بحوث في علم الأصول - ج ٧

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٧

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٢٧

من المرجحين المتعارضين بالعموم من وجه ، وأما إعمال المرجح الثالث عند تكافؤ المتعارضين في المرجحين المتقدمين عليه بأن كان أحدهما موافقاً للكتاب والآخر واجداً لصفات الراوي فسوف يأتي الحديث عنه في الجهة القادمة عند ملاحظة النسبة بين رواية الراوندي والمرفوعة.

وحكم المعارضة الأولى التساقط في مورد اجتماع المرجحين المتعارضين بالعموم من وجه وبالتالي عدم تقدم شيء منهما على الآخر.

لا يقال ـ إن المقبولة لا تدل على عدم مرجحية الصفات كي تعارض بالعموم من وجه مع المرفوعة ، لأنّها بينت الترجيح بموافقة الكتاب في مورد فرغ فيه عن تساوي الراويين ـ وهما الحاكمان ـ في الصفات فلا ينعقد فيها إطلاق لحال فقدان أحدهما للصفة الترجيحية حتى يدل على عدم مرجحية الصفات.

فإنه يقال ـ قد تقدم أن مرجحية الصفات لا بد من لحاظها في الراويين المباشرين لسماع الحديث من المعصوم أو في كل طبقات السند على تقدير التنزل وهذا لم يفرض في المقبولة.

المادة الرابعة ـ الاختلاف بين المقبولة والمرفوعة في الترجيح بمخالفة العامة وموافقة الكتاب. والكلام حول هذا الاختلاف يقع في نقاط ثلاث.

الأولى ـ دلالة المقبولة في نفسها على مرجحية موافقة الكتاب كمرجح مستقل ، إذ ربما يعترض على ذلك بأن الوارد فيها الترجيح بمجموع موافقة الكتاب ومخالفة العامة حيث جمع بينهما بواو العطف. إلاّ أن الصحيح مع ذلك إمكان استفادة مرجحية موافقة الكتاب منها على نحو الاستقلال لما جاء فيه من الحكم بعد ذلك بالترجيح بمخالفة العامة في خبرين نسبتهما إلى الكتاب واحدة. فإن هذا دليل على أن موافقة الكتاب مرجح مستقل وإلاّ لكان ضم الكتاب إلى ما هو في نفسه مرجح مستقل لغواً.

٣٨١

الثانية ـ أن المقبولة هل يستفاد منها تقديم الترجيح بموافقة الكتاب على الترجيح بمخالفة العامة أم لا ، وتظهر ثمرته فيما إذا كان أحدهما مخالفاً للعامة والآخر موافقاً للكتاب ، فإنه بناء على الطولية يؤخذ بما وافق الكتاب وبناء على العرضية يتكافئان.

وتحقيق الحال في هذه النقطة : أن عطف مخالفة العامة على موافقة الكتاب فيه ثلاثة احتمالات.

١ ـ أن يكون مجموع الأمرين هو المرجح. وقد اتضح مما بيناه في النقطة السابقة سقوط هذا الاحتمال.

٢ ـ أن يكون كل منهما مرجحاً مستقلاً في عرض واحد.

٣ ـ أن يكون العطف حشواً في الكلام جيء به توطئة لبيان الترجيح بمخالفة العامة بعد ذلك ، وإشعاراً بأن آراء العامة كثيراً ما تكون مخالفة مع الكتاب. وهذا الاحتمال لو تم استظهاره تمت الدلالة على الطولية بين الترجيحين. ومما يؤيد أن يكون السائل قد فهم الطولية من كلام الإمام عليه‌السلام سكوته عن السؤال عن حكم ما إذا كان أحدهما موافقاً للكتاب غير مخالف للعامة والآخر بالعكس رغم أنه كان بصدد استيعاب كل الشقوق المتصورة للتفاضل والتكافؤ ـ على ما هو واضح من خلال أسئلته ـ فإن الصور المعقولة بلحاظ هذين المرجحين عشرة ، فإن كلاً من الخبرين المتعارضين يتصور في حقه أربع صور. لأنه اما أن يكون واجداً لكلتا المزيتين أو يكون فاقداً لهما معاً أو يكون واجداً لأحدهما فقط ، فهذه صور أربع في كل من الطرفين وينتج من ملاحظتها في الطرفين معاً بضرب الصور الأربع لكل طرف في الأربع من الطرف الآخر ست عشرة صورة يستثنى منها ست مكررة ـ لعدم خصوصية في أحد الخبرين ـ فتبقى عشر صور فهم السائل حكم تسع منها خلال أسئلته المتكررة عن الإمام عليه‌السلام ، وتبقى صورة واحدة هي التي ذكرناها لا يفهم حكمها إلاّ بناء على استفادة الطولية في الترجيح بالمزيتين.

٣٨٢

وتفصيل الصور العشر وكيفية استفادة حكمها من المقبولة على ما يلي :

١ ـ أن يكون أحد الخبرين واجداً للمزيتين معاً والآخر فاقداً لهما معاً ، ويستفاد حكمه صريحاً من قوله عليه‌السلام « ينظر ما وافق حكمه حكم الكتاب والسنّة وخالف العامة فيؤخذ به ويترك ما خالف الكتاب والسنّة ووافق العامة ».

٢ ـ أن يكون أحد الخبرين واجداً للمزيتين معاً والآخر موافقاً للكتاب والعامة معاً ، وحكمه يستفاد من قوله عليه‌السلام « أرأيت إن كان الفقيهان عرفاً حكمه من الكتاب والسنّة فوجدنا أحد الخبرين موافقاً للعامة والآخر مخالفاً بأي الخبرين يؤخذ؟ قال : ما خالف العامة ففيه الرشاد ».

٣ ـ أن يكون كلاهما موافقاً للكتاب وغير مخالف للعامة ، وحكمه يتبين من قوله عليه‌السلام ، « قلت : جعلت فداك فإن وافقها ـ يعني العامة ـ الخبران جميعاً ... إلخ » وقد فرض مسبقاً موافقتهما للكتاب فحكم الإمام عليه‌السلام بالأخذ بما هو أبعد من ميل قضاتهم وحكامهم. إلاّ أن هذه الصورة إنما يستفاد حكمها بالتصريح لو فرض الخبران موافقين للعامة ، وأما لو فرض غير موافقين ولا مخالفين فيستفاد حكمها أيضا بعد أن يضم إلى ذلك استظهار المثالية من فرض موافقة الخبرين للكتاب أو مخالفتهما للعامة ، وكأن المقصود تساويهما من حيث الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامة.

٤ ـ أن يكون أحدهما واجداً للمزيتين معاً والآخر مخالفاً للعامة فقط.

٥ ـ أن يكون أحدهما موافقاً للكتاب فقط والآخر فاقداً للمزيتين معاً.

ويفهم حكم هاتين الصورتين مما تقدم من استظهار مرجحية موافقة الكتاب مستقلاً.

٦ ـ أن يفقد كلاهما كلتا المزيتين.

٧ ـ أن يكون كلاهما مخالفاً للعامة وليس شيء منهما موافقاً للكتاب.

٣٨٣

٨ ـ أن يكون كلاهما واجدين للمزيتين معاً.

وحكم هذه الصور الثلاث يفهم من ذيل المقبولة بعد افتراض السائل تكافؤ الخبرين من ناحية المزيتين ، فإنه وإن فرض في نصّ العبارة موافقتهما للعامة لكن المتفاهم من ذلك عرفاً ـ على ما أشرنا إليه ـ افتراض تساويهما من ناحية هذا الترجيح اما لفقدانهما له معاً أو لوجوده فيهما معاً.

٩ ـ أن يكون أحدهما فاقداً للمزيتين معاً والآخر مخالفاً للعامة غير موافق للكتاب ، وحكم هذه الصورة يفهم أيضا من قوله عليه‌السلام « ما خالف العامة ففيه الرشاد » بعد فرض السائل موافقتهما للكتاب معاً بمعنى تساويهما من ناحية ذلك الترجيح.

١٠ ـ أن يكون أحدهما موافقاً للكتاب غير مخالف للعامة والآخر على العكس ، وهذه هي الصورة التي لا يستفاد حكمها من مجموع الشقوق إلاّ إذا استفيدت الطولية بين المرجحين.

الثالثة ـ أن المقبولة إن فرضنا دلالتها على الترجيح بالصفات أولا ثم بالشهرة فموافقة الكتاب تكون المرجح الثالث فيها ومخالفة العامة هي المرجح الرابع فيها ـ بناء على الطولية بينهما ـ بينما هي المرجح الثالث في المرفوعة ، فالرجوع إلى مخالفة العامة يكون في المرفوعة مقيداً بقيدين ولكنه في المقبولة مقيد إضافة إلى ذلك بقيد ثالث هو عدم الترجيح بموافقة الكتاب ، فلا بدّ من تقييد المرفوعة بالمقبولة.

وإن فرضنا عدم دلالة المقبولة على مرجحية الصفات فتتفق المقبولة مع المرفوعة في المرجحين الأول والثالث ويختلفان في المذكور ثانياً في كل منهما ، وقد عرفت التعارض بين إطلاقهما بنحو العموم من وجه المقتضي بعد التساقط عرضيتهما وتأخر المرجح الثالث ـ وهو مخالفة العامة ـ عنهما معاً.

المادة الخامسة ـ إن المقبولة قد ورد فيها بعد الترجيح بمخالفة العامة ، ترجيح

٣٨٤

ما يكون قضاتهم وحكامهم أبعد عنه ، مع أنه لم يرد ذلك في المرفوعة وإنما ورد الأمر بأخذ ما فيه الحائط للدين.

إلاّ أن المتفاهم عرفاً من مثل هذا البيان أنه مرتبة أدنى في الترجيح بمخالفة العامة وبيان أن هذه المرتبة من البعد عن آرائهم وفتاواهم أيضا كاف في الترجيح.

المادة السادسة ـ أن المقبولة أمرت عند فقدان جميع المرجحات بالاحتياط والوقوف عند الشبهة وإرجاء الواقعة إلى أن يلقى الإمام عليه‌السلام بينما المرفوعة أمرت بالأخذ بما فيه الحائط للدين ، ومع تساويهما من هذه الجهة حكم بالتخيير بينهما.

والبحث عن هذه النقطة يقع من جهتين.

الجهة الأولى ـ في تشخيص أن المستفاد من المرفوعة هل هو الترجيح بموافقة الاحتياط ، أو التساقط والرجوع إلى أصالة الاحتياط في المسألة الفرعية؟

الجهة الثانية ـ في أنه هل يوجد تعارض بينهما في هذه النقطة أم لا؟

أما البحث من الجهة الأولى ، فالظاهر من المرفوعة الترجيح بموافقة الاحتياط ، لا التساقط والرجوع إلى أصالة الاحتياط في المسألة الفرعية. وذلك لأن هذا هو ظاهر قوله فخذ بما فيه الحائطة لدينك. حيث أن المراد باسم الموصول هنا الحديث الموافق للاحتياط والأمر بالأخذ بحديث ظاهر في الإرشاد إلى حجيته في مقابل الآخر ، وهو معنى الترجيح.

هذا ، مضافاً إلى أن الراوي فرض بعد ذلك أن الحديثين معاً موافقان للاحتياط أو مخالفان ، ويتعين أن يكون نظر الراوي في ذلك إلى الحديث بلحاظ مفاده المطابقي لا بلحاظ مجموع ما يستفاد منه ولو التزاماً بنحو يشمل نفي الآخر ، إذ لو كان نظر الراوي إلى المجموع لما تعقلنا فرض كون الحديثين معاً موافقين للاحتياط في مقابل كونهما معاً مخالفين له ، لأنه إن أراد الموافقة المطلقة فهي مستحيلة مع فرض التعارض كاستحالة المخالفة

٣٨٥

المطلقة أيضا ، وإن أراد الموافقة من وجه المساوقة للمخالفة من وجه أيضا فلا يتصور في قباله شق آخر حينئذٍ. وهذا بخلاف ما إذا كان نظر الراوي إلى المفاد المطابقي خاصة ، فإنه يحمل فرض موافقة الحديثين للاحتياط على الموافقة ولو من ناحية ، كما إذا دلت رواية على وجوب التمام ورواية على وجوب التقصير. ويحمل فرض مخالفة الحديثين للاحتياط على المخالفة المطلقة ، كما إذا دلت رواية على أن مواطن التخيير بين القصر والتمام ثلاثة ، هي مكة والمدينة المكرمة ومسجد الكوفة ، ودلت رواية أخرى على أنها ثلاثة ، هي مكة والمدينة والحائر الحسيني. وعلى هذا يتبين أن فرض كون الحديثين معاً موافقين للاحتياط أو مخالفين لا يساوق عدم إمكان الاحتياط ليقال بأن الحجية التخييرية ضرورة يلتجئ إليها المولى في فرض عدم إمكان إجراء الأصل ـ أي الاحتياط ـ بل يلائم مع إمكان الاحتياط ، وحينئذٍ يكون التفكيك بين صورة كون أحد الحديثين موافقاً للاحتياط دون الآخر وصورة كون كلا الحديثين على نحو واحد من جهة الاحتياط موافقة أو مخالفة والالتزام بالتساقط في الأول دون الثاني ، على خلاف الارتكاز العرفي لمناسبات الحجية ، فإن مجرد كون أحد الخبرين موافقاً للاحتياط دون الآخر كيف يكون سبباً لأسوئية حال الخبرين وسقوطهما عن الحجية معاً.

وأما البحث من الجهة الثانية. فبلحاظ الترجيح بموافقة الاحتياط لا تعارض بين المرفوعة والمقبولة ، شأن كل ترجيح يرد في أحد الدليلين ويسكت عنه الدليل الآخر مع اتفاقهما على الترجيحات الأخرى.

وأما بلحاظ الحكم بالتخيير في ذيل المرفوعة ، وبالتوقف في ذيل المقبولة ، فسوف يأتي البحث عنه في أخبار التوقف والإرجاء.

الجهة الرابعة ـ في نسبة المقبولة والمرفوعة إلى رواية الراوندي. والكلام في ذلك تارة : يقع في نسبة المقبولة معها وأخرى : في نسبة المرفوعة إليها.

أما المقبولة. فإن قلنا : ان الترجيح بالصفات فيها يرجع إلى الحاكمين لا

٣٨٦

الراويين وأن الشهرة الواردة فيها ليست من أجل الترجيح وإنما لتمييز الحجة عن اللاحجة ، كانت المقبولة كرواية الراوندي من حيث اشتمالها على ترجيحين ، الترجيح بموافقة الكتاب والترجيح بمخالفة العامة ، فإن استفدنا الطولية بين الترجيحين من المقبولة أيضا كانت كرواية الراوندي تماماً وإلاّ اعتمدنا في ذلك على رواية الراوندي بعد عدم دلالة المقبولة على العرضية. كما ونعتمد في الاكتفاء بمطلق المخالفة للعامة ولو بمرتبة عدم ميل قضاتهم وحكامهم إليه في مقام الترجيح على المقبولة بعد سكوت خبر الراوندي عنه.

وإن قلنا : أن المقبولة تدل على الترجيح بالشهرة والصفات ـ ولا نقول به ـ كان مقتضى القاعدة تقييد إطلاق رواية الراوندي بهما. فلا يصل الدور إلى الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامة إلاّ بعد تكافؤ الخبرين المتعارضين من ناحية صفات الراوي والشهرة.

وربما يقال : بعدم إمكان تقييد رواية الراوندي بالصفات الترجيحية الواردة في المقبولة. إذ قل ما يتساوى فيها الراويان للحديثين المتعارضين ، فيلزم تقييد رواية الراوندي بفرد نادر.

وقد يفصل في صحة ذلك على حسب التفصيل المتقدم في النسبة بين أخبار التخيير وأخبار الترجيح بالأحدث. من عدم المحذور بناء على مسلك المشهور في باب الأحكام الظاهرية القائل بعدم التنافي فيما بينها إلاّ في فرض الوصول ، فإن الموارد التي لا يعرف فيها امتياز أحد الراويين في الصفات ليست بنادرة نعم لا بد وأن لا يتشكل علم إجمالي في دائرة الأخبار المبتلاة بالمعارض المخالفة مع الكتاب بأن الراوي في بعضها أرجح من حيث الصفات وإلاّ فقد حصل الوصول الإجمالي فيرجع الإشكال.

وأما المرفوعة ، فقد ذكر فيها الشهرة أولا ثم الصفات ثم مخالفة العامة ، فإذا جعلنا الشهرة تمييزاً للحجة عن غيرها فسوف يكون عدد المرجحات

٣٨٧

المستفادة منها اثنين كعدد المرجحات في رواية الراوندي مع اختلافهما في الأول منهما فإنه عبارة عن الصفات الترجيحية في المرفوعة وموافقة الكتاب في رواية الراوندي ، فيقع بينهما التعارض بنحو العموم من وجه. فإن لم يدع الجمع العرفي بينهما بالحمل على عرضية المرجحين بتقريب : أنهما لو جمعا في كلام واحد لفهم العرف عرضيتهما والمنفصلات كالمتصلات في مقام العمل ، فلا أقل من التعارض والتساقط في مادة الاجتماع وثبوت العرضية بينهما بحسب النتيجة أيضا. هذا بلحاظ المرجح الأول في كل منهما وأما بلحاظ المرجح الثاني المتفق عليه بينهما ـ وهو الترجيح بمخالفة العامة ـ فإن فقد المرجحان الأولان معاً وصل الدور إليه بلا إشكال ، وإن وجد أحد المرجحين الأولين فلا إشكال أيضا في عدم وصول النوبة إلى الترجيح بمخالفة العامة ، وإنما الإشكال فيما إذا وجد كل من المرجحين في أحد الطرفين. إذ قد يقال حينئذ : بأن مقتضى الجمود على حاق اللفظ في المرفوعة ورواية الراوندي عدم الترجيح بمخالفة العامة إذ الترجيح بها في الأولى مقيدة بعدم كون أحد المتعارضين واجداً للصفات ، وفي الثانية مقيدة بعدم كون أحدهما موافقاً للكتاب. وهذا الإشكال يرد في كل مرجحين اختلف فيهما أخبار العلاج في مقام تقييد مرجح ثالث متفق عليه بينهما ، كما هو الحال في ملاحظة المقبولة والمرفوعة في الجهة السابقة أيضا.

إلاّ أن الصحيح ، هو التفصيل بين استفادة العرضية للمرجحين المختلفين على أساس الجمع العرفي واستفادتها على أساس التعارض بالعموم من وجه والتساقط في مورد الاجتماع ، فإنه على الأول لا يبعد أن يكون مقتضى الجمع بينهما عرفاً عرضية المرجحين المختلف فيهما وتأخر مرتبة المرجح الثالث عنهما معاً. بنحو تصل النوبة إليه عند تساوي المتعارضين بلحاظهما. وأما بناء على الثاني فلا يمكن استفادة ذلك لاحتمال أن يكون أحد المرجحين المتزاحمين في طول الآخر ثبوتاً وإن سقط إطلاق دليل الترجيح به إثباتاً.

٣٨٨

وأما إذا جعلنا الشهرة في المرفوعة أحد المرجحات أيضا فسوف تكون المرجحات المستفادة منها أربعة تتفق معها رواية الراوندي في الأخير فقط ـ وهو مخالفة العامة ـ فلا محالة يتقيد الترجيح بها بفقدان كل تلك المرجحات المتقدمة حملاً للمطلق على المقيد. ويقع التعارض بين تلك المرجحات المتقدمة مع المرجح الأول في رواية الراوندي ـ وهو الترجيح بموافقة الكتاب ـ ويعالج بالنحو المتقدم ، فإن قبلنا الجمع العرفي المشار إليه ـ كما هو الصحيح ـ كانت النتيجة أن الشهرة وموافقة الكتاب في عرض واحد وبعدهما تصل النوبة إلى الصفات ثم إلى مخالفة العامة ، وإن لم نقبل ذلك أصبح إطلاق الترجيح بموافقة الكتاب طرفاً للمعارضة بالعموم من وجه مع إطلاق الترجيح بالشهرة والصفات في المرفوعة ، والنتيجة هي التساقط والعرضية عملياً.

إلاّ أن هذا كله مبنى على تمامية المرفوعة سنداً وقد عرفت عدمها ، وبذلك ينتهي الحديث عن أخبار الترجيح وقد تلخص أن المقدار الثابت بها هو الترجيح بموافقة الكتاب ثم بمخالفة العامة بمراتبها.

٣٨٩

أَخبار التوقّفِ والإرجاء

وهناك طائفة من الروايات قد يستدل بها على لزوم التوقف في موارد تعارض الخبرين وعدم الأخذ بشيء منهما. ويمكن تصنيفها بحسب ما جاء في ألسنتها إلى صنفين :

الأول ـ ما ورد بلسان الأمر بالرد إلى الأئمة عليهم‌السلام من قبيل ما نقله في السرائر نقلاً من كتاب مسائل الرّجال لمحمد بن علي بن عيسى قال : حدثنا محمد ابن أحمد بن محمد بن زياد وموسى بن محمد بن علي بن عيسى قال : « كَتَبتُ إلى الشّيخِ مُوسَى الكَاظمِ أعَزّهُ اللهُ وَأيّدَهُ : أسألُهُ : عَنِ الصّلاةِ ... إلى أن قال : وَسَألتُهُ عَنِ العلمِ المَنقُولِ إلَينَا عَن آبائكِ وَأجدَادِك قَد اختُلِفَ عَلَينَا فيهِ كيفَ نَعمَلُ بهِ عَلى اختلافهِ أو الرّدّ إلَيكَ فِيمَا اختُلِفَ فِيهِ؟ فَكَتَبَ عليه‌السلام مَا عَلِمتُم أنّهُ قَولُنَا فَالزِمُوهُ وَمَا لَم تَعلَمُوهُ فَرُدّوهُ إلَينَا » (١).

وقد ورد هذا اللسان في روايات عديدة اخترنا هذه الرواية منها بالخصوص لورودها في مورد اختلاف الأحاديث وتعارضها وليست واردة في طبيعي الخبر كي يكون مفادها ـ على تقدير تماميتها ـ نفي حجية خبر الواحد

__________________

(١) جامع أحاديث الشيعة ج ١ باب ـ ٦ ـ من أبواب المقدمات ، ص ٦٦.

٣٩٠

فتعارض بأدلة حجيته خبر الثقة أو تخصص بها.

وهذه الرواية وإن لم تقيد بحسب لسانها بما إذا كان الخبران المتعارضان كلاهما من ثقة ، إلاّ أنه لا يبعد أن يستظهر كون السؤال فيها عن تحديد الموقف بسبب الاختلاف في مورد يفرغ فيه عن لزوم الأخذ بالخبر لو لا الاختلاف ، فتكون واردة في خصوص مورد التعارض بين دليلين معتبرين في أنفسهما.

إلاّ أن الاستدلال بهذه الرواية غير تام أيضا. وذلك

أولا ـ لسقوطها سنداً ، باعتبار الجهل بحال صاحب كتاب مسائل الرّجال الّذي ينقل عنه المحقق ابن إدريس هذه الرواية.

وثانياً ـ على تقدير تماميتها تكون مخصصة بما تم من أدلة الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامة. كما أنها معارضة مع أخبار التخيير لو تم شيء منها.

الثاني ـ ما ورد بلسان الأمر بالوقوف عند الشبهة وإرجاء الواقعة إلى حين لقاء الإمام عليه‌السلام. وهو ما جاء في ذيل مقبولة عمر بن حنظلة المتقدمة في أخبار الترجيح. حيث ورد فيه بعد افتراض السائل تساوي الخبرين المتعارضين في جميع المرجحات « إذا كان ذلك فأرجئه حتى تلقى إمامك فإن الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات ».

والاستدلال بهذه الرواية لا ينافي أخبار الترجيح لأنها دلت على التوقف في طول فقدان الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامة ، بل الشهرة والصفات أيضا بناء على استفادة الترجيح بهما من المقبولة. إلاّ أنه قد يتوهم معارضتها مع ما دل على التخيير مطلقاً أو عند فقد الترجيح بأحد المرجحات المنصوصة ، كما في المرفوعة.

والظاهر أنه لا تعارض بين ذيل المقبولة الآمرة بالإرجاء بعد فرض تكافؤ

٣٩١

الخبرين المتعارضين مع أدلة التخيير ، وذلك لما تقدمت الإشارة إليه من أن المقبولة بصدد علاج التعارض بلحاظ موردها ، وهو مورد الخصومة واختلاف الحاكمين ، ومن الواضح أنه في هذا المورد لا معنى للحكم بالترجيح بموافقة الاحتياط ـ كما جاء في ذيل المرفوعة ـ مع تشبث كل من الخصمين بحقه ولا للحكم بالتخيير ـ كما في أخبار التخيير ـ.

نعم ، قد يقال : أن ذيل المرفوعة التي هي بنفسها من أخبار التخيير حيث أنه يدل على أن التخيير في طول استواء نسبة الحديثين إلى الاحتياط إثباتاً ونفياً ، يكون معارضاً لما دل على التخيير بين المتعارضين اللذين يكون أحدهما موافقاً للاحتياط دون الآخر. ولا يبعد الجمع العرفي عندئذٍ بحمل الأمر بالأخذ بالأحوط على الاستحباب ، فإن الأمر الطريقي يتصور فيه الوجوب والاستحباب أيضا تبعاً لمرتبة شدة الاهتمام وضعفه ، فكأن اللازم طريقيا اختيار أحدهما والمستحب طريقياً اختيار ما كان موافقاً للاحتياط.

٣٩٢

تنبيهاتُ المسألة الثانية

التنبيه الأول ـ لو افترض تمامية الاستدلال بأخبار التخيير في حالات التعارض مطلقاً ، أو في فرض عدم وجدان أحد المرجحات السابقة ، فهل يثبت بها التخيير في المسألة الأصولية أو التخيير في المسألة الفقهية؟

والبحث عن ذلك يقع في عدة جهات.

الجهة الأولى ـ في الفرق بين التخييرين. لا إشكال في أن الحكم بالتخيير في حالات التعارض حكم شرعي ظاهري وليس واقعياً. وإنما البحث حول تشخيص كونه حكماً تكليفياً فرعياً فيكون التخيير في المسألة الفقهية ، أو حكماً وضعياً أصولياً فيكون التخيير في المسألة الأصولية.

والمراد بالحكم التكليفي الفرعي ـ التخيير الفقهي ـ الترخيص العملي للمكلفين في تطبيق سلوكهم وفق أحد الدليلين المتعارضين.

والمراد بالحكم الوضعي الأصولي ـ التخيير الأصولي ـ حجية أحد المتعارضين ، وهو الّذي يختاره المكلف ـ بإحدى الصياغات المعقولة التي سوف يأتي الحديث عنها ـ فالفرق الثبوتي بين التخييرين يتمثل في أن الحكم التكليفي العملي للمكلفين لا يتحدد في التخيير الأصولي بنفس ما هو المجعول

٣٩٣

التشريعي فيه ـ كما هو الحال في التخيير الفقهي ـ ، وإنما يحدده ما سوف يختاره المكلف فيكون مفاده حجة عليه تعييناً. فإذا كان أحد المتعارضين يدل على وجوب القصر في المواطن الأربعة مثلاً واختاره المكلف صار حجة عليه ، وأصبح تكليفه العملي وجوب القصر فيها شأنه في ذلك شأن ما إذا لم يكن لدليل وجوب القصر معارض أصلاً. وهذه هي النتيجة المتوخاة من التخيير في الحجية ـ التخيير الأصولي ـ

الجهة الثانية ـ في معقولية هذين النحوين للتخيير ثبوتاً. لا إشكال في معقولية التخيير الفقهي وذلك بأن يرخص المولى أن يُطبق العبد عمله على طبق أحد الخبرين بنحو لا يخالفهما معاً. وإنما يقع البحث في كيفية صياغة التخيير في المسألة الأصولية فهل يراد به سنخ ما يقال في الوجوب التخييري أولا؟ والصياغة المعروفة في باب جعل الوجوب التخييري تكون بأحد شكلين إما إيجاب الجامع بين الفعلين أو إيجاب كل منهما مشروطاً بترك الآخر. والأول منهما يستبطن جعلاً واحداً بينما الثاني يتضمن جعلين مستقلين ، والمعقول من هذين الشكلين لكيفية جعل الحكم التخييري في المقام هو الثاني لا الأول فهنا دعويان لا بد من تمحيصهما.

الدعوى الأولى ـ عدم معقولية جعل الحجية التخييرية كجعل واحد على حد جعل وجوب تخييري للجامع.

الدعوى الثانية ـ معقولية جعل الحجية التخييرية كجعلين مشروطين.

أما برهان الدعوى الأولى : فهو أن الغرض المرغوب فيه في باب الوجوب التخييري حمل المكلف على إيجاد أحد الفردين من الجامع لا كليهما ، وهذا الغرض يحصل بتعلق الوجوب بالجامع بنحو صرف الوجود ، فإن إيجاب الجامع بنحو صرف الوجود وإن كان لا يسري إلى الأفراد ـ لأن سريانه إلى بعض دون بعض ترجيح بلا مرجح وسريانه إلى الجميع خلف كونه بنحو

٣٩٤

صرف الوجود ـ لكنه مع ذلك يبعث المكلف نحو الإتيان بفرد من الأفراد لأن الجامع لا يتحقق إلاّ بذلك. وأما الغرض المطلوب من الحجية التخييرية فهو تنجيز مفاد أحد الدليلين المتعارضين تعييناً كما إذا لم يكن له معارض وهذا لا يتحقق عن طريق جعل الحجية للجامع بين الخبرين. وتوضيحه : أن الخبرين تارة : يفترض أنهما يدوران بين النفي والإثبات ـ أي الإلزام والترخيص ـ وأخرى : يفترض أنهما معاً إلزاميان ـ كما لو دل أحدهما على وجوب الظهر والآخر على وجوب الجمعة ـ وفي كلا التقديرين لا نتوصل إلى غرض الحجية التخييرية من جعلها للجامع بين الدليلين ، إذ غاية ما يلزم من ذلك قيام الحجة على الجامع بين الإلزام والترخيص في الأول والإلزامين في الثاني ، والأول لا أثر له لأنه ليس بأحسن حالاً من العلم الوجداني بالجامع بين الترخيص والإلزام ، والثاني يوجب الاحتياط والإتيان بالطرفين وكلاهما خلاف الغرض المطلوب من وراء جعل الحجية التخييرية وهو تعيّن أحد الطرفين حين الالتزام به. بل لا بد في تحقق هذا الغرض من أن ينصب الجعل على شخص أحد الدليلين المتعارضين ، وقد عرفت أن الجعل المتعلق بالجامع بنحو صرف الوجود يستحيل سريانه إلى أفراد ذلك الجامع.

وأما الدعوى الثانية ـ فجعل الحجية المشروطة في الطرفين أمر معقول ومنسجم مع الغرض المطلوب من الحجية التخييرية ، إلاّ أن الكلام في كيفية تحديد الشرط لهذه الحجية بنحو لا يستوجب الجمع بين الحجيتين في بعض الأحيان. وقد ذكر المشهور أن الشرط عبارة عن التزام المكلف بأحد الخبرين فكل ما التزم به من المتعارضين يكون هو الحجة فعلاً عليه ، وبما أن العاقل لا يتأتى منه التزامان متهافتان فلا يتفق أن تجتمع في حقه حجيتان وإن كان يجب عليه أحد الالتزامين وجوباً طريقياً.

وهذا المعنى أمر معقول وإن كان لا يخلو عن غرابة تشريعية باعتبار أن الالتزام لم يكن شرطاً في حجية دليل في غير موارد التعارض فكيف يكون

٣٩٥

شرطاً لها في موارد التعارض. على أن الموافقة الالتزامية بأحد الدليلين التي تكون نوعاً من التشريع قبل حجية ذلك الدليل إنما يسمح بها في طول الحجية فكيف صارت الحجية في طولها. ويمكن تفادي هذه الاستغرابات بتبديل الشرط وجعله عبارة عن ما يختاره المكلف مع لزوم أحد الاختيارين عليه. كما يمكن فرض إعطاء أمر تشريع إحدى الحجيتين إلى المكلف نفسه ، فهو الّذي يجعل أحد الخبرين حجة لنفسه ، إلاّ أن هذا يستبطن أيضا غرابة تجويز التشريع وإعطائه بيد المكلف.

الجهة الثالثة ـ فيما يفتي به الفقيه في موارد التعارض. أما على القول بالتخيير في المسألة الفقهية فيتعين على الفقيه أن يفتي بنفس هذا التخيير كحكم تكليفي ظاهري.

وأما إذا قيل بالتخيير في المسألة الأصولية ، وفرض اختيار الفقيه لأحد الخبرين المتعارضين ، فهل يفتي المقلدين بالتخيير الأصولي أو يفتيهم بمفاد الخبر الّذي تعين عليه.

أما إفتاؤه بالتخيير الأصولي فلا محذور فيه عدا ما قد يتوهم من أن الأحكام الأصولية مختصة بالمجتهد ولا تثبت في حق المقلدين ، وقد أبطلنا هذا التوهم مفصلاً في مبحث حجية القطع من هذه البحوث.

وأما إفتاؤه بمفاد الخبر الّذي صار حجة في حقه ففيه جنبتان لا بد من ملاحظتهما.

الجنبة الأولى ـ كونه إخباراً منه بما أنزله الله وفرضه على عباده.

الجنبة الثانية ـ كونه حجة على المقلدين بحيث يتعين عليهم الالتزام به والسير على طبقه.

والجنبة الأولى من هاتين لا إشكال فيها بعد فرض حجية الخبر الّذي اختاره ، فيمكنه أن يخبر بمدلوله كحكم شرعي ، كما هو الحال في غير موارد

٣٩٦

التعارض. وأما الجنبة الثانية ، فيشكل إثباتها في المقام ، والوجه في ذلك : أن التقليد ليس أمراً تعبدياً صرفاً ، وإنما هو بملاك رجوع الجاهل إلى العالم والخبير ، وإفتاء الفقيه بمفاد الخبر الّذي أصبح حجة عليه في قبال الخبر الآخر لم يكن على أساس علم وخبرة مفقودة للمقلد وإنما لمحض الرغبة والاختيار الشخصي فالمقلد شأنه شأن المجتهد في أنه يختار أي الخبرين شاء ويكون هو الحجة عليه.

الجهة الرابعة ـ في أن أي التخييرين يستفاد من أخبار التخيير على تقدير تماميتها؟ وبما أن التخيير الأصولي هو المشتمل على مئونة زائدة فبالإمكان تقريب استفادته من أخبار التخيير بأحد الوجوه التالية.

الأول ـ قد ورد في ألسنة بعض تلك الأخبار التعبير بالأخذ ، من قبيل قوله عليه‌السلام « فموسع عليك بأيهما أخذت من باب التسليم كان صواباً » ومقتضى إطلاقه شموله للأخذ العملي والأخذ المفادي معاً ، أي الأخذ بمفاد الخبر والالتزام به ، والتوسعة في الأخذ المفادي مساوق مع الحجية الأصولية. وهذا التقريب لا يرد في لسان آخر من قبيل قوله عليه‌السلام « موسع عليك حتى ترى القائم » ولا يقال : أن السعة بإطلاقها تشمل السعة في العمل والسعة في الأخذ ، فإن السعة عرفاً تكون في مقابل الضيق ولا ضيق عرفاً من عدم التخيير الأصولي المساوق لعدم صحة الالتزام بمفاد معين وإنما الضيق في الاحتياط العملي فيكون السعة عبارة عن التخيير العملي الفقهي أيضا.

الثاني ـ استظهار ناظرية أخبار التخيير إلى دليل الحجية العام لتدارك قصوره عن شمول موارد التعارض ، فيكون مفادها جعل الحجية أيضا لا مجرد التخيير العملي.

الثالث ـ أن غاية ما يمكن أن يقال في أخبار التخيير عدم دلالتها على التخيير الأصولي ، فيكون التخيير العملي هو القدر المتيقن من مفادها لا دلالتها على عدم التخيير الأصولي. وحينئذ بالإمكان إثبات الحجية التخييرية بالتلفيق

٣٩٧

بين المتيقن من مفاد أخبار التخيير وبين دليل الحجية العام ، فإن إطلاق دليل الحجية العام لكل منهما في حال الالتزام به إنما سقط بالمعارضة مع إطلاقه لحجية الآخر في نفس هذه الحال ولكن أخبار التخيير تسقط هذا الإطلاق على كل تقدير ، لأن التخيير سواء كان أصولياً أو فقهياً لا يجتمع مع الحجية المطلقة لأحد الطرفين ، فلا يبقى مانع من التمسك بإطلاق دليل الحجية العام لإثبات الحجية المشروطة في الطرفين وهو معنى الحجية التخييرية.

لا يقال ـ دليل الحجية العام بعد أن ابتلي بالإجمال والتعارض الداخليّ لا يمكن التمسك به ولو وجد قرينة منفصلة ترفع أحد إطلاقاته المتعارضة.

فإنه يقال ـ ظاهر دليل الحجية شمول كل من الطرفين مشروطاً بعدم الحجية المطلقة في الطرف الآخر ، وقد ثبت هذا الشرط بأخبار التخيير.

التنبيه الثاني ـ هل التخيير على تقدير ثبوته ابتدائي أم استمراري؟ والبحث عن ذلك على مستوى ما يستفاد من أخبار التخيير أولا ، وما تقتضيه الأصول العملية ثانياً.

أما البحث الأول ، فضابطه ، أنه تارة : نستفيد من أخبار التخيير قضية حملية مطلقة شمولية فكأنه قال : المأخوذ من الخبرين المتعارضين حجة ، فيكون التخيير استمرارياً ، وأخرى : نستفيد منها الأمر بأخذ أحد الخبرين ـ بنحو الإطلاق البدلي لأن متعلق الأمر ملحوظ بنحو صرف الوجود دائماً ـ فإن كان يستفاد منها الانحلالية بلحاظ الوقائع الطولية في عمود الزمان فأيضاً يستفاد استمرارية التخيير ، وإن كان بنحو يلحظ فيه مجموع الوقائع كواقعة واحدة قد أمرنا بأخذ أحد الدليلين المتعارضين فيها فهذا مطلق بدلي قد امتثل باختيار أحد الخبرين في أول الأمر فلا تبقى فيه دلالة على استمرارية التخيير بعد ذلك.

وأما البحث الثاني ـ فالأصل العملي الّذي يمكن أن يتمسك به لإثبات

٣٩٨

استمرارية التخيير إنما هو الاستصحاب. وقد أورد عليه : بأن موضوع الحكم المستصحب غير محفوظ فيه ، لأنه عبارة عن المتحير الّذي لا حجة تعيينية له والمكلف بعد أن اختار أحد المتعارضين صار حجة عليه وخرج عن التخيير. وأجيب عن هذا الاعتراض : بأن الموضوع ليس هو المتحيّر إذ لم يؤخذ ذلك في أدلة التخيير وإنما المأخوذ فيها الخبران المتعارضان وهو بقاء محفوظ كما هو حدوثاً.

وتحقيق الكلام في هذا الاستصحاب ، أنه تارة : نبي على التخيير الأصولي ونحاول إثبات استمراره بالاستصحاب ، وأخرى : نبني على التخيير الفقهي ونريد إثبات بقائه بالاستصحاب.

أما التخيير الأصولي ، فهو منحل إلى حكمين ـ على ما تقدمت الإشارة إليه ـ حجية ما اختاره المكلف ، والأمر بأخذ أحدهما كوجوب طريقي. فإن أريد إجراء الاستصحاب في الحكم الثاني ، فاستصحابه لا يثبت حجية ما أخذ به في الزمان الثاني إذ ليس ترتبها عليه من باب ترتب الحكم على موضوعه كما هو واضح. وإن أريد إجراء الاستصحاب في الحكم الأول فمرجعه إلى استصحاب تعليقي ، بأن يقال : إن ما اختاره في المرة الثانية لو كان يختاره سابقاً كان حجة عليه فهو كذلك بقاء ، بل هذا الاستصحاب أشد إشكالاً من استصحاب الحرمة التعليقية للعصير العنبي الّذي بنى المحقق الخراسانيّ ـ قده ـ على جريانه ، لأن إشكال التعارض بينه وبين استصحاب الحلية التنجيزية كان يمكن التغلب عليه هناك بدعوى : أن الحلية مغياة بعدم الغليان والحلية المغياة مع الحرمة التعليقية متوالمتان بوجودهما الوجداني الواقعي فكيف يتعارضان بوجودهما الاستصحابي الظاهري ، واستصحاب الحلية المغياة ينفي الحلية الفعلية بعد حصول الغاية لا قبلها. وأما في المقام فدعوى التعارض المذكور بين هذا الاستصحاب واستصحاب الحجية الفعلية لما أخذ به ابتداء لا جواب عليها ، لأن الحجية بقاء لا يعلم كونها مغياة بعدم الأخذ

٣٩٩

بالآخر كما كانت الحلية مغياة هنالك ليكون عدم الأخذ بالآخر شرطاً في حدوث الحجية فقط.

وأما التخيير الفقهي الّذي هو حكم تكليفي ، فلا إشكال في جريان الاستصحاب فيه.

التنبيه الثالث ـ في شمول أخبار العلاج لموارد الجمع العرفي. قد يقال بإطلاق لسان الروايات المتضمنة لعلاج حالات التعارض بين الحديثين لموارد التعارض غير المستقر أيضا فيما إذا كان بين مدلول الدليلين تعارضاً حقيقياً ـ كما في غير الورود من أقسام التعارض غير المستقر ـ ، فإن هذا القسم من التعارض وإن لم يكن سارياً إلى دليل الحجية ، إلاّ أن الميزان في الرجوع إلى أخبار العلاج ليس هو التنافي في الحجية ، بل الوارد في مفادها مطلق التعارض والاختلاف في الحديث وهو ثابت حتى مع عدم سريان التنافي إلى دليل الحجية.

إلاّ أن الصحيح عدم تمامية هذا البيان. وما يمكن أن يذكر في الجواب عليه أحد وجوه نقتصر منها على ما يلي :

الوجه الأول ـ أن الظاهر من أسئلة الرّواة لأخبار العلاج كونهم واقعين في الحيرة من جراء التنافي الّذي يجدونه بين الحديثين ، ومن البعيد عادة أن يقع الراوي بما هو إنسان عرفي في التحير مع وجود جمع عرفي بين ، المتعارضين فهذه قرينة معنوية تصرف ظواهر هذه الأخبار إلى موارد التعارض المستحكم خاصة.

وهذا الوجه غير تام. لأن التحيّر في الحجة وإن لم يكن موجوداً لدى الإنسان العرفي في موارد الجمع العرفي ، إلاّ أن هذا لا ينافي أن يكون سؤاله عن مطلق موارد الاختلاف والتعارض ـ كما هو مقتضى الإطلاق ـ لإمكان أن يكون مستفهماً عن احتمال وجود طريقة خاصة متبعة لدى الشارع في موارد التنافي بين أحاديثه.

٤٠٠