جواهر الكلام - ج ٢٩

الشيخ محمّد حسن النّجفي

١

بسم الله الرحمن الرحيم

كلمة المحقق

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الغر الميامين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين.

إن كتاب (جواهر الكلام) في شرح شرائع الاسلام موسوعة سامية غنية عن البيان والتعريف، لشهرتها وانتشار اسمها ، إذ هي من أعظم الكتب الفقهية الاستدلالية ، وفي مقدمة الموسوعات سعة وجمعا وإحاطة بأقوال العلماء وأدلتهم وأنه الكتاب الكامل في جميع أبواب الفقه كلها الجامع لجميع كتبه ، وثمة ميزة تفرد بها : هي أنه على نسق واحد من أوله إلى آخره، وبنفس السعة التى ابتدأ بها انتهى إليها.

لذلك وفق الكتاب توفيقا منقطع النظير في إقبال أهل العلم عليه من السلف إلى الخلف، حتى أن المجتهد ليستطيع أن يطمئن إلى استنباط الحكم الشرعي بالرجوع إليه، وقد يستغني به عن كثير من الكتب الفقهية الاخرى. ولما رغب سيادة الناشر الكريم الاستاذ الفاضل السيد إسماعيل الكتابچى ـ مدير المكتبة والمطبعة الاسلامية بطهران ـ وفقه الله وسدده في المبادرة باخراج بقية اجزاء جواهر الكلام.

حيث سبق لسماحة حجة الاسلام والمسلمين شيخنا الوالد دام ظله أن تصدى تصحيح وتحقيق النصف الاول من هذه الموسوعة، وطبع في (٢١) جزءا في النجف

٢

الاشرف ـ ورغب أن يكون تحقيقه على النمط الاول فقد عهد إلى بأن اشارك معه في إخراج بقية أجزاء الكتاب التي ينوى إخراجها بما يوافق طبيعة العصر الحاضر وذوق الفقهاء الكرام.

ولما رأيت رغبته الملحة أجبته بالرغم من كثرة أشغالي وشغل بالي مبتغيا رضا الله سبحانه بتشجيعه ومساندته خدمة للدين وطمعا بثواب رب العالمين. وبما أن هذا الكتاب مع تعدد طبعاته كان سقيما في نسخة وإخراجه وتشويشه وتشويه عناوينه وأبوابه مع كثرة الاغلاط الفاحشة المغيرة للمعنى لذلك اقتفيت طريقتنا التى كنا نستعملها في تصحيح وتحقيق الاجزاء السابقة مع شيخنا الوالد دام ظله، وهى:

١ ـ الاعتماد في تصحيح الكتاب على مقابلته بدقة على النسخة الاصلية المخطوطة المصححة بقلم المصنف (قده) التي تفضل بها علينا الحجة الشيخ محمد تقي الجواهري، وفي بعض الاحيان لم نكتف بهذه النسخة لعدم سلامة العبارة وسلاستها لاحتمال الخطاء فيها، فكنت اراجع النسخة الخطية التى كتبها المصنف طاب ثراه بقلمه الشريف (وهي المحفوظة في المكتبة العامة للسيد الحكيم قدس سره في النجف الاشرف) وقد استفدت منها في عدة موارد، لوجود بعض الاختلافات مع هذه النسخة.

٢ ـ مقابلة المتن على كتاب الشرائع وتمييز المتن عن الشرح بأقواس مشجرة تفصل بينهما وقد عانيت كثيرا في هذه الجهة عند ادماج المؤلف (قده) بعض حروف المتن في الشرح وبالعكس.

٣ ـ إخراج الاحاديث التى يستدل بها في جميع الابواب والاشارة إلى مواضعها في التعليقة بدوا من الوسائل والمستدرك ثم بقية المصادر الخاصة والعامة ومقابلتها على تلك المصادر، والاشارة إلى الاختلافات المهمة دون اليسيرة منها في غالب الروايات التي يستدل بها صاحب الجواهر (قده) فلم نتعرض لتلك الاختلافات الطفيفة.

٣

وحيث كان العمل في هذا المضمار يحتاج إلى الاستعانة في المقابلة على النسخة المخطوطة والروايات على مصادرها كان فضيلة الاخ العلامة الشيخ محمد القوچاني وفقه الله خير معين لي، فاني أشكر جهوده في المشاركة وسرعة انجاز هذا المشروع. والحمد لله وله الشكر أولا وآخرا.

النجف الاشرف

صبيحة يوم ولادة سيد الاوصياء

امير المؤمنين عليه آلاف التحية والثناء

١٣ / رجب / ١٣٩٥

محمود القوچانى

٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‌

( كتاب النكاح )

الذي هو في اللغة للوطء عند المشهور بل عن المختلف الإجماع عليه ، بمعنى اتفاق أهل اللغة ، قال في محكي الصحاح : « النكاح الوطء وقد يقال للعقد » وفي محكي المغرب « أصل النكاح الوطء ثم قيل للتزويج نكاح مجازا ، لأنه سبب للوطء » ولا ينافيه ما عن القاموس من « أنه الوطء والعقد » لأنه كثيرا ما يخلط بين الحقيقة والمجاز واللغة والشرع ، بل قيل : إنه في الشرع أيضا كذلك ، لأصالة عدم النقل وقيل : إنه العقد فيهما ، لشيوع استعماله كذلك ، فإطلاقه حينئذ على الوطء إطلاق لاسم السبب على المسبب ، بل عن الراغب « إنه محال أن يكون في الأصل للجماع ثم أستعير للعقد ، لأن أسماء الجماع كلها كنايات ، لاستقباحهم تعاطيه ، ومحال أن يستعير من لا يقصد فحشا اسم ما يستفظعونه « لما يستحشونه » وقيل : إنه مشترك بينهما فيهما ، لاستعماله فيهما كذلك ، والأصل في الاستعمال الحقيقة ، وقيل : إن أصله الالتقاء ، يقال : تناكح الجبلان إذا التقيا ، وعن الفراء « إن نكح المرأة بالضم بضعها أي فرجها » وقيل : أصله الضم ، وعن المصباح المنير يقال : « إنه « مأخوذ من نكحه الدواء إذا خامره وغلبه ، أو من تناكحت الأشجار إذا انضم بعضها إلى بعض ، أو من نكح المطر الأرض إذا اختلط بثراها » وعلى هذا فيكون‌

٥

النكاح مجازا في العقد والوطء جميعا لأنه مأخوذ من غيره ، فلا يستقيم القول بأنه حقيقة لا فيهما ولا في أحدهما.

ويؤيده أنه لا يفهم العقد إلا بقرينة ، نحو نكح في بني فلان ، ولا يفهم الوطء إلا بقرينة نحو نكح زوجته ، وذلك من علامات المجاز ، وإن قيل : إنه غير مأخوذ من شي‌ء ، فيترجح الاشتراك ، لأنه لا يفهم واحد من قسميه إلا بقرينة ، وفيه أن من قال بالأخذ فإنما يقول بكونه حقيقة في عرف اللغة فيهما أو في أحدهما ، ولا ينافي التجوز باعتبار أصله ، على أن لزوم التجوز إنما يسلم إن لم يكن إطلاقه على الوطء من جهة كونه ضما واختلاطا ومخامرة وغلبة والتقاء وهو ممنوع.

وعلى كل حال فقد عرفت أن المشهور كونه للوطء لغة ، كما أن المشهور كونه للعقد شرعا ، بل عن ابن إدريس نفي الخلاف فيه ، بل عن ابن فهد والشيخ والفخر الإجماع عليه ، لغلبة استعماله فيه ، حتى قيل : إنه لم يرد لفظ النكاح في الكتاب العزيز بمعنى الوطء إلا في قوله تعالى (١) ( حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً ) بل قيل : إنه فيها بمعنى العقد أيضا ، واشتراط الوطء إنما علم من دليل آخر ، نعم ، في المصابيح للعلامة الطباطبائي الظاهر أن النزاع في المسألة مبني على الخلاف المشهور في الحقيقة الشرعية ، فعلى القول بالثبوت يكون النكاح حقيقة في العقد مجازا في الوطء ، وعلى العدم يكون الأمر بالعكس ، والقول بثبوت الحقيقة الشرعية في لفظ النكاح خاصة دون سائر الألفاظ كالصلاة والصوم والزكاة وغيرها على ما يوهمه الإجماع المنقول مع بعده في نفسه غير معروف ولا منقول عن أحد ، مع أن الظاهر كون الدعوى هناك نفيا وإثباتا على الوجه الكلي ، وأن النافي للحقيقة الشرعية يدعي السلب الكلي ، وثبوتها في لفظ النكاح أعني الإيجاب الجزئي يناقضه.

قلت : هذا حاصل كلام الأصحاب في المقام ، لكنه إن لم يتحقق الإجماع لا يخلو من بحث ، ضرورة استعمال لفظ النكاح المقابل للسفاح قبل الشرع ، نحو‌

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ الآية ٢٣٠.

٦

استعمال لفظ البيع والصلح والإجارة ونحوها ، بل ظاهر عنوان الأصحاب لها وجعل كل منها في كتاب أنها جميعا من واد واحد ، فكتاب عقد البيع وعقد الصلح وعقد الإجارة وعقد النكاح بمعنى واحد ، بل لو ادعى مدع أن الإضافة في خصوص الأخير بيانية دون غيرها لكان من الغرائب ، وقد عرفت في أول كتاب البيع أن الأصح كونه اسما للنقل لا للانتقال ولا للعقد ، كما أوضحناه على وجه لا يكاد يعتريه شك ، وقلنا : إنه المطرد في سائر استعمالات ألفاظه ، حتى ألفاظه الواقعة في إيجاب عقده ، ضرورة عدم صحة إرادة العقد منها بعد فرض كونها إيجابا له ، فلا يراد من « بعت » إيجابا « عقدت » ولا الانتقال ، بخلاف النقل ، وذلك كله جار في لفظ « أنكحت » إيجابا ، فان إرادة العقد منها واضح الفساد ، وكذلك الوطء ، فليس حينئذ إلا النقل والتسليط على البضع وإثبات السلطنة عليه ، وهذا هو المراد بالنكاح ، نحو البيع والصلح والإجارة وغيرها ، والعقود إنما هي سبب في حصولها.

ولئن كان في أذنيك وقر عن سماع هذا فلا ريب في عدم ثبوت حقيقة شرعية له ، بل هو لغة وشرعا مستعمل في العقد والوطء خصوصا والضابط في الحقيقة شرعية له ، ما كان حقيقة في لسان المتشرعة ، بمعنى أنه ما كان كذلك عندهم ، فهل هو حقيقة عند الشارع فيه أولا؟ ولا ريب في عدم ثبوت الحقيقة المتشرعية في لفظ النكاح عندهم ، وكونه بمعنى العقد على وجه لو استعملوه في الوطء احتاجوا إلى قرينة نحو قرائن المجازات ، بل ستعرف فيما يأتي إنشاء الله تعالى من البحث في العقد عدم معاملة عقد النكاح معاملة غيره من الحقائق الشرعية المجملة ، نحو الصلاة وغيرها ، على وجه يأتي البحث فيما شك في جزئيته وشرطيته ومانعيته ، بل عاملوه معاملة غيره من العقود المستدل بإطلاق الأدلة (١) على نفي جميع ما يدعى شرطيته.

ومن الغريب دعوى عدم شيوع النكاح بمعنى الوطء في لسان الشرع ، فإن ملاحظة الأخبار النبوية (٢) فضلا عن غيرها الواردة في النكاح والمرغبة فيه‌

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ ـ الآية ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب مقدمات النكاح.

٧

باعتبار النسل ونحوه مما لا يراد منه إلا معنى الوطء أقوى شاهد على بطلانها ، كما لا يخفى على من خلع ربقة التقليد عن عنقه ، بل لا يخفى عليه وضوح فساد دعوى الحقيقة الشرعية في لفظ النكاح من بين أسماء العقود.

وكيف كان فـ ( أقسامه ثلاثة ) :

( القسم الأول في النكاح الدائم )

( والنظر فيه يستدعي فصولا‌ )

الفصل ( الأول )

( في آداب العقد والخلوة ولواحقها )

وفيه حينئذ ثلاثة مباحث‌

( أما ) الأول ففي ( آداب العقد )

النكاح مشروع ، بل مستحب لمن تاقت واشتاقت نفسه إليه ، من الرجال والنساء كتابا (١) وسنة (٢) مستفيضة أو متواترة ، وإجماعا بقسميه من المسلمين فضلا عن المؤمنين ، أو ضرورة من الذهب بل الدين قال الله تعالى (٣) ( وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ ) فإن أمر الأولياء شرعا أو عرفا والسادات بانكاح الأيامى أي العزاب من الأحرار مطلقا وخصوص الصالحين من العبيد والإماء والترغيب فيه ليس إلا لفضيلة النكاح ورجحانه في نفسه ، وكون الإنكاح سببا لوجوده ومؤديا إلى حصوله ، فلو لم يكن النكاح مندوبا إليه ولا مرغبا فيه لزم أن يكون مقدمة‌

__________________

(١) سورة النور : ٢٤ ـ الآية ٣٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب مقدمات النكاح.

(٣) سورة النور : ٢٤ ـ الآية ٣٢.

٨

المباح مندوبة من حيث إنها مقدمة له ، وفساده ظاهر ، خصوصا مع ملاحظة قوله تعالى ( إِنْ يَكُونُوا ) إلى آخره. الظاهر في أنه رد لما عسى أن يمنع من النكاح ويزهد الناس فيه من خوف العيلة بأن الله الواسع العليم يغنيهم من فضله ، ولذا‌ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) : « اطلبوا الغنا في هذه الآية » وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) أيضا : « من ترك التزويج مخافة العيلة فقد أساء ظنه بالله ، إن الله عز وجل يقول ( إِنْ يَكُونُوا ) » إلى آخره.

ولا ينافي ذلك قوله تعالى (٣) ( وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ ) إذ هو إنما يدل على الاستعفاف لمن لا يجد النكاح ولا يتمكن منه ولو بحصول من ينكحه ، وأن ذلك أولى له من تحمل المنة والذل والسؤال في تحصيل ما ينكح به ، إذ النكاح وإن كان مندوبا إلا أنه إذا توقف على مقدمات مكروهة مرجوحة سقط الخطاب باستحبابه حينئذ لا أنه ترتفع مرجوحية المرجوح له ، والحاصل أن المراد ترجيح الاستعفاف على النكاح المتوقف على عدمه ، وهذا لا ينافي استحبابه مع التمكن ولو مع الفقر ، على أن‌ المروي عن الصادق عليه‌السلام (٤) في تفسيره « يتزوجوا حتى يغنيهم الله من فضله » ولعل المراد أنهم يطلبون العفة بالتزويج والإحصان ليصيروا بذلك أغنياء ، أو ليحصل لهم به الغنا من الفقر ، كما رواه‌ إسحاق بن عمار (٥) قال : « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الحديث الذي يرويه الناس حق إن رجلا أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فشكى إليه الحاجة فأمره بالتزويج ، ففعل ثم أتاه فشكى إليه الحاجة فأمره بالتزويج ، حتى أمره ثلاث مرات؟ فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : نعم هو حق ، ثم قال : الرزق مع النساء والعيال » وفي النبوي (٦)

__________________

(١) الدر المنثور ج ٥ ص ٤٥.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٠ ـ من أبواب مقدمات النكاح ـ الحديث ٢.

(٣) سورة النور : ٢٤ ـ الآية ٣٣.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب مقدمات النكاح ـ الحديث ٢.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب مقدمات النكاح ـ الحديث ٤.

(٦) أشار إليه في الوسائل في الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب مقدمات النكاح ـ الحديث ٣.

٩

« تزوجوا للرزق ، فان لهن البركة ».

ومن ذلك يظهر لك ما قيل في دفع المنافاة بين الآيتين بأن الأولى وردت للنهي عن رد المؤمن وترك تزويج المؤمنة لأجل الفقر ، والثانية لأمر الفقير بالصبر على ترك النكاح حذرا من تعبه حالة الزواج ، أو أن الأولى للنهى عن تركه مخافة الفقر اللاحق ، والثانية للأمر بالاستعفاف للفقر الحاضر ، ضرورة أنه كما لا ينبغي رد المؤمن أو ترك تزويج المؤمنة لأجل الفقر فكذا لا ينبغي ترك التزويج للفقير باعتبار فقره كما سمعته في الخبر السابق ، وكما أن الفقر اللاحق لا يمنع ، بل يستحب معه التزويج ، فكذا الحاضر ، فان التزويج معه مستحب أيضا لأن الظاهر من الآية الأولى ثبوت الفقر حال التزويج ، وأن المراد إن يكونوا فقراء حال التزويج يغنهم الله من فضله بعده ، لا أنهم إن صاروا فقراء بعده أغناهم الله ، بل الأمر بالإنكاح حال الفقر يدل على أنه حال النكاح غير مانع ، فلا يكون الصبر على تركه مطلوبا ، وقد سمعت الخبر المزبور الصريح في ذلك. وحينئذ فلا إشكال في دلالة الآية على المطلوب.

نعم ما وقع من غير واحد من الاستدلال عليه بقوله تعالى (١) ( وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ ) باعتبار اشتماله على الأمر الذي أقرب المجازات إلى معناه الحقيقي بعد تعذره الندب لا يخلو من نظر ، ضرورة عدم استفادة أكثر من الإباحة منه ، باعتبار تعليقه على خوف ترك‌

__________________

وذكر في الفقيه ـ ج ٣ ص ٢٤٥ ـ الرقم ١١٦١ وفيه‌ « تزوجوا الزرق فان فيهن البركة » ولم أعثر على الفظ الذي ذكره ( قده ). والظاهر أنه سهو من قلمه الشريف ، فان الموجود في الكافي ـ ج ٥ ص ٣٣٥ على ما رواه في الوسائل في نفس الباب أيضا والبحار ـ ج ١٠٣ ص ٢٣٧ بطريق آخر وكنوز الحقائق على هامش الجامع الصغير حرف التاء كلمة « تزوجوا » وكنز العمال ج ٨ ص ٣٤٤ ـ الرقم ٣٩٠٩‌ « تزوجوا الزرق فان فيهن يمينا ».

(١) سورة النساء : ٤ ـ الآية ٣.

١٠

القسط والعدل ، المشعر بكون الأمر لانتفائه في المأمور به وسلامته عنه ، وذلك قرينة واضحة على إرادة الرخصة منه ، من غير التفات إلى الوجوب والندب ، والمعنى حينئذ إن خفتم أن لا تعدلوا في يتامى النساء إذا تزوجتم بهن فانكحوا ما طاب لكم من النساء من غيرهن ، فإنهم كما قيل كانوا يتزوجون اليتامى اللاتي في حجورهم ، طمعا في المال أو رغبة في الجمال ، فيجتمع عند الواحد منهم منهن ما لا يقدر على القيام بحقه ، أو إن خفتم أن تجوروا على من لكم الولاية عليهم من يتامى النساء بأخذ أموالهن وصرفها في مؤمن تزويجكم ( فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ ، ) ولا تزيدوا حتى لا يحوجكم إلى ذلك ، فقد قيل : إن الرجل من قريش كان يتزوج العشر من النساء وأكثر ، فإذا عدم تناول من أموال اليتامى المولى عليهم ، فنزلت هذه الآية (١) أو غير ذلك مما قيل في الآية مما هو مشترك فيما ذكرناه من عدم الالتفات فيه إلى الوجوب والندب ، وأنه لا يراد منه سوى الرخصة والإباحة ، نح قول القائل : « إن خفت من ضرر هذا الطعام فكل من ذلك » فان المفهوم أن الطعام المأمور به خال عن الضرر مرخص في أكله ، وأما أن أكله مطلوب ومراد فلا يفهم منه ، على أن المفهوم من الآية في أكله ، وأما أن الأربع ، ومن ثم استدلوا بها على حصر الجواز في ذلك ، بل أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند نزولها من كان عنده أزيد من أربع بإمساك الأربع وتسريح البواقي (٢) وذلك إنما يصح لو كان الأمر للإباحة ، فإن مفهوم العدد حينئذ يقتضي تحريم الزيادة ، بخلاف ما لو كان الأمر للندب ، فإنه يقتضي حينئذ عدم استحبابها ، وهو أعم من تحريمها ، والأمر سهل بعد تعدد الأدلة على المطلوب غيرها آية ورواية.

__________________

(١) تفسير الطبري ج ٤ ص ٢٣٣.

(٢) الموجود في سنن البيهقي ج ٧ ص ١٤٩ وغيرها في هذا الباب أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر بإمساك أربع ومفارقة سائرهن بالنسبة إلى من أسلم وكان عنده عشرة أو ثمانية نسوة.

١١

ففي النبوي المروي بين الفريقين (١) « النكاح سنتي ، فمن رغب عن سنتي فليس مني » وفي الروضة « من رغب عن سنتي فليس مني » (٢) وأن « من سنتي النكاح » (٣) وعن الكافي عن الصادق عليه‌السلام عن أمير المؤمنين عليه‌السلام (٤) إنه قال : « تزوجوا فان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : من أحب أن يتبع سنتي فإن من سنتي التزويج » وعلى كل حال فدلالته على المطلوب ظاهرة ، فإن سنة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وطريقته إما واجبة أو مندوبة ، إذ لا يطلق على المباح والمكروه أنه من سنته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإن كان الحكم بهما منها ، على أن قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « فمن رغب » الى آخره زجر عن الرغبة عن النكاح ، وحث منه على الرغبة فيه ، وليس إلا لرجحانه وفضيلته.

وفي صحيح صفوان بن مهران عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٥) قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : تزوجوا وزوجوا » الحديث.

وفي صحيح أبي خديجة عنه عليه‌السلام أيضا (٦) « إن الله يحب البيت الذي فيه العرس ، ويبغض البيت الذي فيه الطلاق ، وما من شي‌ء أبغض إلى الله من الطلاق » بل‌ في النبوي (٧) « ما بني بناء أحب إلى الله تعالى من التزويج » وفي آخر (٨) « ما من شي‌ء أحب إلى الله عز وجل من بيت يعمر في الإسلام بالنكاح ».

وموثق عبد الله بن ميمون القداح عنه عليه‌السلام أيضا (٩) « ركعتان يصليهما‌

__________________

(١) البحار ج ١٠٣ ص ٢٢٠ الطبع الحديث. وسنن ابن ماجه ج ١ ص ٥٦٧ ( من أبواب النكاح الباب ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤٨ ـ من أبواب مقدمات النكاح الحديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٤٨ ـ من أبواب مقدمات النكاح ـ الحديث ١ و ٣.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب مقدمات النكاح ـ الحديث ١٤.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب مقدمات النكاح ـ الحديث ١٠.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ١٠ ـ من أبواب مقدمات الطلاق ـ الحديث ٢ ـ من كتاب الطلاق عن أبي خديجة عن أبى هاشم ، الا أن الموجود في الكافي ج ٦ ص ٥٤ عن أبى خديجة.

(٧) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب مقدمات النكاح ـ الحديث ٤.

(٨) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب مقدمات النكاح ـ الحديث ١٠.

(٩) الوسائل الباب ـ ٢ ـ من أبواب مقدمات النكاح ـ الحديث ١.

١٢

المتزوج أفضل من سبعين ركعة يصليها أعزب ».

وخبر كليب الأسدي عنه عليه‌السلام أيضا (١) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من تزوج أحرز نصف دينه » وفي حديث آخر (٢) « فليتق الله في النصف الآخر ».

وحسن حفص بن البختري عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٣) قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما أحببت من دنياكم إلا النساء والطيب ».

وموثق إسحاق بن عمار عن الصادق عليه‌السلام (٤) « من أخلاق الأنبياء حب النساء ». وموثق يحيى بن يزيد عنه عليه‌السلام أيضا (٥) « ما أظن رجلا يزداد في هذا الأمر خيرا إلا ازداد حبا للنساء ». إلى غير ذلك من النصوص الدالة على ذلك بأنواع الدلالة ، خصوصا ما ورد منها في مدح الساعي بالتزويج.

كالنبوي المروي عن كتاب عقاب الأعمال (٦) « من عمل في تزويج بين مؤمنين حتى يجمعهما زوجه الله ألف امرأة من الحور العين ، كل امرأة في قصر من در أو ياقوت ، وكان له بكل خطوة خطاها أو بكل كلمة تكلم بها في ذلك عمل سنة ، قيام ليلها وصيام نهارها ، ومن عمل في فرقة بين امرأة وزوجها كان عليه غضب الله ولعنته في الدنيا والآخرة ، وكان حقا على الله أن يرضخه بألف صخرة من نار ، ومن مشى في فساد ما بينهما ولم يفرق كان في سخط الله ولعنته في الدنيا والآخرة ، وحرم الله عليه النظر إلى وجهه ».

بل عن داود الظاهري وجوب النكاح ، وعن غيره وجوبه على خصوص من‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب مقدمات النكاح ـ الحديث ١١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب مقدمات النكاح ـ الحديث ١٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب مقدمات النكاح ـ الحديث ٤ والباب ـ ٨٩ ـ من أبواب آداب الحمام ـ الحديث ٨ من كتاب الطهارة. وفي الموضعين « ما أصيب » الا أن في الكافي ـ ج ٥ ص ٣٢١ « ما أحب ».

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب مقدمات النكاح ـ الحديث ٢.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب مقدمات النكاح ـ الحديث ٣ عن عمر بن يزيد.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب مقدمات النكاح ـ الحديث ٥.

١٣

تاقت نفسه ، وإن كان كل منهما معلوم الفساد ، بل يمكن تحصيل الإجماع على خلافه ، بل لعل الضرورة من المذهب والدين على ذلك ، نعم في مصابيح العلامة الطباطبائي « اعلم أن الوجوب المنفي هو الوجوب العيني على كل أحد أو على من تاقت نفسه إلى النكاح ، وأما الوجوب الكفائي أي وجوب ما يقوم به النوع فيجب القطع بثبوته ، حتى لو فرض كف أهل ناحية أو مصر عن النكاح وجب على الحاكم إجبارهم عليه ، لئلا ينقطع النسل ويتفانى النوع ، والظاهر أنه لا خلاف فيه ، ولا في الوجوب العيني إذا أفضى تركه إلى الوقوع في المحرم لأن سبب الحرام حرام وتحريم ترك التزويج يستلزم وجوب التزويج ، فالحكم بنفي الوجوب رفع للإيجاب الكلي ، لا سلب كلي ، أو المراد نفي الوجوب لمجرد توق النفس ، فلا ينافي ثبوته للإفضاء إلى المحرم ».

وفيه إمكان منع وجوبه الكفائي على وجه يشمل أهل مصر ونحوه ، للأصل وإطلاق الأدلة ، وأقصى ما يمكن تسليم وجوب ما يحصل الفساد في النوع الإنساني بتركه ، كما أنه يمكن منع الوجوب العيني فيما ذكره بمنع إفضاء ترك التزويج إلى المحرم على وجه العلية ، لوجود الاختيار وبقاء القدرة على تركه معه ، ولعله لذا أطلق الأصحاب الحكم بالاستحباب لمن تاقت نفسه ، هذا كله فيمن تاقت نفسه.

وأما من لم تتق نفسه ف في استحبابه ل ه‍ خلاف لكن المشهور استحبابه لعموم أكثر الأدلة وإطلاقها ، كقوله تعالى (١) ( وَأَنْكِحُوا الْأَيامى ) وقوله أي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما رواه عنه الكاشاني في مفاتيحه تناكحوا تناسلوا وفي بعض نسخ المتن وتناسلوا بالواو ـ فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة ، حتى أن السقط ليجي‌ء محبنطئا على باب الجنة ، فيقال له : ادخل ، فيقول : لا حتى يدخل أبواي » وإن كنا لم نقف عليه على هذا الوجه فيما وصل إلينا من كتاب الخاصة‌

__________________

(١) سورة النور : ٢٤ ـ الآية ٣٢.

١٤

والعامة. نعم في محكي‌ الفقيه عن الصادق عليه‌السلام (١) « إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : تزوجوا ، فاني مكاثر بكم الأمم غدا في القيامة ، حتى أن السقط يظل محبنطئا على باب الجنة » إلى آخره. والكافي والتهذيب عنه عليه‌السلام أيضا (٢) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « تزوجوا الأبكار ـ إلى أن قال ـ أما علمتم أني أباهي بكم الأمم يوم القيامة ، حتى بالسقط يظل محبنطئا على باب الجنة ، فيقول الله عز وجل : ادخل الجنة ، فيقول : لا حتى يدخل أبواي قبلي ، فيقول الله تبارك وتعالى لملك من الملائكة : آتني بأبويه ، فيأمر بهما إلى الجنة ، فيقول : هذا لفضل رحمتي لك » وعن العامة أنهم رووا (٣) أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « تناكحوا تكثروا ، فإني أباهي بكم الأمم حتى بالسقط » لكن الأمر سهل ، فان لفظ هذه الروايات وإن كان مغايرا ، إلا أن المعنى متحد.

ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما روته العامة عنه (٤) شرار موتاكم العزاب‌ وفي طرقنا (٥) « إن أراذل موتاكم العزاب » أو « رذال موتاكم العزاب » (٦) وعلى كل حال فالعزاب بالضم والتشديد الذين لا أزواج لهم من الرجال والنساء ، وعن بعضهم أن العزب من لا أهل له ، فيخرج عنه المتسري ، بخلاف الأول ، والرذل الدون الخسيس ، وبالضم ما انتفى جيده ، والمستفاد من الحكم بالرذالة رجحان التزويج وكراهة العزوبة ، فإنها لا تزيد على الخسة والضعة وهي لا تقتضي التحريم وإن كانت لا تنافيه ، نعم قد يقتضي ذلك‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب مقدمات النكاح ـ الحديث ٢ وفيه‌ « أن السقط يجي‌ء محبنطئا ».

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٧ ـ من أبواب مقدمات النكاح ـ الحديث ٢.

(٣) الجامع الصغير ـ ج ١ ص ١٣٣.

(٤) مسند أحمد ـ ج ٥ ص ١٦٣ وفيه‌ « شراركم عزابكم وأراذل موتاكم عزابكم » ولم أجد نص ما ذكره ( قده ) في مصادر العامة مع التتبع الكثير في مظانه وانما رواه بهذا اللفظ في البحار ـ ج ١٠٣ ص ٢٢٠ الطبع الحديث وفي فقه الرضا عليه‌السلام ص ٧٧.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب مقدمات النكاح ـ الحديث ٣.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب مقدمات النكاح ـ الحديث ٣.

١٥

لفظ الشرار لكنه محمول على المبالغة في أمر التزويج ، والتشديد في كراهة العزوبة ، أو على من أفضت به العزوبة إلى الوقوع في المحرم في وجه ، أو أن المراد من لا خير فيه من الأراذل كما قيل في قوله تعالى حكاية عن الكفار (١) ( ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ ) يعنون بهم أصحاب الضعة وغيرهم من فقراء المؤمنين الذين كانوا يسخرون منهم ويستهزؤن بهم ، أو أن المراد بالعزاب خصوص من لا يعتني منهم بالسنة ، ولا يبالي بكمالات الشرع الشريف ، ولا ريب في أنه من الأشرار.

ثم المراد بالعزب الذي هو من الأشرار والأراذل من ثبت له وصف العزوبة على الدوام ، أو في غالب الأزمنة والأحوال بحيث يضمحل خلافه في جنبه ، ومقتضاه استحباب أن يكون له أهل يتمكن منها غالبا ، وليس المراد من ثبت له الوصف في الجملة ولو نادرا لأن جل الناس أو كلهم عزاب بهذا التفسير ، إذ قل ما يتفق لأحد دوام التأهل من ابتداء البلوغ إلى حين الوفاة لا يتخلله عزوبة أصلا ، وخصوصا إذا فسرنا العزوبة بما يشمل الانقطاع من الأهل أيضا ، ولا من كان على صفة العزوبة حال الموت خاصة ، إذ يلزم منه أن يكون المتأهل الذي اتفقت له العزوبة عند موته من الأشرار ، والعزب الذي يتفق له التأهل كذلك من الأخيار ، وهو بعيد جدا ، فالاعتبار إذن بالغلبة كما ذكرناه ، إما في كلا الأمرين أو في خصوص العزوبة عملا بمقتضى الأصل.

ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم‌ فيما رواه عنه الصادق عليه‌السلام في خبر القداح المروي عن الكافي (٢) ما استفاد امرء بفتح الراء وضمها ـ فائدة بعد الإسلام أفضل من زوجة مسلمة تسره صفة بعد صفة ، أو استيناف بياني ، كأنه قيل وأي فضل فيها فأجيب بأنها تسره ـ إذا نظر إليها ، وتطيعه إذا أمرها ، وتحفظه إذا غاب عنها في نفسها وماله أى ترعى حقه ، بأن لا تخونه فيهما ، ولا يخفى اقتضاء اشتمال التزويج على هذه الأمور فضيلته إما لأنها مطلوبة ومرادة في ذاتها ، أو لكونها مرافق لحصول الطاعة‌

__________________

(١) سورة ص : ٣٨ ـ الآية ٦٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب مقدمات النكاح ـ الحديث ١٠.

١٦

وتيسير العبادة المطلوبين ، وعلى كل حال فالغرض بيان أفضلية التزويج من غيره بشهادة المقام ودلالة العرف ، فإنه إذا قيل : ليس في البلد أفضل من زيد ، فهم منه أنه أفضل علماء البلد ، لا نفي الأفضل منه وإن أمكن المساوي له ، كما يقتضيه المعنى بحسب اللغة.

وهذه العبارة تحتمل معنيين : أحدهما أن التزويج أفضل ما يستفاد بعد حصول الإسلام ، ومقتضاه أن لا فائدة فيه قبل حصوله ، لا أن فضيلته متأخرة عنه ، وثانيهما أن الإسلام أفضل ما استفاده المرء ، ثم الأفضل من بعده التزويج ، والمراد من الفائدة إما خصوص الفائدة العاجلة ، كما يشعر به التعليل المستفاد من‌ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « تسره إذا نظر إليها » الى آخره ، وحينئذ فكون التزويج أفضل الفوائد بعد الإسلام ناظر الى ما في الإسلام من الفوائد الدنيوية ، كوقاية النفس واحترام المال والعرض ، أو مطلق الفوائد دنيوية كانت أو أخروية ، كالعبادات ، وعلى هذا فالمراد من أفضلية التزويج أفضليته من بعض الوجوه ، فلا ينافي أفضلية كثير من أفراد المفضل عليه منه من وجه آخر ، وليس المراد أفضلية التزويج من كل وجه ، ولا الأفضلية المطلقة الراجعة إلى تعدد جهات الفضيلة في المفضل ، أو تفضيل جهة الفضيلة فيه ، نعم يمكن اعتبارها بالمعنى الثاني على التقدير الأول ، إذ لا مانع منه ، ولا يبعد اعتبارها على الثاني أيضا ، لما في التزويج من الفوائد العظيمة التي من جملتها حصول النسل وتكثير النوع المعدين لأضعاف ما يقابل به من العبادات.

وفي الحديث دلالة على الاكتفاء بالإسلام في الزوجة ، وعدم اشتراط الايمان فيها ، لأن‌ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « زوجة مسلمة » وإن كان نكرة مثبتة ، إلا أن وقوعها في كلام الحكيم يقتضي عمومها.

وفي استفادة اشتراط الإسلام منه نظر من أن التقييد بالمسلمة إنما يقتضي خروج غير المسلمة عما هو الأفضل ، ولا دلالة في ذلك على المنع ، ومن أنه لو جاز تزويج الكافرة لما حسن التقييد فيه بالمسلمة ، لتأتي وظيفة النكاح حينئذ بغيرها ، وإن كان مكروها كما في سائر من يكره مناكحته ، فان الكراهة فيها لا تنافي اشتمالها على مصلحة النكاح ،

١٧

ولذا لم يقع الاستثناء عنها في الحديث ، إلى غير ذلك من الأدلة الدالة بإطلاقها أو عمومها باشتمالها على الجمع المحلى والمضاف ومن الموصولة وغير ذلك ، بل ما ليس فيه شي‌ء من أدوات العموم قد يستفاد منه ذلك بتوسط القرائن ، كالتعليل بتوقع النسل وتكثير العدد (١) وتوسيع الرزق (٢) والاستعانة بالزوجة على المطالب (٣) فان هذه الأمور مشتركة بين من تاقت نفسه إلى النكاح ومن لم تتق ، بل انتفاء القرينة على إرادة الخصوص كاف في الحمل على العموم في هذه المقامات ، لاستحالة الترجيح مع فرض عدم التعيين ، ومنافاة الإبهام لمقام البيان ، فيتعين الحمل على العموم ، ولعل تقييد بعضهم بمن تاقت لظهور بعض الروايات فيه ، نحو ما تضمن النهي عن العزوبة (٤) وأن‌ المتزوج يحرز نصف دينه (٥) لكن فيه أن العموم في تلك الاخبار محقق معلوم ، والعلة غير معلومة وإن كانت مناسبة ، فلا يجوز ترك الأمر المحقق لأجلها ، مع أنها قائمة في حق غير التائق ، إذ ليس المراد منه من لا شهوة له إلى النكاح أصلا ، بل من لم تبلغ شهوته حد المنازعة ، والوقوع في المحرم ممكن في شأنه ، على أن التوقان أمر غير مضبوط الوقوع ، ولا المحل ، فربما يحصل مع ضيق الوقت عن كسره بالنكاح ، فيخشى منه الوقوع في محرم ، فلا ينبغي أن يترك النكاح المحلل ليأمن به عن مواقع الفتنة.

وأيضا فلا ريب في حسن النكاح ورجحانه لمن لم تتق بعد ثبوت إباحته له من الشرع وإن لم تتناوله عمومات النكاح لتكثير النسل ، إذ الإنسان مدني بالطبع يحتاج في تعيشه الى الاجتماع ، للتعاون والتشارك في تحصيل الغذاء ونحوه ، وفي كثرة الخلق‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب مقدمات النكاح ـ الحديث ٢ و ٣ و ٦ والباب ـ ١٦ ـ منها.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٠ و ١١ ـ من أبواب مقدمات النكاح.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب مقدمات النكاح ـ الحديث ـ ١ و ١٣.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب مقدمات النكاح.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب مقدمات النكاح ـ الحديث ١١.

١٨

تسهيل لذلك ، وما فيه من السببية لنعمة الوجود للأولاد التي هي نحو نعمة الله في الخلاقية ، ومن ثم قرنت طاعة الأبوين بطاعة الله (١) عز وجل والشكر لهما بالشكر له (٢) قال الله تعالى ( أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ) ولأن الأولاد أعضاد في الدنيا إذا أدركوا ، وشفعاء للأبوين ما لم يدركوا ومن هنا قال (٣) زكريا عليه‌السلام ( رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً ) ووصف الله المؤمنين فقال ( وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ ) (٤) مضافا إلى ما فيه من تكثير الأمة والمسلمين ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٥) : « ما يمنع المؤمن أن يتخذ أهلا لعل الله يرزقه نسمة تثقل الأرض بلا إله إلا الله » وإلى ما فيه من إبقاء النوع ، ولذا خلق الله الشهوة في الإنسان حسب ما خلق فيه الشهوة إلى الطعام والشراب إبقاء للنفس ، ومن المعلوم أن إبقاء النوع يقتضي إرادة النكاح مطلقا ، ولا يختص بمن تاقت ، وإلى ما فيه من الخلاص من الوحدة المنهي عنها ، والاستعانة بالزوجة على أمور الدين ، وغير ذلك مما لا يخفى حسنه من الأمور المترتبة عليه ، والأغراض والمصالح الحاصلة به ، فلا ريب حينئذ في حسنه باعتبار كونه سببا في حصولها ، وعلة لوجودها ، فيكون حينئذ مستحبا شرعا ، لكون الأغراض المترتبة عليه من الأغراض الشرعية ، على أن حسن النكاح عقلا يستلزم استحبابه شرعا ، ضرورة استلزام حكم العقل بحسن النكاح حكم الشرع بذلك ، للمطابقة ، وحكم الشارع يستلزم كونه مرادا ومطلوبا له ، لأنه حكيم.

وكيف كان ربما احتج المانع بأن وصف يحيى عليه‌السلام بكونه حصورا (٦) يؤذن باختصاص هذا الوصف بالرجحان ، فيحمل على ما إذا لم تتق النفس وبأن قوله‌

__________________

(١) كنز العمال ج ٨ ص ٢٨٠ ـ الرقم ٤٧٨٩.

(٢) سورة لقمان : ٣١ ـ الآية ١٤.

(٣) سورة آل عمران : ٣ ـ الآية ـ ٣٨.

(٤) سورة الفرقان : ٢٥ ـ الآية ٧٤.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب مقدمات النكاح ـ الحديث ٣.

(٦) سورة آل عمران : ٣ ـ الآية ـ ٣٩.

١٩

تعالى (١) ( زُيِّنَ لِلنّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ ) الى آخره وارد مورد الذم ، خرج منه ما أجمع علي رجحانه ، فيبقى غيره تحت العموم ، وبأن في النكاح تعريضا لتحمل حقوق الزوجة والاشتغال عن كثير من المقاصد الدينية ، فالأولى تركه إلا مع خشية العنت ، فيستحب لمكان الحاجة.

ويمكن الجواب عن الأول بأن المدح بذلك في شرع غيرنا لا يلزم منه وجوده في شرعنا ودعوي أن الأصل بقاء الشرائع السابقة إلا ما دل الدليل على نسخة ـ فان شرعنا ليس ناسخا لجميع ما في الشرائع السابقة بل المجموع من حيث هو مجموع ، للقطع ببقاء كثير منها كأكل الطيبات ، ونكاح الحلال ، والعبادات الثابتة في جميع الملل ، وأيضا فوروده في كتابنا الذي هو في شرعنا من دون إشارة إلى نسخه دليل على بقائه فيه ، وإلا لم يحسن مدحه عندنا ـ يدفعها أن الكتاب العزيز والسنة المتواترة الدالين على استحباب النكاح في شرعنا مطلقا يثبت بهما النسخ ، ويخرج بهما عن مقتضى الأصل ، والمدح على ترك الشهوة الغير الراجحة في شرعه ، لحصر النفس ومنعها عن اللذات حسن في شرعنا وإن كانت راجحة فيه ، مع أن التوصيف بالحصور لم يقع خطابا لأهل شرعنا ابتداء حتى يجب حسنه عندهم ، وانما خوطب به زكريا عليه‌السلام في مقام البشارة بالولد ، وذلك يقتضي حسنه عنده لا عندنا.

وربما أجيب أيضا بأنه كان مكلفا بإرشاد أهل زمانه في بلادهم المقتضى للسياحة ومفارقة الزوجة المنافيتين لرجحان التزويج ، فلذلك مدحه على تركه ، لا لأن ترك التزويج من حيث هو كذلك مطلوب ومراد حتى يدل على مرجوحيته ، والحاصل أن النزاع في حكم التزويج بالنظر إلى تركه المطلق ، ولا ينافي استحبابه كذلك رجحان الترك على وجه مخصوص ، وما يقال : ـ إن مثله وارد في شرعنا الذي يستحب فيه التزويج لا تركه ـ يدفعه منع ورد مثله في شرعنا ، ضرورة وجوب رجوع الناس إلى من يحتاجون اليه ، لا أنه يجب عليه السياحة لتعليمهم ، ولو سلم ذلك لوجب القول بترك التزويج لمن هذا شأنه ، فإن ملازمة التغرب والسياحة مما‌

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ ـ الآية ـ ١٤.

٢٠