بحوث في علم الأصول - ج ٧

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٧

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٢٧

الرابعة ـ إن هذه الطائفة إما أن تحمل بحسب المفاد على الطائفة السابقة فتكون إخباراً عن عدم صدور ما لا شاهد عليه من الكتاب الكريم عنهم عليهم‌السلام ـ كما إذا حملنا ما ورد في ذيلها من قوله عليه‌السلام فالذي جاءكم به أولى به ، على الاستنكار بمعنى أنه أولى به من الإمام عليه‌السلام كناية عن كونه من جعل نفسه ـ وإما أن يكون مفادها نفي حجية الخبر الّذي لا يكون عليه شاهد من الكتاب ـ كما إذا كان طرف الإضافة في الأولوية الواردة في الذيل هو السائل لا الإمام ، بمعنى أن الّذي جاء به أولى به من المنقول إليهم لأنه أدرى بصدقة أو كذبه ـ وعلى كلا التقديرين لا يمكن أن يتم الاستدلال.

أما على الأول ، فللعلم بمخالفة هذا المفاد للواقع الّذي كان يمارسه الأئمة عليهم‌السلام على كل حال ، بعد وضوح أن دورهم لم يكن يقتصر على مجرد شرح الأدلة الشرعية الأخرى والاجتهاد في إطارها على حد ما كان يمارسه فقهاء المذاهب الأخرى ، بل كان لهم علاوة على ذلك دور إبراز ما لم يتعرض إليه الكتاب الكريم ولم يستوعبه المقدار الواصل للمسلمين من السنّة النبوية الشريفة في تفاصيل الأحكام وجزئياتها ، حتى كان صدور ذلك عنهم متواتراً إجمالاً من خلال الأحاديث الكثير الواردة عنهم في مختلف أبواب الفقه. فلا بد من حمل هذه الطائفة ـ بناء على هذا التفسير ـ على التقية والمجاراة مع مذاق العامة ، إذا لم يشكل وضوح هذا المعنى بنفسه في ذهن المتشرعة آنذاك قرينة على تعيين معنى آخر لها.

وأما على التفسير الثاني ، فأيضاً لا يمكن الأخذ بإطلاق مفادها لأن حجية خبر الثقة في الجملة كان أمراً مرتكزاً لدى المتشرعة ونقلة الأحاديث ، حتى بالنسبة لما لا شاهد عليه من الكتاب الكريم ، ولذلك وجد ذلك الاهتمام البالغ على نقل الروايات وضبطها ودراستها والاستجازة في مقام نقلها عن الرّواة وأصحاب المصنفات والأصول. وهذا يشكل قرينة لبية متصلة بالخطاب تصرفه إلى معنى آخر ولو أن يكون هو إلغاء الخبر عن الحجية في خصوص

٣٢١

أصول الدين والعقيدة.

وهذا يعني العلم بعدم مطابقة مضمون هذه الروايات للواقع في الفروع فلا بد إما من حملها على التقية أو تقييدها بالأصول والعقائد.

الخامسة ـ أن هذه الطائفة تكون مخالفة للكتاب أو ما يكون كالكتاب سنة قطعية ، سواء استظهرنا منها نفي الحجية مطلقاً ، أو كان مفادها تخصيص الحجية بما عليه شاهد من الكتاب ، لأنها تخالف أدلة حجية خبر الثقة القطعية. فإنها وإن كان فيها ما يمكن تخصيصه بهذه الطائفة ـ من قبيل آية النبأ ، بناء على عموم دلالتها للخبر في الشبهات الحكمية والموضوعية ـ فتحمل على الموضوعية ، غير أن فيها ما لا يمكن تخصيصه بها ، إما لوروده في الشبهات الحكمية خاصة ـ كآية النفر ـ أو لكون الشبهة الحكمية القدر المتيقن من مدلوله أو مورده ـ من قبيل الروايات القطعية التي استدللنا بها على حجية ما يؤديه الثقة المأمون عن المعصوم عليه‌السلام ـ وحينئذ لا بد من القول بسقوط هذه الطائفة عن الحجية ، بأحد البيانات التالية :

١ ـ إنها مشمولة لنفسها فيلزم من حجيتها عدم حجيتها. بالتقريب الّذي أبطلنا به الاستدلال على حجية خبر الواحد بإجماع السيد المرتضى ـ قده ـ ولا يرد عليه ما أوردناه في دفع الأمر الثاني من وجاهة احتمال التفكيك في الحجية بين هذا الخبر بالخصوص وبين غيره مما ليس عليه شاهد من الكتاب. فإن هذا الاحتمال إنما يتجه فيما إذا لم تكن هذه الطائفة معارضة مع الكتاب الكريم ، بل مجرد أنه لا شاهد عليها منه ، وأما مع فرض المعارضة معه ـ سيما إذا كانت بنحو التباين ـ فهي أولى بالسقوط من غيره.

٢ ـ إنها مشمولة للطوائف الدالة على إلغاء ما خالف الكتاب عن الحجية ، أو نفي صدوره عنهم عليهم‌السلام فتسقط عن الحجية بهذا الاعتبار ، أما إذا كانت تلك الطوائف بمجموعها تبلغ حد التواتر الإجمالي فواضح ، وأما إذا كانت

٣٢٢

أخبار آحاد وادعي أن هذه الطائفة تشملها أيضا باعتبارها مما لا شاهد عليه من الكتاب فغايته أن يقع التنافي بينهما والتعارض ، حيث يكون إطلاق دليل الحجية العام لكل منهما موجباً لخروج الآخر عنه ، فيتعارض الإطلاقان لدليل الحجية ، فلا تثبت حجية شيء منهما. ومعه لا يثبت تقييد زائد في دليل الحجية العام.

٣ ـ لو قطعنا النّظر عن روايات طرح ما خالف الكتاب مع ذلك قلنا أن هذه الطائفة تتعارض مع جملة من أدلة الحجية التي وردت في الشبهات الحكمية ، أو التي لا يمكن تخصيصها بغيرها ، وبعد التعارض يرجع إلى مثل آية البناء من أدلة الحجية العامة ، باعتبارها مرجعاً فوقانياً. من دون فرق بين أن يكون المستظهر من مثل رواية ابن أبي يعفور إلغاء الحجية رأساً ، أو تخصيصها بما إذا كان عليه شاهد من الكتاب ، لأن في أدلة الحجية ما لا يمكن تخصيصه بذلك أيضا ، فإن مثل آية النفر أو ما دل من الروايات القطعية على لزوم اتباع ما جاء به الثقة المأمون ، مما لا يمكن أن يكون المراد منه خصوص ما توجد معه دلالة قرآنية ، إذ لو كان النّظر إلى ذلك لكفى أن يعوّل على القرآن الكريم ويأمر بالرجوع إليه من دون حاجة إلى التأكيد على ضرورة النفر والتبليغ والاتباع والإطاعة لما يقوله الثقة المأمون.

٤ ـ لو قطع النّظر عن العموم الفوقاني ـ كما إذا لم يتم الاستدلال بآية البناء ـ مع ذلك أمكن أن يقال : أن النسبة بين رواية ابن أبي يعفور وآية النفر ـ المستفاد من إطلاقها لصورة عدم حصول العلم من الإنذار حجية الخبر ـ هي العموم من وجه لشمول الرواية الأخبار الواردة في غير الفروع التي لا تشملها آية النفر ـ إن صح استظهار اختصاصها بذلك بقرينة كلمة التفقه في الدين ـ وشمول الآية لصورة حصول العلم من الخبر ولا تشملها الرواية ، فإذا فرضنا وجود رواية واحدة ـ ولو غير قطعية سنداً ـ دلت على حجية خبر الثقة في الفروع بالخصوص ـ كما قد يستظهر ذلك من بعض روايات حجية خبر الثقة بقرينة ما ورد فيها من الأمر بالسماع للراوي والإطاعة ـ فسوف تكون النتيجة

٣٢٣

حجية خبر الثقة في الفروع ، لأن هذه الرواية الخاصة بعد إثبات حجيتها بإطلاق الآية تصلح أن تكون قرينة على تخصيص إطلاق رواية ابن أبي يعفور فيكون رفع اليد عن إطلاقها بالقرينة ، بخلاف العكس. فيختص نفي حجية خبر الثقة بالخبر الوارد في أصول الدين ونحوها.

وإن شئت قلت ـ أن تمامية مقتضي الحجية لإطلاق رواية ابن أبي يعفور فرع عدم تخصيصها بما دل على حجية خبر الثقة في الفروع. وهو فرع عدم ثبوت حجيته بإطلاق آية النفر ، وما يكون فرع عدم شيء يستحيل أن يمنع عن ذلك الشيء ، وإلاّ لزم الدور.

هذا كله لو افترضنا أن رواية ابن أبي يعفور تنفي حجية خبر الثقة مطلقاً ، وأما على التفسير الآخر لها ، وكونها تنفي حجية ما ليس عليه شاهد من الكتاب خاصة ، فالأمر أوضح ، لأن الرواية المخصصة سوف تكون حجة على كل حال ، لأنها مما عليه شاهد من الكتاب المتمثل في إطلاق آية النفر.

الطائفة الثالثة ـ ما يكون مفاده نفي حجية ما يخالف الكتاب الكريم. من قبيل رواية السكوني عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّ عَلى كُلّ حَقّ حَقِيقَةً وعَلى كُلّ صَواب نُوراً ، فَمَا وَافَقَ كِتَابَ اللهِ فَخُذُوهُ وَمَا خَالَفَ كِتَابَ اللهِ فَدَعُوهُ ». ورواية جميل ابن دراج عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال : « الوُقُوفُ عِندَ الشّبهَةِ خَيرُ مِنَ الاقتِحَامِ في الهَلَكَةِ ، إنّ عَلى كُلّ حَقّ حَقِيقَةً وَعَلى كُلّ صَواب نُوراً فَمَا وَافَقَ كِتَابَ اللهِ فَخُذُوهُ وَمَا خَالَفَ كِتَابَ اللهِ فَدَعُوهُ » (١) ..

والأولى وإن كانت غير نقية سنداً إلاّ أن الثانية صحيحة.

__________________

(١) وسائل الشيعة باب ـ ٩ ـ من أبواب صفات القاضي.

٣٢٤

وقد اشتملت هذه الطائفة من أخبار الطرح على عقدين. عقد سلبي يردع عن حجية ما خالف الكتاب الكريم ، وعقد إيجابي يأمر بأخذ ما وافق الكتاب الكريم. ولا بد من الحديث حول كل من العقدين في نقاط.

الأولى ـ أن مفادها هل يكون جملة خبرية ـ وهي استنكار صدور ما يخالف الكتاب عنهم ـ فتكون كالطائفة الأولى ، أو مجرد نفي الحجية التعبدية المستفاد من الأمر الإرشادي بترك ما خالف الكتاب؟ قد يدعي الأول بقرينة ما ورد فيها من أن على كل صواب نوراً فما لا نور عليه ـ وهو الخبر المخالف للكتاب ـ ليس بصواب فلا يكون صادراً عنهم.

إلاّ أن الصحيح هو الثاني ، لأن هذه الجملة لا تعدو أن تكون تعبيراً متعارفاً عن أن الحق يتضح والصواب تبدو دلائله وتبشر أماراته في أغلب الأحيان ، وليس إخباراً عن ملازمة دائمية بين الصدق وبين ظهور النور والحقيقة. ومما يشهد على عدم إرادة الاستنكار ونفي الصدور قوله عليه‌السلام في صدر رواية جميل ( الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة ) الظاهر في وجود الشبهة واحتمال المطابقة للواقع. فلا يستفاد من هذه الطائفة أكثر من نفي حجية ما خالف الكتاب الكريم.

الثانية ـ قد يقال أن هذه الطائفة لا تختص بأخبار الآحاد بل تشمل كل أمارة تؤدي إلى مخالفة الكتاب فتختلف عن الطائفتين السابقتين الظاهرتين بمقتضى سياقهما في النّظر إلى حجية الرواية والسند خاصة. ومن هنا قد يستشكل في تخصيص دليل الحجية العام بها.

إلاّ أن الصحيح ، تقديم إطلاق هذه الطائفة ـ لو تمت ـ على دليل حجية الخبر باعتبار حكومتها عليه ، إذ هي كأدلة المانعية والشرطية فرض فيها الفراغ عن أصل حجية خبر الثقة ليستثنى منها حالة خاصة. فتكون ناظرة إلى دليل الحجية العام وحاكمة عليه ، مضافاً إلى أن القدر المتيقن منها هو

٣٢٥

خبر الثقة باعتباره الفرد البارز والمتعارف والداخل في محل الابتلاء وقتئذ الّذي كان يترقب مخالفته للكتاب تارة وموافقته له أخرى ، فلا يمكن تخصيصها بغير خبر الثقة.

الثالثة ـ إن هذه الطائفة يحتمل في مفادها عدة احتمالات.

الأول ـ أن تكون ناظرة إلى ما كان يعتمد عليه العامة في الفقه من الأحاديث أو الأقيسة والاستحسانات فتردع عنها وترشد إلى أن ما ينبغي الاعتماد عليه إنما هو الكتاب الكريم والسنة الشريفة القطعية ، فتكون كسائر الأدلة الرادعة عن العمل بغير الكتاب وما يكون بحكمه.

وهذا الاحتمال ينفيه تطبيق نفس العنوان في الطوائف الأخرى على ما ينقل عنهم من الروايات المخالفة للكتاب وأنه زخرف باطل لم نقله ، فلا موجب لافتراض اختصاصها بأحاديث العامة وأقيستهم.

الثاني ـ أن تكون متعرضة لخصوص ما يخالف الكتاب وما يوافقه ، فتلغي المخالف عن الحجية وتأمر بأخذ الموافق مع السكوت عن الخبر الّذي لا يوافق الكتاب ولا يخالفه. وهذا الاحتمال يبعده ظهور هذه الروايات في أنها بصدد إعطاء ضابط عملي للمكلفين ، فكيف يتغافل عن هذا الصنف من الروايات التي تشكل أكثر ما صدر عنهم من أحاديث.

الثالث ـ أن يراد من الموافقة عدم المخالفة ، فلا تدل على نفي حجية ما لا يوافق الكتاب ولا يخالفه.

الرابع ـ أن يراد من المخالفة عدم الموافقة ، فتدل على نفي حجية ما لا يوافق الكتاب ولا يخالفه.

ولا يبعد تعين الاحتمال الأخير منهما. بقرينة قوله عليه‌السلام « إن لكل حق حقيقة وعلى كل صواب نوراً » وجعل التفصيل في الحكم بلزوم أخذ ما يوافق

٣٢٦

الكتاب وطرح ما يخالفه من تفريعات تلك الكبرى ، فكأنه يقول ، خذ بما يوافق الكتاب لأنه نور على الصواب ، وحينئذ سوف تصبح هذه الطائفة من حيث المفاد كالطائفة السابقة الدالة على إلغاء مالا شاهد عليه من الكتاب عن الحجية ، والّذي قد يكون عرفاً بحكم إلغاء الخبر عن الحجية مطلقاً ، فلا بد من تخصيصها بالخبر في أصول الدين مثلاً أو حملها على التقية ، على أساس المناقشات المتقدمة في التعليق على تلك الطائفة.

الرابعة ـ أن العقد الإيجابي من مدلول هذه الطائفة دل على لزوم الأخذ بما وافق الكتاب. فهل يستظهر منه تأسيس حجية جديدة غير حجية خبر الثقة ، فتكفي الموافقة للكتاب في حجية الخبر ولو كان من غير ثقة ، أو أنه إرشاد إلى رفع المانع عن الحجية الناتج من مخالفة الخبر للكتاب ، فلا يكون حجة إلاّ إذا اجتمعت شرائط الحجية الأخرى فيه ، شأنه في ذلك شأن أدلة الشرطية والمانعية الأخرى؟

الظاهر هو الثاني ، سواء فسرنا الموافقة بعدم المخالفة أو بوجود مضمونه في الكتاب. أما على الأول فلأن مجرد عدم المخالفة لا يصلح لأن يكون سبباً للحجية بحسب مناسبات الحكم والموضوع العرفية في باب الحجية القائمة على أساس الطريقية والكاشفية. وأما على الثاني ، فلأن تأسيس حجية ما يوجد مضمونه في الكتاب وإن لم يكن لغواً عقلاً ، حيث يمكن أن يظهر أثره فيما إذا فرضنا أن تلك الدلالة القرآنية ساقطة عن الحجية بالتخصيص ونحوه ثم ورد خبر يوافقها ويكون أخص من ذلك المخصص ، فإنه على تقدير جعل الحجية لهذا الخبر ترجع الدلالة القرآنية إلى الحجية ببركة حجية ذلك الخبر بمقدار مفاده. إلاّ أن هذا مجرد أثر عقلي وليس عرفياً ، بل المتفاهم من الأمر بأخذ ما يوافق الكتاب التعويل على الكتاب لا جعل الحجية للخبر الموافق معه. نعم لا مانع من حجيته بدليل آخر إذا اجتمعت سائر شروط الحجية فيه ، لأن المانع هو المخالفة مع الكتاب والمفروض انتفائها.

٣٢٧

الخامسة ـ أن العقد السلبي في هذه الطائفة دل على إلغاء ما يخالف الكتاب عن الحجية ، والمخالفة كما تشمل التنافي بنحو التباين أو العموم من وجه كذلك تشمل التنافي بنحو التخصيص أو التقييد أو الحكومة ، لأن ذلك كله يصدق عليه المخالفة فيكون مقتضى إطلاقها طرح ما يعارض الكتاب الكريم مطلقاً سواء كان تعارضاً مستقراً أو غير مستقر.

وقد أجاب المحققون عن هذا الإشكال بأحد جوابين.

الأول ـ أن المعارضة بنحو التخصيص أو التقييد أو الحكومة ليست بمخالفة عرفاً لأن الخاصّ والمقيد والحاكم تكون قرينة على المراد من العام والمطلق والمحكوم فلا تعارض بينهما.

الثاني ـ وجود علم إجمالي بصدور كثير من المخصصات والمقيدات للكتاب عن الأئمة عليهم‌السلام ، وهذا إن لم يشكل قرينة متصلة تصرف عنوان المخالفة في هذه الروايات إلى الأنحاء الأخرى من المخالفة ، أي التعارض المستحكم فلا أقل من سقوط الإطلاقات القرآنية عن الحجية بالتعارض الداخليّ فيما بينها على أساس هذا العلم الإجمالي ، فتبقى الأخبار المخصصة على حجيتها.

أقول : تارة ، يراد من المخالفة المخالفة مع دلالة قرآنية يكون مقتضي الحجية فيها ثابتاً حتى بعد مجيء الخبر المخالف ، كما في موارد عدم قرينية الرواية المخالفة وعدم وجود ما يسقط الظهور القرآني عن الحجية في نفسه. وأخرى : يراد المخالفة مع دلالة قرآنية يكون مقتضي الحجية فيها محفوظاً بقطع النّظر عن الرواية المخالفة فيشمل صورة قرينية الخبر المخالف وتكون هذه الطائفة بنفسها دليلاً على سلب الحجية عن القرينة المخالفة. وثالثة : يراد المخالفة مع دلالة قرآنية ولو لم يكن مقتضي الحجية محفوظاً فيها حتى لو قطع النّظر عن الخبر المخالف باعتبار علم إجمالي بالتخصيص والتقييد ونحو ذلك.

فعلى الاحتمال الأول يتم كلا الجوابين ، لعدم انحفاظ مقتضي الحجية

٣٢٨

إذا كان الخبر المخالف قرينة ، اما للقرينية ، أو للعلم الإجمالي بالتخصيص المستوجب سقوط الظهورات القرآنية عن الحجية.

وعلى الثاني يتم أحد الجوابين فقط وهو فرض وجود علم إجمالي مسقط لمقتضي الحجية في الآيات ، وأما بدونه فإطلاق الطائفة الآمرة بالطرح يقتضي سقوط الخبر المخالف ولو كان قرينة.

وعلى الاحتمال الثالث ، لا يتم شيء من الجوابين ، لأن مقتضى الحجية غير دخيل في ملاك الطرح على هذا الاحتمال.

والجواب بافتراض العلم الإجمالي حيث يتم يتوقف على عدم التسليم بانحلاله بالموارد التي ثبت فيها ورود التخصيص والتقييد على الآيات القرآنية بمقدار يحتمل انطباق المعلوم بالإجمال عليه.

والأوجه من هذه الاحتمالات أوسطها ، باعتبار أن الظاهر من الأمر بطرح ما يخالف الكتاب توجيه المكلف نحو العمل بالكتاب وهذا لا يناسب إلاّ مع انحفاظ مقتضي الحجية فيه بقطع النّظر عن ورود الخبر المخالف فينتفي الاحتمال الثالث ، كما أن الاحتمال الأول منفي بالإطلاق ، لأن عنوان المخالفة صادق على أي حال. وهذا يعني أن الجواب الأول غير تام والجواب الثاني موقوف على عدم الانحلال.

ويمكن أن يجاب أيضا ، بعد الاعتراف بتمامية الإطلاق لشمول موارد المعارضة غير المستقرة أن هناك مخصصاً لهذا الإطلاق ، وهو ما ورد في بعض الأخبار العلاجية مما يستفاد منه الفراغ عن حجية الخبر المخالف مع الكتاب في نفسه. ففي رواية عبد الرحمن بن أبي عبد الله. قال : « قَالَ الصّادِقُ : إذَا وَرَدَ عَلَيكُم حَدِيثَانِ مُختَلِفَانِ فَاعرِضُوهُمَا عَلى كِتَابِ اللهِ فَمَا وَافَقَ كِتَابَ اللهِ فَخُذُوهُ وَمَا خَالَفَ كِتَابَ اللهِ فَردّوهُ ،

٣٢٩

فَإن لَم تَجِدُوهُمَا في كِتَابِ اللهِ فَاعرِضُوهُمَا عَلى أخبَارِ العَامّةِ .. إلخ » (١).

فإن الظاهر من قوله عليه‌السلام إذا ورد عليكم حديثان مختلفان ، أن الإمام عليه‌السلام بصدد علاج مشكلة التعارض بين حديثين معتبرين في أنفسهما لو لا التعارض ، فيكون دليلاً على عدم قدح المخالفة مع الكتاب في حجية كل منهما الاقتضائية. نعم لا يوجد فيه إطلاق يشمل جميع أقسام الخبر المخالف مع الكتاب ، لأنه ليس في مقام بيان هذه الحيثية ليتم فيه الإطلاق ، فلا بد من الاقتصار على المتيقن من مفاده ، ولا يبعد أن يكون القدر المتيقن منه هو المخالفة على نحو القرينية والجمع العرفي كما في موارد التخصيص والتقييد والحكومة.

السادسة ـ هل تصدق المخالفة فيما إذا كان الخبر مخالفاً مع إطلاق من القرآن الكريم ، كما تصدق فيما إذا كان مخالفاً مع عمومه ، أم لا؟ ذهب السيد الأستاذ ـ دام ظله ـ إلى الثاني ، مدعياً في وجه ذلك : « أن الإطلاق غير داخل في مدلول اللفظ بل الحاكم عليه هو العقل ببركة مقدمات الحكمة التي لا يمكن جريانها في هذه الصورة ، فالمستفاد من الكتاب ذات المطلق لا إطلاقه كي يقال أن مخالفه زخرف وباطل » (٢).

وهذا الّذي أفاده ـ دام ظله ـ مما لا يمكن المساعدة عليه. لأنه لو أريد منه تطبيق المبنى المتقدم اختياره له في باب المطلقات من توقف تمامية الإطلاق على عدم البيان الأعم من المتصل والمنفصل ، والكتاب إذا كان بالعموم كان بياناً رافعاً لموضوع الإطلاق في الخبر وإذا كان بالإطلاق ومقدمات الحكمة لم يحكم العقل بالإطلاق في شيء منهما. ففيه :

أولا ـ عدم تمامية المبنى ، على ما تقدم توضيحه مفصلاً.

__________________

(١) وسائل الشيعة باب ـ ٩ ـ من أبواب صفات القاضي.

(٢) مصباح الأصول ، ص ٤٣١.

٣٣٠

وثانياً ـ لو سلمت تماميته فهو يتوقف على أن تكون دلالة الدليل المنفصل بالوضع كي تكون صالحة لرفع الإطلاق ومقدمات الحكمة ، فلا يصح تطبيقه على المطلقين ، إذ لا يكون شيء منهما صالحاً لذلك إلاّ على معنى غير تام للبيان المأخوذ عدمه قيداً في مقدمات الحكمة ، على ما تقدمت الإشارة إليه في أبحاث التعارض غير المستقر. فالظهور في المطلقين معاً منعقد وعنوان المخالفة صادق على الخبر المعارض مع إطلاق الكتاب أيضا.

وإن أريد : ان الإطلاق دلالة سكوتية فلا يكون لفظاً وكلاماً ليكون قرآناً ، ففيه :

أولا ـ ان الإطلاق وإن كان يستفاد من السكوت وعدم ذكر القيد إلاّ أن عدم ذكر القيد متصلاً بالخطاب يجعل الكلام ظاهراً في الإطلاق بحيث يكون السكوت حيثية تعليلية لإطلاق الخطاب القرآني نفسه.

وثانياً ـ إن الإطلاق لو فرضناه سكوتاً مع ذلك كان كالدلالة اللفظية القرآنية من حيث كونه دلالة قطعية سنداً. والمفروض ـ على ما سوف يأتي الحديث عنه ـ أن الميزان المستفاد من هذه الروايات في طرح ما يخالف الكتاب كونه مخالفاً مع دليل قطعي السند وعلى أساسه عمم هذا الحكم إلى المخالفة مع السنّة القطعية.

وان أريد : أن الإطلاق ليس ظهوراً مستفاداً من الكتاب الكريم ، وإنما هو بحكم العقل فالمخالفة بين الخبر وبين حكم العقل لا الكتاب.

ففيه : أن الإطلاق ومقدمات الحكمة عبارة عن تحليل حال المتكلم في مقام كشف تمام مراده من كلامه باعتباره إنساناً عاقلاً ملتفتاً ولا يقصد بها براهين عقلية. ولذلك لم يكن يستشكل أهل العرف في استفادة الإطلاق كظهور عرفي لكلام المتكلم.

فالصحيح ، عدم الفرق في أنحاء المخالفة بين المخالفة مع عموم الكتاب

٣٣١

الكريم ، أو إطلاقه.

السابعة ـ إذا كانت المخالفة بنحو العموم من وجه ، فهل يسقط الخبر عن الحجية رأساً أو في خصوص مورد التعارض؟ الصحيح هو الثاني ، لأن العنوان الوارد في لسان هذه الأخبار ـ وهو اسم الموصول في قوله « ما خالف الكتاب » ـ مطلق يشمل كل أمارة تخالف الكتاب الكريم وليس مخصوصاً بالحديث أو الرواية ، ومن الواضح أنه في موارد التعارض بنحو العموم من وجه يكون المخالف مع الكتاب إطلاق الحديث لا أصله فلا موجب لسقوط سنده.

وإن شئت قلت : أن هذه الحالة ليست بأشد مما إذا علم بعدم مطابقة الإطلاق للواقع ، فكما أن ذلك لا يؤدي إلى سقوط سند الحديث كذلك الحال في مورد المعارضة مع إطلاق الكتاب أو غيره من الأدلة القطعية. فإن نكتة هذا السقوط إنما هو قطعية المعارض.

والطائفة الأولى وإن كانت ظاهرة في إسقاط السند عن الحجية على ما تقدمت الإشارة إليه ، إلاّ أنها مع ذلك لا تقتضي طرح السند في محل الكلام ، لأن المستفاد منها عرفاً إسقاط السند الّذي لو أخذ به لزم منه طرح مفاد الكتاب القطعي ، وفي موارد التعارض بنحو العموم من وجه لا يلزم منه ذلك ، إذ لم يكن التعارض من جهة المنافاة بين أصل الدلالتين وإنما من جهة خصوصية الإطلاق في الخبر بحيث لو لم يكن يشمل مورد الافتراق لكان مقدماً على إطلاق الكتاب الكريم.

الثامنة ـ هل يتعدى من مخالفة الكتاب إلى مخالفة السنة القطعية النبوية أو مطلق السنة القطعية أم لا؟

الصحيح أن يقال : أن الدلالة القرآنية تشتمل على ثلاث خصائص.

الخصية الأولى ـ أنها كلام الله سبحانه وتعالى المعجز.

٣٣٢

الخصيصة الثانية ـ أنها قطعية الجهة حيث لا يحتمل فيها التقية ونحوها.

الخصيصة الثالثة ـ أنها قطعية الصدور.

وتشترك السنة النبوية القطعية مع الكتاب الكريم في اثنتين من هذه الخصائص وهما الثانية والثالثة ، كما تشترك السنة القطعية غير النبوية مع الكتاب في الأخيرة منها فيما إذا لم تكن قطعية الجهة كما هو الغالب. ولا بد وأن ينظر بحسب مناسبات الحكم والموضوع العرفية لهذا الحكم أن المستفاد من هذه الأخبار دخالة أي واحدة من هذه الخصوصيات في الحكم بطرح المخالف.

أما الخصيصة الأولى فلا يحتمل ـ بحسب المناسبات ـ دخلها في الحكم بالطرح ، فإنها تناسب مثل الحكم باحترام القرآن الكريم أو وجوب الإنصات لآياته أو تلاوته مثلاً لا الحكم بالحجية القائمة على أساس الكاشفية والطريقية. وأما الخصيصة الثانية والثالثة فاحتمال دخالتها معاً في المقام وإن كان معقولاً في نفسه ، ولكن لا يبعد دعوى أن المنسبق إلى الذهن العرفي من هذه الروايات الحكم بإلغاء ما يخالف الكتاب الكريم على أساس كونه قطعياً سنداً لأن قطعية السند هي الصفة البارزة والطابع العام الواضح لدى المتشرعة عن القرآن الكريم كدليل شرعي ، وأما مسألة التقية فلم تكن معروفة لدى الجميع ، خصوصاً في مثل عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الّذي أسندت إليه في جملة من هذه الروايات قاعدة طرح ما خالف الكتاب. فالصحيح تعميم الحكم بالطرح إلى المخالفة مع كل دليل قطعي السند.

التاسعة ـ قد أشرنا فيما سبق إلى أنه يمكن تفسير مفاد هذه الأخبار بنحو آخر لا يحتاج معه إلى جل الأبحاث المتقدمة ، وذلك التفسير هو : أنه لا يبعد أن يكون المراد من طرح ما خالف الكتاب الكريم ، أو ما ليس عليه شاهد منه ، طرح ما يخالف الروح العامة للقرآن الكريم ، وما لا تكون نظائره وأشباهه موجودة فيه. ويكون المعنى حينئذ أن الدليل الظني إذا لم يكن منسجماً مع

٣٣٣

طبيعة تشريعات القرآن ومزاج أحكامه العام لم يكن حجة. وليس المراد المخالفة والموافقة المضمونية الحدية مع آياته. فمثلاً لو وردت رواية في ذم طائفة من الناس وبيان خستهم في الخلق أو أنهم قسم من الجن ، قلنا أن هذا مخالف مع الكتاب الصريح في وحدة البشرية جنساً وحسباً ومساواتهم في الإنسانية ومسئولياتها مهما اختلفت أصنافهم وألوانهم. وأما مجيء رواية تدل على وجوب الدعاء عند رؤية الهلال مثلاً فهي ليست مخالفة مع القرآن الكريم وما فيه من الحث على التوجه إلى الله والتقرب منه عند كل مناسبة وفي كل زمان ومكان. وهذا يعني أن الدلالة الظنية المتضمنة للأحكام الفرعية فيما إذا لم تكن مخالفة لأصل الدلالة القرآنية الواضحة تكون بشكل عام موافقة مع الكتاب وروح تشريعاته العامة ، خصوصاً إذا ثبتت حجيتها بالكتاب نفسه.

ومما يعزز هذا الفهم ، مضافاً إلى أن هذا المعنى هو مقتضى طبيعة الوضع العام للأئمة المعصومين عليهم‌السلام ودورهم في مقام بيان الأحكام الأمر الّذي كان واضحاً لدى المتشرعة ورواة هذه الأحاديث أنفسهم والّذي على أساسه أمروا بالتفقه في الدين والاطلاع على تفاصيله وجزئياته التي لا يمكن معرفتها من القرآن الكريم ، مما يشكل قرينة متصلة بهذه الأحاديث تصرفها إلى إرادة هذا المعنى. ما نجده في بعضها من قوله ( إن وجدتم عليه شاهداً أو شاهدين من الكتاب ) فإن التعبير بالشاهد الّذي يكون بحسب ظاهره أعم من الموافق بالمعنى الحرفي ، مع عدم الاقتصار على شاهد واحد خير قرينة على أن المراد وجود الأمثال والنّظائر لا الموافقة الحدية.

وقد جاء هذا المعنى في رواية الحسن بن الجهم عن العبد الصالح : « قَال : إذَا جَاءكَ الحَدِيثَانِ المُختَلَفَانِ فَقسهُمَا عَلى كِتَابِ اللهِ وَأحَادِيثِنا فَإن أشبَهَهَا فَهُوَ حَقّ وإن لَم يُشبِههَا فَهُوَ بَاطِلٌ » (١).

__________________

(١) جامع أحاديث الشيعة المجلد الأول ، ص ٦٤.

٣٣٤

وهذه الرواية وإن كانت واردة في فرض التعارض ، إلاّ أنها بحسب سياقها تشير إلى نفس القاعدة المؤكد عليها في مجموع أخبار الباب.

وعلى هذا الأساس يتضح أنه لا يستفاد من أخبار الطرح إلغاء الأدلة الظنية المعارضة مع الكتاب الكريم معارضة لا توجب إلغاء أصل مفاد قرآني واضح ، كما في موارد التعارض غير المستقر ، بل التعارض بنحو العموم من وجه أيضا ، وإنما نحكم بسقوطها في مورد المعارضة بمقتضى القاعدة المتقدم شرحها في المسألة السابقة.

٣٣٥
٣٣٦

أَخبارُ العِلاج

وهي الأحاديث الواردة عن المعصومين عليهم‌السلام لعلاج حالات التعارض والاختلاف الواقع بين الروايات.

والطريف أن هذه الأخبار قد ابتلت بنفسها بالتعارض فيما بينها ، لأنها وردت بمضامين مختلفة قد يستفاد من بعضها التخيير. وقد يستفاد من بعضها التوقف أو الإرجاء ، وقد يستفاد من بعضها الترجيح بالأحدث زماناً ، أو بموافقة الكتاب أو مخالفة العامة أو غيرها من المرجحات. فلا بدّ من تحديد مدلولها ، ليرى هل يتمخض منها مطلب زائد على مقتضى القاعدة الأولية المنقحة في المسألة السابقة أم لا.

وفي هذا الضوء يمكننا أن نصنف أخبار العلاج إلى ثلاث طوائف.

١ ـ أخبار التخيير.

٢ ـ أخبار الترجيح.

٣ ـ أخبار التوقف والإرجاء.

وفيما يلي نتحدث عن كل قسم من هذه الأقسام تباعاً.

٣٣٧

اخبار التخيير

ذهب المشهور إلى التخيير في حالات التعارض إذا لم يكن يوجد أحد المرجحات القادمة ، وقد استندوا في ذلك إلى عديد من الروايات.

منها : رواية سماعة عن أبي عبد الله عليه‌السلام « سَألتُهُ عَنِ الرّجُلِ اختَلَفَ عَلَيهِ رَجُلانِ مِن أهلِ دِينهِ في أمرٍ كِلاهُمَا يَروِيهِ أحَدُهُمَا يَأمُرُ بِأخذِهِ وَالآخَرَ يَنهَاهُ عَنهُ كَيفَ يَصنَعُ؟ فَقَالَ : يُرجِئُهُ حَتّى يَلقَى مَن يُخبِرَهُ فَهُوَ في سِعَةٍ حَتّى يَلقَاهُ » (١). وهي تامة سنداً.

وأما دلالتها ، فتقريب الاستدلال بها على مدعى المشهور ـ التخيير ـ أن قوله عليه‌السلام ( فهو في سعة حتى يلقاه ) ظاهر في جواز الأخذ بأيهما شاء وهو معنى التخيير ، وأما قوله ( يرجئه حتى يلقى من يخبره ) فهو راجع إلى الحكم الواقعي وكيفية اكتشافه فلا ينافي التخيير في الحجية الّذي هو حكم ظاهري.

وقد أورد عليه السيد الأستاذ ـ دام ظله ـ : بأن موردها ما إذا دار الأمر بين محذورين بقرينه ما افترض فيها من أن أحد المخبرين يأمر بشيء والآخر

__________________

(١) وسائل الشيعة باب ٩ من أبواب صفات القاضي.

٣٣٨

ينهي عنه ، والتخيير في مثل ذلك على مقتضى القاعدة فليس في الرواية حكم جديد (١).

وهذا الإيراد قابل للدفع.

فإنه أولا ـ التخيير العملي في موارد الدوران بين المحذورين إنما ينتهى إليه فيما إذا لم يكن أصل حاكم ، كعموم فوقاني يثبت أحد الحكمين الإلزاميين أو أصل عملي منجّز له ، وإلاّ كانت النتيجة التعيين لا التخيير فيمكن أن يقال : مقتضى إطلاق الرواية لفرض وجود مرجع من هذا القبيل كون التخيير المذكور تخييراً في الحجية فيكون أمراً زائداً على مقتضى القاعدة.

وثانياً ـ ان أريد أن غاية ما يستفاد منها التخيير في الحجية في موارد الدوران بين المحذورين وهو ثابت في نفسه بحكم العقل ، فمن الواضح أن العقل لا يحكم إلاّ بالتخيير في مقام العمل لا التخيير في الحجية المساوق مع حجية ما يلزم به وتعيينه. وان أريد أن غاية ما يستفاد من السعة عدم المنجزيّة والعذر في مقام العمل ، فهذا لا يتوقف على أن يكون النّظر إلى فرض الدوران بين المحذورين ، بل هو إشكال آخر على الرواية حتى لو فرض إطلاق مفادها من حيث المورد ، لأنه يساوق البراءة الجارية في غير موارد الدوران بين محذورين أيضا. وهو مرتبط بما يستظهر من قوله عليه‌السلام ، ( فهو في سعة حتى يلقاه ) من حيث كون المراد السعة في الأخذ بأحدهما في مقام العمل بالحجة أو مجرد الترخيص الظاهري في مقام الامتثال.

وثالثاً ـ أن التخيير في موارد الدوران بين المحذورين ـ عند من يقول به ـ إنما هو فيما إذا كان جنس الإلزام معلوماً ، فحمل التخيير في الرواية على التخيير العملي الثابت بمقتضى القاعدة في موارد الدوران بين المحذورين موقوف على افتراض ورودها في مورد العلم بجنس الإلزام ، مع أن السائل

__________________

(١) مصباح الأصول ، ص ٤٠٠.

٣٣٩

لم يظهر من سؤاله فرض العلم بالإلزام وإنما الّذي فرضه ورود خبرين متعارضين وهذا لا يلزم العلم منه بجنس الإلزام إذ يحتمل كذبهما معاً. فإن أراد السيد الأستاذ من التخيير المستفاد من الرواية ما يقابل البراءة فإذا كان يستفيد العلم بجنس الإلزام من مجرد فرض السائل روايتين إحداهما تأمر والأخرى تنهى ، فهو غير تام كما عرفت. وإذا كان يدعي أن جامع الإلزام يثبت بنفس هذين الخبرين المتعارضين ، لدلالة الرواية على حجية أحدهما في الجملة فهذا أمر زائد على مقتضى القاعدة ، ويكون من حيث النتيجة العملية كالحجية التخييرية لأحدهما في موارد الدوران.

وإذا أراد من التخيير المستفاد من الرواية ما يعم البراءة وعدم التخيير غاية الأمر أنها بملاك العجز وعدم القدرة على الاحتياط لا بملاك الجهل ، وهو لا يفرق فيه بين فرض العلم بجنس الإلزام وعدمه ، فهذا مرجعه إلى مناقشة أخرى في الرواية وهي دعوى : أن مفادها ليس بأكثر من السعة بمعنى البراءة وعدم المنجزية لا التخيير ، سواء كان موردها فرض الدوران بين المحذورين أم لا.

والتحقيق ، أن الاستدلال بهذه الرواية على التخيير المزعوم غير تام ، وذلك لوجهين :

الأول ـ قوة احتمال أن يكون الملحوظ فيها حالات التعارض الواقعة في أصول الدين ونحوها من مسائل الجبر والتفويض والقضاء والقدر والبداء والمشيئة بقرينة التعبير الوارد في كلام السائل ( أحدهما يأمر بأخذه ) فإن النّظر لو كان إلى الفروع كان الأنسب أن يعبّر بالأمر بفعله. إذ التعبير بالأخذ يناسب الأمور الاعتقادية. وكذلك التعبير الوارد في جواب الإمام عليه‌السلام من قوله ( يرجئه حتى يلقى من يخبره ) فإن الإرجاء ـ وكذلك التعبير بمن يخبره ـ يناسب الاعتقادات التي تطلب فيها المعرفة لا الفروع التي يطلب فيها الامتثال ويكون الإرجاء فيها موجباً عادة للتفويت ، مضافاً إلى قلة فروض الدوران

٣٤٠