بحوث في علم الأصول - ج ٧

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٧

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٢٧

ثم إن هناك بحثاً آخر حول هذا المرجح وهو أن ترجيح غير المشروط بالقدرة الشرعية على المشروط بها هل يشمل صورة ما إذا كان المشروط بالقدرة الشرعية أهم ملاكاً من غير المشروط بها أم لا.

الصحيح هو أن يقال : إن كان المراد بالقدرة الشرعية المعنى الثالث وهو عدم الأمر بالخلاف ، تمّ هذا الترجيح مطلقاً ، إذ يكون الخطاب المرجوح ملاكاً وارداً بنفس فعليته على الآخر ورافعاً لموضوعه فلا يكون له ملاك أهم من الآخر ومقدماً عليه.

وإن كان المراد القدرة الشرعية بالمعنى الثاني. فلا بد من التفصيل بين صورتين.

الصورة الأولى ـ أن يكون الخطاب المشروط بالقدرة الشرعية قد أبرز فيه هذا القيد بالتعبير العرفي المتقدم ، وهو عدم الاشتغال بواجب آخر ، وفي هذه الصورة يكون مقتضى إطلاق التقييد تقدم كل خطاب عليه ولو كان ملاكه مرجوحاً ، بالبيانات المتقدمة فيصح التعميم.

الصورة الثانية ـ أن يكون الشرط المبرز على وزان المقيد اللبي المستتر ، أي عدم الاشتغال بواجب لا يقل عنه أهمية. وفي هذه الصورة غاية ما يستفاد من هذا الاشتراط أن هذا الواجب لا يزاحم واجباً لا يقل عنه في الأهمية لا مطلق الواجب فالقدرة فيه شرعية بالقياس إلى ما لا يقل عنه في الأهمية لا مطلقاً ، والمفروض أن الواجب المطلق بحسب لسان دليله قد أحرز كون ملاكه مرجوحاً بالنسبة إلى الواجب المشروط ، فيكون مقتضى التمسك بإطلاق دليل الواجب المشروط فعليته خطاباً وملاكاً حال الاشتغال بالخطاب المطلق ، فيتقدم عليه لا محالة بالأهمية.

الثاني ـ ترجيح ما ليس له بدل على ما له بدل :

وقد ذكرت مدرسة المحقق النائيني ـ قده ـ في تقريب هذا المرجح ( أنه إذا كان لأحد الواجبين بدل في طوله دون الآخر ، كما إذا وقع التزاحم بين الأمر بالوضوء والأمر بتطهير البدن للصلاة ، فبما أن الوضوء له بدل ،

٨١

وهو التيمم فلا يمكن مزاحمة أمره مع أمر التطهير فيقدم رفع الخبث ويكتفي في الصلاة بالطهارة الترابية (١).

وهذه البرهنة على الترجيح غريب في بابه ، إذ الكلام فيما له بدل طولي الّذي يكون متفرعاً على العجز من الإتيان بالمبدل وواضح أن الأمر يقتضي متعلقه بالخصوص ولو كان له بدل طولي وإنما لا يقتضي متعلقه بالقياس إلى بدله العرضي كما في الواجب التخييري ، فلو فرض أن لأحد الواجبين بدلاً عرضياً لا يزاحم مع الواجب الآخر كان ذلك خروجاً عن باب التزاحم موضوعاً ، لأن ما هو الواجب بحسب الحقيقة إنما هو الجامع بين المبدل وبدله العرضي والجامع لا يزاحم الواجب الآخر.

والصحيح في تخريج هذا المرجح أن نقول : تارة : يقصد البرهنة على هذا المرجح بعنوانه فيكون مرجحاً مستقلاً في عرض سائر المرجحات وأخرى : يراد البرهنة عليه بإرجاعه إلى مرجح آخر ينطبق عليه. فالمدعى في هذا الترجيح له صيغتان :

اما الصيغة الأولى ، فغاية ما يمكن أن يذكر في توجيهها : أن الاشتغال بالضد الواجب الّذي لا يقل أهمية وإن أخذ عدمه قيداً لبياً عاماً في كل خطاب ـ كما تقدم ـ ولكن المأخوذ عدمه كذلك إنما هو الاشتغال بضد واجب ليس له بدل ولا يمكن استيفاء ملاكه في فرض ترك الاشتغال به ، وإما الضد الواجب الّذي يمكن استيفاء ملاكه حتى مع ترك الاشتغال به عن طريق الإتيان ببدله فلا ملزم عقلاً بأخذ عدمه قيداً في الخطاب ولو كان أهم ملاكاً ، بل يعقل إطلاق الخطاب بالنسبة إليه بحيث يقتضي بنفسه صرف المكلف عن ذلك الضد الواجب وتوجيهه إلى ما ليس له بدل. وهذا معناه أن خطاب الواجب الّذي ليس له بدل يكون رافعاً بامتثاله لموضوع الخطاب الّذي له بدل دون

__________________

(١) أجود التقديرات ج ١ ، ص ٢٧٢.

٨٢

العكس وهو معنى الورود ، وبه يتم الترجيح.

لا يقال : فيما إذا كان الواجب الّذي له بدل مضيقاً فترجيح ما ليس له بدل موقوف على ثبوت بدلية البدل عن الواجب الّذي له بدل مطلقاً ، أي ولو كان تعذر المبدل بسبب الاشتغال بالواجب الّذي ليس له بدل ، ومن الواضح أن دليل البدلية إنما يثبت البدلية في حال العجز التكويني عن المبدل أو العجز الشرعي ـ على فرض التوسعة في البدلية ـ والأول غير حاصل في الواجب المضيق ، لانحفاظ القدرة بعد على المبدل ، والثاني موقوف على أن يكون مشتغلاً بما هو أهم ، مما يعني أن الترجيح بعدم البدلية متوقف صغرى على أن يكون الاشتغال بما ليس له بدل في المرتبة السابقة اشتغالاً بالأهم ملاكاً الّذي هو مرجح مستقل في نفسه ، فتكون المرجحية به موقوفة على ثبوت الترجيح في المرتبة السابقة ، وهذا مستحيل.

فإنه يقال : إن العجز الشرعي غير موقوف على أهمية ما يشتغل به ، بل تكفي المساواة في الملاك لتحققه ، فلا يتوقف الترجيح بهذا المرجح على ثبوت الترجيح في المرتبة السابقة. نعم لو أريد بالعجز الشرعي الإلجاء المولوي فهو موقوف على أهمية ما ليس له بدل ملاكاً ، لكنه غير لازم كما هو واضح.

والتحقيق في حال هذه الصيغة : أنها تامة في نفسها ، ولكنها تتوقف على إثبات أن البدل في فرض العجز عن المبدل يكون وافياً بتمام ملاك المبدل أو بجلّه ، وأما إذا لم يثبت ذلك وفرض ان مقداراً مهماً من ملاك المبدل لا يستوفي بالبدل ، فقد يكون هذا المقدار مساوياً في الأهمية لملاك ما ليس له بدل أو أهم منه ، وفي مثل ذلك لا بد وأن يكون وجوب ما ليس له بدل مقيداً بعدم الاشتغال باستيفاء ذلك المقدار ، وينحصر وجه الترجيح حينئذ بالرجوع إلى الأهمية ولا يبقى لعنوان ما ليس له بدل أثر. وإثبات وفاء البدل بتمام ملاك المبدل يحتاج إلى قرينة خاصة ، ولا يفي به نفس دليل البدلية بلسانه العام.

٨٣

وأما الصيغة الثانية لهذا المرجح ، وهو إرجاعه إلى مرجح آخر يتطابق معه ، فيمكن تقريرها في إحدى محاولتين.

المحاولة الأولى ـ إن عدم البدل وإن لم يكن بنفسه موجباً للترجيح إلاّ أنه ملازم مع مرجح آخر ، بمعنى أن هناك ضابطاً عاماً يحرز به وجود ذلك الترجيح في موارد عدم البدل دائماً ، وهو الترجيح بقوة احتمال الأهمية ، فإن ما ليس له بدل يكون احتمال أهميته ملاكاً أقوى دائماً مما له بدل ، فيما إذا لم يفرض دليل من الخارج يقتضي في مورد خاص خلاف ذلك. والوجه في ذلك ، هو قوانين حساب الاحتمال وكيفية تحديد القيم الاحتمالية التي تقول : إن كل كميتين كانت الاحتمالات المستلزمة لامتياز إحداهما على الأخرى متقابلة ـ أي موجودة في كل منهما ـ باستثناء احتمال واحد يكون مختصاً بإحداهما كانت القيمة الاحتمالية لامتياز تلك الكمية على أختها أكبر من القيمة الاحتمالية للعكس بحسب النتيجة. وتفصيل هذا القانون والبرهنة عليه خارج عن عهدة هذا البحث ، وموكول إلى محله من كتاب « الأسس المنطقية للاستقراء » وإنما نفترضه في هذا المجال أصلا موضوعياً مسلماً لنطبقه في محل الكلام. فإن قيمة احتمال الأهمية في ملاك ما ليس له بدل ـ كالإزالة ـ أكبر من قيمة احتمال الأهمية في ملاك ما له بدل ـ كالصلاة ـ إذ يوجد بالنسبة إلى كل منهما احتمال الأهمية في نفسه ـ وهذان احتمالان متقابلان ـ ويوجد احتمال التساوي بينهما في الملاك وهذا الاحتمال بصالح ترجيح ما ليس له بدل ، إذ على تقدير التساوي تكون بدلية البدل عما له بدل ثابتة باعتبار حصول العجز الشرعي في صورة الاشتغال بما ليس له بدل الّذي لا يقل عنه أهمية ـ على ما تقدمت الإشارة إليه في الصيغة السابقة ـ وهذا يعني أن التزاحم بحسب الحقيقة إنما يقع بين تمام الملاك فيما ليس له بدل ومقدار منه فيما له بدل ـ وهو المقدار الفائت بتركه إلى البدل ، إذا كان يفوت منه شيء ـ فيكون ما ليس له بدل أهم ملاكاً في هذا التقدير ، وهذا يعني أنه يوجد احتمال

٨٤

لامتياز كمية الملاك في الواجب الّذي ليس له بدل لا يوجد بالنسبة إلى ملاك ما له بدل ، وهو احتمال التساوي. فبمقتضى قانون الاحتمالات غير المتقابلة تزداد القيمة الاحتمالية لملاك ما ليس له بدل ، فيترجح على ما له بدل في مقام التزاحم.

لا يقال : التزاحم بحسب الحقيقة بين الكميتين من الملاك المتمثلتين في الإزالة مع بدل الصلاة من طرف ، والصلاة من طرف آخر ، فلا بدّ وأن تلحظ هاتان الكميتان وما في كل منهما من احتمالات الأهمية ، ومن الواضح أن احتمالات الأهمية فيهما متقابلة ، إذ يحتمل أهمية كل منهما ويحتمل تساويهما ، فلا موجب لترجيح إحداهما على الأخرى.

فإنه يقال : إذا كان احتمال تساوي ملاك كل مما له بدل وما ليس له بدل موجوداً في نفسه وكان احتمال أهمية كل منهما بنحو واحد ـ كما هو المفروض فيما إذا لم يكن دليل خاص على الخلاف ـ كان احتمال أهمية ملاك المجموع المركب من الإزالة وبدل الصلاة أكبر قيمة من احتمال أهمية ملاك الصلاة وحدها. لأن هذا المجموع فيه منشئان لاحتمال الأهمية ، أحدهما احتمال أهمية ملاك الإزالة على الصلاة في نفسه ، والآخر احتمال أهميته على أساس التساوي المحتمل بين ملاك الإزالة والصلاة باعتبار استلزامه إضافة جزء من ملاك الصلاة الّذي يستوفيه البدل على ملاك الإزالة ، ولا يوجد احتمال من هذا القبيل يقتضي العكس. فالحاصل. أن احتمال أهمية الملاك لفعل الإزالة مع بدل الصلاة يستمدّ قيمته من كل من احتمال أهمية الإزالة واحتمال مساواتها مع الصلاة في الملاك. وهذا بخلاف احتمال أهمية الملاك في فعل الصلاة وترك الإزالة التي ليس لها بدل ، على ما هو مشروح في محله لكيفية تحصيل القيم الاحتمالية في حساب الاحتمالات.

المحاولة الثانية ـ وتشتمل على كبرى وصغرى.

أما الكبرى ـ فما تقدم في المرجح السابق من تقديم المشروط بالقدرة

٨٥

العقلية على المشروط بالقدرة الشرعية.

وأما الصغرى ـ فباستظهار أن ما له بدل يكون مشروطاً بالقدرة الشرعية دون ما ليس له بدل.

والحديث عن الكبرى ومدى صحتها تقدم في المرجح السابق.

وأما البحث حول الصغرى ، فيمكن أن يقال في توجيهها : أن القدرة لم تؤخذ في لسان الدليل فيما ليس له بدل لا تصريحاً ولا تلويحاً ، فتكون القدرة بالنسبة إليه عقلية ، وأما بالنسبة إلى ما له بدل فقد أخذت القدرة قيداً في لسان دليله ، لأن فرض وجود البدل هو فرض تقييد وجوب البدل بعدم القدرة على المبدل ، وهو مساوق لتقييد دليل وجوب المبدل بالقدرة عليه ، وإلاّ اجتمع المبدل والبدل على المكلف. فتكون القدرة شرعية فيه.

وهذه المحاولة غير تامة. لأن كبرى ترجيح المشروط بالقدرة العقلية على المشروط بالقدرة الشرعية وإن كانت تامة على بعض معاني القدرة الشرعية ، كما أن إطلاق دليل الخطاب الّذي ليس له بدل لحال الاشتغال بواجب مشروط بالقدرة الشرعية وإن كان يثبت أن ملاكه فعلى في هذا الحال ، إلاّ أن كون القدرة شرعية فيما له بدل بمقتضى دليل البدلية غير تام. وقد تقدم في البحث الإثباتي من المرجح السابق وجهه.

ونضيف هنا اعتراضين آخرين يختصان بهذه المحاولة.

الاعتراض الأول ـ أنا لو سلمنا إمكان استظهار كون القدرة شرعية إذا أخذت قيداً في لسان الدليل ، فإنما نسلّمه فيما إذا كان التقييد بها متصلاً بدليل المبدل ، على أساس استظهار المولوية أو التأسيسية من التقييد ، بالنحو المتقدم شرحه. وأما إذا كان التقييد في دليل منفصل فلا يبقى ملاك للاستظهار المذكور. والأمر في المقام كذلك ، فإن دليل المبدل لم يرد فيه قيد القدرة وإنما ورد ذلك في دليل البدل المنفصل ، فلا يقتضي إلاّ تضييق الحكم المبدل

٨٦

وتخصيصه بحال القدرة ، الأمر الّذي كان ثابتاً في نفسه بحكم العقل والمفروض أنه غير كاف لإثبات دخل القدرة في الملاك.

الاعتراض الثاني ـ أنا لو افترضنا اتصال دليل البدلية بدليل المبدل مع ذلك لا يمكن إثبات أن القدرة في الحكم المبدل شرعية ودخيلة في ملاكه ، لأن التقريب الّذي على أساسه سلمنا استظهار دخل القدرة في الملاك لم يكن يتم فيما إذا كانت هنا لك نكتة أخرى تستدعي ورود قيد القدرة في لسان الدليل ، وفي المقام يمكن أن يكون أخذ قيد العجز في دليل البدل بنكتة تحديد موضوع الأمر بالبدل ، فلا يتشكل ذلك الظهور السياقي في التأسيسية لإثبات أن القدرة إنما جاء في لسان الدليل من جهة دخلها في الملاك.

الثالث ـ الترجيح بالأهمية :

ويحتوي هذا الترجيح على ثلاثة شقوق.

١ ـ ترجيح معلوم الأهمية.

٢ ـ ترجيح محتمل الأهمية.

٣ ـ الترجيح بقوة احتمال الأهمية.

ولا بد من إقامة البرهان عل كل واحد من هذه الشقوق.

١ ـ ترجيح معلوم الأهمية :

وخلاصة هذا المرجح : أن أحد الواجبين المتزاحمين إذا ثبت كونه أهم من الواجب الآخر قدم عليه. ويمكن أن يبرهن عليه بأحد تقريبين.

التقريب الأول ـ إن القيد اللبي العام ـ كما عرفنا سابقاً ـ عدم الاشتغال بضد واجب لا يقل أهمية عن المتعلق ، وهذا القيد ينطبق على الاشتغال بالأهم بالنسبة إلى المهم ، فيكون رافعاً لموضوع وجوب المهم. ولكنه لا ينطبق على الاشتغال بالمهم ، لأنه اشتغال بواجب أقل أهمية بحسب الفرض ، فإطلاق دليل وجوب الأهم لفرض الاشتغال بالواجب الأقل أهمية لا برهان على سقوطه

٨٧

ولا ملزم عقلاً بتقييده. وهذا يعني أن دليل وجوب الأهم رافع بامتثاله لموضوع وجوب المهم دون العكس ، وبذلك يطبق قانون الورود من جانب دليل الأهم على دليل المهم.

التقريب الثاني ـ إن العقل يحكم بلزوم تقديم الخطاب معلوم الأهمية على الآخر ـ ولو لم يتم إطلاق الخطاب الأهم لحال الاشتغال بالمهم ـ وذلك باعتبار أن تركه تفويت لملاك مولوي منجز من دون عذر ، لأن تحصيل ملاك المهم لا يشكل عذراً لتفويت الزيادة الملاكية الموجودة في الأهم بخلاف العكس. وبعبارة أخرى : أن الأمر دائر بلحاظ عالم الملاك وروح الحكم بين تحصيل الملاك الأقل أو الأكثر في مقام الامتثال والعقل يحكم بلزوم تحصيل الملاك الأكثر وعدم تفويته بعد تنجزه بالعلم بحسب الفرض. ولا نقصد بذلك كون سنخ المصلحة الموجودة في الخطابين واحد مع كونها بنحو أقل في المهم وبنحو أكثر في الأهم كي يقال : ربما لا يكون المتزاحمان ذا ملاكين متسانخين بل متباينين. وإنما نقصد بالملاك المصلحة التي تكون مورد اهتمام المولى لأنها التي تدخل في العهدة وتتنجز بحكم العقل لا مجرد المصلحة الواقعية ، فبلحاظ عالم اهتمامات المولى يتردد الأمر بين الأقل والأكثر كما هو واضح.

وهذا التقريب موقوف على أن يكون الملاك فعلياً على كل حال ، أي حتى في حال الاشتغال بالمهم ، وأما إذا كان الملاك الأهم تعليقياً ، أي مشروط بالقدرة الشرعية بالنسبة إلى المهم ، أو احتمل ذلك فلا يكون الإتيان بالمهم تفويتاً لملاك منجز.

وربما يحاول تعميم هذا الشرط على التقريب الأول ، بدعوى : أن إطلاق خطاب الأهم لفرض الاشتغال بالمهم إنما يمكن التمسك به فيما إذا كان ملاك الأهم فعلياً حتى حين الاشتغال بالمهم ، أي مشروطاً بالقدرة العقلية. وأما إذا كان مشروطاً بالقدرة الشرعية فلا يكون فعلياً حين الاشتغال بالمهم كي

٨٨

يكون الورود من جانب الأهم فقط ، والعلم بالأهمية لا دخل له في تعيين كون القدرة عقلية في الأهم أم شرعية ، وإطلاق الخطاب أيضا تقدم أنه لا يمكن أن يثبت كون القدرة في الواجب عقلية إلاّ بالقياس إلى واجب آخر يثبت كون القدرة فيه شرعية ، فلا برهان على كون الإتيان بمعلوم الأهمية رافعاً لموضوع الآخر دون العكس.

وإن شئت قلت : أن خطاب المهم مقيد بعدم الاشتغال بما لا يقل عنه أهمية مع كون ملاكه فعلياً في فرض الاشتغال بالمهم وفي المقام لا يحرز كون ملاك الأهم فعلياً في فرض الاشتغال بالمهم لكي يكون الاشتغال به رافعاً لموضوع المهم.

والتحقيق : أن كون ملاك الأهم فعلياً في فرض الاشتغال بالمهم ـ أي كون القدرة فيه عقلية بالقياس إلى المهم ـ يمكن إحرازه بنفس إطلاق الخطاب ، لأن القيد اللبي المأخوذ في كل خطاب بحسب الدقة عبارة عن عدم الاشتغال بضد واجب يشتمل على شرطين. أن لا يقل عنه في الأهمية ، وأن يكون ملاكه محفوظاً حين الاشتغال بالواجب الآخر ، فإذا انتفى أحد الشرطين كفى في التمسك بإطلاق الخطاب لفرض الاشتغال به إذ لا موجب لتقيد زائد ، وفي المقام يعلم بحسب الفرض بانتفاء الشرط الأول في المهم فالمقيد اللبي غير منطبق عليه فيصح التمسك بإطلاق خطاب الأهم لفرض الاشتغال بالمهم ، وبه يثبت فعليته خطاباً وملاكاً ويتم الورود. فاحتمال كون الملاك في الأهم مشروطاً بالقدرة الشرعية وعدم الاشتغال بالمهم منفي بنفس إطلاق خطاب الأهم ، فإن دائرة الملاك سعة وضيقاً كدائرة الخطاب يكون المرجع فيها إطلاق دليل الخطاب نفسه.

وأما ما ذكرته مدرسة المحقق النائيني ـ قده ـ في تخريج هذا الترجيح : « من أن التكليف بالأهم بما هو كذلك يصلح أن يكون معجزاً مولوياً للمكلف عن الطرف الآخر دون العكس فيكون نسبة الأهم إلى غيره كنسبة الواجب إلى

٨٩

المستحب أو المباح ، فكما لا يمكن أن يكون المباح أو المستحب مزاحماً للواجب كذلك لا يمكن أن يكون المهم مزاحماً للأهم » (١).

فإن أريد به : أن نفس خطاب الأهم يكون معجزاً عن المهم بنحو يرجع إلى تقييده بعدم الأمر بالأهم ، فهذا يمنع عن إمكان الترتب بينهما ، وبالتالي يرتفع الأمر بالمهم سواء اشتغل بالأهم أم لا وهو خلف التزاحم. وإن أريد أن الاشتغال بالأهم يكون معجزاً. فإن قُصد معنى يرجع إلى تضييق دائرة الخطاب المهم في عالم الجعل رجع إلى التقريب الأول ، وإن قصد بعد الفراغ عن عدم الضيق في دائرة الخطاب كونه معجزاً في عالم الامتثال وبلحاظ حكم العقل بلزوم الخروج عن العهدة فهو بلا موجب ، إلاّ إذا رجع إلى التقريب الثاني ، وقد عرفت حاله.

٢ ـ ترجيح محتمل الأهمية على غيره :

ويراد به أن احتمال الأهمية لو كان موجوداً في حق أحد الواجبين المتزاحمين دون الآخر قدم عليه. ويمكن تخريج هذا المرجح على أساس أحد وجوه.

الوجه الأول ـ ما هو المنساق من كلمات مدرسة المحقق النائيني ـ قده ـ « إنه بناءً على التخيير العقلي عند تزاحم الواجبين المتساويين والالتزام بالترتب من الجانبين إذا علم أهمية أحدهما دون الآخر فقد علمنا بسقوط الإطلاق عن الآخر وباشتراطه بعدم الإتيان بمتعلق الأول. وأما ما يحتمل أهميته فلم يحرز سقوط إطلاقه فلا بدّ من الأخذ به. وهذا هو أساس تقديم محتمل الأهمية على غيره في مقام المزاحمة » (٢).

وهذا الوجه بهذا المقدار من البيان يرد عليه إشكال التمسك بالعامّ في الشبهة

__________________

(١) أجود التقريرات المجلد الأول ، ص ٢٧٧ ـ محاضرات الجزء الثالث ، ص ٢٦٩.

(٢) محاضرات الجزء الثالث ، ص ٢٧٤.

٩٠

المصداقية لمخصصه اللبي المتصل ، إذ المفروض التسليم بتقييد كل خطاب لباً بعدم الاشتغال بضد واجبٍ مساو أو أهم ، وفي المقام يحتمل مساواة الواجب الآخر معه في الأهمية. كيف ولو جاز هذا التمسك لدخل باب التزاحم في التعارض في الموارد التي يحتمل الأهمية في كل من الخطابين تمسكاً بإطلاقه لحال الاشتغال بالآخر.

الوجه الثاني ـ التمسك بأصالة الاشتغال العقلية ، بتقريب : أنه مع الإتيان بمحتمل الأهمية يعلم بسقوط الخطاب الآخر ، لأن الخطاب الآخر مقيد بعدم الاشتغال بالمساوي أو الأهم ومحتمل الأهمية لا بد وإن يكون أحدهما وهذا بخلاف الإتيان بغير محتمل الأهمية فإنه لا يعلم بسقوط خطاب محتمل الأهمية به لعدم إحراز كون ما أتي به مساوياً فيكون المورد من موارد الشك في السقوط فتجري أصالة الاشتغال.

ويرد على هذا الوجه : إن الشك في السقوط الّذي هو مورد لأصالة الاشتغال هو الشك في السقوط الناشئ من الشك في امتثال التكليف بعد الفراغ عن ثبوته ، وفي المقام إنما الشك في سعة دائرة القيد المأخوذ في موضوع الخطاب المحتمل أهميته من أول الأمر ، فيرجع لا محالة إلى الشك في التكليف الزائد. نظير ما إذا شك في وجوب إكرام زيد وأنه مقيد بعدم مجيء ابنه معه أو مقيد بعدم مجيء أحد معه ، فإنه يرجع إلى الشك في سعة الوجوب وضيقه وهو مجرى البراءة.

الوجه الثالث ـ التمسك بأصالة الاشتغال أيضا بتقريب آخر تقدم في ترجيح المشروط بالقدرة العقلية على المشروط بالقدرة الشرعية ، وحاصله : إن الاشتغال بكل منهما مفوّت لغرض لزومي للمولى ، ولكن هذا التفويت إذا انطبق على تفويت غير محتمل الأهمية بالاشتغال بمحتمل الأهمية فهو تفويت معذور فيه من قبل المولى جزماً ، وأما إذا انطبق على تفويت محتمل

٩١

الأهمية بالاشتغال بغيره فلا يعلم فيه بالمعذورية من قبل المولى لعدم إحراز المساواة. وكل تفويت يقيني لملاك المولى مورد للمنع العقلي ما لم يحرز المعذورية فيه من قبل المولى نفسه.

وهذا الوجه وإن كان تاماً كبروياً ، لكنه موقوف على إحراز كون القدرة في محتمل الأهمية عقلية كي يكون تفويت الملاك يقينياً ، ولا محرز لذلك سوى إطلاق الخطاب نفسه ، وقد تقدم في مناقشة الوجه الأول أن التمسك به يكون من التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية.

والتحقيق ، إمكان تتميم الوجه الأول وتعديله بحيث يتم الورود في المقام تمسكاً بإطلاق خطاب ما يحتمل أهميته من دون أن يكون تمسكاً بالعامّ في الشبهة المصداقية ، وتوضيح ذلك : أن القيد العام إنما ثبت بالبرهان العقلي القائل بأن إطلاق الخطاب لصورة الاشتغال بالمساوي أو الأهم غير معقول ، لأنه إما يستلزم طلب الضدين أو صرف المكلف من الأهم أو المساوي إلى غيره ، والأول مستحيل ، والثاني خلاف غرض المولى. ومن الواضح أن هذا البرهان لا يقتضي التقييد بأكثر من صورة العلم بالأهمية أو المساواة ، وأما صورة الاشتغال بواجب مردد أمره بين المساواة والمفضولية فلا موجب لرفع اليد عن إطلاق الخطاب لحال الاشتغال به بعد أن كانت الخطابات مجعولة على نهج القضايا الحقيقية بلحاظ حالات حصول العلم بالأهمية أو احتمالها لدى المكلفين ، إذ يكفي أن يكون الغرض من ورائه صرف المكلف عما يحتمل مفضوليته إلى ما يحتمل أهميته احتياطاً. ولا يجوز رفع اليد عن الإطلاق إلاّ بمقدار ما تم البرهان عليه. وهذا ينتج أن القيد العام هو عدم الاشتغال بضد واجب معلوم المساواة أو معلوم الأهمية أو محتملها ، وبذلك يكون الاشتغال بمحتمل الأهمية رافعاً أيضا لموضوع الخطاب الآخر ووارداً عليه دون العكس.

٩٢

٣ ـ الترجيح بقوة احتمال الأهمية :

ويراد به أن احتمال الأهمية لو كان في أحد الواجبين المتزاحمين أقوى منه في الآخر قدم عليه ، والبرهان عليه ، نفس النكتة المتقدمة في ترجيح محتمل الأهمية بعد توسعتها. بأن يُقال : أن القيد اللبي المقدار المتيقن منه هو الاشتغال بما يعلم أنه ليس بأقل ـ أي مساو أو أهم ـ أو يحتمل فيه الأهمية احتمالاً مساوياً مع احتمال الأهمية في الآخر أو أقوى منه.

وأما صورة الاشتغال بما يكون احتمال الأهمية فيه أضعف من احتمالها في الخطاب الآخر فلا ضرورة لسقوط إطلاق ذلك الخطاب فيها ، إذ لا يلزم منه إلاّ صرف المكلف عما يكون احتمال الأهمية فيه أضعف إلى ما يكون احتمال أهميته أقوى ، وليس في هذا الاقتضاء ما يكون نقضاً للغرض المولوي بوجه من الوجوه. وهكذا يتضح من مجموع ما تقدم أن الواجب الأهم ـ علماً أو احتمالاً ـ في موارد التزاحم يكون وارداً على الواجب الآخر دون العكس لأن خطاب الواجب الآخر مقيد بعدم الاشتغال بالأهم بينما إطلاق خطاب الأهم ثابت في حال الاشتغال بالواجب الآخر. إلاّ أن هذا إنما يتم فيما إذا لم يكن خطاب الواجب الأهم قد ورد فيه ما يدل على تقييده بالقدرة الشرعية أو فرض تقييده بذلك ولكن لا بمعنى عدم الاشتغال بأي واجب آخر بل بالمقدار المأخوذ في المقيد اللبي المستتر ـ وهو عدم الاشتغال بضد واجب أهم أو مساو ـ فإنه في هاتين الحالتين يمكن التمسك بإطلاقه لحال الاشتغال بالواجب الآخر وأما إذا فرض ورود التقييد بالقدرة الشرعية بمعنى عدم الاشتغال بأي واجب آخر. فإن ورد ذلك في الخطاب الأهم خاصة تقدم الخطاب الآخر وكان وارداً عليه ، ولو كان هذا أهم ، لأن إطلاق خطاب الأهم في فرض الاشتغال بالمهم ساقط بحكم التقييد بالقدرة الشرعية وإطلاق خطاب المهم لفرض الاشتغال بالأهم ثابت لما تقدم من إمكان التمسك بإطلاق الخطاب لحال الاشتغال بضد واجب تكون القدرة فيه شرعية ، وبه نثبت أن القدرة

٩٣

عقلية بالقياس إليه. ومنه يظهر أن الترجيح بالقدرة العقلية يتقدم على الترجيح بالأهمية إذا كانا في طرفين متقابلين. وإن كان ورود التقييد بالقدرة الشرعية بلحاظ الخطابين الأهم والمهم معاً فكان الملاك في كليهما مشروطاً بعدم الاشتغال بواجب آخر ، فهل يتم فيه الترجيح بالأهمية أم لا يتم؟ فيما يلي تحقيق ذلك.

سريان الترجيح بالأهمية إلى المشروطين بالقدرة الشرعية :

بعد الفراغ عن الترجيح بالأهمية يقع الكلام في أن هذا الترجيح هل يشمل المشروطين بالقدرة الشرعية أيضا أو يختص بالمشروطين بالقدرة العقلية. وقد ذهب المحقق النائيني ـ قده ـ إلى عدم الترجيح بالأهمية في المشروطين بالقدرة الشرعية ، لأن الأهمية إنما توجب التقديم فيما إذا كان كل من الملاكين تاماً وفعلياً ، وأما في المشروطين بالقدرة الشرعية حيث فرض كون كل من الملاكين موقوفاً على القدرة على تحصيله فلا محالة يكون أحد الملاكين غير ثابت في نفسه ، لاستحالة ثبوت كلا الملاكين مع عدم ثبوت القدرتين ولا يعلم إن ما لم يثبت من الملاك هل هو الأهم على تقدير وجوده أو غيره فالدوران ليس بين تفويت الملاك الأضعف وتفويت الملاك الأقوى ليتعين بحكم العقل تفويت الأضعف ، بل الدوران في أصل ثبوت الملاك وأنه واقعاً هل هو الأضعف أو الأقوى ، ولا موجب لترجيح احتمال كونه الأقوى على احتمال كونه الأضعف ، كما هو الحال في باب التعارض فيما إذا دل دليل على ثبوت ملاك وجوبي شديد ودل دليل آخر على ثبوت ملاك وجوبي آخر ضعيف بل استحبابي أيضا ، وعلمنا إجمالاً بكذب أحد الدليلين ، فإنه لا يقدم دليل الوجوب على دليل الاستحباب ، فكذلك في المقام لا يقدم احتمال الملاك الأقوى على احتمال الملاك الأضعف.

وقد اعترض عليه : بأن باب التعارض وإن كان كما أفيد ، حيث أن ملاك الوجوب الشديد لم يثبت لابتلاء دليله بالمعارض ولا علم لنا به من غير ناحية

٩٤

دليله الساقط بالمعارضة ، فلا يتعين العمل على طبقه ، إلاّ أن باب التزاحم ليس كذلك حتى في مثل المشروطين بالقدرة الشرعية ، وذلك للعلم في المقام بفعلية الملاك الأهم. لأن الملاك الأهم على تقدير القدرة عقلاً وشرعاً ثابت بدليل وجوب الأهم بلا معارض ، وأما نفس تقدير القدرة عقلاً وشرعاً فهو محرز وجداناً إذ لا مانع عقلي ولا شرعي من الإتيان بالأهم. أما انتفاء المانع العقلي فواضح ، وأما المانع الشرعي فلان ما يتصور كونه مانعاً شرعياً هو الأمر التعييني بالآخر المانع عن صرف القدرة الواحدة في طرف الأهم ، وهذا الأمر التعييني بالآخر غير محتمل لوضوح أن تعيين الطرف الآخر بلا معين. بمعنى ان الأمر دائر بين التخيير وبين تعيين الأهم وأما تعيين غيره فغير محتمل ، فالقدرة على الأهم عقلاً وشرعاً تامة ، فيتم ملاكه وخطابه ويكون بذلك معجزاً مولوياً عن الوجوب الآخر ورافعاً لملاكه (١).

أقول : إن فرض أن القدرة الشرعية المأخوذة قيداً للملاك في الواجبين معاً كان على غرار المقيد اللبّي العام المأخوذ في كل خطاب ، وهو عدم الاشتغال بالأهم أو المساوي بالخصوص تمّ الترجيح بالأهمية ، كما أشرنا إليه سابقاً. إلاّ أنه خلاف المقصود في المقام ، إذ المفروض دخل القدرة في الملاك بلحاظ الاشتغال بأي واجب آخر سواءً كان أرجح منه ملاكاً أو مرجوحاً.

وحينئذٍ نقول : تارة : يراد بالقدرة الشرعية عدم الاشتغال بواجب آخر وأخرى : يراد عدم المعجز المولوي. فعلى الأول يكون الصحيح ما أفاده الميرزا ( قده ) من عدم الترجيح بالأهمية ، لا لما أفاده من قياسه على موارد التعارض واحتمال وجود الملاك الأهم ، بل لأن كل واحد من الخطابين مشروط بحسب الفرض ملاكاً وخطاباً بعدم الاشتغال بواجب آخر فيكون الاشتغال بكل منهما رافعاً للوجوب الآخر ملاكاً وخطاباً فيكون من التوارد من الطرفين الّذي هو معنى التخيير في باب التزاحم.

__________________

(١) لاحظ أجود التقريرات المجلد الأول ، ص ٢٧٦.

٩٥

وعلى الثاني ، بأن يراد من القدرة الشرعية دخل المعجز المولوي في الملاك ، أي عدم الأمر بالخلاف المقتضي لصرف القدرة إليه تعييناً ـ وهذا هو المعنى الثالث للقدرة الشرعية فيما تقدم ـ فإن أريد بالمعجز المولوي الأمر التعييني بالخلاف المنجز على المكلف ، تمّ الترجيح بالأهمية في المقام أيضا. إذ الأهم سوف يكون ملاكه فعلياً على كل حال لثبوت القدرة عليه عقلاً وعدم المنجز للخلاف شرعاً فإن وجوب المهم وإن كان يحتمل تعينه ثبوتاً وإطلاقه لحال الاشتغال بالأهم ـ على ما سوف يأتي توضيح النكتة فيه ـ ولكنه لا منجز له إثباتاً بعد تقييد خطابه بالقدرة عقلاً وشرعاً بالمعنى المذكور ، فإذا أحرز فعلية ملاك الأهم على كل حال كان كالمشروط بالقدرة العقلية من حيث الترجيح ، بمعنى أنه يكون وارداً على وجوب المهم لأن إطلاقه لحال الاشتغال بالمهم يكون ثابتاً ورافعاً لموضوع وجوب المهم ملاكاً وخطاباً باعتباره معجزاً مولوياً.

وإن أريد بالمعجز المولوي واقع الأمر التعييني بالخلاف ، فإذا أريد الأمر بالخلاف الناشئ عن مقتض ملاكي للتعيين تمّ الترجيح بالأهمية أيضا ، لأن الخطاب المهم لا يحتمل في حقه تعيين ناشئ من ملاك يقتضيه. فيكون إطلاق وجوب الأهم رافعاً لموضوع وجوب المهم خطاباً وملاكاً باعتباره معجزاً مولوياً وأمراً تعييناً بالخلاف. وأما إذا أريد الأمر بالخلاف ولو دون مقتض ملاكي لتعيينه فلا يتمّ هذا الترجيح لأن كلاً من الواجبين سوف يكون مشروطاً ملاكاً وخطاباً بعدم الأمر بالخلاف تعييناً ، وكما يحتمل ثبوتاً جعل الوجوب التعييني للأهم أي جعل الإطلاق للأمر بالأهم كذلك يحتمل جعل خطابين مشروطين بعدم الاشتغال بالآخر أو جعل الإطلاق للأمر بالمهم ولو من باب اختيار أحد الجعلين المتساويين وترجيحه على الآخر بلا مرجح فإن صرف الأمر عن الأهم إلى المهم إنما يكون غير معقول فيما إذا ترتب عليه تفويت الأهم لا فيما إذا ارتفع به أصل ملاك الأهم كما في المقام بحسب الفرض. ومع هذا الاحتمال لا يصح التمسك بإطلاق خطاب الأهم لحال الاشتغال بالمهم ، كما لا يصح

٩٦

التمسك بإطلاق خطاب المهم لحال الاشتغال بالأهم لأنه من التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية فهنا يتمّ ما أفاده المحقق النائيني ( قده ) من احتمال وجود الملاك الأهم نظير موارد التعارض ، لأن كلاً من الخطابين يكون ثبوته محتملاً مع العلم بجعل أحدهما أو جعلهما مشروطين بعدم الاشتغال بالآخر ، فيكون من موارد احتمال الخطاب الأهم وهو ليس احتمالاً منجزاً لأنه من الشك في أصل التكليف. فالحاصل ، لا طريق في هذه الحالة إلى ترجيح الأهم لا بالإطلاق اللفظي ولا بأصالة الاشتغال.

طرق إثبات الأهمية :

لإثبات أهمية ملاك أحد الخطابين المتزاحمين على الآخر يتصور عدة وسائل وطرق يرتبط جلها بالاستظهار العرفي في ألسنة الخطابات الشرعية حسب ما فيها من نكات ومناسبات تختلف من مقام إلى مقام وأهمها ما يلي :

١ ـ التمسك بإطلاق الخطاب لصورة الاشتغال بالواجب الآخر الكاشف إنّا عن أهمية ملاكه ورجحانه على ملاك الآخر. وهذا الطريق يمكن الاستعانة به فيما إذا كان دليل ذلك الخطاب لفظياً مطلقاً ودليل الخطاب الآخر لبياً لا إطلاق فيه.

وفيه : أنه من التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية لمخصصه اللبي بناءً على ما تقدم في تقرير أصل هذه المسألة من أن كل خطاب مقيد لباً بعدم الاشتغال بضد واجب مساو أو أهم ، ولو لا ذلك لوقع التعارض بين إطلاق أدلة الواجبات المتزاحمة وبالتالي دخل التزاحم في باب التعارض.

٢ ـ أن يتكفل بعض الأدلة بيان مرتبة اهتمام المولى بتكليف معين على نحو يستفاد منه تقدمه في نظره على غيره ، كأن يكون أحد الأشياء التي صُرّح بأن الإسلام إنما بني عليها ، كما في حديث بني الإسلام على خمس.

٣ ـ أن يرد التشديد والتهويل على ترك ذلك الواجب ومخالفته نظير

٩٧

ما ورد من التعبير بالكفر عن ترك فريضة الحج في الآية الكريمة أو أنه يموت يهودياً أو نصرانياً كما في الروايات ، فإن مثل هذه الألسنة أيضا صالحة لأن يستظهر منها مزيد اهتمام المولى به على نحو إن لم يوجب القطع بأهميته على غيره مما لم يرد فيه مثل ذلك اللسان فلا أقل من احتمال الأهمية.

٤ ـ استفادة الأهمية من الأدلة الثانوية المتكفلة لأحكام ذلك الواجب وخصائصه ، نظير ما ورد في حق الصلاة مما يستفاد منها أنها لا تترك بحال من الأحوال ، فإنه يستفاد منه أن الصلاة الأعم من الاختيارية والاضطرارية أهم من غيرها الّذي لم يدر فيه ذلك وإنها لم تكن تترك بحال لأن المولى يهتم بملاكاتها ، فيستظهر منه الأهمية قطعاً أو احتمالاً.

٥ ـ مناسبات الحكم والموضوع المركوزة في الذهن العرفي التي تخلع على دليل الخطاب الشرعي ظهوراً عرفياً لتحديد الملاك وتشخيص الأهم منها والمهم ، وهذا إنما يكون في الأدلة المتكفلة لأحكام مركوزة بنفسها وبملاكاتها عند العقلاء ، نظير خطاب حرمة الغصب ووجوب حفظ النّفس المحترمة فيما إذا وقع التزاحم بينهما ، فإنه لا إشكال في لزوم حفظ النّفس المحترمة ولو أدى ذلك إلى إتلاف شيء من ماله أو التصرف فيه من دون إذنه باعتباره أهم ملاكاً ، إذ لا إشكال عرفاً وعقلائياً في أن ملاك حفظ المال وعدم التصرف فيه من دون إذن صاحبه يعتبر من شئون احترام الغير ومن تبعاته فلا يعقل أن يكون مزاحماً مع حفظ أصل وجود الغير وفي قباله ، وهذا الارتكاز العرفي المحمول عليه دليلي الحكمين المتزاحمين يعطي لدليل وجوب حفظ النّفس المحترمة ظهوراً في أهمية ملاكه وبالتالي انحفاظ إطلاقه لحال الاشتغال بالغصب أيضا ، المقتضي للورود وترجيح خطاب وجوب الحفظ على خطاب حرمة الغصب.

٦ ـ كثرة التنصيص على الحكم من قبل الشرع فإنه يدل أيضا على

٩٨

مزيد اهتمام الشارع بملاك ذلك الحكم ولكن لا مطلقاً بل فيما إذا لم تكن نكتة أخرى تصلح لأن تكون هي المنشأ لها ، وتوضيح ذلك :

إن أكثرية النصوص في أحد الحكمين قد تنشأ من أهمية ذلك الحكم وقد تنشأ من مناشئ أخرى ، ككونه محلاً للابتلاء بدرجة أكبر أو كونه بياناً خالياً من المحذور باعتبار اتفاقه مع رأي العامة أو كونه مما يغفل عنه عادة أو كونه مورداً لسؤال الرّواة كثيراً ، إلى غير ذلك من المناشئ المحتملة ، وحينئذ : فإن جزمنا بشكل وآخر بعدم وجود أي منشأ للأكثرية بقطع النّظر عن الأهمية كانت بنفسها برهاناً إنّيّاً على الأهمية وثبت الترجيح بذلك ، وإلاّ فكما يوجد احتمال كون الأهمية سبباً للأكثرية كذلك يوجد احتمال نشوئها من نكات أخرى كالتي أشرنا إليها. وهذا الاحتمال الثاني يتقوى تبعاً لتعدد الأسباب المحتملة بدلاً عن الأهمية وتكثرها ، فكلما كانت البدائل المحتملة للأهمية أكثر كان احتمال نشوء الأكثرية من أحدها أكبر ، وكذلك يتقوى هذا الاحتمال تبعاً لمدى إحراز صغريات تلك الأسباب مع الشك في سببيتها فإذا أحرزنا مثلاً أن الحكم الّذي حصل على عدد أوفر من النصوص أكثر دخولاً في محل الابتلاء كان احتمال نشوء الأكثرية من دخوله كذلك أكبر من احتمال ذلك على تقدير الشك في كون دخوله في محل الابتلاء أكثر ، ومن الواضح أنه كلما قوي احتمال نشوء الأكثرية من النكات المحتمل سببيتها بدلاً عن الأهمية ضعف احتمال الأهمية ، والعكس صحيح أيضا ، ولكن ما لم يحرز نشوء الأكثرية من أحد تلك البدائل يبقى احتمال النشوء من الأهمية ثابتاً ، وكلما كان هذا الاحتمال ثابتاً على هذا النحو أدى إلى أن يكون قيمة احتمال أهمية الحكم ذي النصوص الأكثر عدداً أكبر من قيمة احتمال أهمية الحكم الثاني ، وذلك لأننا نواجه مجموعة من الاحتمالات في سبب الأكثرية وهي أطراف لعلم إجمالي ، لأن الواقع لا يخلو من أحدها وكل واحد منها يأخذ قيمة احتمالية بموجب تقسيم رقم اليقين على أطراف العلم

٩٩

الإجمالي ، وواحدة من هذه القيم الاحتمالية في صالح افتراض أهمية الأول على الحكم الثاني ، وهي قيمة احتمال كون الأكثرية ناشئة من شدة الاهتمام ، وسائر القيم الاحتمالية الأخرى حيادية نسبتها إلى أهمية هذا أو ذاك على حد سواء ، وبذلك تكون قيمة احتمال أهمية الحكم الأول أكبر من قيمة احتمال أهمية الحكم الثاني ، لأن كل ما يلائم احتمال أهمية الحكم الثاني من الاحتمالات التي يضمها العلم الإجمالي المذكور يلائم احتمال أهمية الأول أيضا فهما من هذه الناحية مشركان ويمتاز احتمال أهمية الأول بأن بعض احتمالات ذلك العلم الإجمالي في صالح إثباته بالخصوص ، فلا محالة يكون أقوى.

وإن شئت قلت : إن كانت أكثرية نصوص الحكم الأول ناشئة من غير الأهمية من الأسباب الأخرى فهذا الافتراض لا يثبت أهمية الحكم الأول ـ كما هو واضح ـ ولا ينفيه ، لأن مجرد كون الداعي إلى تكثير النصوص هو الدخول في محل الابتلاء كثيراً لا يعني عدم أهميتها أو كون الثاني أهم منه. وإن كانت أكثرية نصوص الحكم الأول ناشئة من أهميته فهذا يحتم أهمية الأول على الثاني ، وبالتالي سوف يكون ما هو في صالح احتمال أهمية الأول أكبر مما هو في صالح احتمال أهمية الثاني. نعم إذا فرض وجود مانع عن تكثير النصوص على الحكم الثاني ولو كان أهم ، فإذا أحرز وجود مانع من هذا القبيل فسوف لا تجدي أكثرية نصوص الحكم الأول في تقوية احتمال الأهمية ، وأما إذا لم يحرز ذلك ـ سواء شك في أصل وجود ما يمنع أو كان يوجد شيء واحتمل مانعيته ـ فحساب الاحتمالات جار أيضا بالبيان المتقدم ، ولكن مع ملاحظة احتمال وجود المانع عن تكثير نصوص الحكم الثاني ، أي سوف يكون احتمال نشوء أكثرية نصوص الحكم الأول من الأهمية بصالح أهمية الحكم الأول على تقدير عدم المانع للحكم الثاني لا مطلقاً ، وهذا يعني أن الاحتمالات الحيادية تجاه أهمية الحكم الأول سوف تزداد ، حيث

١٠٠