بحوث في علم الأصول - ج ٧

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٧

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٢٧

بين المحذورين في الفروع. ولا أقل من الاحتمال المستوجب للإجمال وعدم انعقاد الإطلاق في الرواية. وبناء عليه ، لا يستفاد من السعة في الحديث التخيير أصلاً ، إذ لا معنى له في الاعتقادات والمعارف الدينية. وإنما يكون المراد السعة من حيث الاعتقاد والالتزام بمؤداه فلا يلتزم بشيء منهما حتى يلقى من يخبره بالواقع.

الثاني ـ إن قوله عليه‌السلام ( فهو في سعة حتى يلقاه ) كما يحتمل فيه أن يكون بياناً لمطلب على خلاف مقتضى القاعدة وهو التخيير في الحجية ، والسعة من حيث الأخذ بكل منهما ، كذلك يحتمل فيه أمران آخر ان لا يتم معهما الاستدلال.

١ ـ أن يكون تأكيداً للجملة الأولى ، وهي قوله ( يرجئه حتى يلقى من يخبره ) ويكون المقصود أنه في سعة من حيث الوصول إلى الواقع المجهول إلى أن يلقى الإمام. فلا يجب عليه الفحص أو شد الرحال إلى الإمام عليه‌السلام كي يتوصل إلى الحكم الشرعي الواقعي. وأما الوظيفة العملية التي لا محيص عنها في الواقعة المجهولة ، فلا يتعرض لها الحديث بمدلوله اللفظي ، ولكن يفهم ـ ولو بمقتضى الإطلاق المقامي ـ أن وظيفته بعد ورود الخبرين كوظيفته قبل ورودهما ، فلا ينشأ من وصولهما كلفة زائدة ، وإلاّ لكان يتعرض لها.

٢ ـ أن يكون المراد من السعة السعة العملية في مقام تفريغ الذّمّة عن الواقع المجهول بعد تعارض الدليلين ، فيكون بياناً لعدم نشوء تنجيز زائد من ناحية الخبرين.

ونحن إن لم ندع تعين أحد هذين الاحتمالين في قبال الاحتمال الأول لتفسير جملة « فهو في سعة حتى يلقاه » فلا أقل من مساواتهما لذلك الاحتمال الّذي هو مناط الاستدلال فيكون الدليل مبتلى بالإجمال.

ومنها ـ رواية علي بن مهزيار قال : « قرأتُ في كِتَاب لِعَبدِ اللهِ بنِ مُحَمّد إلى أبي الحَسَنِ عليه‌السلام : اختَلَفَ أصحَابُنَا في رِواياتِهِم عَن

٣٤١

أبي عَبدِ اللهِ عليه‌السلام في رَكعَتَي الفجرِ في السّفَرِ ، فَرَوَى بَعضُهُم أن صَلّهِمَا في المَحمِلِ ، وَرَوَى بَعضُهُم لا تُصَلّهِمَا إلاّ عَلى الأرضِ ، فَأعلِمني كَيفَ تَصنَعُ أنتَ لأقتَدِي بِكَ في ذَلِكَ؟ فَوَقّعَ عليه‌السلام : مُوَسّعٌ عَلَيكَ بِأيّةٍ عَمِلتَ » (١).

وفقرة الاستدلال منها قوله عليه‌السلام ( موسع عليك بأية عملت ) الواضح في الدلالة على التخيير وإمكان العمل بكل من الحديثين المتعارضين.

ولكن يرد عليه.

أولا ـ ان الظاهر منها إرادة التوسعة والتخيير الواقعي لا التخيير الظاهري بين الحجيتين لظهور كل من سؤال الراوي وجواب الإمام عليه‌السلام في ذلك. أما ظهور السؤال فلأنه مقتضى التنصيص من قبله على الحكم الّذي تعارض فيه الخبران الظاهر في استعلامه عن الحكم الواقعي. على أن قوله ( فاعلمني كيف تصنع أنت لأقتدي بك ) كالصريح في أن السؤال عن الحكم الواقعي للمسألة. فيكون مقتضى التطابق بينه وبين الجواب كون النّظر في كلام الإمام عليه‌السلام إلى ذلك أيضا ، إذ لا وجه لصرف النّظر مع تعيين الواقعة عن حكمها الواقعي إلى الحكم الظاهري العام.

وأما ظهور الجواب في التخيير الواقعي ، فباعتبار أنه المناسب مع حال الإمام عليه‌السلام العارف بالأحكام الواقعية والمتصدي لبيانها فيما إذا كان السؤال عن واقعة معينة بالذات.

وثانياً ـ لو تنزلنا وافترضنا أن النّظر إلى مرحلة الحكم الظاهري والحجية ، مع ذلك لا يمكن أن يستفاد التخيير في حالات التعارض المستقر الّذي هو المقصود في المقام ، لأن موردها التعارض بين ما يأمر بالصلاة على الأرض

__________________

(١) وسائل الشيعة باب ـ ١٥ ـ من أبواب القبلة.

٣٤٢

وما يدل على الترخيص في إيقاعها في المحمل ، وهو مما فيه جمع عرفي بحمل دليل الأمر على الاستحباب. فيكون مدلول الحديث حجية كل من الخبرين في نفسه لعدم التعارض بينهما ، والتوسعة في مقام العمل بالأخذ بمفاد دليل الترخيص أو دليل الأمر ، لكون الأمر استحبابياً لا لزومياً ، فهذا المعنى أيضا صالح عرفاً لأن يكون هو المراد من قوله عليه‌السلام ( موسع عليك بأية عملت ).

ومنها ـ ما رواه الشيخ في الغيبة بسنده عن محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري في مكاتبة بتوسط الحسين بن روح عن الحجة عليه‌السلام « يَسألُني بَعضُ الفُقَهَاءِ عَنِ المُصَلّي إذَا قَامَ مِنَ التّشَهّدِ الأوّلِ إلى الرّكعَةِ الثّالِثةِ هَل يَجِب عَلَيهِ أن يُكبّر ، فَإنّ بَعضَ أصحَابِنَا قَالَ : لا يَجِبُ عَلَيهِ التّكبِيرُ وَيُجزِيهِ أن يَقُولَ بِحَولِ اللهِ وَقُوّتِهِ أقُومُ وَأقعُدُ؟ فَكَتَبَ في الجَوَابِ : أنّ فِيهِ حَدِيثَينِ ، أمّا أحَدُهُمَا فَإنّهُ إذَا انتَقَلَ مِن حَالَةٍ إلى أخرَى فَعَليهِ التّكبِيرُ ، وَأمّا الآخَرُ فَإنّهُ رُوِيَ إذَا رَفَعَ رَأسَهُ مِن السّجدَةِ الثّانِيَةِ ذَكَرَ ثُمّ جَلَسَ ثَمّ قَامَ فَلَيسَ عَلَيهِ في القِيَامِ بَعدَ القُعُودِ تَكبِيرٌ ، وَكَذلِكَ التّشهد الأوّلُ يَجرِي هذَا المَجرَى ، وَبِأيّهِمَا أخَذتَ مِن بَابِ التّسليمِ كَانَ صَواباً » (١) وفقرة الاستدلال منها قوله عليه‌السلام ( بأيهما أخذت من التسليم كان صواباً ) بل الاستدلال بها لعله أوضح منه بالرواية السابقة باعتبار كلمة ( أخذ من جهة التسليم ) التي قد يستشعر منها النّظر إلى الحجية والتعبد بأحد الخبرين.

والصحيح عدم تمامية الاستدلال بها ، لأن السائل في هذه الرواية لم يفرض خبرين متعارضين وإنما سأل من مسألة اختلف الفقهاء في حكمها الواقعي ،

__________________

(١) وسائل الشيعة باب ـ ١٣ ـ من أبواب السجود.

٣٤٣

وإنما يراد الاستدلال بها على التخيير باعتبار ما في جواب الإمام عليه‌السلام من نقل حديثين متخالفين وترخيصه في التسليم بأيهما شاء. إلاّ أن هذا الجواب غير دال على التخيير المطلوب ، وذلك لعدة أمور.

الأول : ظهور كلام الإمام عليه‌السلام في الرخصة الواقعية لا التخيير الظاهري بين الحجيتين ، إما من جهة كونه ظاهر حال الإمام عليه‌السلام دائماً إذا كان متعرضاً لبيان حكم مسألة معينة ، وإما من جهة ظهور سؤال الراوي في الاستفهام عن الحكم الواقعي للمسألة فيكون مقتضى أصالة التطابق بين السؤال والجواب أن النّظر إلى الترخيص الواقعي أيضا.

الثاني : إن جملة ( وكذلك التشهد الأول يجري هذا المجرى ) تارة : تفترض جزءاً من الحديث الثاني وأخرى : تفترض كلاما مستقلاً يضيفه الإمام عليه‌السلام إلى الحديثين.

فإذا كانت جزءاً من الحديث ـ ولو بقرينة أنه مورد لسؤال الراوي الّذي قال عنه الإمام عليه‌السلام أن فيه حديثين ـ كان الحديثان متعارضين إلاّ أنهما من التعارض غير المستقر الّذي فيه جمع عرفي واضح ، لا باعتبار أخصية الحديث الثاني من الحديث الأول فحسب بل باعتبار كونه ناظراً إلى مدلوله وهو ثبوت التكبير في الانتقال من حال إلى آخر ، فيكون حاكماً عليه وعدم استحكام التعارض بين الحاكم والمحكوم أمر واضح عرفاً ومقطوع به فقهياً بحيث لا يحتمل أن يكون للشارع حكم على خلاف الجمع العرفي فيه فيكون هذا بنفسه قرينة على أن المقصود من التخيير الترخيص الواقعي.

وإذا كانت جملة مستقلة ، وأن الحديث الثاني يتكفل حكم القيام من الجلوس بعد السجدة الثانية وأنه ليس على المصلي تكبير فيه ، فلا تعارض بين الحديثين في مورد سؤال الراوي وهو الانتقال من التشهد إلى القيام لأن الحديث الثاني لا ينفي ذلك وإنما ينفي لزوم التكبير في القيام بعد التشهد ، فيكون هذا

٣٤٤

بنفسه قرينة على أن المراد هو الترخيص الواقعي.

الثالث : انه بناء على مسلك مدرسة المحقق النائيني ( قده ) من أن الوجوب ينتزعه العقل من الأمر بشيء وعدم الترخيص في تركه وليس مدلولاً للأمر ، لا يكون تعارض بين الحديثين الذين ينقلهما الإمام عليه‌السلام أصلاً إذ يكون مفاد أحدهما طلب الفعل ومفاد الآخر الترخيص في الترك وهو لا ينافي طلب الفعل وإنما يكون موجباً لعدم حكم العقل بالوجوب ، فيتعين أن يكون المراد من كلام الإمام عليه‌السلام على هذا المبنى الترخيص الواقعي.

وهذا الوجه لإبطال الاستدلال غير تام ، لأن الظاهر من الحديث الثاني نفي ما دل عليه الحديث الأول لا مجرد الترخيص في ترك التكبير ، باعتباره ناظراً إلى الحكم الثابت في الحديث الأول فكأنه ينفي الطلب المبرز بذلك الحديث فيكون بينهما تعارض لا محالة.

الرابع : لو تمت دلالتها على التخيير الظاهري في الحجية فموردها الحديثان القطعيان اللذان نقلهما الإمام عليه‌السلام بنفسه كما يناسبه تعبيره عليه‌السلام عنهما بالحديثين ، المشعر بكونه سنةً ثابتة عن آبائه المعصومين عليهم‌السلام فلا يمكن التعدي منه إلى التعارض بين خبرين ظنيين من حيث السند لاحتمال أن يكون مزيد اهتمام الشارع بالقطعيين موجباً لجعل الحجية التخييرية في موردهما خاصة ولا إطلاق في الرواية ليتمسك به.

هذا كله مضافاً ، إلى أن الرواية غير نقية السند لأنها مكاتبة بخط أحمد ابن إبراهيم النوبختي وإملاء الحسين بن روح. وأحمد بن إبراهيم النوبختي مجهول لا ذكر له في كتب الرّجال ، فإن كان واسطة في النقل عن الحسين ابن روح فالرواية ساقطة سنداً وإن استظهرنا أنه كان مجرد مستنسخ للمكاتبة وأن الراوي ـ وهو محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري ـ يشهد بإملاء الحسين ابن روح كانت معتبرة ، والإجمال والتردد كاف في إسقاط السند أيضا.

٣٤٥

ومنها ـ ما رواه الطبرسي في الاحتجاج مرسلاً عن الحارث بن المغيرة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال « إذَا سَمِعتَ مِن أصحَابِكَ الحَديثَ وَكُلّهُم ثِقَةٌ فَمُوَسّعٌ عَلَيكَ حَتّى تَرَى القَائِمَ فَتَرُدّ عَلَيهِ » (١).

والاستدلال بها على التخيير باعتبار ما ورد فيها من التوسعة في الأخذ بهذا الحديث أو ذاك. وقد علق السيد الأستاذ ـ دام ظله ـ على هذه الرواية « بأنها لا دلالة لها على حكم المتعارضين كما ترى ، ومفادها حجية أخبار الثقة إلى ظهور الحجة عليه‌السلام » (٢).

وفيه : أنه لو سلمنا عدم ورودها في فرض التعارض ولم نقبل ما سوف نشير إليه من القرينة علي أن النّظر فيها إلى صورة التعارض فلا بأس بأن يستفاد من إطلاقها التخيير في موارد التعارض ، لأن دليل الحجية إذا كان بلسان جعل المنجزية أو الطريقية أو إيجاب العمل لا يمكن أن يشمل موارد التعارض ، لأن شموله للمتعارضين معاً غير معقول ولأحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجح ، وأما إذا كان بلسان التوسعة وأن له أن يعمل به فيعقل إطلاقه للمتعارضين معاً ، لأن جواز العمل بأحد المتعارضين لا ينافي جواز العمل بالآخر أيضا. ومن هنا نقول أن مثل حديث ( فللعوام أن يقلدوه ) في مسألة التقليد لو لا ما فيه من ضعف السند يمكن أن يكون دليلاً على التخيير عند تساوي المجتهدين مع اختلافهما.

وقد يستشكل في الاستدلال بها بإبراز احتمال أن يكون المراد من التوسعة التوسعة في الوظيفة العملية وبملاك الأصول المؤمنة مع افتراض سقوط المتعارضين عن الحجية ، فلا يكون دليلاً على التخيير في الحجية.

وفيه : أن موارد التعارض ليست دائماً مجرى للأصول المؤمنة ، بل قد

__________________

(١) وسائل الشيعة باب ـ ٩ ـ من أبواب صفات القاضي.

(٢) مصباح الأصول ، ص ٤٢٤.

٣٤٦

تكون مورداً للتنجيز إما لوجود عموم فوقاني منجز لا بد من الرجوع إليه بعد التعارض أو لوجود أصل عملي منجز ، كما في باب المعاملات مثلاً.

ثم أن قوله عليه‌السلام ( وكلهم ثقة ) لا إشكال في دلالته على دخالة وثاقة كل الرّواة في الحكم بالتوسعة ، فإن فرض أن وثاقة الكل مأخوذة بنحو الانحلال فتصبح وثاقة كل راوٍ دخيلة في الحكم بالسعة في مقام الأخذ بالرواية ـ كما فهمه السيد الأستاذ ـ مد ظله ـ كان ذلك قرينة على خلاف الإشكال الثاني ، لأن الرجوع إلى التأمين ليس مشروطاً بأن يكون المخبر ثقة. وإن فرضنا أو وثاقة الكل مأخوذة بنحو المجموعية وأن الدخيل في الحكم بالتوسعة وثاقة جميع الرّواة بحيث لو فرض وثاقة البعض دون البعض لم تثبت التوسعة ، كان ذلك قرينة على خلاف الإشكال الأول ، وان مفروض الرواية الأخبار المتعارضة فيكون دالاً على الحجية التخييرية ، ولا يبعد ظهور الرواية في دخالة وثاقة الكل في الحكم بالتوسعة ، فدلالة الرواية على التخيير تامة ولكنهما ساقطة سنداً بالإرسال.

ومنها ـ رواية الطبرسي في الاحتجاج مرسلة عن الحسن بن الجهم عنّ الرضا عليه‌السلام قال : ( قُلتُ لِلرّضا تَجِيئُنَا الأحَادِيثُ عَنكُم مُختَلِفَةً؟ قَالَ : مَا جَاءَكَ عَنّا فَقِسهُ عَلى كِتَابِ اللهِ عَزّ وَجَل وَأحَادِيثِنَا فَإن كَانَ يَشبَهُهَا فَهُوَ مِنّا وَإن لَم يُشبِهُهَا فَلَيسَ مِنّا. قُلتُ : يَجِيئُنَا الرّجُلانِ وَكِلاهُمَا ثِقَةٌ بِحَدِيثَينِ مُختَلِفَينِ فَلا نَعلَم أيّهمَا الحَقّ؟ فَقَالَ : إذَا لَم تَعلَم فَمُوَسّعٌ عَلَيكَ بأيّهِمَا أخَذتَ ) (١).

وهي أوضح الروايات في الدلالة على التخيير إلاّ أنها ساقطة سنداً بالإرسال.

ومنها ـ مرفوعة زرارة التي سوف يأتي الحديث عنها في أخبار الترجيح ،

__________________

(١) جامع أحاديث الشيعة ج ١ باب ـ ٦ ـ من أبواب المقدمات ، ص ٦٤.

٣٤٧

حيث ورد في ذيلها ما يستدل به على التخيير عند فقد المرجحات ، وهو قوله عليه‌السلام : ( إذَن فَتَخَيّرَ أحَدَهُمَا فَتَأخُذُ بِهِ وَتَدَعَ الآخَرَ ) (١).

وقد ناقش فيه السيد الأستاذ ـ مد ظله ـ بأن موردها الروايتان المشهورتان معاً بحسب فرض الراوي ، والمراد من الشهرة ـ على ما سوف يقع الحديث عنه ـ الشهرة الروائيّة لا الفتوائية وهي مساوقة مع قطعية سندهما وهذا خارج عن محل الكلام فإننا نتحدث عن التخيير في المتعارضين غير القطعيين (٢).

وفيه : أن المراد بالشهرة في المرفوعة الشهرة في الفتوى لا الرواية ـ على ما سوف يأتي الحديث عنه ـ ولو سلم إرادة الشهرة الروائيّة منها فلا بدّ وأن تفترض بدرجة لا تبلغ مرتبة التواتر ، لأن الرواية فرضت بنفسها الترجيح بالأصدقية والأعدلية عند تكافئهما من ناحية الشهرة فيراد مرتبة من الشهرة يبقى معها مجال للترجيح السندي بمثل الأصدقية والأعدلية.

إلاّ أن الرواية ساقطة سنداً لأنها مرفوعة العلامة بزعم صاحب غوالي اللئالي. هذه هي مهم ما يمكن أن يستدل به من الروايات على التخيير مطلقاً أو في الجملة. وقد عرفت عدم تمامية شيء منها.

__________________

(١) جامع أحاديث الشيعة ج ١ ، ص ٦٢.

(٢) مصباح الأصول ، ص ٤٢٣.

٣٤٨

أَخبارُ الترجيح

وأما الأخبار الدالة على المرجحات وتقديم أحد الخبرين المتعارضين على أساسها فهي عديدة ومختلفة ، وتنسيقاً للبحث عنها نصفها إلى أربعة أصناف.

١ ـ ما يدل على الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامة.

٢ ـ ما يدل على الترجيح بالشهرة.

٣ ـ ما يدل على الترجيح بالأحدثية.

٤ ـ ما يدل على الترجيح بصفات الراوي.

١ ـ الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامة

: والأخبار الدالة على الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامة كثيرة ، إلاّ أن أهمها وأصحها ما رواه قطب الدين سعيد بن هبة الله الراوندي في رسالته التي ألفها في أحوال أحاديث أصحابنا عن محمد وعلي ابني علي بن عبد الصمد عن أبيهما عن أبي البركات علي بن الحسين عن أبي جعفر بن بابويه عن أبيه عن سعد بن عبد الله عن أيوب بن نوح عن محمد بن أبي عمير عن عبد الرحمن ابن أبي عبد الله قال : ( قَالَ الصّادِقُ عليه‌السلام : إذَا وَرَدَ عَلَيكُم حَدِيثَانِ مُختَلِفَانِ فَاعرِضُوهُمَا عَلى كِتَابِ اللهِ فَمَا وَافَقَ كِتَابَ

٣٤٩

اللهِ فَخُذُوهُ وَمَا خَالَفَ كِتَابَ اللهِ فَرُدّوهُ فَإن لَم تَجِدُوهُمَا في كِتَابِ اللهِ فَاعرِضُوهُمَا عَلى أخبَارِ العَامّةِ فَمَا وَافَقَ أخبَارَهُم فَذَرُوهُ وَمَا خَالَفَ أخبَارَهُم فَخُذُوهُ ) (١).

والكلام حول هذه الرواية يقع تارة : في سندها ، وأخرى : في مفادها ، وثالثة : في علاقتها بسائر الروايات.

أما البحث عن سندها ، فربما يناقش فيه من وجوه.

الأول ـ استبعاد وجود كتاب لقطب الدين الراوندي في أحوال الرّجال لأن اثنين من تلامذة الشيخ الراوندي ـ وهما ابن شهرآشوب ومنتجب الدين ـ قد ترجما أستاذهما في كتابي معالم العلماء وفهرست منتجب الدين ولم يذكرا هذه الرسالة في عداد مؤلفاته ، مما ينفي صحة انتسابها إليه.

ومما يعزز هذا النفي ما أبداه جملة من العلماء كالشيخ أسد الله التستري ـ قده ـ من احتمال أن تكون هذه الرسالة للسيد الراوندي الّذي كان معاصراً مع الشيخ الراوندي المعروف ، فنسب إليه اشتباه.

وهذه المناقشة يدفعها أننا لو فرضنا تمامية طريق لصاحب الوسائل إلى أحد تلامذة الراوندي قد نقل هذه الرسالة عن أستاذه فمجرد سكوت ابن شهرآشوب أو منتجب الدين عن ذكرها في ترجمة الراوندي لا يكفي لإسقاط طريق صاحب الوسائل عن الاعتبار ، إذ لعل هذا الكتاب وصل إلى تلميذ ثالث لم يكن زميلاً لهما ولا معاصراً في تلمذته على الشيخ ، خصوصاً وهذه الرسالة ـ وهي رسالة مختصرة ـ لم تكن ذات شأن بالغ ولذلك لم يكن لها اسم خاص وعنوان واضح حتى أن صاحب الوسائل يذكرها بالوصف وأنها في أحوال أحاديث أصحابنا ، وذكر صاحب البحار أن هناك رسالة للراوندي سماها

__________________

(١) وسائل الشيعة باب ٩ من أبواب صفات القاضي.

٣٥٠

برسالة الفقهاء وقال أنها وصلت إليه عن طريق الثقات ، والمظنون أنها عين الرسالة ، فأي استبعاد في أن يجهل التلميذان وجود مثل هذه الرسالة أو عن إيرادها ضمن مصنفات الشيخ الراوندي ـ قده ـ.

أضف إلى ذلك : أن ابن شهرآشوب ومنتجب الدين ـ قدهما ـ لم يعلم من حالهما أنهما كانا بصدد حصر كافة مؤلفات الشيخ الراوندي ، ولهذا لم يذكرا جميع كتبه بل كل منهما ذكر كتباً لم يذكرها الآخر ـ رغم أن منتجب الدين أطنب في عرض مصنفات أستاذه ـ فقد ذكر ابن شهرآشوب مثلاً كتاباً للراوندي في أولاد العسكريين ولم يذكره الشيخ منتجب الدين ، وذكر منتجب الدين كتاب شرح النهج ولم يذكره ابن شهرآشوب.

ومما يعزز ذلك أيضا ، وجود كتب أخرى نسبت إلى الراوندي مع عدم ذكر التلميذين لها ، من قبيل كتاب قصص الأنبياء الّذي ينقله صاحب الوسائل مع كتاب الخرائج والجرائح عن الراوندي ـ قده ـ وقد صرح ابن طاوس في مهج الدعوات بأنه لسعيد بن هبة الله الراوندي.

الثاني ـ التشكيك في وجود طريق لصاحب الوسائل إلى هذه الرسالة ، لأنه لم يذكر طريقه إليها في كتاب الوسائل فإن غاية ما نجده فيه ما يذكره في فوائده الخاتمة من الطريق المعتمد لديه إلى كتاب قصص الأنبياء وكتاب الخرائج والجرائح للراوندي ، ولم يذكر طريقاً يعتمده في نقل هذه الرسالة.

وهذه المناقشة غير تامة أيضا. لأنه يمكن إثبات طريق لصاحب الوسائل إلى هذا الكتاب بضم كلامين له أحدهما إلى الآخر ، فقد ذكر في فوائده الخاتمة « نروي كتاب الخرائج والجرائح وكتاب قصص الأنبياء لسعيد بن هبة الله الراوندي بالإسناد السابق عن العلامة عن والده عن الشيخ مهذب الدين الحسين بن ردّه عن القاضي أحمد بن علي بن عبد الجبار الطوسي عن سعيد ابن هبة الله الراوندي » ثم يقول « ونروي باقي الكتب بالطرق السابقة » فإنّا

٣٥١

نستظهر من مجموع هذين الكلامين أنه ينقل سائر الكتب التي ذكرها في متن الوسائل والتي لم يصرح بها في المشيخة عن مؤلفها بالإسناد المذكور أيضا.

ومما يشهد على أن هذا الطريق هو سند صاحب الوسائل إلى الرسالة ، طريق العلامة إلى سعيد بن هبة الله الراوندي في إجازته المعروفة التي أحصت عدداً كبيراً من علماء الطائفة فإنه ذكر في تلك الإجازة المعروفة لآل زهرة طرقه إلى كتب الشيعة وإلى كتب العامة ، وقال بأنه يروي جميع كتب سعيد بن هبة الله الراوندي عن فلان ... إلخ. وذكر عين هذا الطريق الّذي ينقل عنه صاحب الوسائل بواسطة العلامة كتابي قصص الأنبياء والخرائج والجرائح والمفروض أن صاحب الوسائل يخبر بأن هذا هو أحد كتب الراوندي أيضا فهذا يعزز أن صاحب الوسائل قد تلقى الرسالة بنفس هذا الطريق العام.

الثالث ـ أن هذه الرسالة لو كان ينقلها صاحب الوسائل عن العلامة بالطريق المتقدم فكيف لا نجد له عيناً ولا أثر في كلمات العلامة ومشايخه فإن من يراجع كتاب التهذيب الّذي ألّفه العلامة في علم الأصول أو كتاب المعتبر للمحقق أو المراجع الأخرى لمشايخنا المتقدمين لا يرى أنهم استدلوا بهذه الرواية على الترجيح أصلاً ، مما يوجب الوثوق بأن هذه الرسالة لم يكن يطلع عليها العلامة أو المحقق وقتئذٍ.

وفيه : أن عدم استدلال العلامة أو المحقق في كتبهم الأصولية بهذه الرواية لا يدل على عدم وجود الرسالة بأيديهم ، لأنهما لم يذكرا أكثر روايات الباب. وقد اقتصر شيخنا المحقق ـ قده ـ في كتاب المعارج على قوله « إذا كان أحد الخبرين المتعارضين مخالفاً للكتاب دون الآخر قدم ما كان غير مخالف على ما كان مخالفاً لأن المخالف لو لم يكن له معارض لا يكون حجة فكيف مع وجود المعارض ، وأما إذا كان أحدهما مخالفاً للعامة دون الآخر فقد قال شيخنا أبو جعفر ـ يعني الشيخ الطوسي ـ قده ـ أنه يقدم ما خالف العامة

٣٥٢

على ما وافق العامة عملاً منه بأخبار الآحاد في المقام وإثباتاً منه للمسألة العلمية بأخبار الآحاد ».

الرابع ـ إن محمداً وعلياً ابني علي بن عبد الصمد ـ الواقعان في السند ـ قد يقال أنهما ليسا محمداً وعلياً ابني علي بن عبد الصمد وإنما هما محمد وعلي ابني عبد الصمد لأنهما شخصان معروفان ومن مشايخ ابن شهرآشوب وأساتذته الذين يروي عنهم وقد وقعا في طرق صاحب الوسائل كثيراً ، وأما محمد وعلي ابنا علي بن عبد الصمد فلم يقعا في طرق صاحب الوسائل وإجازته المعروفة ومن البعيد أن يكون الشيخ الراوندي المتقدم طبقة عن ابن شهرآشوب ينقل عن أولاد علي بن عبد الصمد الّذي هو من أساتذة ابن شهرآشوب ومن ينقل عنه ، مما يوجب قوة احتمال وجود خطأ في البين وأن يكون المقصود محمد وعلي ابني عبد الصمد وهما وإن كان لا إشكال في وثاقتهما وجلالة شأنهما إلاّ أن الإشكال في أبيهما الّذي ينقلان الرواية عنه ـ وهو عبد الصمد ـ فإنه ممن لم يثبت توثيقه.

وفيه : أن محمداً وعلياً ابني علي بن عبد الصمد واقعان في أسانيد الراوندي جزماً وقد تكرر ذلك في كتاب قصص الأنبياء على ما شهد به مؤلف كتاب رياض العلماء ، وقد جاء في ترجمة الراوندي من قبل جملة من العلماء ذكر محمد وعلي ابني علي بن عبد الصمد في عداد مشايخه ولم يجئ ذكر محمد وعلي ابن عبد الصمد أصلاً.

وقد وقع الالتباس في تشخيص علي بن عبد الصمد من جراء تشابه الأسماء حتى ترجم الشيخ الحر ـ ره ـ في كتاب أمل الآمل عدة أشخاص بهذا الاسم فقال : « محمد بن علي بن عبد الصمد النيسابوري فاضل جليل من مشايخ ابن شهرآشوب » (١). وقال : « محمد بن عبد الصمد النيسابوري عالم فاضل

__________________

(١) أمل الآمل ج ٢ ، ص ٢٨٧.

٣٥٣

جليل القدر من مشايخ ابن شهرآشوب » (١) وقال : « علي بن علي بن عبد الصمد التميمي النيسابوري فقيه ثقة قرأ علي والده وعلى الشيخ أبي علي ابن الشيخ أبي جعفر (٢) ». وقال : « الشيخ علي بن عبد الصمد التميمي السبزواري فقيه دين ثقة قرأ على الشيخ أبي جعفر ( يعني الصدوق ) قاله منتجب الدين » (٣) وقال : « الشيخ أبو الحسن علي بن عبد الصمد النيسابوري التميمي فاضل عالم يروى عنه ابن شهرآشوب ولا يبعد اتحاده مع التميمي السبزواري السابق بل الظاهر ذلك » (٤).

والظاهر : أن هناك محمداً وعلياً ابني عبد الصمد ـ وهما المشايخ المعروفين لابن شهرآشوب ـ وهما حفيدين لمحمد أو علي أو حسين أبناء علي بن عبد الصمد الأول ، فهناك علي بن عبد الصمد الأول الجلد الأعلى للأسرة وهو ذلك العالم الجليل الفقيه الّذي كان في طبقة الشيخ الطوسي والمرتضى ـ رهما ـ ويروي عن الصدوق ـ قده ـ بواسطة واحدة غالباً فيما طلعنا عليه ، وإن ادعى أنه قد روى عنه بلا واسطة ، وهذا الشخص لا يمكن أن يكون هو شيخ ابن شهرآشوب بوجه أصلاً. وقد كان له ثلاثة أبناء محمد وعلي وحسين وهم الطبقة الأولى من أولاده ، والأولان منهما هما اللذان يروي عنهما الراوندي هذه الرواية وكانا من مشايخه وهناك حفيد لعلي بن عبد الصمد ـ الجلد الأول ـ اسمه عبد الصمد ولا ندري هل هو ابن علي أو حسين ابني علي بن عبد الصمد ، ولكنه لم يكن ابن محمد بن علي بن عبد الصمد بقرينة تعبير ابنه عنه بأنه عم أبيه. وأيا ما كان فهذا عبد الصمد الثاني له ولدان اسمهما علي ومحمد وهما اللذان من مشايخ ابن شهرآشوب. وهذا التسلسل النسبي يتضح من عدة روايات وكلمات العلماء في ترجمة بعض أفراد هذه الأسرة. نقتصر منها على

__________________

(١) أمل الآمل ج ٢ ، ص ٢٧٨.

(٢) أمل الآمل ج ٢ ، ص ١٩٤.

(٣) أمل الآمل ج ٢ ، ص ١٩٢.

(٤) أمل الآمل ج ٢ ، ص ١٩٢.

٣٥٤

ذكر ما جاء في مهج الدعوات لابن طاوس حيث قال : « قال علي بن عبد الصمد ـ وهو الّذي يروي عنه ابن شهرآشوب ومن مشايخه لأن ابن طاوس شيخ العلامة وابن شهرآشوب في طبقة مشايخ العلامة أو أعلى بقليل ـ أخبرني جدي ـ وهو أحد الأولاد الصلبيين لعلي بن عبد الصمد الأول جد الأسرة ـ قال حدثنا والدي الفقيه أبو الحسن ـ يعني علي بن عبد الصمد جد الأسرة الّذي كان من طبقة السيد المرتضى والشيخ الطوسي فإنه المكنى بأبي الحسن ـ قال حدثنا جماعة من أصحابنا منهم السيد أبو البركات ـ وهو الّذي وقع في طريق رواية الراوندي أيضا ـ عن الصدوق ـ وهذا يدل أيضا على ما ذكرناه من أنه يروي عن الصدوق بواسطة واحدة ـ »

فإن هذا التسلسل الواقع في هذا الطريق يدل على أن علي بن عبد الصمد الّذي هو في طبقة مشايخ ابن شهرآشوب غير علي بن عبد الصمد المكنى بأبي الحسن الّذي يروي عن أبي البركات ، وإنما هو جده الأعلى. فما تقدم من الشيخ الحرفي أمل الآمل من اتحاد الشيخ أبي الحسن علي بن عبد الصمد النيسابوري التميمي الّذي يروي عنه ابن شهرآشوب مع علي بن عبد الصمد التميمي السبزواري الّذي نقل الشيخ الحرّ عن منتجب الدين أنه فقيه دين ثقة قرأ على الشيخ أبي جعفر الصدوق غير صحيح. وعليه فالرواية صحيحة السند من هذه الناحية ، لأن محمداً وعلياً ابني علي بن عبد الصمد ينقلان الرواية عن أبيهما وهو ذلك الشيخ الفقيه الجليل الّذي قرأ على أبي جعفر ـ قده ـ.

الخامس ـ أبو البركات علي بن الحسين العلوي الخوزي الّذي يروي عنه الراوندي لا يوجد دليل على توثيقه عدا شهادة صاحب الوسائل ـ قده ـ بوثاقته وهي لا تفيد في التوثيق ، لأنها لا يحتمل فيها أن تكون عن حسٍ مع هذا البعد الزمني الممتد بينهما وهو قرابة سبعمائة عام فلو فرض وجود احتمال الحسيّة لشهادات الشيخ الطوسي ـ قده ـ في حق الرّواة غير المعاصرين له ـ ولذلك يؤخذ بها ـ فذلك من جهة عدم وجود هذا المقدار من البعد الزمني

٣٥٥

بينه وبين أبعد راوٍ يفرض من أولئك الرّواة.

وفيه : أن المقياس في نشوء احتمال الاستناد إلى الحس في مقابل الحدس والاجتهاد ليس هو طول الزمان وقصره فحسب ، وإنما تتحكم فيه أيضا ملابسات ذلك الفاصل الزمني وظروفه ، فقد يكون الفاصل قصيراً ولكنه قد مضى بنحو لا يوفر للباحث ما يحتاجه من المدارك الواضحة التي تستوجب حسية شهادته بالتوثيق أو الجرح ، وقد تطول الفاصل الزمني دون أن يضر بما تطلبه حسية الشهادة من مدارك ومستندات ، فمثلاً ترى أن التسلسل النسبي لأسرة علوية قد يكون محفوظاً عبر مئات السنين فيستطيع أي فرد منها أن ينسب نفسه إلى أبيه ثم إلى جده وجد جده وهكذا إلى أزمنة سحيقة من تاريخ آبائه وأجداده نتيجة الاهتمام الموجود تجاه هذا النسب المبارك ، بينما لا يتأتى ذلك في حق الأنساب الأخرى ولو لأزمنة قصيرة من تاريخ الآباء والأجداد.

وعلى هذا الأساس ، لو لاحظنا السنين التي تفصل بين الشيخ الطوسي ـ قده ـ وبين الرّواة الذين شهد بوثاقتهم والتي هي أقصر بكثير من الفاصل الزمني بين صاحب الوسائل ـ قده ـ والعلماء الذين يشهد بوثاقتهم ـ كأبي البركات مثلاً ـ نرى فارقاً كيفياً كبيراً بين الزمانين يميز الفاصل الزمني بين صاحب الوسائل وأبي البركات من ناحية إمكانية الحصول فيه على مدارك حسية للشهادة بوثاقته. وذلك الفارق الكيفي يتمثل في توفر الضبط في النقل وشدة الاهتمام بمدارك التوثيق والجرح والتعديل وشيوع كتب الرّجال والإجازات والإسناد التي هي منفذ اطلاع الباحث على معرفة أحوال الرّجال عادة وعدم توفر مثل هذه المدارك وإمكانات البحث والاطلاع في الفترة الزمنية بين الشيخ الطوسي وأصحاب الأئمة حتى أنه لم ينقل فهرست لأحد من الأصحاب في هذه الفترة غير البرقي ـ قده ـ.

ومما يعزز وثاقة أبي البركات أيضا ما جاء في كتاب رياض العلماء في

٣٥٦

ترجمة شخص من العلماء اسمه علي بن أبي طالب بن محمد بن أبي طالب التميمي وهو على ما يظهر من ترجمته متأخر عن ابن شهرآشوب ويعبر عنه بأنه فاضل عالم محدث فقيه قال ـ أي في كتاب رياض العلماء ـ « أنه في عدد من نسخ عيون أخبار الرضا للصدوق ـ قده ـ يوجد فيه إسناد لهذا الكتاب يرجع إلى علي بن أبي طالب بن محمد بن أبي طالب وهو يرويه عن الإمام الفقيه فلان ... ثم يتسلسل في ذكر علمائنا ـ رضوان الله عليهم ـ واحداً بعد آخر إلى أن يصل إلى الواسطة قبل الصدوق ، فيقول : قال حدثنا الإمام الزاهد أبو البركات الخوزي عن الصدوق ».

فإن هذا الكلام وأمثاله كما يؤيد وثاقة أبو البركات حيث يعبر عنه بالإمام الزاهد وهي رتبة عالية من التوثيق لا يلقب بها إلاّ أجلاء علماء الطائفة كذلك يثبت ما قلناه آنفاً من انتشار الأسناد والمدارك التي يتيح إمكانية التعويل عليها في مجال التعرف على أحوال الرّجال في الفترة الزمنية التي عاش فيها صاحب الوسائل ـ قده ـ فاحتمال حسية شهادته بتوثيق أبو البركات موجود فتكون شهادته معتبرة لا محالة.

وهكذا يتضح أن رواية الراوندي صحيحة سنداً.

وأما الحديث عن مفادها فقد اشتمل مفادها على مرجحين طوليين.

الأول ـ الموافقة والمخالفة مع الكتاب ، فيرجّح ما وافق الكتاب على ما خالفه ومقتضاه الاقتصار في الترجيح على خصوص ما إذا كان أحد الخبرين موافقاً مع الكتاب والآخر مخالفاً له فلا يكفي مجرد مخالفة أحدهما للكتاب في ترجيح الآخر عليه. اللهم إلاّ أن يستظهر كفاية ذلك بالتعدي والفهم العرفي بدعوى : أن مناسبات الحكم والموضوع العرفية في باب جعل الحجية والطريقية تقتضي أن يكون الميزان في الترجيح عدم المخالفة مع الكتاب الكريم لوضوح عدم مجيء جميع التفاصيل وجزئيات الأحكام الشرعية فيه ، فيكون المراد

٣٥٧

من الموافقة عدم المخالفة.

الثاني ـ المخالفة والموافقة مع العامة فيرجّح ما خالف أخبارهم على ما وافقها. وقد يقال باختصاص هذا الترجيح بما إذا كانت المخالفة والموافقة مع أخبارهم لأنه الّذي نصّ عليه الحديث ، إلاّ أن الصحيح التعدي إلى الموافقة والمخالفة مع فتاواهم وآرائهم أيضا وإن كانت على أساس غير الأخبار من أدلة الاستنباط عندهم فإنه لا فرق بينه وبين الموافقة مع أخبارهم في الترجيح القائم على أساس نكتة طريقية لا تعبدية.

والمستفاد من الرواية طولية الترجيحين وأن الأول منهما مقدم في مقام علاج التعارض على الثاني كما هو واضح.

وأما الحديث عن نسبتها إلى سائر الأخبار فبلحاظ أخبار التخيير لو تم شيء منها تكون رواية الراوندي أخص مطلقاً باعتبارها تثبت الترجيح في قسم خاص من حالات التعارض وهو ما إذا كان أحد المتعارضين موافقاً مع الكتاب أو مخالفاً مع العامة ، وأما بلحاظ أخبار الترجيح الأخرى أو أخبار التوقف والإرجاء ، فسوف نتعرض إلى نسبتها مع رواية الراوندي لدى التعليق على كل واحد منها.

ومن جملة أخبار الترجيح بمخالفة العامة ، رواية الحسين بن السري قال : « قَالَ أبُو عَبدِ اللهِ عليه‌السلام : إذَا وَرَدَ عَلَيكُم حَدِيثَانِ مُختَلِفانِ فَخُذُوا بِمَا خَالَفَ القومَ » (١).

وهي ساقطة سنداً ، ولكنها موافقة دلالة مع رواية الراوندي في ترجيح ما خالف العامة على ما وافقهم بعد أن تعدينا في فهم رواية الراوندي إلى مطلق المخالفة مع فتاواهم. نعم هذه الرواية مطلقة تشمل صورة مخالفة الخبر المخالف مع العامة للكتاب الكريم أيضا فلا بدّ من تقييدها برواية الراوندي باعتبارها

__________________

(١) وسائل الشيعة باب ـ ٩ ـ من أبواب صفات القاضي حديث ٣٠.

٣٥٨

تدل على الترتيب وتخصيص هذا المرجّح بما إذا لم يتم في المرتبة السابقة الترجيح بموافقة الكتاب.

ومنها ـ رواية الحسن بن الجهم قال : « قُلتُ لِلعَبدِ الصّالِحِ عليه‌السلام هَل يَسَعُنَا فِيمَا وَرَدَ عَلَينَا مِنكُم إلاّ التّسلِيمِ لَكُم؟ فَقَالَ : لا وَاللهِ لا يَسَعكُم إلاّ التّسلِيمُ لَنَا ، فَقُلتُ : فَيُروَى عَن أبي عَبدِ اللهِ عليه‌السلام شَيءٌ يُروَى عَنهُ خِلافُهُ فَبِأيّهِمَا نَأخُذُ؟ فَقَالَ : خُذ بِمَا خَالَفَ القَومَ ، وَمَا وَافَقَ القَومَ فَاجتَنِبهُ » (١).

وهي كسابقتها في الدلالة.

ومنها ـ رواية محمد بن عبد الله قال : « قُلتُ للرّضا عليه‌السلام : كَيفَ نَصنَعُ بالخَبَرَينِ المُختَلِفَينِ؟ فَقَالَ : إذَا وَرَدَ عَلَيكُم خَبَرَان مُختَلِفَانِ فَانظُرُوا إلى مَا يُخَالِفُ مِنهُمَا العَامّةَ فَخُذُوهُ وانظُرُوا إلى مَا يُوَافِق أخبَارَهُم فَدَعُوهُ » (٢).

وهي كالسابقتين أيضا.

ومنها ـ مرسلة الطبرسي عن سماعة بن مهران عن أبي عبد الله عليه‌السلام : « قُلتُ : يَرِدُ عَلَينَا حَدِيثَانِ واحِدٌ يَأمُرُنا بالأخذِ بِهِ وَالآخَرُ يَنهَانَا عَنهُ؟ قَالَ لا تَعمل بِوَاحِدٍ منهَا حَتّى تَلقَى صَاحِبَكَ فَتَسألُهُ. قُلتُ : لا بُدّ أن نَعمَلَ بِوَاحِدٍ منهَا؟ قَالَ : خُذ بِمَا فِيهِ خِلافُ العَامّةِ » (٣).

ولو لا إرسالها كنا نقيد بها إطلاق رواية الراوندي في الترجيح بمخالفة العامة بما إذا كان يتحتم العمل بأحد المتعارضين في زمان حضور الإمام عليه‌السلام ، ولكنها ساقطة سنداً بالإرسال ، كما أنها من ناحية سكوتها عن الترجيح بموافقة

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) المصدر السابق.

(٣) المصدر السابق.

٣٥٩

الكتاب تقيّد برواية الراوندي.

ومنها ـ رواية عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله عليه‌السلام : « قَالَ : مَا سَمِعتهُ مِنّي يَشبَهُ قَولَ النّاسِ فِيهِ التّقِيّةُ ، وَمَا سَمِعت منّي لا يَشبَهُ قَولَ النّاسِ فَلا تَقِيّةَ فِيهِ » (١).

إلاّ أن هذه الرواية واردة في طبيعي الخبر لا خصوص المتعارضين فقد يقال بأنها تدل على سقوط ما يشبه العامة عن الحجية مطلقاً ، غير أن الظاهر كون المراد من مشابهة قول الناس أن يكون الحديث متضمناً لنفس الأساليب والأصول الموضوعية التي يتبناها الناس ويستدلون بها في مقام استنباط الحكم الشرعي ، ومثل ذلك لا يبعد أن يكون قرينة نوعية عقلائية على صدور الحديث تقية ، فتكون ساقطة عن الحجية على القاعدة.

ومن جملة ما قد يستدل به على الترجيح بالكتاب ، رواية الحسن بن الجهم عن الرضا عليه‌السلام قال : « قُلتُ لَهُ يَجِيئُنَا الأحَادِيثُ عَنكُم مُختَلِفَة فَقَالَ : مَا جَاءَكَ عَنّا فَقِس عَلى كِتَابِ اللهِ عَزّ وَجَلّ وَأحَادِيثِنَا فَإن كَانَ يَشبَهُهُمَا فَهُوَ مِنّا وَإن لَم يَكُن يَشبَهُهُمَا فَلَيس مِنّا. قُلتُ : يَجِيئُنَا الرّجُلانِ وَكِلاهُمَا ثِقَةٌ بِحَدِيثَينِ مُختَلِفَين وَلا نَعلَمُ أيّهُمَا الحَقُ؟ قال : فَإذَا لَم تَعلَم فَمُوَسّعٌ عَلَيكَ بِأيّهِمَا أخَذتَ » (٢).

إلاّ أن هذه الرواية لا تدل على الترجيح بموافقة الكتاب والسنّة وإنما مساقها مساق بعض أخبار الطرح الدالة على إناطة حجية الخبر بوجود شاهد يشبهه من الكتاب الكريم فلا تكون من أخبار الترجيح بل من أخبار الطرح ، نعم ما جاء في ذيلها يدل على التخيير في موارد التعارض فتكون من أخبار

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) المصدر السابق.

٣٦٠