بحوث في علم الأصول - ج ٧

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٧

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٢٧

١
٢

٣
٤

٥
٦

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على الرسول الأعظم محمد وآله الطيبين الطاهرين ، حملة الشريعة وقادة البشرية.

وبعد ، فقد عرفت مدارس الفقه الإمامي ـ وفي مقدمتها مدرسة النجف الأشرف التي تعتبر منذ قرابة ألف عام امتدادا لمدرسة الكوفة ـ بنوع من الدراسات امتازت بالأصالة والدقة والشمول ، نظراً لفتحها على نفسها باب الاجتهاد ومواصلتها لحركة البحث والتحقيق الرامية إلى استنتاج المعارف الإسلامية من أصح المصادر ، وبلوغ واقع الإسلام من أسلم طرقه.

وقد كان للدراسات الفقهية عند هذه المدرسة النصيب الأوفر من الدقة والعمق والشمول ، حيث أمكن لهذه المدرسة ، بما أوتيت من عناصر الحركة والانفتاح في مجال البحث والتحقيق ، وعلى يد رجالاتها النوابغ وعلمائها الأفذاذ ، أن ترسم طرائق البحث الفقهي الصحيحة ، وتحدد مناهجه السليمة وتميز قواعده المشتركة في عمليات الاستنباط عن غيرها من المسائل المختصة ، ثم فصلها عنها في مجال البحث والتصنيف والتدريس. فاتسعت على أساس

٧

ذلك أبحاث أصول الفقه ، بعد أن كانت بصورة بدائية وأصبحت ذات شأن خطير واعتبرت علماً مستقلاً عن الفقه له أسسه ومناهجه الخاصة به ، بعد أن كانت تعيش على مائدة الفقه وتعتبر من توابعه.

والحق : أن الدراسات الأصولية الموسعة ، وما جدّ وتطور منها لتمثل ـ في رأيي ـ أبرز معالم الفكر الشيعي أصالة وعمقاً وتعبّر عن أروع ما تجلت به عبقرية علماء الإمامية وقدراتهم الفكرية الخلاقة ، في استنتاج القواعد العامة بتفاصيلها ودقائقها في مجالات مختلفة ، من قضايا العرف واللغة ، أو أحكام العقل والعقلاء ، أو أحكام الشرع المقدس. حتى أصبح البون شاسعاً جداً بين ما انتهت إليه الدراسات الأصولية الموسعة اليوم لدى علماء هذه الطائفة ، وبين ما كانت عليه من ذي قبل ، بحيث لا يمكن لأية حركة اجتهادية ترمي إلى بلوغ الحكم الشرعي ، أن تستغني عن هذه الدراسات ، وأن أية ممارسة فقهية للاستنباط ، بعيدة عن مناهج هذه الدراسات لتبدو هزيلة جداً حينما تقارن بممارسات الاستنباط القائمة على أساسها.

وهذا الكتاب ، هو الجزء الرابع من القسم الثاني من كتابنا ( بحوث في علم الأصول ) الّذي يمثل بدوره حلقة من حلقات تلك الحركة الفكرية ، حيث يعرض آخر ما انتهى إليه الفكر الأصولي في مرحلته الحاضرة من مراحل تطورها لدى علمائنا.

ويشتمل هذا الجزء على قسم تعارض الأدلة ـ التعادل والترجيح ـ من أبحاث علم الأصول ، التي استفدتها خلال تشرفي بحضور مجلس درس سيدي المفدي وأستاذي الأعظم ، سماحة آية الله العظمى السيد محمد باقر الصدر ـ دام ظله الشريف ـ عند ما كان يواصل دورته الأولى من محاضراته في علم الأصول في جامعة العلم الكبرى « النجف الأشرف ».

وكان ـ دام ظله ـ قد أفاض في مباحث التعادل والتراجيح بتاريخ « ٨ شعبان لسنة ١٣٩٠ هجرية » حين انتهى به المطاف إليها في دورته الأصولية

٨

الأولى. وقد أنهى تلك البحوث بتاريخ « ١٣ ربيع الثاني ١٣٩١ هجرية ».

ويمتاز بحث تعارض الأدلة من بين أبحاث علم الأصول ، بتكفله أهم القواعد الأصولية دوراً ، وأكثرها حاجة إليها في الفقه ، لأنها ذات اتصال مباشر بممارسات الفقيه لعملية استنباط الأحكام الشرعية.

وقد كان سيدي الأستاذ ـ دام ظله الشريف ـ يلقي هذه البحوث على غرار المنهاج المعهود والمتعارف لبحث التعادل والتراجيح في الدراسات الأصولية ، انسجاماً مع الظروف التدريسية العامة ، ولكنه أدخل عليها بعد ذلك شيئاً من التغيير في المنهجة ، مع إضافة بعض الفصول الّذي كان أنسب بهذه الأبحاث منه بالأبحاث الأصولية الأخرى ، فجاء الكتاب ـ نتيجة لذلك ـ مشتملاً على قسمين أساسيين. قسم التعارض غير المستقر وقسم التعارض المستقر. يسبقهما الحديث عن معنى التعارض لغة واصطلاحاً والبحث عن مبررات وجوده بين الروايات.

أما قسم التعارض غير المستقر فيشتمل على استعراض أقسام التعارض غير المستقر ، من الورود والحكومة والتخصيص والقرينيّة والأظهرية ، مع توضيح خصائص كل قسم منها وبيان ما يحتاج إليه كل قسم من مصادرات إضافية وراء دليل الحجية ليتم بها حلّ التعارض والجمع العرفي بين المتعارضين. وسوف نجد من خلال بحوث التعارض غير المستقر وأقسام الجمع العرفي أن قسم الورود منها لا يوجد فيه تعارض حقيقي بين الدليلين ولذلك لا يكون تقديم الدليل الوارد فيه بحاجة إلى أية مصادرة من مصادرات قواعد الجمع العرفي ، كما نجد أيضا الموضع الطبيعي لحالات التزاحم بين حكمين ـ باب التزاحم ـ وعلاقتها بباب التعارض ، حيث يتبرهن رجوع باب التزاحم إلى قسم الورود من التعارض غير المستقر.

وأما قسم التعارض المستقر ، فمنهج البحث فيه هو التحدث عن مسألتين رئيسيتين. تتكفل أولاهما : بعلاج التعارض المستقر من زاوية دليل الحجية

٩

العام ، وتتكفل الثانية : بعلاج التعارض على ضوء الأخبار الخاصة التي تتمثل في أخبار الطرح ، وأخبار العلاج.

ومن الملاحظ : أن هذه الأخبار بدورها قد ابتليت بمشكلة التعارض والاختلاف فيما بينها ، فتكون بحاجة إلى علاج تعارضها في المرتبة السابقة ، وسوف يتضح من بحوث هذا الكتاب أن ما يثبت في النتيجة بمفادها من قاعدة الطرح أو الترجيح مما يمكن تخريجه على مقتضى القاعدة الأولية في الجملة.

وأخيراً ، فإني إذا أبتهل إلى الله سبحانه أن يوفقني لتكميل هذه البحوث القيمة تأليفاً ونشراً ، أسأله تعالى أن يمتع المسلمين بدوام ظل سيدنا الأستاذ ـ دامت بركاته ـ وأن يديم أيام إفاداته العامرة ، إنه سميع مجيب.

النجف الأشرف ـ محمود الهاشمي

١٠

تمهيد

١ ـ تعريف التعارض

٢ ـ التعارض والتزاحم

٣ ـ كيف نشأ التعارض في الأدلة الشرعية

٤ ـ تقسيم البحث

١١
١٢

تعريف التعارض

التعارض لغة :

التعارض ، لغة من ( العرض ) وهو ذو معان عديدة. والظاهر أن المعنى الملحوظ من بينها في هذه الصياغة هو العرض بمعنى جعل الشيء حذاء الشيء الآخر وفي قباله ، والعرضية بهذا المعنى كما قد تكون بملاك التماثل والمباراة بين الشيئين ، فيقال عارض فلان شعر المتنبي ، بمعنى أنشد مثله ، كذلك قد تكون بملاك التناقض والتكاذب بين شيئين ، فإنه أيضا نحو تقابل ومباراة بينهما يجعل أحدهما في عرض الآخر. فبهذه المناسبة وعلى أساس هذا الاعتبار سمي الكلامان المتكاذبان بالمتعارضين.

التعارض اصطلاحاً :

لقد نسب الشيخ الأنصاري ـ قده ـ للمشهور تعريف التعارض بأنه « تنافي مدلولي الدليلين على وجه التناقض أو التضاد » (١) ولكن المحقق الخراسانيّ عدل عن ذلك إلى تعريف آخر ، فذكر أنه « تنافي الدليلين أو الأدلة بحسب الدلالة ومقام الإثبات ، على وجه التناقض أو التضاد » (٢) مبرراً هذا العدول : بمحاولة إخراج موارد الجمع العرفي عن نطاق التعريف ،

__________________

(١) الرسائل ، ص ٤٣٣ ( ط ـ رحمة الله ).

(٢) كفاية الأُصول ص ٥٥١ ج ٢ ( ط ـ حقائق الأُصول ).

١٣

إذ التنافي بين المدلولين ثابت في موارد الجمع العرفي أيضا فيشمله تعريف المشهور بينما لا يشمله التعريف الآخر ، لعدم التنافي بحسب الدلالة مع وجود الجمع العرفي.

وقد انتصرت مدرسة المحقق النائيني ـ قده ـ لتعريف المشهور ، مؤكدة عدم شموله لموارد الجمع العرفي ، لعدم التنافي بين المدلولين في هذه الموارد.

وقد أوضح ذلك السيد الأستاذ ـ دام ظله ـ بأن الدليلين إذا كانت نسبة أحدهما إلى الآخر قابلة للجمع العرفي ، بأن كانت نسبة التخصص أو الورود أو الحكومة أو التخصيص فلا يوجد أي تناف بين مدلوليلهما ، ويخرجان عن التعارض.

« أما التخصّص ، فخروجه ـ عن التعارض ـ واضح. فإن التخصّص هو خروج موضوع أحد الدليلين عن موضوع الآخر بالوجدان ، فلا مجال لتوهم التنافي بين الدليلين أصلاً. فإذا دل دليل على حرمة الخمر مثلاً لا مجال لتوهم التنافي بينه وبين ما دل على حلية الماء ، إذ الماء خارج عن موضوع الخمر بالوجدان.

وأما الورود ، فإنه أيضا رفع أحد الدليلين لموضوع الدليل الآخر تكويناً ، غاية الأمر : أن هذا الرفع يتم بواسطة التعبد الشرعي ، فإنه بالتعبد الشرعي يتحقق أمران ، أحدهما : تعبدي ، وهو ثبوت المتعبد به ، والآخر : وجداني وهو ثبوت نفس التعبد ، فإنه عند قيام الأمارة في موارد الأصول العقلية يرتفع موضوع الأصل العقلي وجداناً ، ولكن بواسطة التعبد ، لأن موضوع الأصل العقلي هو عدم البيان ولو بالحجة التعبدية فثبوت التعبد بنفسه يكون بياناً ، فيرفع موضوع الأصل العقلي ، فلا منافاة بينهما.

وأما الحكومة ، فالوجه في خروجها عن التعارض : هو أن الحكومة على قسمين. الأول : ما يكون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي شارحاً للمراد من

١٤

الدليل الآخر ، إما لورود أداة التفسير فيه مثل ( أي ) و ( أعني ) ، أو لصيرورة الدليل الحاكم لغواً عند فرض عدم وجود الدليل المحكوم ، كما في قوله عليه‌السلام « لا رِبا بينَ الوَالدِ ووَلَدِهِ » الشارح لعقد الوضع في دليل حرمة الرّبا ، فيكون نافياً للحكم بلسان نفي الموضوع أو قوله عليه‌السلام : « لا ضَرَر ولا ضرار » وقوله تعالى : ( ما جَعَلَ عَليكم في الدّين مِن حَرَجٍ ) الشارح لعقد الحمل في الأدلة المثبتة للتكاليف بعمومها في موارد الضرر والحرج ، وبيان أن المراد ثبوتها في غير موارد الضرر والحرج.

الثاني : ما يكون أحد الدليلين رافعاً بمدلوله لموضوع الحكم في الدليل الآخر وإن لم يكن بمدلوله اللفظي شارحاً له ، وذلك : كحكومة الأمارات على الأصول الشرعية ، فإن الأمارات لا تكون شارحة للأصول فإن جعل الأمارة لا يكون لغواً لو لم يكن الأصل مجعولاً ، ولكن الأمارة تكون موجبة لارتفاع موضوع الأصل بالتعبد الشرعي ، ولا تنافي بينهما ليدخل في التعارض.

والوجه في ذلك : أن الدليل المحكوم متكفل لبيان حكمه ولا يكون متكفلاً لتحقق موضوعه بل مفاده قضية شرطية ـ لما بينا من أن مرجع القضية الحقيقية إلى قضية شرطية ـ وأما الدليل الحاكم ، فهو يتصدى لبيان انتفاء الشرط ولا تنافي بين القضية الشرطية التي تدل على ثبوت التالي عند ثبوت الشرط وبين القضية الدالة على انتفاء الشرط ، لأن القضية الشرطية لا تتكفل بيان تحقق الشرط. ففي الأصل والأمارة يكون الموضوع المأخوذ في أدلة الأصول هو الشك ، وأما أن المكلف شاك أو غير شاك فهو خارج عن مفادها ، والأمارة ترفع الشك بالتعبد الشرعي فلا يبقى موضوع للأصل.

وظهر بما ذكرناه : أن الدليل الحاكم يتقدم على المحكوم ولو كان بينهما عموم من وجه ، لارتفاع موضوع المحكوم في مادة الاجتماع بلا فرق بين كون الحاكم أقوى دلالة من المحكوم أو أضعف.

١٥

وأما التخصيص : فالوجه في خروجه عن التعارض هو أن حجية العام ـ بل حجية كل دليل ـ تتوقف على أمور ثلاثة : صدوره عن المعصوم ، وكون ظاهره مراداً للمتكلم ، وأن إرادته له جدية. ومن المعلوم أن بناء العقلاء على العمل بالظواهر إنما هو في مقام الشك في المراد الاستعمالي أو المراد الجدي دون فرض العلم بإرادته خلاف الظاهر أو أنه في مقام التقية أو الامتحان ، فلا يمكن الأخذ بالظهور مع قيام القرينة على الخلاف ، بلا فرق بين كونها متصلة أو منفصلة ، غايته أن القرينة المتصلة تمنع عن انعقاد الظهور من أول الأمر ، دون القرينة المنفصلة فإنها تكشف عن كونه غير مراد للمتكلم.

وأيضا ، لا فرق بين القرينة القطعية والقرينة الظنية ، كالخبر فإنه قرينة قطعية غير وجدانية بل قرينة تعبدية ، غايته : أن القرينة القطعية مقدمة على الظهور بالورود ، لارتفاع موضوع حجيته وجداناً ، إذا لا يبقى معها شك في المراد ، بخلاف القرينة الظنية فإنها مقدمة بالحكومة لارتفاع موضوع حجيته بالتعبد الشرعي.

فالدليل الخاصّ وإن كان مخصصاً بالنسبة إلى الدليل العام لكنه حاكم بالنسبة إلى دليل حجية العام ، لأنه يرفع الشك في المراد من العام تعبداً ، فمرجع التخصيص إلى الحكومة بالنسبة إلى دليل الحجية فلا منافاة بينهما على ما تقدم.

كما أن مرجع الحكومة إلى التخصيص فإن مفاد قوله عليه‌السلام ( لا رِبا بين الوَالد ووَلَدِهِ ) هو نفي حرمة الرّبا بينهما ، وإن كان بلسان نفي الموضوع ، فهو تَخصيص بالنسبة إلى الأدلة الدالة على حرمة الرّبا عموماً ، لكنه تخصيص بلسان الحكومة.

فتحصل ، مما ذكرنا : أن الخاصّ يقدم على العام من باب الحكومة بالنسبة إلى دليل حجية العام ، وإن كان تخصيصاً بالنسبة إلى نفس العام. وهذا هو الفارق بين التخصيص والحكومة المصطلحة فإن الدليل الحاكم حاكم على نفس الدليل المحكوم في الحكومة الاصطلاحية ، بخلاف التخصيص إذ

١٦

الخاصّ ليس حاكماً على نفس العام بل حاكم على دليل حجية » (١).

ونلاحظ في ضوء هذه الكلمات.

أولا ـ أن المحقق الخراسانيّ ـ قده ـ لا يرى تلازماً بين التنافي بين المدلولين والتنافي بين الدلالتين ، فهو يعتقد أن الأول ثابت في موارد الجمع العرفي دون الثاني.

وثانياً ـ أن مدرسة المحقق النائيني ـ قده ـ التي يمثلها السيد الأستاذ ـ دام ظله ـ تنفي التنافي بين المدلولين في موارد الجمع العرفي ، فضلاً عن التنافي بين الدلالتين.

وثالثاً ـ أن المحقق الخراسانيّ والمحقق النائيني ـ قدهما ـ يتفقان على لزوم إخراج موارد الجمع العرفي عن تعريف التعارض. ولا بد من تمحيص هذه الأمور الثلاثة.

اما فيما يتعلق بالأمر الأول ، فالصحيح هو أن التنافي في موارد الجمع العرفي كما يوجد بين المدلولين يوجد كذلك بين الدلالتين ، سواء كان المراد من الدلالة الظهور أو الحجية. أما التنافي بحسب الظهور ، فلأن الدليل المنفصل لا يرفع الظهور فيبقى التنافي بين الدليلين المنفصلين في موارد الجمع العرفي محفوظاً.

وأما التنافي بحسب الحجية فلأن حجية العام مع حجية ظهور الخاصّ لا محالة متنافيتان. نعم ، لو أريد من التنافي بحسب الدلالة ما سوف نشير إليه من التنافي بحسب اقتضائي دليل الحجية لشمولهما ، فلا يكون تناف في موارد الجمع العرفي ، لأن اقتضاء دليل الحجية لشمول العام معلق على عدم مجيء الخاصّ. غير أن هذا ليس مقصوداً للمحقق الخراسانيّ ـ قده ـ بقرينة أنه يرى التعارض هو التنافي بين الدلالتين على وجه التناقض أو التضاد ومن الواضح

__________________

(١) مصباح الأصول ص ٣٤٧ ـ ٣٥٢.

١٧

أن التنافي بين اقتضائي دليل الحجية يكون بنحو التضاد دائماً ، لأن حجية كل من المتعارضين أمر وجودي مضاد لحجية الآخر.

وأما الأمر الثاني الّذي يرتبط بمدرسة المحقق النائيني ـ قده ـ ففيما أفيد فيها بالنسبة إلى الحكومة يرد عليه.

أولا ـ ثبوت التنافي بين مدلولي الدليلين في موارد الحكومة بجميع أقسامه ، وما ذكره السيد الأستاذ ـ دام ظله ـ من أن المحكوم لا نظر له إلى موضوعه فلا يتنافى مع مدلول الحاكم النافي لموضوع المحكوم ، سوف يأتي أنه غير تام. ومنه يعرف أن محاولة إرجاع التخصيص إلى الحكومة لو صحت فهي لا تجدي في رفع التنافي بين المدلولين أيضا.

ثانياً ـ أن عدم التنافي بين المدلولين في موارد الحكومة إن تم فإنما يتم في موارد الحكومة التي تتحقق بملاك رفع الدليل الحاكم لموضوع المحكوم ، وأما في موارد الحكومة المتحققة بملاك النّظر في الدليل الحاكم إلى عقد الحمل من الدليل المحكوم محضاً دون تصرف في موضوعه ، كما في حكومة ( لا ضرر ) على أدلة الأحكام الواقعية ، فلا يتم ما ذكر لنفي التعارض بين المدلولين ، لوضوح أن مفاد الحاكم والمحكوم في تلك الموارد ثابتان في عرض واحد ، فيتنافيان لانحفاظ الموضوع فيهما معاً مع تنافي محموليهما.

وفيما أفاده بالنسبة إلى التخصيص يرد عليه :

أن الكلام في وجود تناف بين المدلولين وعدمه إنما هو في مدلولي الدليلين الذين يتحقق الجمع العرفي بينهما ، فما هو محط الجمع العرفي هو محط البحث أيضا في تنافي المدلولين وعدمه ، وفي موارد التخصيص يوجد عندنا أنحاء ثلاثة من التقابل. أحدها : التقابل بين دليل الخاصّ ودليل حجية العام. الثاني : التقابل بين دليل حجية الخاصّ ودليل حجية العام. الثالث : التقابل بين نفس الدليل الخاصّ والدليل العام. أما التقابل الأول ، فلا تنافي فيه أصلاً ،

١٨

إذ لا تعارض ولو بنحو غير مستقر بين دليل الخاصّ ودليل حجية العام ، لأن مفاد الأول حكم واقعي ومفاد الثاني حكم ظاهري ، ولا مانع من اجتماع هذين الحكمين معاً ثبوتاً ، بأن يكون الحكم الواقعي على طبق الخاصّ ، ويكون ظهور العام حجة أيضا.

وأما التقابل الثاني ، فيقدم فيه دليل حجية ظهور الخاصّ على دليل حجية ظهور العام بالورود ، باعتبار أن دليل حجية العام يقيد بعدم قيام الخاصّ على خلافه ، وبشمول دليل الحجية لظهور الخاصّ يرتفع هذا الموضوع وجداناً.

وأما التقابل الثالث ، فيقدم الخاصّ على العام بالتخصيص الّذي هو علاج عرفي لتعارض غير مستقر بين الخاصّ والعام ، حيث يفترض العرف أن للمتكلم في مقام تحديد مراده أن يعتمد على القرائن المنفصلة أيضا ، وهذا بنفسه السبب والمبرر للحل المتقدم في التقابل بين دليل حجية الخاصّ ودليل حجية العام.

وفي ضوء هذا التحليل يتضح أمران.

الأول ـ أن محط الجمع العرفي إنما هو التقابل الثالث الّذي يكون بين الدليل الخاصّ والدليل العام نفسيهما ، فإن أراد السيد الأستاذ ـ دام ظله ـ من إنكار التنافي بين المدلولين في موارد التخصيص دعوى : أن الجمع العرفي في هذه الموارد يتمثل في التقابل بين دليل حجية العام والخاصّ. ففيه : أن حل هذا التقابل بالورود أو الحكومة إنما يكون في طول جمع عرفي أسبق رتبة يحل به التقابل بين نفس العام والخاصّ ، فإنه لو لم نفرض ملاكاً يقتضي تقديم الخاصّ على العام في تلك المرتبة ، لم تكن نكتة للتقديم المذكور. ومجرد ما ذكر من أن حجية العام مقيدة بعدم العلم بالخلاف والخاصّ بعد حجيته علم تعبدي بالخلاف ، لا يكفي مبرراً لذلك التقديم ، إذ ليس ذلك بأولى من العكس فكما يمكن أن يقال : إن حجية ظهور العام في العموم موضوعها

١٩

الشك والخاصّ الحجة يرفع هذا الشك ، كذلك يمكن أن يقال : إن حجية ظهور الخاصّ موضوعها الشك والعام يرفعه ، فلا بد وأن نفترض في المرتبة السابقة سبباً لتقديم الخاصّ على العام ، وهو نفس الجمع العرفي بينهما.

وإن أراد بذلك : إنكار التنافي بين مدلولي الدليلين في ذلك الجمع العرفي الأسبق رتبة. فهذا واضح البطلان ، لأن هذا الجمع العرفي إنما هو بين نفس العام والخاصّ والتنافي بين مدلوليهما ظاهر.

الثاني ـ أن ما جاء في التقرير من جعل التعارض بين دليل الخاصّ ودليل حجية العام وكونه من الحكومة لا يخلو من تشويش والتباس ، فإن دليل الخاصّ لو لوحظ بنفسه مع دليل حجية العام فلا تعارض بينهما حتى بنحو غير مستقر ، لما تقدم من إمكان صدق مضمونهما معاً. وإنما التعارض بين مدلولي الخاصّ والعام من جهة ، وبين دليل حجية الخاصّ ودليل حجية العام من جهة أخرى. والأول يحل بالجمع العرفي الّذي يعين المراد من العام على طبق الخاصّ ، والثاني يحل بورود حجية الخاصّ على حجية العام.

وأما الأمر الثالث ، الّذي يرتبط بتعريف التعارض فالواقع أننا يجب أن نعرف ما ذا نقصد من وراء تعريف التعارض لنصوغه بالطريقة التي تفي بمقصودنا ، لأننا في حالات التعارض بين الدليلين نواجه عدة أسئلة.

الأول ـ أن هذا التعارض هل هو مستحكم بنحو يسري إلى دليل الحجية ، فيكون اقتضاء دليل الحجية الشمول لأحدهما منافياً فعلاً لاقتضائه شمول الآخر ، أو ان هذا التعارض بين الدليلين في مرحلة دلالتهما أو مدلوليهما لا يسري إلى دليل الحجية ، بل يحل في هذه المرحلة. وهو ما يسمى بالجمع العرفي؟

الثاني ـ أن هذا التعارض إذا كان مستحكماً وسارياً إلى دليل الحجية

٢٠