بحوث في علم الأصول - ج ٧

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٧

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٢٧

التخيير التي لا بد من تقييدها بأخبار الترجيح ان تمت في نفسها إلاّ أن سندها غير تام للإرسال فيه.

ومن جملة ما يدل على الترجيح بهذا المرجح ، مقبولة عمر بن حنظلة ومرفوعة زرارة اللتان يقع الحديث عن مفادهما مفصلاً في الترجيح بالصفات.

وهكذا يتضح أن الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامة تام على أساس رواية الراوندي المتضمنة للترجيح بهما بنحو الترتب والطولية بينهما.

٢ ـ الترجيح بالشهرة

: وأهم ما يدل على هذا المرجح المقبولة والمرفوعة اللتان سوف يأتي الحديث عنهما مفصلاً في الترجيح بالصفات.

وهناك رواية للطبرسي ورد فيها : « وَرُوِيَ عَنهُم عليه‌السلام أنّهُم قَالُوا : إذَا اختَلَفَت أحَادِيثُنَا عَلَيكُم فَخُذُوا بِمَا اجتَمَعَت عَلَيهِ شيعَتُنَا فَإنّهُ لا رَيبَ فِيهِ » (١).

والمراد باجتماع الشيعة إن كان الاجتماع في الرواية فهو مساوق مع التواتر ولا إشكال حينئذ في لزوم العمل به وطرح الخبر المخالف له ، وإن كان المراد اجتماع الشيعة عليه في العمل والفتوى كان معناه مرجحية الشهرة الفتوائية ، ولا يبعد ظهورها في الأخير باعتبار إضافة الاجتماع فيها إلى الشيعة لا إلى الرّواة بالخصوص مما يناسب أن يكون المراد منه الاجتماع في الرّأي والعمل.

والرواية وإن كانت ضعيفة سنداً بالإرسال ، إلاّ أن مفادها يثبت في الفقه كثيراً على مقتضى القاعدة ، لأن اجتماع الشيعة إن لم يورث الاطمئنان الشخصي للفقيه بالحكم فكثيراً ما يكشف عن خلل في الخبر المخالف له بنحو

__________________

(١) المصدر السابق.

٣٦١

يسقطه عن الحجية. وهذه الطائفة من أخبار الترجيح لو تمت سنداً ودلالة تقدمت على أخبار التخيير بالتخصيص ، وأما نسبتها إلى خبر الراوندي وغيره مما دل على الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامة فعموم من وجه ، وسوف يأتي مزيد توضيح لهذه النقطة لدى التعليق على الاستدلال بالمقبولة والمرفوعة.

٣ ـ الترجيح بالأحدثية:

والمراد بالأحدثية ، صدور الخبر في زمن متأخر عن زمن صدور الآخر وأهم ما ورد في لسان هذا الترجيح كمرجح لأحد المتعارضين على الآخر روايتان. إحداهما ـ رواية هشام بن سالم عن أبي عمرو الكناني قال : « قال أبُو عَبدِ اللهِ عليه‌السلام : يا أبَا عُمر أرَأيتَ لَو حَدّثتُكَ بِحَدِيثٍ أو أفتَيتُكَ بِفُتيَا ثُمّ جِئتَني بَعدَ ذَلِكَ فَسَألتَني عَنهُ فَأخبَرْتُكَ بِخِلافِ ذَلِكَ بِأيّهمَا كُنتُ تَأخُذُ؟ قُلتُ : بِأحدَثِهِمَا وَأدَعُ الآخَرَ. فَقَالَ ، قَد أصَبتَ يا أبَا عَمرو ، أبَى اللهُ إلاّ أن يُعبَدَ سِرّاً. أما وَاللهِ لأن فَعَلتُم ذَلِكَ إنّهُ لَخَيرٌ لي وَلَكُم ، وأبَى اللهُ عَزّ وَجَلّ لَنَا وَلَكُم في دِينِهِ إلاّ التّقِيّةُ » (١).

والثانية ـ رواية الحسين بن مختار عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « أرَأيتُكَ لَو حَدّثتُكَ بِحَدِيثٍ العَامَ ثُمّ جِئتَني مِن قابِل فَحَدّثتُكَ بِخِلافِهِ بِأيّهِمَا كُنتَ تَأخُذُ؟ قَالَ : قُلتُ. كُنتُ آخُذُ بالأخِيرِ. فَقَالَ : رَحِمَكَ اللهُ » (٢).

والبحث عن هذه الطائفة من أخبار الترجيح يقع في نقاط.

النقطة الأولى ـ حول سند الروايتين. أما الرواية الثانية فهي ساقطة سنداً باعتبار الإرسال الواقع فيه. وأما الرواية الأولى فهي ضعيفة بأبي عمرو الكناني

__________________

(١) جامع أحاديث الشيعة ج ١ باب ـ ٦ ـ من أبواب المقدمات ، ص ٦٦.

(٢) جامع أحاديث الشيعة ج ١ باب ـ ٦ ـ من أبواب المقدمات ، ص ٦٦.

٣٦٢

الّذي لم يثبت توثيقه. نعم قد نقل السيد البروجردي ـ قده ـ في جامع أحاديث الشيعة سنداً آخر لها عن صاحب الوسائل عن البرقي في المحاسن عن أبيه عن محمد بن أبي عمير عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه‌السلام مثله. وهذا سند صحيح يمكن أن يتم على أساسه الحديث إلاّ أن الظاهر سقوط أبي عمرو في هذا السند سهواً فهشام بن سالم ينقل الرواية عن أبي عمرو الكناني أيضا ، والقرينة على ذلك توجه الخطاب إلى أبي عمرو في كلام الإمام عليه‌السلام مرتين. ولو تنزلنا عن ذلك وقع التهافت في النقل بين السندين بعد استبعاد كونهما روايتين.

النقطة الثانية ـ في علاقتها بأخبار التخيير وأخبار الترجيح بأحد المرجحات الأخرى ، فهل تكون معارضة لها أو مخصصة؟

والصحيح هو التفصيل بين تقديرين.

التقدير الأول ـ أن نبني في بحث حقيقة الأحكام الظاهرية على ما هو المختار عندنا من أنها كالأحكام الواقعية تتعارض بمجرد ثبوتها واقعاً إذا كانت متنافية في أنفسها ، فلا محالة يقع التعارض بين روايات الأخذ بالأحدث مع أخبار التخيير أو الترجيح بسائر المرجحات ، لأن فرض التقارن بين الخبرين صدوراً وعدم كون أحدهما أحدث من الآخر ، نادر جداً.

التقدير الثاني ـ أن نبني على ما هو المشهور من أن الحكمين الظاهريين المتنافيين يتعارضان في مرحلة الوصول ، وحينئذ لا يظهر التعارض بين روايات الأخذ بالأحدث مع سائر أخبار الباب إلاّ فيما إذا علمنا بما هو الأحدث. فيمكن تخصيص تلك الأخبار بغير موارد العلم بالأحدثية ـ كما هو الغالب في الخبرين الصادرين من إمام واحد ـ والعلم الإجمالي بأحدثية أحدهما لا أثر له لأنه علم إجمالي مردد بين الترخيص والإلزام فلا يكون منجزاً. فإذا فرض أن روايات الأخذ بالأحدث كانت أخص مطلقاً من تلك الأخبار ـ

٣٦٣

كما هو كذلك بالنسبة إلى أخبار التخيير ـ خصصت الأخيرة بها وإن كانت النسبة عموماً من وجه ـ كما هو الحال بالنسبة لأدلة الترجيح ـ كان حالها حال التعارض فيما بينهما بلحاظ بعض المرجحات ، على ما سوف يأتي الحديث عنه إن شاء الله تعالى.

النقطة الثالثة ـ ربما يقال بتقديم أخبار التخيير أو الترجيح بسائر المرجحات على هذه الطائفة ولو فرض استحكام التعارض بينهما وذلك على أساس أحد تخريجين.

التخريج الأول ـ إن في أخبار التخيير أو الترجيح ما هو أحدث من روايات الأخذ بالأحدث لورود بعضها عن الأئمة المتأخرين زماناً عن الإمام الصادق ـ عليهم‌السلام ـ فيكون أحدث من هذه الطائفة فتتقدم بحكم هذه الأخبار نفسها.

وفيه : أولاً : إن هذا البيان إنما يمكن توجيهه فيما إذا علم بصدور إحدى الطائفتين المتعارضتين حيث يمكن أن يقال حينئذ بلزوم الأخذ بأخبار التخيير أو الترجيح بسائر المرجحات إما لكونها هي الصادرة واقعاً أو لأن ما هو الصادر ـ وهو أخبار الأخذ بالأحدث ـ تأمرنا بذلك. ولكنا لا نعلم بصدور إحدى الطائفتين فلا بد من الرجوع إلى دليل الحجية العام ونسبته إليهما على حد واحد. والمفروض عدم إمكان شموله لهما معاً وشموله لإحداهما دون الأخرى ترجيح بلا مرجح.

وثانياً ـ لو فرضنا العلم بصدور إحداهما فأيضاً لا يتم هذا التخريج. إذ يلزم منه أن تسقط أخبار الأخذ بالأحدث عن الحجية في تمام الموارد عدا مورد واحد وهو تقديم معارضها الأحدث المتمثل في أخبار التخيير أو الترجيح بأحد المرجحات الأخرى ، وهذا كتخصيص الأكثر إلغاء للدليل رأساً.

التخريج الثاني ـ إن أخبار الأخذ بالأحدث بشمولها لنفسها بلحاظ معارضتها مع ما هو أحدث منها تسقط عن الحجية ، إذ يلزم من حجيتها عدم حجيتها ،

٣٦٤

فنأخذ بأخبار التخيير أو الترجيح بسائر المرجحات بدون معارض.

وفيه : أن الساقط عن الحجية لاستلزام حجيته عدم حجيته هو إطلاق أخبار الأخذ بالأحدث لنفسها لا أصلها ، واحتمال التفكيك بينهما وبين سائر الموارد موجود فلا موجب لرفع اليد عن حجيتها بلحاظ موارد التعارض الأخرى ، فيكون معارضاً مع أدلة التخيير أو الترجيح بسائر المرجحات.

النقطة الرابعة ـ حول دلالة هذه الطائفة على الترجيح بالأحدثية. والصحيح أنها لو فرض تمامية دلالتها على الترجيح فإنما تدل عليه في غير محل الكلام ، لأن الترجيح بالأحدثية حكم تعبدي بحت لا يطابق القواعد العقلائية المرتكزة في باب الطريقية فلا محالة يقتصر فيه على مورد النص بعد أن لم يكن فيه إطلاق لفظي. فإن كلمات الأئمة عليهم‌السلام تنظر جميعاً إلى وقت واحد وتكشف عن حكم شرع في صدر الإسلام فلا أثر لمجرد كون أحد الخبرين أحدث من الآخر صدوراً في الكاشفية والطريقية التي هي ملاك الحجية والاعتبار. ومورد هذه الطائفة تتضمن خصوصيتين.

أولاهما ـ كون الحديثين قطعيين سنداً ومسموعين من الإمام عليه‌السلام مباشرة فلا يمكن التعدي منهما إلى الظنيين ، لاحتمال دخل القطع بالصدور في هذا الحكم ، إذ ليس حكماً واقعياً حتى يكون ظاهرا أخذ قيد القطع في لسان دليله كونه طريقاً إلى الواقع المقطوع به ، بل هو حكم ظاهري تعبدي يعقل أن يكون للشك واليقين دخل فيه.

ثانيتهما ـ معاصرة السامع للحديث الأحدث وحضوره في مجلس الصدور ، لأن المفروض فيها ذلك بمقتضى قوله عليه‌السلام ثم جئتني من قابل فحدثتك بخلافه ، فلعل لهذه الخصوصية دخلاً في الحكم المذكور أيضا.

وهذه الخصوصية بنفسها يمكن إبرازها أيضا في رواية أخرى من هذه الطائفة وهي رواية معلى بن خنيس قال : « قُلتُ لأبي عَبدِ اللهِ عليه‌السلام إذَا

٣٦٥

جَاءَ حَدِيثُ عَن أوّلِكُم وَحَدِيثُ عَن آخِرِكُم بِأيّهِمَا نَأخُذُ؟ فقال : خُذُوا بِهِ حَتّى يَبلُغَكُم عَن الحَيّ فَإن بَلَغَكُم عَنِ الحَيّ فَخُذُوا بِقَولِهِ » (١).

فإن هذه الرواية قد لا يتجه في حقها احتمال اختصاصها بمعلومي الصدور ، لأنه قد عبر فيها بمجيء الحديث الّذي قد يدعى إطلاقه للأخبار الآحاد ، إلاّ أن الخصوصية الثانية واضحة في موردها. مضافاً إلى ضعف سندها.

والتحقيق أن هذه الطائفة ليست من أدلة الترجيح أصلاً بل مفادها أمر آخر. وتوضيح ذلك :

أن الحديث الأحدث المسموع من الإمام عليه‌السلام فيه ظهوران. أحدهما الظهور في كونه بصدد بيان الحكم الواقعي العام. والثاني ظهوره في بيان وظيفة السامع الفعلية التي قد تكون واقعية وقد تكون لظروف التقية ـ كما في قصّة علي بن يقطين مع الإمام موسى بن جعفر عليه‌السلام ـ والظاهر أن المقصود من الأخذ بالأحدث في هذه الروايات ملاحظة الظهور الثاني في حق السامع والتأكيد على لزوم اتباعه على كل حال ، لا ترجيح الأحدث بلحاظ ظهوره الأول الكاشف عن الحكم الواقعي العام. ومما يشهد لهذا الفهم ، مضافاً إلى كون الأحدثية لا تتضمن أية مناسبة عقلائية للترجيح في باب الحجية فمن المستبعد جداً افتراض دخلها شرعاً في هذا الباب ، التفات السائل لهذا الترجيح بنفسه حيث أجاب على سؤال الإمام بأنه يأخذ بالأحدث ، مما يعني أن هذا المعنى كان واضحاً مركوزاً لدى العرف ، وذلك لا يكون إلاّ بالاعتبار الّذي أوضحناه.

وأيضا مما يعزز هذا الفهم ، ما ورد في ذيل رواية الكناني ، من قوله عليه‌السلام « أبى الله إلا أن يعبد سراً ، أما والله لئن فعلتم ذلك انه لخير لي ولكم وأبى الله عز وجل لنا ولكم في دينه إلاّ التقية ». وهذا صريح في أن نظر الإمام عليه‌السلام

__________________

(١) جامع أحاديث الشيعة ، ج ١ باب ـ ٦ ـ من أبواب المقدمات ، ص ٦٦.

٣٦٦

على تقدير صدور الحديث ـ إلى ما هو وظيفة السامع بالفعل ولو من أجل التقية.

وأخيراً يمكننا أن نستظهر هذا المعنى من هذه الروايات وما افترض فيها من سماع المكلف بنفسه الحديث المخالف لما كان يعرفه من رأي الإمام عليه‌السلام سابقاً الّذي يعني قطعية الحديثين سنداً ودلالة المستدعي حصول القطع عرفاً بأن ما وافق منهما العامة إنما صدر مراعاة لظروف التقية المعاشة وقتئذٍ ، فيكون مساقها مساق روايات أخرى وردت بهذا الشأن من قبيل رواية أبي عبيدة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « قَالَ لي : يا زِيَادُ مَا تَقُولُ لَو أفتَينَا رَجُلاً مِمّن يَتَوَلاّنَا بِشَيءٍ مِنَ التّقِيّةِ؟ قَالَ : قُلتُ لَهُ : أنتَ أعلَمُ جُعِلتُ فِدَاكَ. قَالَ : إن أخَذَ بِهِ فَهُوَ خَيرٌ لَهُ وَأعظَمُ أجراً. قَالَ : وفي رواية أخرى : إن أخَذَ بِهِ أجِرَ وَإن تَرَكَهُ وَاللهِ أثِمَ ».

وما عن الخثعمي : قال « سَمِعتُ أبَا عَبدِ اللهِ عليه‌السلام يَقُولُ : مَن عَرَفَ أنّا لا نَقُولُ إلاّ حَقّاً فَليَكتَفِ بِمَا يَعلَمُ مِنّا سَمع مِنّا خِلافَ مَا يَعلَمُ فَليَعلَم أنّ ذَلِكَ دِفَاعاً مِنّا عَنهُ » (١).

فالصحيح عدم صحة الترجيح بالأحدثية.

٤ ـ الترجيح بالصفات :

ومهم ما يستدل به على الترجيح بصفات الراوي ، مقبولة عمر بن حنظلة ومرفوعة زرارة.

أما المقبولة فقد جاء فيها : « قَالَ سَألتُ أبَا عَبدِ اللهِ عليه‌السلام : عَن رَجُلَينِ مِن أصحَابِنا يَكُونُ بَينَهُمَا مُنَازعَةٌ. في دَين أو مِيرَاث فَتَحَاكَمَا إلى السّلطَانِ أو إلى القُضَاةِ أيَحلّ ذَلِكَ؟ قَال عليه‌السلام :

__________________

(١) وسائل الشيعة باب ـ ٩ ـ من أبواب صفات القاضي.

٣٦٧

مَنْ تَحَاكَمَ إلَيْهِمْ في حَقّ أوْ بَاطِلٍ فَإنَّمَا تَحَاكَمَ إلى الطّاغُوتِ وَمَا يَحْكُمُ لَهُ فَإنّمَا يَأخُذُهُ سُحْتاً وَإنْ كَانَ حَقّهُ ثابِتاً ، لأنّه أخَذَ بِحُكمِ الطّاغُوتِ وَإنّمَا أمَرَ اللهُ أنْ يَكْفُرَ بِهِ. قَالَ اللهُ تَعَالى : « وَيَتَحَاكَمُونَ إلى الطّاغُوتِ وقَد أمِرُوا أن يَكفُرُوا بِهِ » قُلتُ : فَكَيفَ يَصنَعَانِ؟ قَالَ : يَنظُرانِ مَن كَانَ مِنكُم مِمّن قَد رَوَى حَدِيثَنَا وَنَظَرَ في حَلالِنَا وَحَرَامِنَا وَعَرَفَ أحكَامَنَا فَليَرضُوا بِهِ حَكَماً فَإنّي جَعَلتُهُ عَلَيكُم حَاكِماً فَإذَا حَكَمَ بِحُكمِنَا فَلَم يُقبَل مِنهُ فَإنّمَا بِحُكمِ اللهِ استَخَفّ وَعَلَينَا قَد رَدّ وَالرّادّ عَلَينَا الرّادّ عَلى اللهِ وَهُوَ عَلى حَدّ الشّركِ بِاللهِ. قُلتُ : فَإن كَانَ كُلّ واحِدٍ اختَارَ رَجُلاً مِن أصحَابِنَا فَرَضيَا أن يَكُونَا النّاظِرَينِ في حَقّهِمَا فَاختَلَفَا فِيما حَكَما وَكِلاهُمَا اختَلَفَا في حَدِيثِكُم؟ فَقَالَ ، الحُكمُ مَا حَكَمَ بِهِ أعدَلهُمَا وَأفقَهُهمَا وَأصدَقُهُمَا في الحَدِيثِ وَأورَعُهُمَا ، وَلا يُلتفَت إلَى مَا يَحكُمُ بِهِ الآخَرُ. قَالَ : فَقُلتُ : فَإنّهُمَا عَدلانِ مَرضِيّانِ عِندَ أصحَابنَا لا يَفضُلُ واحدٌ مِنهُمَا عَلى صَاحِبِهِ؟ قَالَ : فَقَالَ : يُنظَر إلى مَا كَانَ من روايَتَيهما عَنّا في ذَلكَ الّذي حَكَما به المُجمَعُ عَلَيهِ عندَ أصحَابكَ فَيُؤخَذُ بِهِ مِن حُكمِنَا ويُترَكُ الشاذُ الّذي لَيسَ بِمَشهُور عِندَ أصحَابِكَ فإن المُجمَعَ عَلَيهِ لا رَيبَ فِيهِ ، وَإنّمَا الأمُورَ ثَلاثَةٌ أمرٌ بَيّنٌ رُشدُهُ فَيُتّبَعُ وَأمرٌ بَيّنٌ غَيّهُ فَيُجتَنَبُ وَأمرٌ مُشكِلٌ يُرَدّ حُكمُهُ إلى اللهِ. قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : حَلالٌ بَيّنٌ وحَرَامٌ بَيّنٌ وَشُبُهَاتٌ بَينَ ذَلِكَ فَمَن تَرَكَ الشّبُهَاتِ نَجَى مِنَ المُحَرّمَاتِ وَمَن أخَذَ بِالشّبُهَاتِ وَقَعَ في المُحَرّمَاتِ وَهَلَكَ مِن حَيثُ لا يَعلَم. قَالَ :

٣٦٨

قُلتُ : فَإن كَانَ الخَبَرَانِ عَنكُم مَشهُورَينِ قَد رَواهُما الثّقَاتُ عَنكُم؟ قَالَ : يُنظَرُ فَمَا وَافَقَ حُكمُهُ حُكمَ الكِتَابِ وَالسّنّةِ وخَالفَ العَامّةَ فَيُؤخَذُ بِهِ ويُترَكُ مَا خَالَفَ حُكمُه حُكمَ الكِتابِ وَالسنّةِ وَوَافَقَ العَامّةَ. قُلتُ : جُعِلتُ فِدَاكَ إن رَأيتَ أن كَانَ الفَقِيهَانِ عَرَفَا حُكمَهُ مِنَ الكِتَابِ وَالسّنّةِ وَوَجَدنَا أحَدَ الخَبَرَينِ مُوَافِقاً للعَامّةِ والآخَر مُخَالِفاً لَهُم بِأيّ الخَبَرَينِ يُؤخَذُ؟ فَقَالَ : مَا خَالَفَ العَامّةُ فَفِيهِ الرّشَادُ. فَقُلتُ : جُعِلتُ فِدَاكَ فَإن وَافَقَهُمَا الخَبَرَانِ جَمِيعاً؟ فَقَالَ : يُنظَرُ إلى مَا هُم إلَيه أميَلُ حُكّامُهُم وَقُضَاتُهُم فَيُترَكُ وَيُؤخَذُ بِالآخَرِ. قُلتُ : فَإن وَافَقَ حُكّامُهُم الخَبَرَينِ جَمِيعاً؟ قَالَ : إذَا كَانَ ذَلِكَ فَأرجِئهُ حَتّى تَلقَى إمَامَكَ ، فَإنّ الوُقُوفَ عِندَ الشّبُهَاتِ خَيرٌ مِنَ الاقتِحَامِ في الهَلَكاتِ » (١).

وأما المرفوعة. فقد رواها ابن أبي الجمهور الأحسائي في غوالي اللئالي عن العلامة مرفوعاً إلى زرارة قال : « سَألتُ أبَا جَعفَر عليه‌السلام فَقُلتُ لَهُ : جُعِلتُ فِدَاكَ يَأتي عَنكُم الخَبَرَانِ وَالحَدِيثَانِ المُعَارِضَان فَبِأيّهِمَا آخُذُ؟ فَقَالَ : يا زُرَارَةُ خُذ بِمَا اشتَهَرَ بَينَ أصحَابِك وَدَع الشّاذّ النّادِرَ. فَقُلتُ : يا سَيّدِي إنّهُمَا مَعاً مَشهُورَان مَأثُورَانِ عَنكُمْ؟ فَقَالَ : خُذ بِمَا يَقُولُ أعدَلُهُمَا عِندَكَ وَأوثَقُهُمَا في نَفسِكَ. فَقُلتُ : إنّهُمَا مَعاً عَدلان مَرضِيّانِ مُوَثّقَان؟ فَقَالَ : انظُر مَا وَافَقَ مِنهُمَا العَامّةَ فَاترُكهُ وَخُذ بِمَا خَالَفَ فَإنّ الحَقّ فِيمَا خَالَفَهُم. قُلتُ : رُبّما كانا مُوَافِقَينِ لَهُم أو مُخَالِفَينِ فَكَيفَ أصنَعُ؟ قَالَ : إذَن فَخُذ بِمَا فِيه

__________________

(١) وسائل الشيعة باب ـ ٩ ـ من أبواب صفات القاضي.

٣٦٩

الحَائطَةُ لِدِينِكَ وَأترُك الآخَرَ. قُلتُ : إنّهُمَا مَعاً مُوَافِقَانِ للاحتِيَاطِ أو مُخَالِفَانِ لَهُ فَكَيفَ أصنَعُ؟ فَقَالَ : إذَن فَتَخَيّر أحَدَهُمَا فَتَأخُذُ بِهِ وَدَع الآخَرَ ».

والبحث عن هاتين الروايتين يقع أولا حول سندهما ، وثانياً في تحديد مفادهما ، وثالثاً في العلاقة بينهما ، ورابعاً في علاقتهما برواية الراوندي المتقدمة وغيرها من روايات الترجيح ، فهنا أربع جهات.

أما الجهة الأولى ـ فلا إشكال في سقوط المرفوعة سنداً ، لما فيها من الرفع ، بل قالوا أن هذه الرواية لم توجد في كتب العلامة التي بأيدينا أصلاً. وأما المقبولة ، فقد يقال بسقوط سندها عن الحجية أيضا باعتبار عدم ورود توثيق بشأن عمر بن حنظلة وإن كان الأصحاب قد عملوا بمفادها فسميت بالمقبولة. غير أن الصحيح ـ بناء على القاعدة المختارة لنا في الرّجال من توثيق من ينقل عنه أحد الثلاثة ـ صحة سندها ، وذلك باعتبار ما وردَ في رواية ليزيد بن الخليفة أنه قال للإمام عليه‌السلام ( جاءنا عمر بن حنظلة بوقت عنك ) فأجاب عليه‌السلام : ( إذَن لا يَكذِبُ عَلَينَا ) (١) وهو ظاهر في أن عمر بن حنظلة كان ثقة بطبعه عند الإمام عليه‌السلام ، إلاّ أن يزيد ابن الخليفة نفسه ممن لا توجد شهادة بتوثيقه وإنما يمكن توثيقه بالقاعدة المذكورة ، حيث قد روى عنه صفوان بن يحيى ـ وهو أحد الثلاثة ـ بسند معتبر في باب كفارة الصوم من الكافي (٢) فنثبت بذلك وثاقته وبروايته نثبت وثاقة عمر بن حنظلة أيضا ، فالمقبولة صحيحة سنداً.

الجهة الثانية ـ في تحديد مفادهما ، ولا إشكال في أنهما دلتا على مرجحين زائداً على ما دلت عليه رواية الراوندي من المرجحات ، وهما الترجيح

__________________

(١) وسائل الشيعة باب ـ ١٠ ـ من أبواب مواقيت الصلاة.

(٢) فروع الكافي ج ٤ باب كفارة الصوم ، ص ١٤٤.

٣٧٠

بالشهرة والترجيح بالصفات ، مع فرق بينهما في تحديد مرتبة كل من المرجحين وكونه مقدماً على الآخر أو مؤخراً عنه ، فالترجيح بالشهرة مقدم على الترجيح بالصفات في المرفوعة ومؤخر عنه في المقبولة ، ولا بد من البحث عن كيفية استفادة الترجيح بهذين المرجحين ، فنقول :

أما استفادة الترجيح بالشهرة من هاتين الروايتين ، فقد ناقش فيها جملة من المحققين بأن المراد من الشهرة التواتر والاستفاضة في النقل ، وفي مثل هذه الحالة تسقط الرواية الشاذة عن الحجية في نفسها لمعارضتها مع دليل قطعي ، فلا يكون الأخذ بالمشهور من باب الترجيح بل من باب تمييز الحجة عن اللاحجة.

والتحقيق : أن الشهرة إذا لوحظت بالنسبة إلى الرواية بما هي حكاية عن حديث المعصوم ، تكون ظاهرة في الشهرة الروائيّة المساوقة مع الاستفاضة وإذا لو حظت بالإضافة إلى الرواية بما هو رأي نقل عن المعصوم كانت ظاهرة في الشهرة الفتوائية والعملية عند الفقهاء. ولا يبعد أن يكون ظاهر المرفوعة إرادة الاشتهار في الفتوى لا في الرواية بقرينتين.

أولاهما ـ ما جاء في افتراض السائل تعليقاً على الترجيح بالشهرة من إمكان اشتهار الروايتين المتعارضتين معاً ، وهذا لا يناسب الشهرة في الرواية المساوقة مع قطعية الصدور ، إذ لو أريد ذلك لم يبق مجال بعد ذلك للترجيح بالأعدلية والأوثقية عقلائياً. ودعوى : أن الشهرة الروائيّة حينما توجد في المتعارضين معاً لا يحصل القطع بالصدور منها ، مدفوعة : بأن هذا إنما يصح فيما إذا كان يستبعد صدور أحاديث متعارضة من الأئمة عليهم‌السلام ، ولا استبعاد في صدورها عنهم بعد ما عرف من حالهم الابتلاء بظروف التقية وغيرها من الملابسات التي كانت تضطرهم إلى التحفظ والاحتياط ، كما تشهد بذلك جملة من الأحاديث الواردة عنهم وقد شرحنا جانباً منها في البحث المتقدم عن مناشئ وجود الاختلاف والتعارض فيما بين الروايات.

٣٧١

فلا يؤثر مجرد تعارض الخبرين المشهورين بحسب الظهور في حصول القطع أو الاطمئنان بصدور هما معاً أثراً معتداً به.

ثانيتهما ـ إباء سياق الترجيح بالصفات في المرفوعة عن إرادة الشهرة الروائيّة ، إذ لو كان المراد ذلك لكان المناسب أن يرجح ما كان مجموع رواته أعدل وأصدق ، مع أنه قد جاء في تعبير الإمام عليه‌السلام « خذ بما يقول أعدلهما عندك وأوثقهما في نفسك » وجاء في تعبير السائل « أنهما معاً عدلان مرضيان » وهو ظاهر في ملاحظة الراويين المباشرين. وهكذا يظهر إمكان استفادة الترجيح بالشهرة الفتوائية من المرفوعة.

وأما المقبولة ، فاحتمال إرادة الشهرة في الرواية منها تتجه بل لعلها ظاهر ما جاء فيها من التعبير « فإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات عنكم » وما قد يلاحظ من أن الشهرة بهذا المعنى كان ينبغي تقديمها على الترجيح بالصفات مع أنها ذكرت في المقبولة بعده ، جوابه ما سوف يأتي الحديث عنه إن شاء الله تعالى من أن الترجيح بالصفات في المقبول بلحاظ أحد الحكمين على الآخر لا الروايتين.

وأما استفادة الترجيح بالصفات من هاتين الروايتين. فبالنسبة إلى المقبولة يمكن أن يعترض عليه بوجهين.

الأول ـ اختصاص موردها بعصر الحضور والتمكن من لقاء الإمام عليه‌السلام بقرينية قوله عليه‌السلام ، فيها « أرجئه حتى تلقى إمامك » وهذا الاعتراض يتجه على استفادة الترجيح بالشهرة وغير هما مما ذكر في المقبولة أيضا.

وفيه : أولا ـ أن جعل لقاء الإمام عليه‌السلام غاية في ذيل الحديث وإن كان قرينة على الاختصاص بعصر التمكن من لقائه ، لكن لا يلزم من ورود قيد على الجزء الأخير من الحديث أو جعله بنحو القضية الخارجية تعميم ذلك على

٣٧٢

الفقرات السابقة المطلقة في نفسها والظاهرة في جعل الحكم على نهج القضايا الحقيقية لا الخارجية.

وثانياً ـ لو فرض عدم انعقاد إطلاق لفظي لفقرات الترجيح بالصفات من المقبولة. مع ذلك أمكننا إثبات تعميم مفادها بالفهم العرفي واستظهار عدم الفرق وإن كانت فقرة الذيل منها مخصوصة بزمان الحضور ، لأن هناك فرقاً عرفياً واضحاً بين ما جاء في الذيل من الاحتياط والإرجاء إلى حين لقاء الإمام عليه‌السلام الّذي لا يناسب أن يكون حكماً عاماً لزمان الحضور والغيبة فيمكن أن يكون التمكن من لقاء الإمام عليه‌السلام الّذي كان ميسوراً للسائل دخيلاً فيه ، وبين الترجيح بالشهرة أو بالصفات التي هي مميزات موضوعية في أحد المتعارضين لا دخل لخصوصية التمكن من رؤية الإمام عليه‌السلام وعدم التمكن منها في مرجحيّتها ، فبمناسبات الحكم الموضوع العرفية والعقلائية يفهم عدم دخل هذه الخصوصية في الترجيح بالمرجحات الواردة في المقبولة.

الثاني ـ أن الترجيح بالصفات في المقبولة ترجيح لأحد الحكمين على الآخر وليس ترجيحاً لإحدى الروايتين على الأخرى في مقام التعارض.

وهذا الاعتراض وجيه فيما يتعلق بالصفات دون المرجحات الأخرى الواردة في المقبولة. فلنا في المقام دعويان.

ومبرر الدعوى الأولى : إضافة الصفات في المقبولة إلى الحاكمين حيث قال عليه‌السلام « الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما في الحديث وأورعهما ».

هذا مضافاً : إلى أن الإمام عليه‌السلام قد طبق الترجيح بالصفات على أول سلسلة السندين المتعارضين وهما الحاكمان من دون أن يفرض أنهما راويان مباشريان للحديث بينما لو كان الترجيح بها ترجيحاً لإحدى الروايتين على الأخرى كان ينبغي تطبيقه على الراوي المباشر كما هو عمل المشهور ومقتضى الصناعة أيضا لأن التعارض ليس بين الراويين غير المباشرين ، إذ كل منهما يروي

٣٧٣

موضوعاً غير ما يرويه الآخر ويكون من ينقل منهما عن الأعدل مثلاً حاكماً في نقله على نقل الآخر ـ بعد فرض ثبوت الترجيح بالصفات ـ فلا يستحكم التعارض بين نقليهما بوجه أصلاً. وإنما التعارض مستحكم بين نقل الرّاويين المباشرين فإما أن يطبق الترجيح بالصفات عليهما أو على مجموع السلسلة على أقل تقدير. مع أن الإمام عليه‌السلام قد طبقه على الحاكمين الذين يمثلان أول سلسلة السند لو كان مع الواسطة ـ كما هو الغالب ـ وهذا لا ينسجم إلاّ مع افتراض كون الترجيح لأحد الحكمين بلحاظ صفات الحاكم به لا الروايتين.

ومبرر الدعوى الثانية : هو انتقال سياق الحديث من ملاحظة الحاكمين إلى ملاحظة الرواية التي يستند إليها كل منهما ، حيث جاء فيه « ينظر ما كان من روايتهما عنا في ذلك الّذي حكما به المجمع عليه عند أصحابك ... إلخ » فأضيفت المميزات إلى الرواية لا الحكم. إلاّ أنه مع ذلك يوجد أمامنا ثلاثة احتمالات في تفسير الترجيح بهذه المرجحات.

الأول ـ أن تكون إضافتها إلى الرواية بالعرض والمجاز ، بأن يكون القصد ترجيح الحكم الّذي يكون مدركه واجداً للمزية الترجيحية.

الثاني ـ أن تكون إضافتها إلى الرواية حقيقية ولكن لا باعتبار كاشفية الرواية ذات المزية الترجيحية عن الحكم الشرعي الواقعي ، بل في مقام فصل الخصومة بالخصوص ، فكأنما أراد الإمام عليه‌السلام أنه بعد تعارض الحاكمين تجعل الرواية ذات المزية الترجيحية هي الحكم الفصل للمنازعة وان كان لا رجحان لها في مقام الإفتاء واستنباط الحكم الشرعي الواقعي.

الثالث ـ أن تكون إضافتها إلى الرواية حقيقية وبما هي كاشفة عن الحكم الشرعي وحجة عليه.

والظاهر تعين الاحتمال الأخير لأن الأول خلاف حقيقية الإضافة ، والثاني خلاف قوله عليه‌السلام ( فيؤخذ به ويترك الشاذ ) الظاهر عرفاً في حجية المشهور في مقام الأخذ والعمل مطلقاً لا في مقام فصل الخصومة خاصة.

٣٧٤

وأما المرفوعة ، واستفادة الترجيح بالصفات منها فلا كلام في ذلك غير أنها ساقطة سنداً.

ويتلخص من مجموع ما تقدم : أنه لا يتحصل من هاتين الروايتين شيء زائد على ما في رواية الراوندي من الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامة ، لأن المرفوعة ساقطة سنداً والمقبولة وإن ورد فيها الترجيح بالصفات والشهرة مضافاً إلى موافقة الكتاب ومخالفة العامة إلاّ أنه قد عرفت رجوع الأول إلى الحكمين لا الروايتين ، وكون الثاني من باب تمييز الحجة عن اللاحجة.

الجهة الثالثة ـ في علاقة المقبولة بالمرفوعة على تقدير تماميتها سنداً ودلالة في إثبات جميع تلك المرجحات ، فانهما مختلفتان في عدة مواد.

المادة الأولى ـ إن المقبولة بدأت الترجيح بالصفات وثنت بالشهرة بينما الأمر في المرفوعة على العكس تماماً. فيقع بين إطلاقيهما تعارض من هذه الناحية.

وقد ذكر الشيخ الأعظم ـ قده ـ انه يمكن العمل بالمقبولة بحكم المرفوعة نفسها التي تقضي بتقديم المشهور على الشاذ ، والمقبولة مشهورة بخلاف المرفوعة التي لم تنقل إلاّ عن غوالي اللئالي مرفوعة إلى زرارة (١).

واعترض عليه المحقق الأصفهاني ـ قده ـ بأن هذا مستحيل ، إذ يلزم منه سقوط المرفوعة عن الحجية وكل ما يلزم من وجوده عدمه يكون محالاً (٢).

والتحقيق. أن التعارض بين المقبولة والمرفوعة في هذه المادة ليس بنحو التباين بل بنحو العموم من وجه أي التعارض بين إطلاق الترجيح بكل من المرجحين المتعاكسين فيهما مع إطلاق الآخر ، فالمقبولة ، تثبت الترجيح بالصفات سواء كان الآخر مشهوراً أم لا ، والمرفوعة تثبت الترجيح

__________________

(١) فرائد الأصول ، ص ٤٤٨ طبعة رحمة الله.

(٢) نهاية الدراية المجلد الثالث ، ص ١٦٥.

٣٧٥

بالشهرة سواء كان الآخر واجداً للصفات أم لا. فيتعارضان في خصوص ما إذا كان أحدهما واجداً للصفات والآخر مشهوراً ، والتعارض الدلالي قد عرفت في الأبحاث السابقة عدم سريانه إلى السند. فإن بنينا على أن المرجحات الواردة في هذه الأخبار مخصوصة بالتعارض السندي فلا معنى لترجيح المقبولة على المرفوعة بكونها مشهورة ، وإن بنينا على شمول الترجيح بالمرجحات المنصوصة للعامين من وجه فينفتح مجال لدعوى الشيخ ـ قده ـ.

والصحيح هو التفصيل بين صورتين حينئذ.

الأولى ـ أن نفترض المقبولة مشهورة من دون أن يكون الراوي في المرفوعة واجداً لمزية صفتية. وفي هذه الصورة لا بد من الحكم بتقديم المقبولة في مادة التعارض ، لأن هذه الحالة داخلة في مادة الافتراق للمرفوعة فلا موجب لرفع اليد عنها. وهذا معناه أن المرفوعة تدل بمادة افتراقها على العمل بالمقبولة في مادة التعارض بينهما ، وبالتالي تكون المرفوعة بإطلاقها في مادة الافتراق لهذا المورد من موارد التعارض قد خصصت مادة اجتماعها مع المقبولة ، فلم يلزم من وجود شيء واحد عدمه ، كما لا يلزم من إسقاط مادة اجتماعها تخصيصها بالفرد النادر لبقاء موارد الافتراق التي لا مبرر لفرض ندرتها.

الثانية ـ أن نفترض المرفوعة أرجح من حيث صفات الراوي من المقبولة وإن كانت المقبولة أشهر. وفي هذه الحالة لا يتم ما أفاده الشيخ ـ قده ـ لأن ترجيح المقبولة على المرفوعة بالشهرة عملاً بالمرفوعة ليس بأولى من ترجيح المرفوعة على المقبولة بالصفات عملاً بالمقبولة. وبعبارة أخرى ، أن المرفوعة في أي مرتبة يتمسك بها تكون مبتلاة في هذه الصورة بالمعارضة مع المقبولة في تلك المرتبة.

وأما ما ذكره المحقق الأصفهاني ـ قده ـ من محذور الاستحالة فغير

٣٧٦

وارد ، لأن المقبولة والمرفوعة تتضمنان إطلاقات طولية متعارضة. فأولاً يتعارض إطلاقهما للخبرين المتعارضين الدال أحدهما مثلاً على وجوب السورة والآخر على عدم وجوبها ، حيث أن المقبولة ترجح الأصدق منهما والمرفوعة ترجح المشهور ، وثانياً يتولد من تلك المعارضة تعارض بين نفس إطلاقي المقبولة والمرفوعة لهذا المورد فإنه أيضا مصداق للتعارض بين حديثين تعالجه المقبولة والمرفوعة لهذا المورد فإنه أيضا مصداق للتعارض بين حديثين تعالجه المقبولة والمرفوعة فيقدم الأصدق بحكم المقبولة والأشهر بحكم المرفوعة. وفي هذه المرتبة أيضا تتشكل معارضة جديدة هي فرد ثالث لحكم المقبولة والمرفوعة وهكذا. وهذا يعني أن المحذور في تقديم المقبولة على المرفوعة أنه في أي مرتبة من هذه المراتب الطولية للتعارض لو أعملنا المرفوعة في مقام الترجيح كان جزافاً لا أنه يلزم من وجوده عدمه فإن التقديم في أي مرتبة انما يسقط ما في المرتبة السابقة عليها لا ما في نفس تلك المرتبة.

هذا كله إذا افترضنا استحكام التعارض بين الروايتين ، مع أنه يمكن أن يدعى وجود جمع عرفي بينهما. وتوضيح ذلك. أن هناك حالات عديدة يمكن افتراضها في دليلي الترجيح المختلفين.

الحالة الأولى ـ أن يقتصر كل منهما على مرجح غير ما تكفله الآخر ، كما إذا جاء في أحدهما ، ( خذ بالمشهور ) وورد في الآخر ( خذ بما يرويه أعدلهما ).

الحالة الثانية ـ أن يقتصر أحدهما على مرجح ويذكر الآخر مرجحين أولهما غير ما ذكر في الأول. كما إذا جاء في أحدهما ( خذ بالمشهور ) وورد في الآخر ( خذ بما يرويه الأعدل ، وإن لم يكن فبالمشهور ).

الحالة الثالثة ـ نفس الحالة مع افتراض أن دليل الترجيح الثاني قد ذكر فيه المرجح المذكور في الأول أولا أيضا.

الحالة الرابعة ـ أن يذكر كل من الدليلين كلا المرجحين مع التعاكس في الترتيب كما هو الحال في المرفوعة والمقبولة. والتعارض في هذه الحالات

٣٧٧

إن قيل باستحكامه فإنما يقال به في الحالة الأولى بالخصوص التي تكون المعارضة بنحو العموم من وجه لا الحالات الثلاث الأخرى. إذ في الحالة الثانية يكون دليل الترجيح المشتمل على مرجحين أخص مطلقاً من دليل الترجيح الآخر فيتقيد به ، وفي الحالة الثالثة لا تعارض بينها أصلاً لأن الدليل المشتمل على المرجح الأول فقط ساكت عن وجود ترجيح آخر طولي ولا ينفيه ، وفي الحالة الرابعة يكون لكل من دليلي المرجحين المتعاكسين ظهوران ، ظهور إطلاقي يقتضي تقدم المرجح المذكور فيه أولا على المذكور فيه ثانياً لأنه مقتضى إطلاق الترجيح به حتى إذا كان المرجح الثاني ثابتاً في المعارض الآخر. وظهور عرفي صريح في أن المرجح المذكور فيه أولا ليس متأخراً رتبة عن المذكور فيه ثانياً ، بل اما مقدم عليه أو في عرضه على الأقل وإلاّ لما قدّم عليه في التسلسل الترجيحي ، وهذا الظهور أقوى من الإطلاق وأظهر والتعارض بين دليل الترجيح بحسب الحقيقة واقع بين الظهور الإطلاقي لأحدهما مع هذا الظهور العرفي الصريح من الآخر فيرفع اليد عن الإطلاق بالظهور الصريح بقانون حمل الظاهر على الأظهر المتقدم في أقسام الجمع العرفي فينتج عرضية المرجحين معاً. وإعمال هذا الجمع واضح جدّاً إذا فرضنا مجيء الترتيب بين المرجحين في كلام الإمام عليه‌السلام ابتداء ، وأما إذا افترضنا انتزاع الترتيب من كلام الإمام عليه‌السلام عن طريق الترتيب الوارد في سؤال الراوي بعد فرضه تساويهما في المرجح الأول ، كما هو الحال في المقبولة والمرفوعة ، فقد لا يكون الجمع المذكور واضحاً ، إذ لعل الإمام عليه‌السلام في جوابه على السؤال الأول أجاب بالمرجح الثاني إذ لا بأس بذلك ، ولذا لا نضايق من أن يقتصر الإمام على ذكر المرجح الثاني فقط ـ كما في الحالة الثانية من الحالات الأربع ـ إلاّ أنه مع ذلك يقال أن ظاهر كلام الإمام عليه‌السلام ان المرجح الثاني على الأقل ليس مقدماً على الأول إذ لو كان مقدماً عليه كان ما ذكره أولا مقيداً لباً بعدم المرجح الثاني وهذا القيد غير مأخوذ في الكلام الثاني ، فلا يكون الجوابان

٣٧٨

منصبين على موضوع واحد مع أن ظاهر هما ذلك ، فهذا من قبيل أن يقول الإمام في الجواب عن المتعارضين ( خذ بأشهر الحديثين المتساويين في صفات الراويين لهما ، قال : فإن كانا متساويين في الشهرة قال : خذ بقول أصدقهما ) فالترتيب العكسي ليس محذوره مجرد تقييد الإطلاق بل إضافة إلى ذلك يلزم ورود الكلامين على موضوعين وهذه مخالفة لظهور أقوى من الإطلاق. وإن شئت قلت : إن الكلام الثاني قرينة على أن موضوع كلامه الأول قابل لأن يفرض فيه أحدهما أصدق والآخر غير أصدق وهذا لا يلائم مع الترتيب العكسي ، فيقيد إطلاق كل من المرجحين المتعاكسين بهذا الظهور في دليل الترجيح الآخر وتثبت عرضيتهما في النتيجة.

لا يقال : بناء على العرضية أيضا يكون موضوع الحكم بالترجيح بالمزيّة الأولى مقيداً بعدم اتصاف معارضه بالمزية الثانية.

فإنه يقال : عند عرضية المرجحين يكون الموضوع ذات الخبرين فيكون الجوابان واردين على موضوع واحد ، والفرق هو أن المرجح الثاني بناء على الترتيب العكسي يرفع شأنية الترجيح بالمرجح الأول وأما بناء على العرضية فإنما لا يمكن فعلية الترجيح للتعارض وإلاّ فمقتضي الترجيح فيهما معاً تام.

المادة الثانية ـ الاختلاف بين المرفوعة والمقبولة في الصفات التي جعلت وجوهاً للترجيح في كل منهما. فالمقبولة تضمنت الترجيح بالأعدلية والأفقهية والأصدقية في الحديث والأورعية ، وإذا أرجعنا الأورعية إلى الأعدلية ـ لأن المراد من الأعدلية مزيد استقامة على جادة الشرع والالتزام بها ولا يراد من الأورعية غير ذلك ـ رجعت الصفات الترجيحية إلى ثلاث. وأما المرفوعة فقد اقتصر فيها على الترجيح بصفتي الأعدلية والأوثقية. فإذا كانت الصفات في المقبولة ترجيحاً لأحد الحكمين على الآخر لم يكن تعارض بينهما ، وإن كانت ترجيحاً لأحد الخبرين. فإذا استظهرنا من تعداد الصفات المذكورة المثالية فألغينا خصوصية ما ذكر منها وقلنا أن المقصود الترجيح بكل مزية

٣٧٩

توجب قرب أحد الخبرين إلى الواقع لم يكن تعارض بينهما أيضا وأما إذا جمدنا على الصفات المذكورة فيهما ، أو حملنا ما جاء في المقبولة بالخصوص على المثالية ولو بقرينة قوله « قلت فإنهما عدلان مرضيان عند أصحابنا لا يفضل واحد منهما على الآخر » دون المرفوعة فهنالك يقع التعارض بينهما حيث أن أحدهما يقتصر على اثنين منها ويحكم بالرجوع إلى المرجحات الأخرى عند فقدهما بخلاف الآخر ، وعلاج هذا التعارض يكون بالتقييد فإن الظاهر من هذه المرجحات أنها مرجحات عديدة في عرض واحد فلا تصل النوبة إلى المرجحات الطولية الأخرى إلاّ بعد اجتيازها.

المادة الثالثة ـ ما إذا فرضنا عدم رجوع الترجيح بالصفات في المقبولة إلى الروايتين فيكون أول المرجحات في المقبولة والمرفوعة معاً الشهرة وآخرها مخالفة العامة ، فإنه حينئذ يقع التعارض بينهما من ناحيتين.

الأولى ـ المعارضة بالعموم من وجه بين نفس المرجحين المتوسطين وهما مخالفة العامة والشهرة ، حيث يكون مقتضى إطلاق كل منهما تقدمه على الآخر وتكون هذه المعارضة من الحالة الأولى من حالات الاختلاف بين دليلي الترجيح الأربع.

الثانية ـ المعارضة بلحاظ مورد افتراق كل من المرجحين ، فلو كان أحدهما موافقاً للكتاب مثلاً وليس راوي الآخر أصدق دلت المقبولة حينئذ على ترجيح الموافق للكتاب بينما تحكم المرفوعة بلزوم الانتقال إلى المرجح الثالث لأنهما متساويان في الصفات ، وتكون هذه المعارضة من الحالة الثانية من حالات الاختلاف بين دليلي الترجيح الأربع.

وحكم المعارضة الثانية هو التخصيص وتقييد إطلاق المرجح الثالث بما إذا لم يكن يوجد المرجح الثاني ، أي أن كلاً من المقبولة والمرفوعة كالصريح في الدلالة على أن المرجح الثالث في طول ما اختصت به من المرجح الثاني ، ومقتضى الجمع بين هاتين الصراحتين تعذر تقديم المرجح الثالث على أي واحد

٣٨٠