٢٣.

(٣) الوسائل الباب ـ ٢ ـ من أبواب ما يحرم بالرضاع الحديث ١٠.

(٤) الوسائل الباب ـ ٢ ـ من أبواب ما يحرم بالرضاع الحديث ١٢.

(٥) الوسائل الباب ـ ٤ ـ من أبواب ما يحرم بالرضاع الحديث ٢.

(٦) الوسائل الباب ـ ٤ ـ من أبواب ما يحرم بالرضاع الحديث ١.

٢٧٠

والإرسال والإضمار والمكاتبة ، وموافقة أهل الخلاف ، ومخالفة أهل الحق ، وركاكة متن الأولين ، واحتمال الأخيرين تحديد الرضعة لا التحديد بها ، وإمكان حمل الصحيح على ما يبلغ المحرم بمعنى حصول التحريم بالمقدر ، سواء كان قليلا أو كثيرا ، بل يمكن تنزيله على الحرمة بعد الفطام ، كل ذلك مضافا الى انقراض القائل ، واستقرار الإجماع بعدهما على خلافهما ، وقطع الأصحاب بشذوذ ما ورد من النشر بما دون العشر ، وندرة القائل به ، وعدم الاعتداد به ، فلا ينبغي الشك حينئذ من هذه الجهة.

وكيف كان فللأصحاب في تحديد الرضاع المحرم تقديرات ثلاثة : الأثر والزمان والعدد ، والمشهور ثبوت التحريم بكل منها ، خلافا للمحكي عن المفيد والديلمي ، فخصا الحكم بالعدد ، وللصدوق حيث قصره فيما حكي من هدايته على الزمان والمقنع على الأثر مسندا الأخيرين إلى الرواية ، وللمحكي عن ابن سعيد من تخصيص التأثير بما عدا الأثر ، إلا أن الأقوى الأول.

والمراد بالأثر هو ما أنبت اللحم وشد العظم والأصل فيه بعد الإجماع المعلوم والمنقول عن التذكرة والإيضاح والمسالك وتلخيص الخلاف وغيرها‌ النبوي المروي في كتب أصحابنا (١) « الرضاع ما أنبت اللحم وشد العظم » وما استفاض‌ عن الصادق عليه‌السلام من التحديد بذلك ففي الصحيح (٢) : « ما يحرم من الرضاع؟ قال : ما أنبت اللحم وشد العظم » وفي الخبرين (٣) « لا يحرم من الرضاع إلا ما أنبت اللحم وشد العظم » وفي خبر آخر (٤) « قلت له : يحرم من الرضاع الرضعة والرضعتان والثلاث ، فقال : لا إلا ما اشتد عليه العظم ونثبت اللحم ».

نعم ظاهر النص والفتوى فعلية ذلك ، فلو ارتضع رضاعا من شأنه ترتب ذلك عليه‌

__________________

(١) سنن البيهقي ج ٧ ص ٤٦١ وفيه‌ « لا رضاع الا ما شد العظم وأنبت اللحم ».

(٢) الوسائل الباب ـ ٢ ـ من أبواب ما يحرم بالرضاع الحديث ٢.

(٣) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من أبواب ما يحرم بالرضاع الحديث ٢ والباب ـ ٢ ـ منها الحديث ١٩.

(٤) الوسائل الباب ـ ٢ ـ من أبواب ما يحرم بالرضاع الحديث ٢٣.

٢٧١

لكن منع منه مانع كمرض ونحوه لم يؤثر ، مع احتماله كما يومئ اليه الاكتفاء بإخبار أهل الخبرة المبني على أنه مما ينبت ، بل يومئ إليه أيضا جعل الزمان والعدد كاشفين عنه ، ضرورة ابتناء كشفهما على ذلك ، لكن قد يقال : إن أقصى ذلك كله الحكم به على غير معلوم الحال ، لا الأعم منه وما علم عدمه ، ولعل هذا هو الأقوى ، ومرجعه الى اعتبار الفعلية التي طريقها ما عرفت.

وكذا ظاهر النص والفتوى اعتبارهما معا في الحرمة ، فلا يكفي حينئذ أحدهما ، خلافا للشهيد في اللمعة ، فاكتفى به ، بل حكاه السيد في نهاية المرام عن جماعة ، وقواه وعلله بالتلازم ، واحتمل التعليل به في الروضة ، ولكن رجح اعتبار الجمع ، وقطع به في المسالك ، ورد القول بالاكتفاء بالشذوذ ومخالفة النصوص والفتوى ، وكأنه استضعف التعليل بالتلازم ، ولعدم ظهوره ، وعدم ظهور استناد الشهيد اليه ، كما يشعر به كلامه في كتابيه ، وإلا فالبناء عليه يقتضي الموافقة في كون المحرم وجود الوصفين معا وإن اكتفى في العلم بالتحريم بأحدهما ، فإنه للكشف عن وجود الآخر ، لا للاستغناء به عنه ، وليس في ذلك ما يخالف النص ولا الفتوى ، لكنه فرع ثبوت التلازم ، وهو في حيز المنع ، خصوصا بالنسبة إلى إنبات اللحم ، ضرورة عدم استلزامه لشد العظم ، لبطء تحلله وتغذيه ، فقد تكون بعض الرضعات مغذيا للحم خاصة وبعضها مغذيا للعظم خاصة ، كما في صورة استغناء اللحم عن الغذاء.

نعم يمكن دعوى التلازم من جهة اشتداد العظم باعتبار سبق اللحم عليه ، فلا يشتد العظم إلا بعد أن يستغني اللحم المشتمل عليه عن الغذاء ، ويكون الجمع بينهما حينئذ في الأخبار مع إغناء الثاني عن الأول لوجهين : الأول أن نشر الحرمة لهما ، والآخر أن تغذى العظم بعد استغناء اللحم عن الغذاء ، فبعض الرضعات ينبت اللحم خاصة ، وبعضها يشد العظم ، والكل معتبر مع احتمال عدمه أيضا ، ضرورة إمكان تصور شد العظم خاصة من رضاع امرأة بعد استغناء اللحم من امرأة أخرى.

ومن هنا أمكن أن لا يكون نظر الشهيد الى ذلك ، بل للاكتفاء في النصوص‌

٢٧٢

المتضمنة للتحريم بما أنبت اللحم بدون اعتبار اشتداد العظم ، كما في المعتبرين (١) السابقين ، وفي الصحيح (٢) « قلت له : فما الذي يحرم من الرضاع؟ فقال : ما أنبت اللحم والدم » والحسن (٣) « لا يحرم من الرضاع إلا ما أنبت اللحم والدم » والتحريم بما ينبت اللحم يقتضي التحريم بما يشد العظم ، للإجماع على اعتبار الاشتداد جمعا أو تخييرا ، فإذا انتفى الأول ثبت الثاني ، ولا ينافي ذلك اعتبار إنبات الدم في هذه الأخبار ، لأنه متقدم على إنبات اللحم ، فلا يزيد اشتراطه على اشتراطه ، وفي كشف اللثام أن المراد بالدم فيهما الغريزي ، وهو الذي ينسب إليه الإنبات ، لا الذي يستحيل اليه الغذاء في الكبد قبل الانتشار منه الى الأعضاء ، وكذا لا ينافيه انضمام الاشتداد فيما تقدم من النصوص ، لاحتمال تلازم الوصفين ، فيصح الجمع والاكتفاء.

لكن فيه أن الظاهر تخلف الاشتداد عن الإنبات كما عرفت ، بل يشهد به الحس ويقتضيه النظر ، فان العظم لبطء تغذيه يتأخر اشتداده عن نبات اللحم ، بل ربما كان التغذي فيه بعد استغناء اللحم عن الغذاء لأنه لسرعة قبول له وشدة احتياجه اليه يجذبه الى نفسه ، فلا يصل الى العظم إلا بعد استغنائه عنه ، بل قد يتخلف الإنبات عن الاشتداد فيما إذا ورد الغذاء على البدن بعد استغناء اللحم بما تقدمه ، فينصرف إلى العظم.

وما يقال ـ من أن الغذاء الوارد على البدن يتوزع على الأعضاء ويأخذ كل عضو منه قسطه اللائق به ـ فليس على إطلاقه ، بل هو بشرط الاحتياج وبقدر الحاجة ، وإذا ثبت التخلف مطلقا أو من جهة الاشتداد فقط ظهر التعارض بين ما دل على التحديد بما أنبت اللحم وشد العظم وما دل على التحديد بالأول وحده ، والجمع بينهما يتحقق إما بتخصيص الثاني وإما بحمل العطف في الأول على التقسيم أو ارتكاب حذف الموصول فيه مع بقاء الصلة ، ويترجح الأول بمطابقة الأصل وفتوى المعظم ، وقوة الدلالة‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٤ ـ من أبواب ما يحرم بالرضاع الحديث ١ و ٢.

(٢) الوسائل الباب ـ ٢ ـ من أبواب ما يحرم بالرضاع الحديث ١٨.

(٣) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من أبواب ما يحرم بالرضاع الحديث ١.

٢٧٣

فيما دل على الجمع ، وقرب الحمل فيما يعارضه ، لشيوع التخصيص ، بل يمكن إرادة المغذي للعظم من الدم فيه ، فيتجه حينئذ اشتراط الاجتماع كما هو المشهور بل قد يقال مع فرض عدم العلم بالتخلف : إن المتجه أيضا التخصيص عملا بظهور اللفظ فيه ، واحتمال التلازم لا يكفي في نفيه وفي قطع الأصل ، خصوصا بعد معارضة ذلك باحتمال بناء نصوص اللحم وحده على التلازم ، بل يمكن إرادة شد العظم ، من الدم فيها ولو باعتبار تغذيه منه ، فتأمل جيدا.

وكيف كان فالمراد بإنبات اللحم وشد العظم ما كان مسببا عن الرضاع التام بحيث يستقل في حصول الأمرين ، ويتحقق حصولهما ، ويظهر لدى حس أهل الخبرة ، فلا يتحقق بالمسمى وإن كان له تأثير في حصولهما ، لأن الاكتفاء بمطلق التأثير يقتضي فساد التحديد ، فإنه لا يزيد على اعتبار أصل الرضاع ولا بالرضعة والرضعات اليسيرة ، لأن الظاهر اعتبار السببية التامة كما قلنا دون الناقصة ، ولأن المفهوم من التحديد بما ينبت اللحم ويشد العظم حصول كثرة يعتد بها ، وهي غير متحققة في الرضاع اليسير ، ولوقوع التصريح في النصوص (١) بعدم حصول الإنبات والاشتداد بالرضعة فما فوقها الى العشر ، بل بانتفائهما فيها ، كما ستعرفه. فمع ملاحظة الجمع بين النصوص والفتاوى يعلم كون المراد مرتبة خاصة من الإنبات والاشتداد ، لا مطلق التأثير ، كما هو واضح.

وهذا التحديد الوارد في النصوص المستفيضة المعتبرة من أقوى الحجج على ابن الجنيد ومن قال بالمسمى من أصحابنا ، والظاهر أنهم لم يخالفوا في أصل التحديد ، بل حملوا ذلك على مطلق التأثير ، وهذا مع عدم ملائمته لمذهب ابن الجنيد قد ظهر فساده مما قلناه.

واختلف الأصحاب فيما يحصل به العلم بالأثر فالحلبيان والطبرسي على ما قيل أوقفوا ذلك على حصول التقدير بالزمان أو العدد ، وهو ظاهر كتابي الشيخ في الأخبار ، حيث بنى العمل على ما تضمن التحديد بأحدهما ورد التقدير بالأثر‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٢ ـ من أبواب ما يحرم بالرضاع الحديث ٢ و ٩ و ١٩ و ٢١ و ٢٣.

٢٧٤

اليه بجعله مفسرا له ، ويحتمله كلام المفيد والديلمي وابن سعيد ، بأن يكون وجه التخصيص فيه إجمال الحد عندهم بالإنبات والاشتداد ، لا عدم اعتباره من أصله ، ومقتضى هذا القول سقوط الفائدة في هذه العلامة ، والاستغناء عنها بالزمان والعدد ، والمشهور بين الأصحاب أنها علامة مستقلة مقابلة لهما غير متوقفة عليهما ، وبه قال الشيخ في النهاية والخلاف والقاضي والحليون الثلاثة والشهيدان والمحقق الكركي وعامة المتأخرين ، وهو الأصح ، إذ المستفاد من النصوص حصول التحريم به ، سوآء وافق أحدهما أو خالف ، ولا ينافي ذلك‌ الموثق (١) « لا يحرم الرضاع أقل من رضاع يوم وليلة أو خمس عشرة رضعة متواليات » بعد ظهور كون المراد نفي التحريم من هذه الجهة كما أن تعليل عدم النشر بالعشر بعدم إنباتها اللحم لا يقتضي كونه الأصل وأنهما علامتان ، إذ لعل المراد عدم نشره الحرمة من هذه الجهة ، وأما العدد والزمان فالمفروض نفيهما.

نعم قد يقال إن حصر الرضاع المحرم في كثير من النصوص بما أنبت اللحم مع الإشارة في بعضها إلى أن التحريم بالعدد لكونه محصلا لذلك حتى أنه أومأ إلى التعريض بما عند العامة من كون العشر تنبته يقتضي أنه الأصل كما هو ظاهر المصنف وغيره ، بل لعله لذا وغيره قال في كشف اللثام : « الأظهر في الاعتبار والأخبار كون الأثر هو الأصل ، والباقيان علامتان له » انتهى. لكن لا تنحصر علامته فيهما ، فقد يتحقق عند أهل الخبرة ، بل وعند غيرهم ذلك بدونهما ، فالمراد حينئذ من كونهما علامتين الحكم بالتحريم بحصول الأثر عندهما وإن لم يظهر ذلك لأهل الخبرة ، لا أن المراد حصر ذلك فيهما وجودا وعدما على وجه يقتضي سقوط هذه العلامة ، بل قد يقال إنه لو فرض ولو نادرا معلومية حصول الأثر بالأقل منها ترتب التحريم ، نعم قد يشك في ترتبه لو فرض نادرا عدم حصول الإنبات مع حصولهما ، ضرورة منافاة ذلك لكونهما علامتين ، ولإطلاق تحقق التحريم بتحققهما وتنزيل ذلك على الغالب ليس بأولى من جعل ذلك حكمة في دوام حصول التحريم بحصولهما ، بل لعل هذا أولى بملاحظة نظائر ذلك في الشرع.

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٢ ـ من أبواب ما يحرم بالرضاع الحديث ١.

٢٧٥

وعلى كل حال فما عن بعضهم ـ من أن الأصل العدد وإنما يعتبر الآخران عند عدم الانضباط به ـ واضح الضعف ، مع أنه لم نتحقق القائل به ، ضرورة ظهور النصوص والفتاوى في كونها علامات مستقلة ، كل واحدة أصل برأسها ، وأنها كغيرها من العلامات مطردة غير منعكسة ، فلا ينتفي التحريم بانتفاء أحدها ما لم ينتف الآخران ، أو أن الأصل الإنبات والآخران علامتان له على الوجه الذي عرفته ، ولعله الأقوى في النظر.

نعم ينبغي أن يعلم أن المدار في التحريم بالأثر استقلال الرضاع في حصوله على وجه ينسب اليه ، فلو فرض تركيب غذاء الصبي منه ومن السكر مثلا على وجه الامتزاج بمعنى أنه يرتضع الرضعة الناقصة فيكمل غذاءه بالسكر فيكون التغذي والإنبات والاشتداد منسوبا إليهما أشكل ثبوت التحريم به ، للأصل بعد عدم صدق النسبة ، اللهم إلا أن يدعى أنهما وإن امتزجا في المعدة ، إلا أن لكل منهما أثرا مستقلا ، فيصدق على كل منهما أنه أنبت لحما وشد عظما ، فيتحقق التحريم حينئذ إلا أنه كما ترى. نعم قد يدعي ذلك فيما لو فرض استقلال الرضاع بالغذاء في وقت والسكر في وقت آخر ، كأن يرتضع بالنهار مثلا ويتغذى باللبن وبالليل يتغذى بالسكر ، مع أنه أيضا لا يخلو من إشكال ، لعدم العلم بصدق النسبة اليه وتحققها وإن استمر على هذا العمل ، والأصل الحل ، وربما يومئ اليه ما تسمعه من النصوص على عدم النشر بالعشر إذا كن متفرقات بعد حصره الرضاع المحرم بالذي أنبت.

وكيف كان فللعلم بالأثر طريقان : ( أحدهما ) الرجوع الى قول أهل الخبرة ، كما نص عليه جماعة ، لأن تعيين الموضوع لا يتوقف على الشرع ، نعم يعتبر فيه شروط الشهادة من الايمان والعدالة والعدد ، فلا حكم للواحد وإن أفاد الظن واكتفى به في مثل المرض المبيح للفطر والتيمم ، لأن المدار فيه على مطلق الظن ، بخلاف المقام المعتبر فيه العلم أومأ يقوم مقامه ، نعم قد يأتي على قول المفيد والديلمي بالاكتفاء بشهادة الامرأة الواحدة في الرضاع قبول الواحد من باب الشهادة ، ولكنه شاذ.

٢٧٦

ثم إنه لا ريب في اختلاف الحال هنا باختلاف اللبن والأولاد وكمال الرضاع ونقصه والزمان والمكان ، وفي حصوله بما دون العدد المعتبر والمدة؟ وجهان من الأصل وعموم الموثق وغيره ، ومن عدم اشتراط الانعكاس في العلامات ، فيحمل العموم على نفي التحريم بالنظر الى بعضها ، فلا ينافي التحريم ببعض آخر ، ولعله الأقوى ، وبه قطع في المسالك.

( وثانيهما ) أن يتحقق الرضاع مدة طويلة كشهرين وثلاثة مثلا مع اختلال شرط الزمان والعدد ، كما إذا كانت الرضعات ناقصة واشترطنا الكمال في المدة كالعدد ، أو تحقق الفصل في المدة قبل إكمال العدة وقلنا بعدم اشتراط التوالي في النشر بالأثر ، فيحكم بالتحريم بهذا الطريق ، لأن العادة قاضية باستقلاله مثلا في إنبات اللحم وشد العظم وإن لم يرجع فيه الى أهل الخبرة ، وهذا القسم وإن لم يصرحوا به إلا أنه داخل فيما قالوه ، ولا ينافي ذلك‌ قول الصادق عليه‌السلام في مرسل ابن أبى عمير (١) السابق : « والرضاع الذي ينبت اللحم والدم هو الذي يرضع حتى يتملأ ويتضلع وينتهى من نفسه » من حيث ظهوره في اعتبار الكمال في الإنبات ، فالناقصة حينئذ لا تنبت ، لاحتمال كون المراد الإنبات الذي يحصل من المدة والعدد اللذين هما علامتان شرعيتان له ، لا عدم حصول الإنبات مطلقا ، ضرورة مخالفته للوجدان ، وكذا اعتبار التوالي في المدة والعدد ، فان المراد نفي كونهما علامة له مع عدم التوالي فيهما ، وذلك لا ينافي تحققه من طريق آخر كطول المدة ونحوها ، فتأمل جيدا.

وكيف كان فقد عرفت أنه لا حكم لما دون العشرة إلا في رواية شاذة (٢) وإن صح سندها قد أعرض عنها الأصحاب واستفاضت النصوص بخلافها ، ولم نعرف عاملا بها سوى ما عرفته من الإسكافي الذي استقر المذهب على خلافه في ذلك ، بل لعله قبله كان كذلك نحو ما سمعته من المصري أيضا ، فليس هو حينئذ محرما مستقلا ، ولا كاشفا عن الإنبات شرعا ، ولا عند أهل الخبرة غالبا ، ولو فرض نادرا حصول المرتبة المحرمة من الأثر به أمكن تحقق التحريم به ، ولا ينافيه‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٤ ـ من أبواب ما يحرم بالرضاع الحديث ٢.

(٢) الوسائل الباب ـ ٢ ـ من أبواب ما يحرم بالرضاع الحديث ١٠.

٢٧٧

إطلاق عدم العبرة به في النصوص بعد حمله على إرادة عدم العلم بتحقق ذلك به غالبا ، بل لعله يكون وجه جمع بين ما دل على ثبوت التحريم به وما دل على عدمه ، بل هو أولى من طرح الأول بترجيح الثاني عليه حتى في الفرض النادر وإن أمكن ، لاحتمال عدم اعتبار الشارع له عنوانا للحكم الشرعي لندرته ، والأمر سهل.

إنما المعركة العظمى ، في أنه هل يحرم بالعشرة؟ فيه روايتان إحداهما الحرمة ، وهي‌ رواية الفضيل بن يسار (١) على ما في بعض كتب الفروع عن أبي جعفر عليه‌السلام « لا يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب إلا المجبور ، قال : قلت : وما المجبور؟ قال : أم تربى وظئر تستأجر وأمة تشترى ثم ترضع عشر رضعات يروى الصبي وينام » المؤيدة بالعمومات والاحتياط خصوصا في الفروج ، وبالمفهوم‌ في خبر هارون بن مسلم (٢) عن أبى عبد الله عليه‌السلام « لا يحرم من الرضاع إلا ما شد العظم. وأنبت اللحم ، فأما الرضعة والرضعتان والثلاث حتى بلغ عشرا إذا كن متفرقات فلا بأس » وخبر عمرو بن يزيد (٣) « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الغلام يرضع الرضعة والرضعتين ، فقال : لا يحرم ، فعددت عليه حتى أكملت عشر رضعات فقال : إذا كانت متفرقة فلا » وخبر عبيد بن زرارة (٤) عن أبى عبد الله عليه‌السلام

__________________

(١) روى في الوسائل في الباب ـ ٢ ـ من أبواب ما يحرم بالرضاع الحديث ٧ و ١١‌ عن فضيل بن يسار روايتين : الاولى عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : « لا يحرم من الرضاع الا ما كان مخبورا ـ وفي معاني الأخبار ص ٦٥ « مجبورا » ـ قلت : وما المخبور؟ قال : أم مربية أو أم تربى أو ظئر تستأجر أو خادم تشترى. » والثانية‌ عن أبى جعفر عليه‌السلام قال : « لا يحرم من الرضاع إلا المخبورة أو خادم أو ظئر ثم يرضع عشر رضعات يروى الصبي وينام » والظاهر أن ما روى في كتب الفروع مأخوذ عنهما.

(٢) الوسائل الباب ـ ٢ ـ من أبواب ما يحرم بالرضاع الحديث ١٩ عن هارون بن مسلم عن مسعدة.

(٣) الوسائل الباب ـ ٢ ـ من أبواب ما يحرم بالرضاع الحديث ٥ عن عمر بن يزيد وفيه « يرضع الرضعة والثنتين ».

(٤) الوسائل الباب ـ ٢ ـ من أبواب ما يحرم بالرضاع الحديث ٢١.

٢٧٨

« سألته عن الرضاع ما أدنى ما يحرم منه؟ قال : ما أنبت اللحم والدم ، ثم قال : ترى واحدة تنبته؟ فقلت : اثنتان أصلحك الله ، قال : لا ، فلم أزل أعد عليه حتى بلغت عشر رضعات » بناء على مخالفة الجواب بما بعد « حتى » لما قبلها ، بل وخبره الآخر (١) عنه عليه‌السلام أيضا في حديث إلى أن قال : « فما الذي يحرم من الرضاع؟ فقال : ما أنبت اللحم والدم ، فقلت : وما الذي ينبت اللحم والدم؟ فقال : كان يقال : عشر رضعات ، قلت : فهل يحرم عشر رضعات؟ فقال : دع هذا ، ما يحرم من النسب فهو يحرم من الرضاع » وما عن الفقه (٢) المنسوب إلى الرضاء عليه‌السلام.

والثانية لا تحرم وهي‌ موثقة عبيد بن زرارة (٣) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « سمعته يقول : عشر رضعات لا يحرمن شيئا » ونحوه خبر ابن بكير (٤) عنه عليه‌السلام أيضا ، وصحيحة علي بن رئاب (٥) عنه عليه‌السلام أيضا قال : « قلت : ما يحرم من الرضاع؟ قال : ما أنبت اللحم وشد العظم ، قلت : فيحرم عشر رضعات؟ قال : لا ، لأنه لا ينبت اللحم ولا يشد العظم عشر رضعات » وموثق زياد بن سوقة (٦) قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : « هل للرضاع حد يؤخذ به؟ قال : لا يحرم الرضاع أقل من رضاع يوم وليلة أو خمس عشرة رضعة متواليات من امرأة واحدة من لبن فحل واحد لم يفصل بينها رضعة امرأة غيرها ، فلو أن امرأة أرضعت غلاما أو جارية عشر رضعات من لبن فحل واحد وأرضعته امرأة أخرى من لبن فحل آخر عشر رضعات لم يحرم نكاحها » وما‌ في المقنع « ولا يحرم من الرضاع إلا ما أنبت اللحم وشد العظم » وسئل الصادق عليه‌السلام (٧) هل لذلك حد؟ فقال : لا يحرم من الرضاع إلا رضاع يوم وليلة أو خمس عشرة رضعة متواليات لا يفصل بينهن » المؤيدة بالأصل وعمومات النكاح وحصر التحريم في المنبت في النصوص (٨) المستفيضة مع الظن بعدمه في العشر أو الشك فيه.

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٢ ـ من أبواب ما يحرم بالرضاع الحديث ١٨.

(٢) المستدرك الباب ـ ٢ ـ من أبواب ما يحرم بالرضاع الحديث ٢.

(٣) الوسائل الباب ـ ٢ ـ من أبواب ما يحرم بالرضاع الحديث ٣.

(٤) الوسائل الباب ـ ٢ ـ من أبواب ما يحرم بالرضاع الحديث ٤.

(٥) الوسائل الباب ـ ٢ ـ من أبواب ما يحرم بالرضاع الحديث ٢.

(٦) الوسائل الباب ـ ٢ ـ من أبواب ما يحرم بالرضاع الحديث ١.

(٧) الوسائل الباب ـ ٢ ـ من أبواب ما يحرم بالرضاع الحديث ١٤.

(٨) الوسائل الباب ـ ٢ و ٣ ـ من أبواب ما يحرم بالرضاع.

٢٧٩

ومن أجل ذلك اختلف الفتاوى حتى من المفتي الواحد في الكتاب الواحد على ما حكي ، فذهب ابن إدريس في أول كتاب النكاح الى القول بالعشر ، وجعله الأظهر في الفتوى والصحيح ، ورجع عنه في باب الرضاع ، وحكم بأن الخمس عشرة هو الأظهر من الأقوال وقال : « وقد حكينا الخلاف فيما مضى ، واخترنا هناك التحريم بالعشر ، وقويناه ، والذي أفتي به وأعمل عليه الخمس عشرة ، لأن العموم قد خصه جميع أصحابنا المحصلين ، والأصل الإباحة ، والتحريم طار ، فبالإجماع من الكل تحرم الخمس عشرة ، فالتمسك به أولى وأظهر ، لأن الحق أحق أن يتبع ».

وذهب العلامة في التذكرة والإرشاد والتبصرة والتلخيص وظاهر القواعد والتحرير إلى القول بالخمس عشرة ، ونص في الأول على أنه المشهور ، وبالغ في تقويته ، ثم رجع عنه في المختلف ، واختار القول بالعشر ، واحتج عليه بعمل الأكثر.

وقال في اللمعة : « ويشترط أن ينبت اللحم ويشد العظم أو يتم يوما وليلة أو خمس عشرة رضعة ، والأقرب النشر بالعشر ».

وقال أبو العباس في المهذب : « من شرائط الرضاع ارتضاع المقدر الشرعي ، وهو ثلاث : ما أنبت اللحم وشد العظم ، أو رضاع يوم وليلة ، أو خمس عشرة رضعة » ثم نص فيه وفي المقتصر على النشر بالعشر.

بل اختلفت كلماتهم في الأشهر من القولين ، ففي المختلف والمنتصر وغاية المرام ونهاية السيدان العشر هو قول الأكثر ، وفي الروضة أنه قول المعظم ، وفي التذكرة وزبدة البيان والمفاتيح أن المشهور هو الخمس عشرة ، وعزاه في كنز العرفان إلى الأكثر ، وفي كنز الفوائد إلى عامة المتأخرين ، وفي المسالك إلى أكثرهم ، قال : « وأكثر القدماء على القول بالعشر » ورفع بذلك التنافي بين كلامي العلامة في المختلف والتذكرة.

قلت : الإنصاف أن شهرة الخمس عشرة عند المتأخرين محققة ، وأما القدماء فإنه وإن ذهب كثير منهم إلى العشر كالعماني والمفيد والقاضي والديلمي والحلبي‌

٢٨٠