جواهر الكلام - ج ٢٩

الشيخ محمّد حسن النّجفي

بعضهم أن المراد في الآية خصوص ما لا واسطة فيه ، والتحريم في غيره قد استفيد من السنة.

وكيف كان فيستفاد من الآية مضافا إلى ذلك أن مثلهن من الرجال يحرم على النساء فيحرم الأب وإن علا على البنت والولد وإن سفل على الأم والأخ وابنه وابن الأخت على الأخت والعمة والخالة والعم وإن علا وكذلك الخال على بنت الأخ وبنت الأخت ، والضابط من لو كان امرأة وهي رجل كان محرما مع بقاء النسب بعينه ، لأن التحريم من أحد الطرفين هنا يستلزم التحريم من الطرف الآخر ، ولعل ذلك هو السبب في تخصيص الله تعالى في الآية المحرمات على الرجال ولم يذكر العكس.

نعم قد يناقش فيما ذكره بعضهم دليلا لذلك من أن النكاح مثلا أمر واحد بسيط ، فلا يكون حلالا وحراما وإن اختلفت إضافته إلى الطرفين ، فان ذلك لا يخرجه عن وحدته المانعة من اجتماع الحكمين المتضادين بأنه إن أريد من النكاح العقد فهو الإيجاب والقبول ، وهما فعلان قائمان بمحلين مختلفين ، إذ الإيجاب فعل الموجب والقبول فعل القابل ، فلا يكون شيئا واحدا ، وإن أريد منه الوطء فلا ريب في أن المعنى القائم بالواطي غير المعنى القائم منه بالموطوء ، فإن الوطء في الواطئ بمعنى الفاعلية ، وفي الموطوء بمعنى المفعولية ، وهما معنيان متغايران ، فلا اجتماع للضدين في محل واحد ، بل بذلك يظهر لك التعدد في غير النكاح من المعاملات ، كالبيع والصلح والإجارة وغيرها وحينئذ فلا مانع من اختلاف الحكم فيها.

ولعله لذا ذهب جماعة إلى اختلاف حكم المتعاقدين في البيع وقت النداء إذا كان أحدهما مخاطبا بالجمعة دون الآخر ، فخصوا المنع بمن خوطب بالسعي ، وحكموا بجواز البيع من طرف الأخر نعم رجح جماعة آخرون عموم المنع من حيث الإعانة على الإثم.

وليس الحكم بالتحريم في المقام منها قطعا ، للفرق الظاهر بين تحريم العقد على أحد الطرفين في نفس الأمر عند تحريمه على الآخر ، وتحريم العقد عليه لكونه‌

٢٤١

إعانة على ما يحرم على الآخر ، فان التحريم على الأول كثيرا ما يكون ثابتا للمتعاقدين بالأصالة من غير أن يكون ثبوته لأحدهما تابعا لثبوته للآخر وإن كان العلم بثبوته لأحدهما منهما موقوفا على العلم بثبوته للآخر ، لأن توقف العلم على العلم لا يستدعي توقف الحكم على الحكم ، فان العلم بتحريم الابن على الأم من قوله تعالى (١) : ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ ) وإن توقف على العلم بتحريم الأم على الابن إلا أن التحريم في الأول ليس بمتوقف على التحريم في الثاني ولا تابع له ، بل تحريم الابن على الأم تحريم أصلي كتحريم الأم على الابن وإن كان تابعا له في العلم والتصديق ، ومن المعلوم أن التحريم بهذا الوجه لا يمكن إثباته بتحريم الإعانة ، لكونه تابعا لتحريم الفعل على المعان ، وموقوفا عليه إذ الإعانة على الإثم فرع تحقق التكليف الموجب للإثم على تقدير المخالفة ، وأيضا فإن التحريم من جهة الإعانة مقصور على صورة العلم بتعرض المعان للإثم ، إذ مع احتمال الاشتباه في الموضوع أو اعتقاد نفي التحريم على وجه معتبر لم يتحقق هناك إثم تحرم الإعانة عليه ، بخلاف التحريم من جهة اللزوم ، فإنه لا يختص بذلك ، بل يثبت مطلقا ولو مع الجهل بالحال ، كما هو مقتضى حكمهم بالتحريم هنا مطلقا ، وبالجملة لا يحتاج فساد دعوى كون المنشأ في التحريم هنا الإعانة إلى تطويل.

فالأولى في الاستدلال على المطلوب في المقام بأن تحريم المعاملة إن كان لتوجه النهي إلى عينها أو وصفها اللازم كما في بيع الميتة ونكاح المحارم فالتحريم من أحد الطرفين يستلزم التحريم من الآخر لأن تحريمها على الوجه المذكور يقتضي فسادها ، وهو يقتضي تحريمها من الطرف الآخر ، لكون التحريم من لوازم الفساد ولو كان لتوجه النهي فيها إلى أمر خارج كما في البيع وقت النداء ، وبيع الأمة قبل استبرائها ، والعقد على المخطوبة إن قلنا بتحريمه ، فالتحريم من أحد الطرفين لا يستلزم التحريم من الآخر إلا من جهة الإعانة على الإثم ، للأصل السالم عن المعارض ، نعم قد يدعى كراهته.

__________________

(١) سورة النساء : ٤ ـ الآية ٢٣.

٢٤٢

وحينئذ فآية التحريم دالة على تحريم معظم ما يقصد من النساء عادة ، وهو أمران العقد والوطء ، فإن أريد العقد كما هو الظاهر من وقوعها في سياق أحكام النكاح الذي هو حقيقة فيه شرعا فدلالتها على فساد نكاح المذكورات وثبوت التحريم من الطرف الآخر معلومة مما سبق ، وإن أريد الوطء فالوجه في دلالتها أن المراد من تحريم وطء المذكورات أنه لا يحل بسبب محلل بالعقد وإلا فالتحريم بدونه ثابت لجميع النساء ، ولا ريب في أن تحريم الوطء بذلك المعنى يقتضي فساد العقد ، وفساد العقد يقتضي تحريمه من طرفي الموجب والقابل معا ، فيثبت المطلوب الذي هو استلزام التحريم من طرف التحريم من الطرف الآخر ، نعم لزوم العقد من أحد الطرفين لا يستلزم لزومه من الآخر لأن اللزوم معناه امتناع الفسخ ، ولا ريب في جواز اختصاصه بأحدهما وكون العقد من الآخر جائزا يسوغ له فسخه ، كما في كل عقد ثبت فيه الخيار من أحد الجانبين ، فإنه لازم من جانب الآخر كما صرح به الأصحاب ودلت عليه النصوص (١) فما قيل أو عساه يقال : إن العقد اللازم إنما يلزم من الطرفين لأن جوازه من أحدهما مناف للزوم العقد واضح الضعف ، والله العالم.

( فروع ثلاثة‌ )

( الأول )

النسب يثبت مع النكاح الصحيح في نفس الأمر ، والمراد به هنا على ما ذكره غير واحد الوطء المستحق في نفس الأمر بأصل الشرع وإن حرم بالعارض لصوم أو حيض أو اعتكاف أو إحرام أو غير ذلك مما يجتمع تحريمه مع الزوجية أو الملك فيدخل حينئذ فيه وطء الجاهل بالاستحقاق ، كمن وطأ‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٣ و ٤ ـ من أبواب الخيار من كتاب التجارة.

٢٤٣

حليلته باعتقاد أنها أجنبية ، لعدم علمه بالسبب ، كما زوجه الوكيل أو الولي ولم يعلم به ، أو لظنه الوقوع على وجه فاسد ، كما لو زوجه الفضولي وتوهم فساده ، فان ذلك لا يقدح في كون الوطء صحيحا وإن أثم بإقدامه عليه معتقدا تحريمه ، وإنما فسرنا النكاح بالوطء دون العقد ، ليدخل فيه ملك اليمين والتحليل على قول جماعة ، فان النسب يثبت بهما إجماعا مع انتفاء العقد فيهما ، وحمله على ما يعمهما والعقد مجازا لا يصح مع وصفه بالصحة ، لأن الملك لا يتصف بها ، وإرادة سبب الملك مع ما فيه من العبد والمخالفة لما هو المعهود من الاستناد الى الملك نفسه إنما يصح معها الوصف في السبب الاختياري ، كالبيع دون القهري ، كالإرث الذي لا يجري فيه التقسيم الى الصحيح والفاسد كما لا يجري في أصل الملك.

وعلى كل حال ففي مصابيح العلامة الطباطبائي المراد من صحة الوطء كونه مستحقا بأصل الشرع ، كما هو مقتضى التفسير المزبور ، فان تعريف المشتق بالمشتق يكون في الأكثر تعريفا لمبدإ الاشتقاق بمبدإ الاشتقاق ، إذ القصد في التعريفات الى بيان المفهوم غالبا دون المصداق ، وليس المراد من الصحة ها هنا المعنى المعروف المقابل للفساد ، ضرورة كون وطء الشبهة صحيحا بهذا المعنى قطعا ، فلا يصح جعله مقابلا للنكاح الصحيح في المتن وغيره إلا مع تقييده بالمستجمع للشرائط ، وهو تكلف مستغنى عنه ، ومع ذلك فهو خلاف المعهود في الحدود من إرادة المفهوم فيها وفي المحدود ، لأن تعريف النكاح الصحيح بالوطء المستحق يكون على هذا التقدير من قبيل تعريف أحد المتلازمين في الصدق بالآخر ، كتعريف المتكلم بالكاتب قصدا الى بيان المصداق دون المفهوم ، وحينئذ فلا يتوقف العلم بالنسب على العلم بكون الوطء صحيحا ، بل على العلم بكونه فردا للوطء المستحق ، وعلى تقديره فالعلم بالصحة لا يتوقف على العلم بثبوت النسب ، فلا دور ، والله العالم.

وكذا يثبت النسب مع الشبهة إجماعا بقسميه ، إنما الكلام في المراد به ، فقد يقال : إنه الوطء الذي ليس بمستحق في نفس الأمر مع اعتقاد فاعله الاستحقاق أو صدوره عنه بجهالة مغتفرة في الشرع أو مع ارتفاع التكليف‌

٢٤٤

بسبب غير محرم ، والمراد بالجهالة المغتفرة أن لا يعلم الاستحقاق ، ويكون النكاح مع ذلك جائزا كاشتباه المحرم من النساء في غير المحصور بما يحل منهن ، والتعويل على إخبار المرأة بعدم الزوج أو بانقضاء العدة أو على شهادة العدلين بطلاق الزوج أو موته أو غير ذلك من الصور التي لا يقدح فيها احتمال عدم الاستحقاق شرعا وإن كان قريبا ، فالوطء في التعريف بمنزلة الجنس يدخل فيه الوطء بالشبهة وغيره ، وبالقيد الأول أعني نفي الاستحقاق يخرج النكاح الصحيح ، فإنه الوطء المستحق كما عرفت ، وبالثاني يخرج ما عدا ذلك مما هو خارج عن الوطء بالشبهة ، وهو أقسام : الأول وطء المكلف العالم بعدم الاستحقاق ، وهو الزنا الذي لا شبهة فيه.

والثاني وطء الجاهل الذي ليس بمعذور في جهالته وإن ظن الاستحقاق إذا كان ظنه مما لا يجوز التعويل عليه ، كما إذا تزوج المفقود زوجها من دون فحص ولا رفع الى الحاكم ، ولكن ظن وفاته لطول المدة أو تعويلا على إخبار من لا يوثق به ، أو شهادة العدل الواحد ، أو تزوج امرأة في عدتها مع جهله بأنها كم هي ، أو تزوج امرأة اشتبه عليه أمرها لشبهة رضاع أو مصاهرة أو غيرهما من أسباب التحريم من دون اجتهاد أو تقليد ، الى غير ذلك من الصور التي يجب فيها الفحص والسؤال ، ولا يعذر فيها الجاهل بالحال ، فان الظاهر أن ذلك كله زنا لا يثبت معه النسب شرعا إلا إذا اعتقد جواز النكاح في تلك الصور لشبهة محتملة في حقه ، فإنه حينئذ يكون وطء شبهة ، ويصدق عليه حده نظرا الى اعتقاده الاستحقاق ، لا لأن جهالته مغتفرة في الشرع ، والأصل في ذلك أن الفروج لا تستباح إلا بسبب شرعي ، فما لم يتحقق فيه السبب المبيح فهو وطء محرم داخل في الزنا ، ومن المعلوم أن الشارع لم يبح الوطء بمجرد الاحتمال أو الظن ، وإنما أباحه بشرط العلم بالاستحقاق ، أو حصول ما جعله أمارة للحل ، فبدونهما لا يكون الوطء إلا زنا.

ويدل عليه أيضا ما رواه‌ الكليني والشيخ عن الحسن بن محبوب السراد عن أبي أيوب الخزاز عن يزيد الكناسي (١) قال : « سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن امرأة تزوجت‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٢٧ ـ من أبواب حد الزنا الحديث ٣ من كتاب الحدود وفيه‌ « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام ».

٢٤٥

في عدتها قال : إن كانت تزوجت في عدة طلاق لزوجها عليها الرجعة فإن عليها الرجم ، وإن كانت تزوجت في عدة ليس لزوجها عليها الرجعة فان عليها حد الزاني غير المحصن ، وإن كانت تزوجت في عدة بعد موت زوجها من قبل انقضاء الأربعة أشهر والعشرة أيام فلا رجم عليها ، وعليها ضرب مأة جلدة ، قلت : أرايت إن كان ذلك بجهالة؟ قال : فقال : ما من امرأة اليوم من نساء المسلمين إلا وهي تعلم أن عليها عدة في طلاق أو موت ، ولقد كن نساء الجاهلية يعرفن ذلك ، قلت : فان كانت تعلم أن عليها عدة ولا تدري كم هي ، قال : فقال : إذا علمت أن عليها عدة لزمته الحجة ، فتسأل حتى تعلم ».

وصحيح أبي عبيدة الحذاء (١) عن أبى عبد الله عليه‌السلام « سألته عن امرأة تزوجت رجلا ولها زوج ، قال : فقال : إن كان زوجها الأول مقيما معها في المصر الذي هي فيه تصل اليه أو يصل إليها فإن عليها ما على الزاني المحصن : الرجم قال : وإن كان زوجها الأول غائبا عنها أو مقيما معها في المصر لا يصل إليها ولا تصل إليه فإن عليها ما على الزاني غير المحصن ، ولا لعان بينهما ولا تفريق ـ الى أن قال ـ : قلت : فان كانت جاهلة بما صنعت ، قال : فقال : أليس هي في دار الهجرة؟ قلت : بلى ، قال : فما من امرأة اليوم من نساء المسلمين إلا وهي تعلم أن امرأة المسلم لا يحل لها أن تتزوج زوجين ، قال : ولو أن المرأة إذا فجرت قالت لم أدر أو جهلت أن الذي فعلت حرام ولم يقم عليها الحد إذا لتعطلت الحدود ».

والثالث وطء من ارتفع عنه التكليف بسبب محرم كالسكر ، فان المشهور إن وطء السكران بشرب خمر ونحوه زنا يثبت به الحد وينتفى معه النسب كما عن الشيخين وغيرهما التصريح به ، بل قيل : لم نقف على مخالف في ثبوت الحد سوى العلامة في التحرير ، فنفاه عنه ، ولكنه في غيره وافق المشهور ، ولا ينافي ذلك عدم علمه بالتحريم حال سكره وإن اشترطناه في أصل ثبوت الحد ، لكن من المعلوم‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٢٧ ـ من أبواب حد الزنا الحديث ١ من كتاب الحدود.

٢٤٦

أن ذلك لا يزيد على اشتراط التكليف المتحقق في الفرض ، باعتبار أن ما بالاختيار لا ينافي الاختيار ، وليس هو شرطا زائدا على اشتراط التكليف كي يتجه ارتفاع الحد بارتفاعه ، ولا يخفى على من أحاط بالنصوص (١) الواردة في تحريم الخمر وكل مسكر أنها ظاهرة أو صريحة في أن السكران في أفعاله بمنزلة الصاحي في أفعاله ، فيترتب ما يترتب عليه من قود وحد ونفي ولد وغير ذلك ، وهو معن‌ ى قولهم (٢) عليهم‌السلام : « إن الخمر رأس كل إثم » وعدم توجيه الخطاب اليه باعتبار ارتفاع قابليته لذلك لا ينافي ترتب الأحكام ولو للخطاب السابق على حال السكر ، كما هو واضح لا يحتاج إلى إطناب.

فتحصل من ذلك أن وطء الشبهة ثلاثة أقسام : ( الأول ) الوطء الذي ليس بمستحق مع اعتقاد فاعله الاستحقاق ، لجهل بالموضوع أو جهل بالحكم الشرعي على وجه يعذر فيه. ( الثاني ) الوطء الذي ليس بمستحق مع عدم اعتقاد فاعله الاستحقاق ، إلا أن النكاح معه جائز شرعا ، كالمشتبه بغير المحصور ، والتعويل على إخبار المرأة. ( الثالث ) الوطء الغير المستحق ، ولكن صدر ممن هو غير مكلف ، كالنائم والمجنون والسكران بسبب محلل ونحوهم ، وما عدا ذلك والنكاح الصحيح الذي قد عرفت كله زنا ، هذا.

ولكن قد يشكل أولا بخروج المكروه اللهم إلا أن يتكلف دخوله في الثالث بإرادة ارتفاع التكليف بالحرمة ، وثانيا بخروج التكون من مائه بمساحقة أو غيرها مما هو ملحق به شرعا ، وقد يدفع بكون المراد هنا ثبوت النسب من حيث الوطء ، وثالثا بأن ظاهر عبارات الأصحاب يقتضي تحقق الشبهة بمجرد الظن وإن لم يكن من الظنون المعتبرة شرعا ، بل حصولها مع احتمال الاستحقاق مطلقا ولو مع الشك أو ظن الخلاف ، فإنهم أطلقوا القول بلحوق الولد فيما إذا تزوج امرأة بظن أنها‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٩ و ١٥ ـ من أبواب الأشربة المحرمة كتاب الأطعمة والأشربة.

(٢) الوسائل الباب ـ ١٢ ـ من أبواب الأشربة المحرمة الحديث ٤ و ٧ من كتاب الأطعمة والأشربة.

٢٤٧

خالية فوطأها ثم بانت محصنة ، وكذا فيما لو وطأ أجنبية بظن أنها زوجته أو أمته ، وفي غير ذلك من المسائل المفروضة في كلامهم ، ولم يقيدوا الظن في شي‌ء منها بكونه معتبرا في الشرع ، ولو لا تحقق الشبهة بمطلق الظن لوجب تقييده به ولم يجز إطلاقه.

وأيضا قد عرفت كثير منهم الشبهة على ما قيل بأنه الوطء الذي ليس بمستحق مع ظن الاستحقاق ، ولو كان تحقق الشبهة موقوفا على حصول الظن المعتبر لم يصح التحديد بمطلق الظن ، لعدم طرد التعريف على ذلك التقدير ، وحمله على خصوص الظن المعتبر تجوز لا يرتكب مثله في الحدود المبنية على إرادة الظواهر.

بل في المسالك تعريفها بالوطء الذي ليس بمستحق مع عدم العلم بالتحريم ، وهو يقتضي حصولها بمجرد الاحتمال وإن كان مساويا أو مرجوحا فكيف بالاحتمال الراجح.

قال الشيخ في المحكي عن نهايته : « وإذا نعي الرجل إلى أهله أو أخبرت بطلاق زوجها واعتدت وتزوجت ورزقت أولادا ثم جاء زوجها الأول وأنكر الطلاق وعلم أن شهادة من شهد بالطلاق شهادة زور فرق بينها وبين الزوج الأخير ، ثم تعتد منه وترجع إلى الأول بالعقد المتقدم ، ويكون الأولاد للزوج الأخير ».

وفي محكي الخلاف « إذا وجد الرجل امرأة على فراشه فظنها امرأته فوطأها لم يكن عليه الحد ، وبه قال الشافعي ، وقال أبو حنيفة : عليه الحد ، وقد روى ذلك (١) أصحابنا ، دليلنا الأصل براءة الذمة ، وشغلها يحتاج الى دليل ».

وعن ابن إدريس « وإذا نعي الرجل الى امرأة أو أخبرت بطلاق زوجها لها فاعتدت وتزوجت ورزقت أولادا ثم جاء زوجها الأول ـ إلى آخر ما سمعته من الشيخ وزاد ـ من وطأ جارية من المغنم قبل أن يقسم وادعى الشبهة في ذلك فإنه يدرأ عنه الحد ، للخبر (٢) المجمع عليه وقد روى (٣) أنها تقوم عليه ، ويسقط من قيمتها بمقدار ما يصيبه ، منها والباقي بين المسلمين ، ويقام عليه الحد ، ويدرأ‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٢٧ ـ من أبواب حد الزنا من كتاب الحدود.

(٢) الوسائل الباب ـ ٢٧ ـ من أبواب حد الزنا الحديث ١١ من كتاب الحدود.

(٣) الوسائل الباب ـ ٢٢ ـ من أبواب حد الزنا الحديث ٦ من كتاب الحدود.

٢٤٨

عنه بمقدار ما كان له فيها ، والأولى ما ذكرناه ، لأن الاشتباه في ذلك حاصل بلا خلاف ، وأيضا فإنه يظن أن سهمه أكثر منها ومن قيمتها ».

وقال في المتن فيما يأتي : « الوطء بالشبهة يلحق به النسب فلو اشتبهت عليه أجنبية فظنها زوجته أو أمته لحق به الولد ، وكذا لو وطأ أمة غيره لشبهة لكن في الأمة يلزمه قيمة الولد يوم سقط حيا ، لأنه وقت الحيلولة ، ولو تزوج امرأة بظن أنها خالية لظنها موت الزوج أو طلاقه فبان أنه لم يمت ولم يطلق ردت على الأول بعد الاعتداد من الثاني ، واختص الثاني بالأولاد مع الشرائط ، سواء استندت في ذلك الى حكم حاكم أو شهادة شهود أو إخبار مخبر ».

وقال في النافع : « ولو تزوج امرأة لظنه خلوها فبانت محصنة ردت على الأول بعد الاعتداد من الثاني ، وكانت الأولاد للواطي مع الشرائط ».

وفي محكي التحرير : « الوطء بالشبهة يلحق به النسب كالصحيح ، فلو اشتبهت عليه أجنبية فظنها زوجته أو مملوكته فوطأها وجاءت منه بولد لحق به ـ وقال ـ : لو ظن خلو الامرأة من زوج وظنت هي موت زوجها أو طلاقه فتزوجها ثم بان حياته وكذب المخبر بالطلاق ردت على الأول بعد الاعتداد من الثاني ، ولو حبلت من الثاني لحق به الولد مع الشرائط ، سواء كانت استندت في الموت أو الطلاق إلى حكم حاكم أو شهادة شاهدين أو إخبار واحد ».

وفي القواعد : « وطء الشبهة كالصحيح في إلحاق النسب ، فلو ظن أجنبية زوجته أو جاريته فوطأها فالولد له ، ولو تزوج امرأة ظنها خالية وظنت موت زوجها أو طلاقه ثم بان الخلاف ردت على الأول بعد العدة من الثاني ، والأولاد للثاني إن جمعت الشرائط سواء استندت إلى حكم حاكم أو شهادة شهود أو إخبار مخبر » الى غير ذلك من العبارات الخالية عن تقييد الظن بكونه معتبرا وبما إذا اعتقد جواز العمل به شرعا.

بل النصوص أيضا كذلك‌ قال أبو جعفر عليه‌السلام في الموثق وغيره عن زرارة (١) : « إذا‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١٦ ـ من أبواب ما يحرم بالمصاهرة الحديث ٦.

٢٤٩

نعي الرجل إلى أهله أو أخبروها أنه طلقها فاعتدت ثم تزوجت فجاء زوجها الأول بعد فإن الأول أحق بها من هذا الأخير ، دخل بها أو لم يدخل ، ولها من الأخير المهر بما استحل من فرجها » وفي الحسن وغيره عن محمد بن قيس (١) قال : « سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن رجل حسب أهله أنه قد مات أو قلت فنكحت امرأته وتزوجت سريته فولدت كل واحدة منهما من زوجها ، فجاء زوجها الأول ومولى السرية ، قال : فقال : يأخذ امرأته فهو أحق بها ، ويأخذ سريته وولدها ، أو يأخذ عوضا من ثمنه » وفي الصحيح عن محمد بن مسلم (٢) عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « سألته عن رجلين شهدا على رجل غابت عنه امرأته أنه طلقها ، فاعتدت المرأة وتزوجت ، ثم إن الزوج الغائب قدم فزعم أنه لم يطلقها وأكذب نفسه أحد الشاهدين ، فقال : لا سبيل للأخير عليها ، ويؤخذ الصداق من الذي شهد ورجع ، فيرد على الأخير ، والأول أملك بها ، وتعتد من الأخير ، ولا يقربها الأول حتى تقضي عدتها » وفي الموثق عن أبى بصير وغيره (٣) عن أبى عبد الله عليه‌السلام « إنه قال في شاهدين شهدا على امرأة بأن زوجها مات أو طلقها ، فتزوجت ، ثم جاء زوجها فأنكر الطلاق ، قال : يضربان الحد ، ويضمنان الصداق للزوج مما غراه ، ثم تعتد وترجع إلى الأول » وخبر أبي بصير (٤) عن أبى عبد الله عليه‌السلام « إن عليا عليه‌السلام قضى في الرجل تزوج امرأة لها زوج فرجم المرأة وضرب الرجل الحد ، وقال : لو علمت أنك علمت لفضخت رأسك بالحجارة » والمروي عن تفسير علي بن إبراهيم (٥) وغيره « إن‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٣٧ ـ من أبواب العدد الحديث ٣ من كتاب الطلاق وفيه‌ « يأخذ رضا من ثمنه » الا أن الموجود في الكافي ج ٦ ص ١٥٠ كالجواهر.

(٢) الوسائل الباب ـ ٣٧ ـ من أبواب العدد الحديث ٢ من كتاب الطلاق وفيه‌ « على رجل غائب عنه امرأته ».

(٣) الوسائل الباب ـ ٣٧ ـ من أبواب العدد الحديث ٥ من كتاب الطلاق.

(٤) الوسائل الباب ـ ٣٧ ـ من أبواب حد الزنا الحديث ٧ من كتاب الحدود.

(٥) الوسائل الباب ـ ١ ـ من أبواب حد الزنا الحديث ١٧ و ١٦ من كتاب الحدود.

٢٥٠

عمر بن الخطاب أتى بستة نفر أخذوا في الزنا ، فأمر أن يقام على كل منهم الحد ، وكان أمير المؤمنين عليه‌السلام حاضرا فقال : يا عمر ليس هذا حكمهم ، قال : فأقم أنت الحد عليهم ، فقدم واحدا منهم فضرب عنقه ، وقدم الثاني فرجمه ، وقدم الثالث فضربه الحد ، وقدم الرابع فضربه نصف الحد ، وقدم الخامس فعزره ، وأطلق السادس ، فتحير عمر وتعجب الناس من فعله ، فقال له عمر : يا أبا الحسن ستة نفر في قضية واحدة أقمت عليهم ستة حدود وليس يشبه شي‌ء منها الآخر ، فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : أما الأول فكان ذميا فخرج عن ذمته لم يكن له حد إلا السيف ، وأما الثاني فرجل محصن كان حده الرجم ، وأما الثالث فغير محصن حده الجلد ، وأما الرابع فعبد ضربناه نصف الحد ، وأما الخامس فكان من الفعل بالشبهة فعزرناه وأدبناه ، وأما السادس فمجنون مغلوب على عقله سقط عنه التكليف » وخبر السكوني (١) عن جعفر عليه‌السلام عن أبيه « إن عليا عليه‌السلام اتى برجل تزوج امرأة على خالتها فجلده وفرق بينهما » وخبر الخنثى (٢) التي ألحقها أمير المؤمنين عليه‌السلام بالرجل بعد اعترافها وزوجها بأنها ولدت وأولدت ، ثم‌ قال له أمير المؤمنين عليه‌السلام : « إنك لأجرأ من راكب الأسد » أو قال : « من خاصي الأسد » الى غير ذلك من النصوص الدالة على المطلوب باعتبار حكم الشبهة من الاعتداد وإثبات المهر وإلحاق الأولاد من دون سؤال عن كون ذلك كان بطريق معتبر أولا ، عالما بالاستحقاق أولا ، أو كان الشاهدان معتبرين أولا ، وباعتبار إثبات التعزير الذي هو ليس بحد ، بل ليس هو إلا الإخلاد إلى ظن غير معتبر ، وإلا لم يستحق التعزير.

فيعلم حينئذ عدم اعتبار حلية الوطء في تحقيق الشبهة ، بل يتحقق مع حرمته ، فالوطء مع عدم العلم بالحل وانتفاء الظن المعتبر محرم بناء على ما ذكر‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٣٠ ـ من أبواب ما يحرم بالمصاهرة الحديث ٤.

(٢) الوسائل الباب ـ ٢ ـ من أبواب ميراث الخنثى الحديث ٢ و ٥ من كتاب المواريث.

٢٥١

من أن الفروج لا تستباح بالاحتمال ، لكن لم لا يجوز أن يثبت به النسب مع ظن الاستحقاق ، نظرا إلى إطلاق النص والفتوى ، وأي مانع من القول بتحريم الوطء وثبوت النسب معه إذا اقتضته الأدلة الشرعية ، ولعل المناط في الزنا وانتفاء الشبهة العلم بعدم الاستحقاق مع انتفائه ، وهو غير حاصل في الفرض وإن علم بتحريم الوطء عليه ، بل لم نجد من اعتبر المعذورية في تحقق الشبهة قبل الشهيد الثاني ، وتبعه سبطه وصاحب الكفاية ، كما ستعرف ، بل لعل الشبهة في المقام هي التي يدرأ بها الحد من غير فرق بينهما ، ولم يعتبر أحد في تلك المعذورية.

وقد يدفع الاشكال من أصله بأنه بعد العلم بتوقف اباحة الفروج على الاذن الشرعي لا يفيدها ظن الاستحقاق ، ولا احتماله إلا مع اعتباره وجواز التعويل عليه في الشرع ، فبدونه كما هو المفروض ينتفي الاذن ، ويثبت التحريم ، فلا يكون هناك شبهة مسوغة للوطء كي يكون الوطء وطء شبهة ، ومن المعلوم أنه ليس نكاحا صحيحا ، لأن المفروض أنه غير مستحق في نفس الأمر فيتعين أن يكون زنا ، لانحصار الوطء في الأقسام الثلاثة على ما قطع به الأصحاب ، وأيضا فإن تحريم الوطء مع عدم الاستحقاق يستلزم الزنا ، لأنه ليس إلا الوطء المحرم الذي ليس بمستحق ، ولا ريب أن الوطء المفروض كذلك ، وحينئذ فإطلاق النص والفتوى مع تسليمه يجب تقييده بالظن المعتبر وما في حكمه أو بما إذا اعتقد الواطئ جواز الإخلاد إلى الظن الحاصل له لجهله بالحكم.

قال الشهيد في المسالك بعد نقله عن الشيخ والأصحاب تحقق الشبهة في الوطء بظن المرأة خالية عن الزوج أو ظن موت زوجها أو طلاقه سواء استند الى حكم الحاكم أو شهادة الشهود أو إخبار مخبر : « إن الحكم المذكور لا إشكال فيه على تقدير حكم الحاكم أو شهادة شاهدين يعتمد على قولهما شرعا وإن لم يحكم حاكم ، إذ ليس هناك نزاع حتى يفتقر الحكم اليه ، وحينئذ فيكون ذلك شبهة مسوغة للوطء وموجبة للحاق الأولاد ، وثبوت الاعتداد بعد ظهور الفساد ، لأن وطء الشبهة موجب ذلك ، وأما على تقدير كون المخبر ممن لا يثبت به ذلك شرعا كالواحد فينبغي‌

٢٥٢

تقييده بما لو ظنا جواز التعويل على خبره جهلا منهما بالحكم ، فلو علما بعدم الجواز كانا زانيين ، فلا يلحق بهما الولد ، ولا عدة عليها منه ، ولو جهل أحدهما ثبتت العدة ولحق الولد به دون الآخر » وفي التحرير صرح بالاجتزاء بخبر الواحد ، وهو محمول على ما ذكرناه ليوافق القوانين الشرعية.

وقال السيد الفاضل في شرح النافع بعد إيراده عبارة المحقق المنقولة : « إنه يجب تقييد الحكم المذكور بما إذا اعتقد الزوج جواز التعويل على ذلك الظن ، ليصير الوطء وطء شبهة ، فلو كان الظن مما لا يجوز التعويل عليه وعلما بذلك فان الوطء يكون زنا ، وينتفى الولد عن الواطئ كما هو واضح ».

وقال في الكفاية : « لو تزوج امرأة لظنها خالية أو موت الزوج أو طلاقا بحكم حاكم أو شهادة شهود أو إخبار مخبر مع اعتقاد جواز التعويل على ذلك ثم بان فساد الظن ردت إلى الأول بعد الاعتداد من الثاني ، واختص الثاني بالأولاد مع الشرائط ، ولو علما عدم جواز التعويل على قول المخبر بذلك كانا زانيين ، فلا يلحق بهما الولد ، ولا عدة عليها منه ».

وقد ظهر من ذلك أن إطلاق الظن في تعريف الوطء بالشبهة وكذا عدم العلم بالتحريم ليس محمولا على ظاهره ، بل هو مقيد بما يجوز معه الوطء على ما صرحوا به واقتضته طريقتهم المعلومة في استباحة الفروج ، ومثل هذا التسامح لا يخلو عنه أكثر التعريفات ، سيما تعاريف أهل هذا الفن ، فإنه لا يكاد يسلم شي‌ء منها عن المسامحة والانتقاض بحسب الطرد والعكس ، وقد اشتمل كل من التعريفين المذكورين على خلل غير ما ذكر ، فان التعريف الأول يخرج عنه وطء غير المكلف كالمجنون والنائم وغيرهما ، وكذا الوطء الجائز شرعا مع عدم ظن الواطئ الاستحقاق ، كما لو أخبرته الامرأة الغير المأمونة بعدم البعل وانقضاء العدة ، فإن الظاهر جواز التعويل على خبرها وإن لم يفد الظن ، لأنها مصدقة على نفسها ،

٢٥٣

كما ورد في الأخبار (١) والتعريف الثاني يدخل فيه وطء الظان بعدم الاستحقاق وإن استند الى سبب شرعي ، كشهادة العدلين والاجتهاد والتقليد المعتبرين ، فإنه يصدق معه أنه غير عالم بالتحريم ، وإنما هو ظان ، مع أنه لا خلاف في أنه زنا لا يثبت به النسب ، وما في القواعد ـ من أن الحد إنما يثبت في المحرم بالإجماع ، كالخامسة وذات البعل ، دون المختلف فيه كالكتابية والمخلوقة من الزنا ـ يراد منه جواز استناد الواطئ مع الاختلاف الى القول بالحل ، وليس المراد منه أنه يدرأ عنه وإن علم منه خلاف ذلك ، كما هو واضح.

كما أنه قد يقال : إن المراد من العلم بالتحريم الذي اعتبر انتفاؤه في التعريف الثاني للشبهة ما يعم الظن المعتبر أو العلم بالحكم الظاهري ، للقطع بفساد الحد على تقدير إرادة العلم القطعي بالحكم الواقعي ، وحينئذ فيخرج عن التعريف وطء المخالف الذي لم يعتقد الحل في الظاهر وإن ظن الإباحة في نفس الأمر ، فإنه معلوم الحرمة ، فلا يصدق عليه حد الوطء بالشبهة ، بل بذلك يظهر انطباق التعريف المذكور على المدعى وأنه لا يصلح الاستناد إليه في تحقق الشبهة بمجرد الاحتمال ، بل بمثله يتبين عدم صحة الاستشهاد بما دل على سقوط الحد مع الشبهة والجهل بالحكم ، فإنه إنما يصح لو أريد منها انتفاء العلم القطعي بالحكم الواقعي ، وهو ممنوع بل الظاهر خلافه ، لعدم صدق الشبهة والجهالة مع العلم بتحريم النكاح شرعا ، وخصوصا مع جعلهما عذرا يدرأ به الحد.

وأما حديث الخنثى فإنما يصح التأييد به لو كان إسقاط الحد عن زوجها لتجويزه كونها أنثى ، وهو ممنوع إذ الظاهر أنه كان يعتقد أنه امرأة نظرا الى ظاهر الحال ، حيث كان الغالب عليها مشابهة النساء دون الرجال كما يستفاد من ظاهر الرواية وتقتضيه القرائن الحالية ، فإن الإقدام على تزويجها مع كون الغالب عليها مشابهة الرجال بعيد الوقوع في العادة.

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٢٥ ـ من أبواب عقد النكاح والباب ـ ١٠ ـ من أبواب المتعة والباب ـ ٢٤ ـ من أبواب العدد من كتاب الطلاق.

٢٥٤

وأما روايات التعزير فمع عدم صراحة جميعها في وطء الشبهة ولا في أن المأتي به تعزير لأحد محمولة على التهمة في دعوى الجهالة بمظنة الزنا ، أو على أن الاقدام على الوطء لظن معتبر لا يعلم الواطئ اعتباره ، ولو سلم فلا نسلم امتناع التعزير مع الجهل بالحال ، وخصوصا مع ظن عدم الاستحقاق ، لأن الوطء في تلك الحال لا ينفك عن اجتراء على القبيح ومخالفة الاحتياط المطلوب سيما في الفروج ، مع ما فيه من قطع المعاذير الباطلة وحسم مادة المعصية ، ولا ريب في أنه مطلوب شرعا.

وأما فساد ما ذكر أخيرا فيعرف من ملاحظة كلام الفقهاء في الحدود ، فإنه لم يشترط أحد منهم في الحد منهم في الحد العلم بعدم الاستحقاق في تحقق الزنا وانتفائه ، وإنما اعتبروا فيه العلم بالتحريم ، وبنوا عليه ثبوت الحد مع وجوده ، وسقوطه مع انتفائه في جميع المسائل التي فرعوها على اعتبار العلم في حد الزنا ، كما لا يخفى على من لاحظ عبارة المصنف والفاضل وغيرهما هناك ، هذا.

ولكن الانصاف عدم منافاة الإثم في الوطء للشبهة إذا كان منشأه التقصير في المقدمات ، ضرورة كون نكاح الكفار ونحوهم جميعه من الشبهة وإن أثموا به باعتبار اختيارهم الأديان الباطلة ، وكذا ظان الحلية من غيرهم ، ولكن لتقصيره في عدم مباشرة أهل الشرع والالتفات الى ما يراد منه لم يتنبه إلى حرمة العمل له بهذا الظن ، فإنه لا ريب في تحقق الإثم عليه بذلك ، كما أنه لا ريب في كونه من الشبهة والسكران إنما خرج بالأدلة الخاصة.

فالتحقيق حينئذ تعريف الشبهة بما ذكرناه أولا ، لكن مع تعميم الاعتقاد للقطع والظن الذي لم يتنبه صاحبه الى عدم جواز العمل به ولو لتقصير منه في المقدمات ، وتعميمه أيضا للمقصر فيما اقتضاه كأهل المذاهب الفاسدة وغيره ، وجميع ما نافى ذلك من عبارة أو رواية قد عرفت إمكان إرجاعه إليه ، بل قد يقال بكفاية الظن بالاستحقاق في النسب وإن لم يعلم الواطئ بكفايته في الحلية بعد تنبهه للحال وتقصيره في السؤال كما هو مقتضى إطلاق ما سمعته من النص والفتوى ، لعدم كونه‌

٢٥٥

زنا ، وأولى منه الاقدام على الشبهة المحصورة حتى مع العلم بحرمة الاقدام مع بقاء الاشتباه ، ضرورة عدم تحقق الزنا بمطلق الحرمة ، وخبر الكناسي والحذاء إنما يدلان على عدم سماع دعوى الجهل بالحكم من الامرأة ، لمكان كونه كالضروري ، وهو غير ما نحن فيه ، وكذا ما في أولهما من لزوم الحجة عليها لو علمت بالعدة ولم تدر كم هي ، فإن عليها السؤال.

وبالجملة لا يتحقق الزنا بمثل هذه الحرمة ، ولا أقل من الشك في ذلك ، فتبقى أصالة ترتب حكم النسب على المسمى اللغوي بحاله ، إذ لم يخرج منه إلا بعض الأحكام لولد الزنا المعلوم منه غير الفرد المزبور ، ولعله لذا ونحوه أطلق الأصحاب كما سمعت ، بل قد سمعت ما يقتضي الاكتفاء بعدم العلم بالحرمة في تحقق الشبهة ، ولعله لا يخلو من قوة مع فرض جهله بالحكم الظاهري وإن كان متنبها للسؤال ، لكنه أثم وأقدم ، نعم لو علم اجتهادا أو تقليدا بحرمة نكاح المفقود زوجها مع الظن أو الاحتمال أمكن القول بخروجه حينئذ عن الشبهة ، وبالجملة لا دليل على اعتبار المعذورية في الوطء الغير المستحق في تحقق الشبهة ، بل مقتضى الدليل خلافه فتأمل.

وعلى كل حال فلا فرق في حكم الشبهة بين الأعمى وغيره ، فما عن الشيخين وابن البراج من عدم تصديقه لو ادعى الشبهة بظن الزوجية للأجنبية التي وطأها محمول على إرادة الفرق بين البصير والأعمى في أصل دخول الشبهة ، فإنه لما كان الاشتباه في حق الأعمى قريبا جدا وجب عليه غاية التحفظ ، فلم يقبل منه دعواها ، لمكان التهمة حينئذ ، لا أن المراد منه أنه مع كمال التحفظ لو فرض دخول الشبهة عليه لا يجرى عليه حكم المشتبه ، ولذا لم يسمع منه دعواها ، ضرورة كون ذلك تخصيصا للأدلة من غير مخصص قابل لذلك ، كما هو واضح.

وكيف كان فـ ( لا يثبت ) النسب مع الزنا إجماعا بقسميه ، بل يمكن دعوى ضروريته فضلا عن دعوى معلوميته من النصوص أو تواترها فيه‌

٢٥٦

فلو زنى فانخلق من مائه ولد على الجزم لم ينسب اليه شرعا على وجه يلحقه الأحكام ، وكذا بالنسبة الى امه.

ولكن هل يحرم على الزاني لو كان بنتا؟ والزانية لو كان ولدا؟ الوجه أنه يحرم ، لأنه مخلوق من مائه ومائها فلا ينكح الإنسان بعضه بعضا ، كما ورد في بعض (١) النصوص النافية لخلق حواء من آدم وأيضا هو يسمى ولدا لغة والأصل عدم النقل ، ومناط التحريم هنا عندنا عليها ، كما اعترف به في كشف اللثام على وجه يحتمل أو يظهر منه الإجماع على ذلك ، بل في المسالك أنه يظهر من جماعة من علمائنا منهم العلامة في التذكرة وولده في الشرح وغيرهما أن التحريم إجماعي ، بل الظاهر اتفاق المسلمين كافة على تحريم الولد على امه ، وكأنه لازم لتحريم البنت على أبيها وإن حكي عن الشافعية عدم تحريمها عليه نظرا إلى انتفائها شرعا ، لكنه كما ترى ، ضرورة عدم الملازمة بين الانتفاء شرعا والحلية بعد أن كان مناط التحريم اللغة.

بل يظهر من النصوص أن التحريم ذاتي لا مدخلية للنسب الشرعي فيه ، قال زرارة في المروي عنه (٢) في محكي العلل : « سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن بدو النسل من ذرية آدم عليه‌السلام فان عندنا أناسا يزعمون أن الله أمر آدم عليه‌السلام أن يزوج بناته من بنيه وأن أصل هذا الخلق من الإخوة والأخوات ، قال أبو عبد الله عليه‌السلام : سبحان الله وتعالى عن ذلك علوا كبيرا عما يقولون ، من يقول هذا؟ إن الله عز وجل جعل أصل صفوة خلقه وأحبائه وأنبيائه ورسله والمؤمنين والمؤمنات من حرام ، ولم يكن له من القدرة ما يخلقهم من الحلال؟ وقد أخذ ميثاقهم على الحلال والطهر الطاهر الطيب ، والله لقد نبئت أن بعض البهائم تنكرت له أخته ، فلما نزا عليها ونزل كشف له عنها وعلم أنها أخته أخرج غرموله ثم قبض عليه بأسنانه ثم قلعه ثم خر ميتا » وزاد‌

__________________

(١) البحار ج ١١ ص ٢٢١ الطبع الحديث.

(٢) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من أبواب ما يحرم بالنسب الحديث ٤.

٢٥٧

في حديث آخر (١) « ان كتب الله كلها مما جرى فيه القلم ، في كلها تحريم الأخوات على الإخوة فيما حرم وأن جيلا من هذا الخلق رغبوا عن علم بيوتات الأنبياء ، وأخذوا من حيث لم يؤمروا بأخذه ، فصاروا الى ما قد ترون من الضلال ـ ثم قال ـ : ما أراد من يقول هذا وشبهه إلا تقويه حجج المجوس ، فما لهم قاتلهم الله » وهو صريح فيما ذكرناه ، ولذلك حكاه عن البهائم التي لا نسب شرعي بينها ، فالقبح الذي لا يخفى على البهائم كيف يخفى على بني آدم إلا على من كان أسوأ منها.

مضافا الى ما فيه من نقصان الشهوة المفضي إلى اختلال أمر التناسل الذي هو الغرض الأصلي من النكاح ، وإن النكاح لما كان من أعظم علل الضم والاجتماع المطلوبين للتعاون والتشارك والتوسل الى الكمالات الكسبية للإنسان وجب أن يكونا من الغايات المقصودة منه ، لأن مصالح الأفعال الحسنة غايات في طلب الحكيم العالم بها ، وحيث كان الضم والاجتماع حاصلين مع النسب اللغوي خاصة على أبلغ الوجوه وأحسنه لم يكن لعلقة السبب تأثير في حصولهما ، لامتناع تحصيل الحاصل ، فلا تكون العلاقة السببية مطلوبة مع وجود النسبية إلا مع ضعف تأثيرها في الاجتماع والضم ، كما في أولاد العمومة والخؤولة ، فإنه ينزل الضعف فيه منزلة العدم ، ويجبر بالإذن في النكاح المقتضي للضم ، كما في الأباعد.

وعلى كل حال فلا ينبغي التأمل في أن مدار تحريم النسبيات السبع على اللغة ، ولا يلزم منه إثبات أحكام النسب في غير المقام الذي ينساق من دليله إرادة الشرعي لانتفاء ما عداه فيه ، وهو قاض بعدم ترتب الأحكام عليه ، لأن المنفي شرعا كالمنفي عقلا كما أومأ إليه النفي باللعان ، فما في القواعد ـ من الإشكال في العتق أن ملك الفرع والأصل والشهادة على الأب والقود به وتحريم الحليلة وغيرها من توابع النسب ـ في غير محله ، وفي كشف اللثام « كالإرث وتحريم زوج البنت على أنها والجمع بين الأختين من الزنا أو إحداهما منه وحبس الأب في دين ابنه أن منع منه ـ ثم قال ـ والأولى‌

__________________

(١) ذكر قطعة منه في الباب ـ ٣ ـ من أبواب ما يحرم بالنسب الحديث ٥ وتمامه في البحار ج ١١ ص ٢٢٣ الطبع الحديث.

٢٥٨

الاحتياط فيما يتعلق بالدماء أو النكاح ، وأما العتق فالأصل العدم مع الشك في السبب ، بل ظهور خلافه ، وأصل الشهادة القبول » قلت : لا ينبغي التأمل في أن المتجه عدم لحوق حكم النسب في غير النكاح ، بل ستعرف قوة عدم جريان حكمه فيه أيضا في المصاهرات فضلا عن غير النكاح ، بل قد يتوقف في جواز النظر بالنسبة الى من حرم نكاحه مما عرفت.

لكن الانصاف عدم خلو الحل من قوة بدعوى ظهور التلازم بين الحكمين هنا ، خصوصا بعد ظهور اتحادهما في المناط ، ومن ذلك كله يظهر لك أنه لا وجه لما في المسالك من التردد في أمثال هذه المسائل ، كما هو واضح.

( الثاني )

لو طلق زوجته فوطأت بالشبهة فإن أتت بولد لأقل من ستة أشهر من وطء الثاني ولستة أشهر فما فوق إلى أقصى الحمل من وطء المطلق ألحق بالمطلق لانتفائه عن الثاني قطعا ، لعدم الولادة كاملا قبل الستة أشهر ، والفرض أن الفراش منحصر فيهما ، والمسلم لا يحمل على الزنا مع إمكان عدمه ، وإن أتت به لستة أشهر فصاعدا إلى أقصى الحمل من وطء الثاني ولزيادة من أقصى الحمل من وطء الأول فهو ملحق بالثاني قطعا لما عرفت.

أما لو كان الثاني له أقل من ستة أشهر وللمطلق أكثر من أقصى مدة الحمل لم يلحق بأحدهما لانتفائه عنهما شرعا وإن احتمل أن يكون منهما بأن أتت به لستة أشهر فصاعدا إلى أقصى مدة الحمل من وطئهما معا استخرج بالقرعة عند الشيخ فيما حكي عن مبسوطة مؤذنا بالإجماع عليه ، وحكاه في الكشف عن فخر الإسلام ، لأنها لكل أمر مشكل ، وهذا منه بعد اشتراك الفراش بينهما ، وإن كان التكون منهما وتعارض الأصول في إلحاقه بكل منهما حتى أصالة تأخر الحادث التي هي في المقام لو قلنا بها كانت من الأصول المثبتة ، ولذا قال في كشف‌

٢٥٩

اللثام في رد الأصل بأنه كما أن الأصل عدم التكون سابقا الأصل عدم التكون لاحقا ، فالأصل بالنسبة الى كل منهما عدم النسب ، لكن مع ذلك في المتن على تردد أشبهه أنه للثاني ، وحكم اللبن تابع للنسب بل في المسالك نسبته إلى الأكثر ، معللا له بأن فراش الأول قد زال وفراش الثاني ثابت ، فهو أولى من الزائل ، ولأن صدق المشتق على ما وجد فيه المعنى المشتق منه حالته أولى ممن سبق مع التعارض ، للخلاف المشهور أنه مع سبقه يكون مجازا لا حقيقة ، وفيه منع ثبوت الفراش للثاني بعد فرض ارتفاع الشبهة ، لعدم صدقه هنا حقيقة بناء على أنها فيه بمعنى حال التلبس ، بل قد يمنع أصل الفراش في الشبهة للتصريح في الصحاح والقاموس ومختصر النهاية وغيرها بأنه الزوجة ، ولا ينافي ذلك لحوق الولد باعتبار احترام الوطء كما في الأمة بناء على أنها ليس فراشا كل ذلك مع احتمال القول بأن الطلاق غير مزيل حكم الفراشية ولذا يلحق به مع عدم معارضة غيره.

فالأولى الاستدلال على ذلك بالنصوص ، وكأنه لم يعثر عليها ، ولذا علله بما عرفت ( منها ) صحيح الحلبي (١) عن أبى عبد الله عليه‌السلام « إذا كان للرجل منكم الجارية يطؤها فيعتقها فاعتدت ونكحت ، فان وضعت لخمسة أشهر فإنه من مولاها الذي أعتقها ، فإن وضعت بعد ما تزوجت لستة أشهر فإنه لزوجها الأخير ».

( ومنها ) المرسل عن زرارة (٢) « سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن الرجل إذا طلق امرأته ثم نكحت وقد اعتدت ووضعت لخمسة أشهر فهو للأول ، وإن كان ولد أنقص من ستة أشهر فهو لامه ولأبيه الأول ، وإن ولد لستة أشهر فهو للأخير ». ( ومنها ) المرسل (٣) عن أحدهما عليهما‌السلام « في المرأة تتزوج في عدتها ، قال : يفرق بينهما وتعتد عدة واحدة منهما جميعا ، وإن جاءت بولد لستة أشهر أو أكثر فهو للأخير ، وإن جاءت بولد أقل من ستة أشهر فهو للأول ».

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٥٨ ـ من أبواب نكاح العبيد والإماء الحديث ١.

(٢) الوسائل الباب ـ ١٧ ـ من أبواب أحكام الأولاد الحديث ١١.

(٣) الوسائل الباب ـ ١٧ ـ من أبواب ما يحرم بالمصاهرة الحديث ١٤.

٢٦٠