بحوث في علم الأصول - ج ٧

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٧

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٢٧

أن العملية كانت تمارس في كثير من الأحيان عن طريق دس الحديث الموضوع في كتب الموثوقين من أصحاب الأئمة عليهم‌السلام كما تشير إليه رواية يونس بن عبد الرحمن ، فربما كان بعض ما نجده في كتب الأحاديث اليوم من الروايات المتعارضة المختلفة هو من بقايا ذلك التشويه والدس الّذي وقع فيها في تلك العصور. هذه هي أهم العوامل التي يمكن أن تذكر لتبرير حالات التعارض التي قد يواجهها الفقيه فيما بين الأحاديث الصادرة عن الأئمة عليهم‌السلام.

وينبغي أن لا ننسى بعد كل ذلك ، أن جملة كثيرة من الأحاديث ، بل الأصول والكتب التي صنفها أصحاب الأئمة عليهم‌السلام ، قد ضاعت وذهبت إدراج الرياح في تلك الفترة المظلمة من أيام هذه الطائفة ، ولم تصل إلينا منها ألاّ بعض أسمائها أو أسماء أصحابها ، كما هو واضح عند من راجع ، كتب الرّجال وتراجم المصنّفين وأصحاب الأصول من أصحاب الأئمة عليهم‌السلام. ولعل ما تحدثنا عنه قبل قليل من نشوء حركة الدس والتزوير بين أحاديث أصحاب أئمتنا عليهم‌السلام ، وما حصل من التحفظ والتثبت بعد ذلك من قبل العلماء في مجال نقل تلك الأحاديث وروايتها ، وانفتاح باب التشكيك والجرح والتعديل في رواة الأحاديث وأصحاب المصنفات ، كان له الدور البالغ ، علاوة على العوامل التأريخية والظروف الخارجية الأخرى ، في ضياع ذلك الجزء الكبير من تراثنا وأحاديث أئمتنا عليهم‌السلام.

ومن الطبيعي هنالك ، أن يكون قد خفي علينا أيضا في ضمن ما خفي وضاع ، الكثير من الروايات التي لو كانت بأيدينا اليوم لاستطعنا أن نعالج في ضوئها أكثر حالات التعارض الموجودة في الأحاديث ، باعتبار احتوائها على ما يصلح لأن يكون قرينة على المراد وشاهداً للجمع العرفي ورفع التعارض بين الروايات المتعارضة.

٤١

تقسيم البحث

يمكننا في ضوء المفهوم العام للتعارض الاصطلاحي أن نقسم التعارض إلى قسمين :

١ ـ تعارض غير مستقر.

٢ ـ تعارض مستقر.

ونريد بالتعارض غير المستقر : التعارض الّذي لا يستحكم ولا يسري إلى دليل الحجية ، لوجود أحد ملاكات الجمع العرفي. ونريد بالتعارض المستقر : التنافي بين الدليلين في مرحلة شمول دليل الحجية لهما ، أي ذلك التعارض الساري إلى دليل الحجية.

وسوف نبدأ ببحث التعارض غير المستقر وندرسه من ناحيتين :

الأولى ـ تعيين حكمه بلحاظ دليل الحجية. وفي ذلك نستعرض ملاكات الجمع والتقديم العرفية.

الثانية ـ تعيين حكمه بلحاظ الأخبار العلاجية ، وفي ذلك نرى ما إذا كان للأخبار العلاجية إطلاق يشمل موارد التعارض غير المستقر.

ثم نتناول التعارض المستقر لندرسه أيضا من ناحيتين :

الأولى ـ بلحاظ دليل الحجية.

الثانية ـ بلحاظ الأخبار العلاجية.

٤٢

القِسمُ الأوّل

التَعارُض غير المُستَقِرّ

درس التعارض غير المستقر من زاوية دليل الحجية

١ ـ الورود بالمعنى الأعم

٢ ـ القرينية بأنواعها

٣ ـ أحكام عامة للتعارض غير المستقر

ـ شروطه ونتائجه ـ

٤٣
٤٤

دَرس التَعارُض غير المُستَقِر

ّ مِن زاوية دَليل الحجيَّة

تمهيد

التعارض غير المستقر ـ كما تقدم ـ هو التعارض الّذي لا يسري إلى دليل الحجية ، وضابطه أن لا يوجد تناف في اقتضاءات دليل الحجية ، إما لعدم المحذور في فعلية كلا اقتضائية للشمول لكلا الدليلين ، وإما لعدم وجود اقتضاء فيه للشمول لكلا الدليلين واختصاص اقتضائه بأحدهما.

وعدم السراية إلى دليل الحجية يكون في حالتين.

الأولى ـ أن لا يكون التعارض الاصطلاحي مستبطناً للتنافي في مرحلة الدلالة ، كما إذا كان التنافي والتعارض بين المجعولين الفعليين غير ناشئ من تنافي الجعلين ، كما هو الحال في موارد الورود. فإن الجعلين لا تنافي بينهما فيها وإنما لا يمكن اجتماع المجعولين الفعليين ، وحيث أن عدم إمكان الجمع يختص بعالم المجعول ولا يشمل عالم الجعل ، فلا يحصل تناف بين الدليلين في مرحلة الدلالة ، لأن كلاّ منهما ناظر في دلالته إلى عالم الجعل.

الثانية ـ أن يكون التعارض الاصطلاحي مستبطناً للتنافي في مرحلة الدلالة ، بأن كان التنافي بين المجعولين بسبب التنافي بين الجعلين الموجب للتنافي بين

٤٥

الدليلين في مرحلة الدلالة ، ولكن كانت دلالة أحد الدليلين مستحقة للتقديم على دلالة الدليل الآخر بلحاظ دليل الحجية ، بحيث لا يكون في دليل الحجية اقتضاء للشمول للدليل الآخر في عرض الشمول للدليل المستحق التقديم.

ومتى لم يكن التعارض الاصطلاحي مستبطناً للتنافي في مرحلة الدلالة لم نحتج في نفي سراية التعارض إلى دليل الحجية إلى أي مئونة إثباتية ومصادرة إضافية ، زائداً على المسلمات الأولية. إذ يتعين في هذه الحالة شمول دليل الحجية بمقتضى إطلاقه لكلا الدليلين ما داما غير متنافيين في مرحلة الدلالة.

وأما في الحالة الثانية ، التي يكون التعارض الاصطلاحي فيها مستبطناً للتنافي في مرحلة الدلالة وعالم الجعل فنحتاج ـ لكي نثبت عدم سراية التعارض إلى دليل الحجية ـ إلى عناية زائدة ومصادرة إضافية تثبت : أن دليل الحجية لا اقتضاء فيه للشمول لأحد الدليلين بعينه ، فيكون اقتضاؤه لشمول الآخر بلا مزاحم ، أو نثبت بتعبير آخر : أن اقتضاءه للشمول لأحد الدليلين متفرع عن عدم اقتضائه للشمول للدليل الآخر.

ونستعرض فيما يلي أقسام التعارض غير المستقر.

٤٦

الوُرود بالمَعنى الأعَمّ

١ ـ نظرية الورود العامة

٢ ـ الورود من أحد الجانبين

٣ ـ الورود من كلا الجانبين

٤ ـ أحكام الورود

٤٧

نظريّة الوُرُود العَامّة

الورود ، هو أن يكون مفاد أحد الدليلين رافعاً لموضوع مفاد الدليل الآخر ونافياً له حقيقة ، وعلى هذا الأساس لا توجد أي معارضة في حالات الورود بين الجعلين ، لإمكان اجتماعهما فعلاً ولو كانا ذا مجعولين متنافيين ، لأنهما لا يقتضيان مجعوليهما في عرض واحد وإنما لا يمكن اجتماع المجعولين ، فطرفا المعارضة في موارد الورود هما المجعولان لا الجعلان.

وبرهان تقدم الدليل الوارد على المورود لا يحتاج إلى أي مصادرة إضافية ، لأن الوارد والمورود إن لوحظا بالنسبة إلى دليل الحجية فلا محذور في شموله لهما معاً ، لعدم التنافي بينهما في مرحلة الدلالة ما دام الجعلان غير متنافيين ، فيؤخذ بإطلاق دليل الحجية لهما معاً على القاعدة. وإن لوحظا بالنسبة إلى عالم فعلية المجعول فيتعين تقديم الوارد ، بمعنى أن المجعول في الدليل الوارد هو الّذي يكون فعلياً دون المجعول المورود. وهذا مستنبط من نفس فرض الورود وتقيد مفاد أحد الدليلين بعدم الآخر ، كما هو واضح.

وبهذا يعلم الوجه في عدم استقرار المعارضة وعدم سريانها إلى دليل الحجية.

والورود لا فرق فيه بين الوارد المتصل بالمورود والمنفصل عنه ، لأن الانفصال لا يغير من واقع الورود شيئاً ولا يخلق تنافياً بين الدليلين في مرحلة الدلالة ما دام الجعلان غير متنافيين ، فالوارد المتصل والوارد المنفصل حكمهما

٤٨

واحد ، وهو ثابت لهما بملاك واحد.

والورود بالمعنى العام يمكن تقسيمه إلى الورود بالمعنى الخاصّ والتخصص. فالورود بالمعنى الخاصّ هو : أن يكون الرفع الحقيقي للدليل الوارد لموضوع الدليل المورود بالتعبد ، بحيث يكون التعبد. منشأ في الرفع الحقيقي. والتخصص هو أن يكون الرفع الحقيقي لا بتوسط التعبد والتخصص تارة : يكون بنظر إخباري ، كما لو قال : أكرم كل عالم ، ثم أخبر عن عدم كون زيد عالماً. وأخرى : بنظر إيجادي ، كما إذا قال : رفع ما لا يعلمون ، ثم أوجد العلم بالحرمة بواسطة دليل قطعي.

والفرق في الحقيقة بين التخصص والورود بالمعنى الخاصّ إنما هو في المتخصّص والمورود ، حيث إن المتخصّص سنخ دليل أخذ في موضوعه عنوان لا معنى لارتفاعه حقيقة بالتعبد ، والمورود سنخ دليل أخذ في موضوعه عنوان يمكن ارتفاعه حقيقة بالتعبد ، كعنوان قيام الحجة المأخوذ في موضوع البراءة الشرعية المساوية رتبة لقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، فإنه يرتفع حقيقة بالتعبد ، وليس الفرق بينهما في حقيقة الورود ونحوه ، فلا يترتب على هذا التقسيم أثر ، ولهذا سوف نتكلم عن الورود بالمعنى العام بدون تمييز بين هذين القسمين.

والورود كما يمكن تصويره من أحد الجانبين ، كذلك يمكن تصويره من كلا الجانبين ، بحيث يكون كل من الدليلين رافعاً بمرتبة من مراتبه موضوع الحكم في الدليل الآخر. وسوف نتكلم فيما يلي عن الورود من أحد الجانبين والورود من كلا الجانبين تباعاً.

٤٩

الوُرُودُ مِن أَحَدِ الجانِبَين

والورود من أحد الجانبين ينقسم إلى أقسام خمسة. فإن الحكم الّذي يتكفل الدليل الوارد إثباته تارة ، يكون رافعاً لموضوع الدليل الآخر بمجرد جعله ، وأخرى ، يكون رافعاً لموضوعه بفعليته ، وثالثة ، يكون رافعاً له بوصوله ، ورابعة ، يكون رافعاً له بتنجزه ، وخامسة ، يكون رافعاً له بامتثاله. فهذه أقسام خمسة ترد لها أمثلة وشواهد كثيرة في الفقه ، ولذلك يجدر توضيحها في هذا المقام.

الأول ـ أن يكون أحد الحكمين رافعاً لموضوع الحكم في الدليل الآخر بمجرد جعله. ومثاله : ما يذكر في باب الزكاة من عدم تعلق الزكاة بشيء واحد مرتين ، ويفسر ذلك بأنه لا يشرع دخول عين واحدة زكوية في نصابين في السنة الواحدة. فمثلاً : لو كان يملك عشرين ناقة لمدة ستة أشهر ، وهذا هو النصاب الرابع في الإبل ، فهنا حكم مجعول غير فعلي وإنما مقدر على فرض بقاء هذا النصاب إلى آخر السنة ، وهو وجوب دفع أربع شياة عليه. ثم لو فرضنا أن إبله زادت وأصبحت على رأس ستة أشهر أخرى خمساً وعشرين ناقة ، وهذا هو النصاب الخامس ، الّذي يثبت فيه خمس شياة ، فيقع التعارض ـ حينئذٍ ـ بين دليلي جعل الزكاة في هذين النصابين ، فإذا ضم إلى ذلك ما ذهبوا إليه في هذا المورد من أن وجوب الزكاة الثانية مشروط بعدم تقدم ما

٥٠

يقتضي وجوب الزكاة الأولى ، كان وجوب الزكاة الأولى بنفسه ـ قبل أن يصبح فعلياً ـ رافعاً لموضوع وجوب الزكاة الثانية. وهذا المثال وإن كان موضعاً للبحث فقهياً إلاّ أنه ذكرناه تقريباً لهذا القسم من أقسام الورود إلى الذهن.

الثاني ـ أن يكون الدليل الوارد متكفلاً لحكم يكون بفعليته رافعاً لموضوع الحكم الثابت بالدليل المورود ، كالدليل الدال من الكتاب أو السنة على حرمة شيء أخذ شرطاً في عقد الوارد بفعليته على الدليل الدال على وجوب الوفاء بالشرط إلاّ شرطاً خالف الكتاب أو السنّة ، فإن هذا الحكم بمجرد أن يصبح فعلياً يكون رافعاً لموضوع وجوب الوفاء بالشرط ، حيث يصبح هذا الشرط مخالفاً للكتاب أو السنّة. وبعبارة أخرى : يستحيل أن يكون الحكم المشروط بعدم الحكم الآخر فعلياً ، إذ لو أريد إثباته من دون إناطته بعدم وجود الحكم الآخر المنافي كان خلف ما هو مفروض في لسان دليله إثباتاً ، وإن أريد إثباته بما هو منوط بعدم الآخر فهو يستحيل الانطباق في المورد ، لأن عدم الآخر إنما يكون بارتفاع موضوعه الّذي يكون بالاشتغال بواجب لا يقل عنه في الأهمية ، وهو الواجب الأول لو فرض أنه ليس أقل أهمية ، فيرجع إلى اشتراط الأمر به بالاشتغال به وهو من طلب الحاصل المستحيل.

الثالث ـ أن يكون الوارد متكفلاً لحكم يكون بوصوله رافعاً لموضوع الحكم في الدليل المورود ، كالدليل القطعي المتكفل لحكم شرعي الوارد على دليل رفع ما لا يعلمون ، إذا اقتصرنا في الغاية على حاق اللفظ ، وهو العلم ولم نفسره بالتنجّز ، وإلاّ كان مثالاً للقسم الرابع ، فإن مجرد وصول الحكم بالدليل القطعي يكون رافعاً لموضوع البراءة ، وكذلك حال الدليل القطعي بالنسبة إلى دليل حرمة الإفتاء بغير علم.

الرابع ـ أن يكون الدليل الوارد متكفلاً لحكم يكون بتنجزه رافعاً

٥١

لموضوع الحكم في الدليل المورود وذلك من قبيل الدليلين الدالين على الحكمين المتزاحمين ـ بناءً على استحالة الترتب ـ فإن موضوع المهم لا يقيد بعدم امتثال الأهم كي يقتصر في التقييد عليه ، لأن هذا المقدار من التقييد لا يرفع مشكلة طلب الضدين عند القائل باستحالة الترتب ، إذ يبقى المحذور المذكور في صورة تركه للامتثالين معاً. وإنما يرتفع موضوع المهم بتنجز الأهم سواء امتثله أم لا.

كما أنا إنما لم نحكم بارتفاع موضوع المهم بمجرد فعلية الأهم ـ ليدخل المثال في القسم الثاني ـ لأن الفعلية أعم من التنجز ، ولا وجه للتقييد بالأعم مع ارتفاع المحذور بالتقييد الأقل ، فإن وجه تخصيص المهم بعدم الأهم إنما هو قبح إلزام المكلف بتحقيق المهم مع الأهم وهو لا يقدر عليهما ، ومن الواضح أن قبح إيجاب المهم مع الأهم إنما يكون عند تنجز الأهم المقتضي بحسب قانون العبودية إشغال العبد بالأهم ومنعه عن المهم ، وأما مع عدم تنجزه عليه فمن الواضح أن العقل لا يرى أي قبح أو استحالة في توجيه الخطاب بالمهم إليه فيتمسك بإطلاقه لإثباته.

ومن هذا القسم أيضا الواجبات التي يشترط فيها القدرة عقلاً وشرعاً بمعنى يرتفع بمجرد تنجز المنافي عليه ، من قبيل ما يذكر من أن وجوب الحج مشروط بعدم تنجز واجب آخر يتنافى معه ـ وإن كان هذا الشرط موضعاً للبحث فقهياً ـ وما يقال من أن الوضوء يتوقف على عدم تنجز وجوب صرف الماء في وجه آخر.

ومن هذا القسم أيضا ما يقال : في باب الزكاة من اشتراط عدم تنجز حرمة التصرف عليه في النصاب أثناء الحول ، فلو تنجز عليه ذلك ارتفع موضوع الزكاة ، لأنه مقيد بالتمكن من التصرف ومع تنجز الحرمة لا تمكن عليه.

٥٢

الخامس ـ أن يكون الدليل متكفلاً لحكم يكون بامتثاله رافعاً لموضوع الحكم الثابت بالدليل المورود ، وذلك من قبيل الدليلين الدالين على حكمين متزاحمين بناء على إمكان الترتب ، فإنه بامتثال الحكم الأهم أو المساوي يرتفع موضوع الآخر ، ومنه أيضا الدليل الدال على وجوب صوم شهر رمضان الوارد على دليل وجوب الكفارة على المفطر ، فإنه بامتثاله يرفع موضوع الدليل الآخر ، وإن كان هذا وبعض الأمثلة المتقدمة خارجاً عن باب التعارض إذ لا تنافي فيها بين الجعلين ذاتاً وإنما هو من التعارض المصطنع الناشئ من مجرد تقييد موضوع أحد الدليلين بعدم حكم الدليل الآخر.

٥٣

الوُرُود مِن كِلا الجانبَين

وأما الورود من كلا الجانبين ، فهو إنما يتعقل فيما إذا كان في كل من الدليلين تقييد بعدم الآخر. وهذا على أقسام أيضا.

الأول ـ أن يكون الدليلان متكفلين لحكمين مشروطين بعدم وجود حكم آخر يعارضه أو يزاحمه مطلقاً ، كالدليل الدال على وجوب الحج مع الدليل الدال على وجوب النذر بعد فرض أن كلاّ منهما مشروط بعدم الآخر ، بحيث يكون ثبوت كل منهما رافعاً لموضوع الآخر ووارداً عليه. وهذا القسم من التوارد غير معقول في نفسه ، لأنه مستلزم لتقيد كل من الخطابين بعدم الآخر المستلزم لتوقف كل منهما على عدم الآخر ، وهو دور ، نظير ما يقال ، فيما إذا ادعي توقف الضد على عدم ضده الآخر ، وبهذا الاعتبار سوف يقع التنافي بين الدليلين لا باعتبار اجتماع الحكمين ، فإن المفروض أن كلاً منهما مشروط بعدم الآخر فلا يعقل اقتضاؤهما للجمع بين الحكمين ، بل لأجل القطع بكذب أحد الظهورين لاستحالة صدقهما معاً.

الثاني ـ أن يكون الدليلان متكفلين لحكمين مشروطين بعدم وجود الآخر لا مطلقاً ، بل عدمه على تقدير عدم الأول ، أي أن كلاّ منهما موقوف على العدم اللولائي للآخر لا العدم الفعلي ، فلا دور ، وهذا يعني أنه موقوف على عدم تمامية مقتضي الحكم الآخر في نفسه حتى إذا لم يكن الأول موجوداً.

٥٤

ومثاله ما لو فرضنا أن كلاً من دليلي وجوب الحج ووجوب الوفاء بالنذر مقيد بعدم الآخر كذلك. وفي ذلك لا يمكن أن يصبح شيء من الحكمين فعلياً إذا بقينا وهذين الدليلين ، لعدم توفر الشرط المذكور في شيء منهما. نعم لو علمنا من الخارج بوجوب أحدهما تعييناً أو تخييراً كان ذلك الحكم المعين أو أحدهما المخير فعلياً ، وكذا لو علمنا بوجوب أحدهما إجمالاً ، فإنه يكون مورداً لقوانين العلم الإجمالي.

الثالث ـ أن يكون الدليلان متكفلين لحكمين مقيدين بالعدم الفعلي للآخر ـ لا العدم اللولائي للآخر ـ إلاّ أنه لا يكون مقيداً بعدم المخالف مطلقاً ، بل يكون كل منهما مقيداً بعدم حكم يمتاز ذلك الحكم على الحكم الأول في أنه ليس مقيداً بقيد من قبيل قيد الأول الّذي يقتضي محكوميته للأول بل يكون هو الحاكم على الأول. وحينئذ يكون مقتضى دليل كل منهما وجوبه ولا يتقدم أحدهما على الآخر ، لأن المفروض أن ما قيد بعدمه كل واحد منهما هو حكم يفرض امتيازه عليه وليس في شيء من الحكمين امتياز كذلك فلا يوجد حاكم في المقام ، فيقع التعارض بينهما أو التزاحم.

الرابع ـ أن يكون الدليلان متكفلين لحكمين أخذ في أحدهما العدم اللولائي للآخر ، كما في الصورة الثانية ، وفي الثاني عدم الآخر بالنحو الّذي مضى في الصورة الثالثة ، كما لو فرض أن وجوب النذر مشروط بالعدم اللولائي لما يزاحمه. ووجوب الحج مشروط بعدم حكم آخر مخالف له يمتاز بأنه ليس مقيداً بقيد من قبيل قيد الأول حتى يمنعه عن التقدم. وحينئذ يتقدم هذا الحكم ـ الأقل قيداً ـ على ذاك الحكم المقيد بالعدم اللولائي بالورود.

وهذا هو أحد الوجوه الفنية لتقديم وجوب الحج على وجوب الوفاء بالنذر ، حيث يقال : إن وجوب الوفاء بالنذر مقيد بأن لا يجب ما يزاحمه ولو كان وجوباً ثابتاً لو لا النذر. ولا إشكال في أن الحج واجب لو لا النذر ،

٥٥

إذن فموضوع وجوب الوفاء بالنذر منتف ، وهذا بخلاف وجوب الحج فهو مقيد بعدم حكم مخالف له يمتاز بأنه ليس مقيداً بالقيد الّذي يجعل وجوب الحج صالحاً لرفعه. وهنا لا يوجد حكم كذلك ، فإن الحكم المخالف الموجود مقيد بالقيد المذكور ، فيكون موضوع وجوب الحج تاماً.

هذا كله ، لو فرض تقييد كل من الحكمين بعدم الحكم الآخر. وقد يفرض أن أحدهما يكون مقيداً بعدم الحكم المخالف ، لكن الآخر يكون مقيداً بعدم امتثال الحكم المخالف وفي مثل ذلك يتقدم الثاني على الأول بالورود ، باعتباره الأقل قيداً. وهذا وجه آخر من الوجوه الفنية لتقديم وجوب الوفاء بالنذر ، حيث يقال : إن دليل وجوب الوفاء بالنذر أخذ فيه عدم الحكم المخالف وأن لا يكون محلّلاً للحرام ، ودليل وجوب الحج أخذ فيه القدرة التي تشمل بعد توسيعها عدم اشتغال المكلف بامتثال حكم آخر. فإنه حينئذ يتقدم وجوب الحج على وجوب الوفاء بالنذر ، لاستحالة فعلية الثاني فإن فعليته قبل الاشتغال بامتثاله خلف فعلية الوجوب الآخر المستلزمة لارتفاعه ، وفعليته على تقدير امتثاله مستحيل أيضا ، لعدم معقولية تعليق وجوب شيء على امتثاله.

هذا ويمكنك بالتأمل استخراج أقسام أخرى للتوارد من كلا الطرفين.

٥٦

أَحكامُ الوُرُود

وبعد أن اتضحت لدينا نظرية الورود ، وأقسامه يحسن بنا الحديث عن أحكام الورود. ويمكننا تلخيص أهم أحكام الورود فيما يلي :

الأول : أن ملاك التقديم بالورود لا يفرق فيه بين فرضي كون الدليل الوارد متصلاً بالدليل المورود أو منفصلاً عنه وقد تقدم توضيح ذلك في ذيل عرض نظرية الورود.

الثاني : أن الدليل الوارد يتقدم على الدليل المورود حتى لو كان ظهوره من أضعف الظهورات ، وكان ظهور الدليل المورود من أقوى الظهورات. وذلك لأن الوارد يرفع موضوع المورود حقيقة والمورود لا يتعرض لبيان حال موضوعه فلا يكون هناك أي تناف بينهما في الدلالة ، والترجيح بأقوائية الظهور إنما يتصور في فرض التنافي في الدلالة ولا تنافي فيها بينهما فيؤخذ بكليهما ، ولا محالة يرتفع موضوع المورود في مورد الوارد.

الثالث : أنه لا فرق في تقدم الوارد بين كونه قطعياً أو كونه حجة شرعاً ، أي لا فرق بين كون الخطاب الوارد ثابتاً وجداناً أو تعبداً ، وذلك : لأن دليل التعبد بصدور الخطاب الوارد يكون بنفسه تعبداً بالورود وبارتفاع موضوع دليل المورود أيضا وهو تعبد لا ينافي دلالة الدليل المورود ، ولا شيئاً من اقتضاءاته

٥٧

بوجه ، فلا يمكن تصوير تعارض حقيقي لا بين نفس الوارد والمورود ولا بين دليل حجية الوارد والدليل المورود ولا بين حجية الوارد ودليل حجية المورود.

الرابع : أن الورود لا يحتاج إلى الناظرية بخلاف ما سيأتي في الحكومة إن شاء الله تعالى ، ويتفرع على ذلك أمران.

أ ـ أنه عند تعدد الآثار لموضوع الحكم في الدليل المورود لا نحتاج لإثبات جميع الآثار إلى إطلاق دليل الوارد ، فإن الحاجة إلى الإطلاق فرع الحاجة إلى النّظر ، فإذا كان الوارد إنما يثبت الموضوع تكويناً وحقيقة بلا حاجة إلى النّظر فلا محالة يترتب عليه جميع آثاره ولا حاجة للإطلاق.

ب ـ أنه لا يمكن تخيل اشتراط تأخر زمان الوارد عن زمان المورود ـ كما توهم ذلك في الدليل الحاكم ـ فإن الوارد ليس كالحاكم محتاجاً إلى النّظر إلى المورود حتى يتوهم أن النّظر إليه فرع ثبوته سابقاً عليه مثلا.

الخامس ـ إن الورود لا يحتاج إلى لسان لفظي ، لأنه ليس تصرفاً في الألفاظ من قبيل الحكومة التنزيلية وإنما هو تصرف معنوي حقيقي في ركن من أركان الدليل المورود ، وهو الموضوع ، وذلك يكون حتى في فرض عدم وجود لسان لفظي للدليل الوارد. وهذا بخلاف الحكومة التنزيلية كما سوف يتبين ذلك بوضوح عند دراسة نظرية الحكومة إن شاء الله تعالى.

السادس ـ انه إذا شك في الوارد لا يمكن التمسك بالمورود ، من دون فرق بين الشك في أصل الورود أو في حجمه وسعته بنحو الشبهة المفهومية أو بنحو الشبهة المصداقية ، ومن دون فرق بين الشك في الوارد المتصل أو الوارد المنفصل. فالتفصيلات التي تذكر في التمسك بالعامّ عند الشك في المخصّص بلحاظ كون المخصّص متصلاً أو منفصلاً أو كون الشك بنحو الشبهة المفهومية أو المصداقية إلى غير ذلك ، لا تأتي هنا ، لأن احتمال الوارد مساوق لاحتمال انتفاء موضوع المورود ، فيكون التمسك بالمورود تمسكاً بالعامّ في الشبهة المصداقية لموضوع العام. نعم ، قد يحرز موضوع العام بالاستصحاب إذا لم تكن الشبهة مفهومية.

٥٨

الوُرود بالمَعنى الأعَمّ

٥ ـ التزاحمُ ونظريّة الوُرود

١ ـ تفسير التزاحم على أساس نظرية الورود

٢ ـ مرجحات التزاحم وتخريجها على أساس الورود

٣ ـ حكم التزاحم في حالة عدم الترجيح

٤ ـ تنبيهات باب التزاحم

٥٩

وفي ضوء نظرية الورود يمكن أن نعرف أن باب التزاحم ومرجحاته كلها تطبيقات لنظرية الورود. ولتوضيح ذلك سوف نتحدث في مقامين :

أحدهما ، في تحقيق خروج التزاحم عن باب التعارض الحقيقي ودخول الخطابين المتزاحمين في الورود. وذلك بتحقيق حال الشرطين اللذين اشترطناهما منذ البداية لخروج التزاحم عن باب التعارض الحقيقي. والآخر ، في استنباط مرجحات باب التزاحم من نظرية الورود المتقدمة.

٦٠