بحوث في علم الأصول - ج ٧

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٧

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٢٧

غير مستقرة فيما نحن فيه ، لأن الخاصّ مقدم على العام المعارض له بالقرينية والمقدم على أحد أجزاء المجموع مقدم على المجموع فلا يعقل أن يكون معارضاً معه ، والسر فيه : أنه لا يوجد هنا تعارض مستحكم بين أطراف أربعة ، وإنما توجد ثلاث معارضات كل منها بين طرفين ، المعارضة بين الخاصّ مع عامه في كل طرف والمعارضة بين العامين بنحو العموم من وجه. والأوليان غير مستقرتين وإنما المستقر المعارضة الثالثة فحسب سواء قيل بانقلاب النسبة أم لا ، أما على الثاني فواضح ، وأما على الأول فلأنه لا وجه لملاحظة تخصيص أحد العامين بمخصصه قبل الآخر حتى يصبح ذلك العام أخص مطلقاً من العام الآخر ، فإنه ترجيح بلا مرجح.

وإن ادعي ذلك على أساس أن كلاً من العامين يعارض مجموع دليلين المخصص والعام الآخر ، لأنهما بمجموعهما مستوعبان لتمام مدلول العام ، فيكون نظير استيعاب المخصصات لتمام مدلول العام. فالجواب : أن المجموع المركب من العام الآخر والمخصص وإن كان معارضاً مستوعباً لتمام مدلول العام الأول إلاّ أن هذه المعارضة منحلة إلى تعارض غير مستقر وتعارض مستقر ، لأن هنالك معارضتين إحداهما بين العام ومخصصه ، والأخرى بين العامين من وجه. والمعارضة الأولى فيها جمع عرفي فلا تكون من التعارض المستقر حتى يسري إلى السند. ولا يقاس بموارد استيعاب المخصصات لتمام مدلول العام ، لأن كل واحد من المخصصات لو لوحظ وحده كانت معارضته للعام غير مستقرة ، إلاّ أنه لا يمكن تقديمها على العام ، لا جمعاً ولا بدلاً ، فتسقط الجميع عن الحجية.

إن قلت ـ إن قواعد الجمع العرفي إنما تكون من أجل علاج التعارض غير المستقر والجمع بين الأدلة بنحو لا تسقط عن الحجية ، فلا تنطبق فيما إذا لزم من تطبيقها إلغاء دليل رأساً ، كما في المقام.

وإن شئت قلت : إن نظرية التخصيص بالمنفصل لما كانت بملاك التوسعة

٣٠١

في القرينية وتنزيل المخصص المنفصل منزلة المتصل ، فلا تقتضي التخصيص إلاّ في مورد لو فرض اتصال الأدلة المتعارضة ، كانت القرينية محفوظة ، وهذا غير محفوظ في المقام ، إذ لو فرض اتصال الأدلة الثلاثة جميعاً وصدورها في مجلس واحد لم يكن التعارض بين العامين فقط بل كان الإجمال سارياً إلى الأدلة الثلاثة كلها.

قلت : إن قواعد الجمع العرفي ليس من أجل علاج التعارض بين الأدلة بنحو لا تسقط عن الحجية بحيث يكون تطبيقها مشروطاً بعدم استلزامه إلغاء حجية أي واحد من المتعارضين. وإنما هي من أجل التقريب نحو مراد المتكلم فلا موجب لعدم تطبيقها إذا تمت مقتضياتها ولو لزم منه إلغاء دليل برأسه ، وإنما لم يطبق التخصيص على المخصصات المستوعبة لتمام مدلول العام الواحد باعتبار عدم تمامية المقتضي فيها ، لعدم صلاحية مجموعها للقرينية والكشف عن المراد من العام ، وبعضها وإن كان صالحاً لذلك إلاّ أن ترجيحه على غيره بلا مرجح.

وعلى هذا الأساس ، لو فرض صدور الأدلة الأربعة في مجلس واحد متصلاً. كان كل من الخاصّين تام الاقتضاء في الكشف عن المراد من العام المتصل به. وينحصر التعارض والإجمال في العامين فقط. ويكون هذا من قبيل ما إذا لم تنعقد دلالة تصورية من أول الأمر في العامين إلاّ بلحاظ مورد اجتماعهما فحسب ، كما لو قيد مدخول أداة العموم في كل منهما بمورد اجتماعه مع الآخر.

وهكذا يتضح أن مجرد كون رفع اليد عن أحد الأدلة موجباً لارتفاع التعارض المستقر فيما بينها لا يشكل مقياساً فنياً لسريان التعارض إليها جميعاً. بل لا بد من تحديد مركز التعارض في كل منها وتشخيص ما يكون منها غير مستقر فيطبق عليه قواعد الجمع العرفي ، وما يكون منها مستقراً فيطبق عليه الترجيح أو التخيير أو التساقط.

٣٠٢

الصورة الثالثة ـ العام الواحد مع ورود تخصيصات عديدة عليه ، ومن أجل سهولة استيعاب حكم هذه الصورة بشقوقها ، نفترض ورود مخصصين بأحد الأنحاء التالية :

النحو الأول ـ أن يكون المخصصان بحسب الموضوع متباينين ، فيكون ما يشمله أحدهما غير ما شمله الآخر ، ويفرض عدم استيعابهما لتمام مدلول العام تارة ، واستيعابهما له أخرى ولو عرفاً. ففي الفرض الأول لا ريب في تقديم المخصصين معاً على العام تطبيقاً لقاعدة التخصيص ، سواء قيل بانقلاب النسبة أولا. وفي الفرض الثاني يقع التعارض بين العام ومجموع الخاصّين وهو تعارض مستقر يسري إلى السند في الأدلة الثلاثة ، كما تقدمت الإشارة إليه.

النحو الثاني ـ أن يكون المخصصان بحسب الموضوع عامين من وجه ، فإن كانا بمجموعهما مستوعبين تمام مدلول العام فحكمه حكم القسم الثاني من النحو المتقدم ، وإن كانا غير مستوعبين فحكمه حكم القسم الأول من النحو المتقدم إلاّ أنه يختلف عنه في وجود مجال لتوهم انقلاب النسبة في هذا النحو ـ على القول به ـ لو لوحظت النسبة بين العام مع أحد المخصصين بعد تخصيصه بالآخر. ولكنه توهم لا يذهب إليه حتى القائلين بانقلاب النسبة ، لأن نسبة الخاصّين إلى العام على مستوى واحد فملاحظة أحدهما في التخصيص قبل الآخر ترجيح بلا مرجح. ومنه يعرف أيضا حال دعوى : تخصيص العام بمورد اجتماع المخصصين ، إذا كانا غير متنافيين أولا إعمالاً لكلا المخصصين ، ثم ملاحظة النسبة بين العام وبين موردي الافتراق من المخصصين وقد انقلبت إلى العموم من وجه ، فإن هذا أيضا مستلزم لمحذور الترجيح بلا مرجح ، لأن الخاصّ قرينة على العام بتمام مفاده فملاحظة جزء من مفاده في مقام التخصيص قبل جزئه الآخر ترجيح بلا مرجح.

وأيا ما كان ، فالمخصصان في هذا النحو من التعارض تارة : يكونان متنافيين وأخرى : لا يكونان كذلك. ويحكم في الحالة الأولى بالتعارض بين الخاصّين

٣٠٣

في مورد الاجتماع والرجوع فيه إلى العام بوصفه مرجعاً فوقياً ، ويخصص العام بهما في موردي الافتراق من دون فرق بين القول بانقلاب النسبة وعدمه.

وأما في الحالة الثانية فإن كان الخاصان صادرين في زمان واحد خصص العام بكل منهما لا محالة ، من دون فرق بين القول بانقلاب النسبة وعدمه ، لما أشرنا إليه من أن نسبة المخصصين إلى العام على حد واحد فلا وجه لملاحظة أحدهما مع العام قبل الآخر ، أو تخصيص العام أولا بهما في مورد الاجتماع ثم ملاحظة العام مع الخاصّين في موردي الافتراق كي تكون النسبة عموماً من وجه.

وإن كان الخاصان مترتبين زماناً ، فقد أثار فيه السيد الأستاذ ـ دام ظله ـ شبهة ثم حاول الإجابة عليها.

« أما الشبهة ـ فهي أن العام بعد ورود المخصص المتقدم لا يكون حجة إلاّ في المقدار الباقي ، إذ به يكشف عدم تعلق الإرادة الجدية من لفظ العام بالمقدار المشمول له ، فحين ورود المخصص الثاني تكون النسبة بينه وبين العام المخصص العموم من وجه لا محالة.

وأما الجواب : فهو أن الأئمة عليهم‌السلام كلهم بمنزلة متكلم واحد ، فإنهم يخبرون عن الأحكام المجعولة في الشريعة المقدسة في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولهذا يخصص العام الصادر من أحدهم بالخاص الصادر من الآخر منهم ، فإنه لو لا أن كلهم بمنزلة متكلم واحد لا وجه لتخصيص العام في كلام أحد بالخاص من شخص آخر. فإذاً يكون الخاصّ الصادر من الصادق عليه‌السلام مثلاً مقارناً مع العام الصادر من أمير المؤمنين عليه‌السلام مثلاً بحسب مقام الثبوت وإن كان متأخراً عنه بحسب مقام الإثبات ، وكذا الخاصّ الصادر من الباقر عليه‌السلام مثلاً ، فكما أن الخاصّ المقدم زماناً يكشف عن عدم تعلق الإرادة الجدية من لفظ العام بالمقدار المشمول له ، كذلك الخاصّ المتأخر يكشف عن عدم تعلق الإرادة

٣٠٤

الجدية من لفظ العام بالمقدار الّذي يكون مشمولاً له ، وكلاهما في مرتبة واحدة (١).

والتحقيق : أن هذا الكلام ليس جواباً على هذه الشبهة وإنما هو جواب على شبهة أخرى وقع الخلط بينهما. وتوضيح ذلك : أن حديث نظر الخطابات الشرعية إلى زمان واحد ـ وهو زمان التشريع ـ يثبت أن زمان مدلول الخطابات كلها واحد وليس كل خطاب يشرع به حكم جديد من حين صدور الخطاب وبهذا يتم الجواب على شبهة أخرى تورد في عكس مسألتنا ، وهو ما إذا ورد خاص متقدم على عامه ، حيث يشكل على تخصيص العام به : بأن النسبة بينهما عموم من وجه ، لأن الخاصّ يشمل الأفراد في الزمن قبل مجيء العام بخلاف العام فلا تكون النسبة العموم والخصوص المطلق بل من وجه. فيكون الجواب بالالتفات إلى النكتة التي أبرزها السيد الأستاذ في المقام ، فإنه إذا كانت الخطابات كلها تكشف عن أحكام ثابتة ومشرّعة في زمن واحد فالنسبة بينهما لا تختلف ، سواء تقدم العام أو الخاصّ.

إلاّ أن هذه النكتة أجنبية عن الشبهة المثارة في هذا البحث ، لأن جهة الإشكال أن العام لا يبقى حجة بعد المخصص الأول إلاّ في الباقي ، وكون الخطاب يكشف عن أحكام مشرعة في زمان واحد لا يجعل الخاصّ الثاني حجة قبل وروده ، بل الحجة قبله هي العموم ، فإذا كان الميزان في التخصيص ملاحظة النسبة بين المقدار الحجة من كل دليل ـ كما هو مبنى انقلاب النسبة ـ فلا محالة تكون النسبة بين المقدار الحجة من العام حين مجيء المخصص الثاني العموم من وجه ، فالإجابة على هذه الشبهة لا بد وأن تكون بتوحيد زمان الدال والحجة لا الدال والمدلول ، كما هو واضح.

والصحيح في الجواب : أن تحكيم المخصص على العام وتخصيصه به في

__________________

(١) مصباح الأصول ص ٣٩٣.

٣٠٥

كل زمان موقوف على حجية الخاصّ في ذلك الزمان ، فليس ورود الخاصّ في زمان معناه ارتفاع حجية العام إلى الأبد ، ولذلك يرجع العام حجة فيما إذا ورد عليه مخصص أو معارض بعد ذلك ، وعلى هذا الأساس يعرف : أن تخصيص العام في زمن ورود الخاصّ الثاني بالنسبة إلى كل من المخصصين موقوف على حجية ذلك المخصص في ذلك الزمان ، ولا تجدي حجيته في زمن أسبق ، ومن الواضح ، أن حجية كل واحد من المخصصين في زمان صدور الخاصّ الثاني في رتبة واحدة ، وإن كانت إحدى الحجيتين بقائية والأخرى حدوثية. فتخصيص العام بإحداهما قبل الأخرى ترجيح بلا مرجح.

ولو لا هذه النكتة للزم تأسيس فقه جديد بملاحظة الأدلة الشرعية المتعارضة وتحديد النسب والعلاقات فيما بينها.

النحو الثالث ـ ما إذا كانت النسبة بين الخاصّين العموم والخصوص المطلق ، وفي هذا النحو من التعارض ، تارة : يفرض ورود أخص المخصصين منفصلاً عن العام ، وأخرى : يفرض اتصاله به.

أما الفرض الأول ، فالحكم فيه هو تخصيص العام بكلا المخصصين ، سواء كان بينهما تناف أم لا وسواء قيل بانقلاب النسبة أم لا ، إذ لا وجه لملاحظة أحد المخصصين في مقام التخصيص قبل الآخر على ما تقدم شرحه.

وأما الفرض الثاني ، فتارة : لا يكون العام المخصص قد ورد في دليل آخر مجرداً من مخصصه المتصل ، وأخرى : يكون كذلك. ففي الحالة الأولى ، كما إذا ورد ـ أكرم كل شاعر ، ولا تكرم الكذاب منهم ـ وورد في دليل منفصل ـ لا يجب إكرام الشاعر الفاسق ـ لا بد من معاملة العام المخصص بالمتصل مع المخصص المنفصل معاملة العامين من وجه ، سواء قيل بانقلاب النسبة أم لا ، لأن العام لم ينعقد ظهوره في العموم من أول الأمر. لاتصال القرينة على التخصيص.

نعم ، لو فرض أن الخاصّ المتصل كان مخالفاً مع الخاصّ المنفصل كما

٣٠٦

إذا ورد ـ أكرم الشعراء ويحرم إكرام الكذاب منهم ـ وورد ـ يكره إكرام الشاعر الفاسق ـ فبناء على انقلاب النسبة يخصص المخصص المنفصل بالمخصص المتصل أولا ، وبعد ذلك تنقلب النسبة بينه وبين العام إلى العموم والخصوص المطلق بسبب ما طرأ عليه من تخصيص. وبناء على إنكار انقلاب النسبة تبقى المعارضة بينهما في مادة الاجتماع على حالها.

وقد ترد هنا الشبهة المتقدمة في الجهة السابقة ، من أن مقتضى القاعدة القائلة بأن ما كان على تقدير اتصاله قرينة رافعاً للظهور كان على تقدير انفصاله رافعاً للحجية ، أن يخصص العام بأعم المخصصين أيضا ، لأنه إذا ورد متصلاً كان مخصصاً للعام في عرض المخصص الآخر.

والجواب : أن طرف الإضافة والمعارضة ينبغي أن يكون محفوظاً في فرضي الاتصال والانفصال ، فلا بد وأن يبقى ذلك الظهور ـ الّذي لو كان المخصص متصلاً به كان رافعاً له ـ على حاله حين الانفصال حتى يتقدم عليه في الحجية ، وفي المقام لو كان أعم الخاصّين متصلاً كان معارضاً مع ذات العام بعرضه العريض ، لا العام المخصص ، لأن المخصصين نسبتهما إليه على حد سواء ، ولكنه على تقدير الانفصال يكون المعارض هو العام المخصص بالمتصل الّذي لا ينعقد فيه الظهور التصديقي إلاّ بمقدار الباقي الّذي تكون نسبته إلى المخصص المنفصل عموماً من وجه ، فما هو طرف المعارضة على فرض الاتصال غير ما هو طرف المعارضة على فرض الانفصال ، فلا تنطبق القاعدة التي تقضي بأن كل ما يكون قرينة في حال الاتصال يكون كذلك حال الانفصال ، لأنها إنما تصدق في حالة كون طرف المعارضة لما هو المرشح للقرينية واحداً في فرضي الاتصال والانفصال.

وأما في الحالة الثانية ، ففيما يتعلق بالخاص المنفصل مع العام المخصص يكون الحكم كما في الحالة الأولى من التعارض بنحو العموم من وجه ، وإنما يمتاز هذا الفرض على سابقه في مورد الاجتماع وأنه

٣٠٧

هل يصح الرجوع فيه إلى العام الوارد في دليل ثان مجرداً عن المخصص كمرجع فوقي بعد التعارض أم لا؟

ذهب المحقق النائيني ـ قده ـ إلى الثاني مدعياً في وجه ذلك : ( أن أعم الخاصّين يدخل ميدان المعارضة في مورد الاجتماع مع أعم العامين ، ولا يكون مخصصاً ، لأنه إنما يصلح للمخصصية إن لم يكن مبتلىً بالمعارض ، والمفروض ابتلائه بمعارضة العام المخصص بالمتصل فلا يمكن أن يخصص أعم العامين ) (١).

والصحيح هو الأول : لأن أعم الخاصّين ـ الخاصّ المنفصل ـ وإن لم يكن صالحاً لتخصيص أعم العامين في مورد الاجتماع ـ وهو الشاعر الفاسق غير الكذاب ـ لأن التخصيص فرع حجية الخاصّ في نفسه وعدم ابتلائه بالمعارض وهو في المقام مبتلى بالمعارض ، إلاّ أن عدم صلاحيته لتخصيصه لا يجعل العام الأعم صالحاً للمعارضة معه ، بل يستحيل معارضته معه لأن المعارضة بين الدليلين فرع حجية كل منهما في نفسه وأعم الخاصّين لو كان حجة في مورد الاجتماع لكان مخصصاً لأعم العامين ومقدماً عليه ، وهذا يعني أن حجية العام في مادة التعارض ـ بين أعم الخاصّين والعام المخصص بالمتصل ـ موقوفة على سقوط أعم الخاصّين عن الحجية في تلك المادة وإلاّ لكان صالحاً للقرينية ورفع حجية العام ، وما كانت حجيته موقوفة على عدم حجية الآخر يستحيل أن يقع طرفاً للمعارضة معه وأن يكون صالحاً للمانعية عن حجيته كما هو واضح ، وإذا استحال وقوع العام طرفاً للمعارضة مع أعم الخاصّين تعين كونه مرجعاً بعد التعارض بين أعم الخاصّين والعام المخصص بالمتصل ، لأن المقتضي لحجيته في هذه الحالة موجود والمانع مفقود ، أما وجود المقتضي فلأن ظهور العام في العموم منعقد لأن المفروض عدم اتصال

__________________

(١) نقل بتصرف من أجود التقريرات الجزء الثاني ، ص ٥١٩ ـ ٥٢٠.

٣٠٨

أي مخصص متصل به ، وأما عدم المانع فلأن ما يحتمل كونه مانعاً إنما هو معارضة أعم الخاصّين له ، وقد تبرهن امتناع وقوعه طرفاً للمعارضة مع أعم الخاصّين.

هذه مهم صور التعارض بين الأدلة المتعددة استعرضناها لتوضيح موارد انقلاب النسبة وتمييز النتائج المترتبة عليه عما لا يتوقف ترتبه عليه. وربما بقيت صور أخرى جانبية يظهر حكمها بمراجعة الخصوصيات والنكات المتقدمة.

الجهة الثالثة : في موقف القائلين بعدم انقلاب النسبة وتحقيق الحال في ذلك. إن هنالك أربع حالات للدليلين المتعارضين في موارد انقلاب النسبة ـ ولنفرضها فيما إذا ورد دليلان متعارضان بنحو التباين وورد مخصص على أحدهما ومنه يعرف الحال في سائر الموارد ـ.

الحالة الأولى ـ أن يكون العام المخصص ظنياً سنداً وجهة ، وحكم هذه الحالة التعارض والتساقط في غير مورد التخصيص إذا كان العام غير المخصص ظنياً سنداً أيضا. وإلاّ تعين العام المخصص للسقوط باعتباره مخالفاً للدليل القطعي.

الحالة الثانية ـ أن يكون العام المخصص قطعياً سنداً وجهة ، بأن لا يكون أصل صدوره غير جدي وإن كان يحتمل ذلك في عمومه. وفي هذه الحالة سوف يقطع بثبوت مفاد العام المخصص في الجملة وبنحو القضية المهملة ، وبضم هذه القضية المهملة المتيقنة إلى المخصص تتشكل له دلالة التزامية على ثبوت حكم العام المخصص في غير مورد التخصيص في الجملة ، وهذه الدلالة الالتزامية تكون مخصصة لعموم العام الآخر بمقدار تلك القضية المجملة المهملة ، فإن كان لها قدر متيقن تعين فيه ووقع التعارض بين العامين بلحاظ باقي الأفراد إذا كانا متكافئين ، وإلاّ بأن كانت القضية المهملة مرددة بين مجموع الباقي كان من موارد إجمال المخصص ودورانه بين المتباينين المستوجب

٣٠٩

لتشكل علم إجمالي بالتخصيص ، فإن قيل بسقوط العام في موارد دوران المخصص بين متباينين عن الحجية رجعنا إلى حكم العام المخصص في تمام الباقي ، وإن قيل ببقاء حجيته لإثبات الحكم في أحد المتباينين إجمالاً ليتشكل علم إجمالي بالحجية ، فهذا غير منتج في المقام ، لسقوط هذه الحجة على كل حال بالمعارضة ، فلا يتشكل علم إجمالي بالحجة ليكون منجزاً فيما إذا كان مفادها حكم إلزامي.

لا يقال : قد تقدم في مستهل البحث عن التعارض المستقر أن القضية المهملة المرددة بين الجزئية والكلية لا تصلح للقرينية والجمع العرفي ، وبهذا دفعنا محاولات الجمع التبرعي بين المطلقين المتعارضين الرامية إلى تحكيم المهملة في كل منهما على الإيجاب الكلي للمطلق الآخر. فهذه الدلالة الالتزامية للمخصص منتزعة من العام المخصص بالنحو المذكور.

فإنه يقال : لا نريد بالقضية المهملة ما ينتزع من مدلول العام المخصص ، وإنما نريد بها القضية المعلومة إجمالاً من شهادة الراوي القطعية وانتفاء احتمال التقية ، فإن هذا العلم بانضمامه إلى دليل التخصيص يشكل دلالة التزامية تصلح لتخصيص العام الآخر.

وإن شئت قلت : إن المخصص يدل على قضية شرطية هي أنه لو كان حكم العام المخصص ثابتاً في الجملة ، فهو في دائرة الباقي ، وهذه الدلالة صالحة للقرينية وتخصيص العام الآخر بحكم أخصيتها ، وشهادة الراوي القطعية تثبت الشرط فيها فيتم التخصيص ، ولا يمكن للعام أن يعارض شيئاً منهما ، أما الشرط فلكونه قطعياً ، وأما الجزاء على تقدير الشرط فلكونه أخص.

الحالة الثالثة ـ أن يكون العام المخصص ظني السند قطعي الجهة ، وحكم هذه الحالة كما في الحالة السابقة. ولتوضيح ذلك نقول : أن العام المخصص يحتوي على دالين ومدلولين.

٣١٠

الدال الأول ـ كلام الراوي ومدلوله صدور الحديث من المعصوم عليه‌السلام

الدال الثاني ـ كلام المعصوم عليه‌السلام ومدلوله الحكم العام المستفاد منه ببركة أصالة العموم. ومدلول الدال الأول يلازم عقلاً ثبوت الحكم المفاد بالحديث في الجملة ، إذ المفروض قطعية الجهة ، فلو كان الراوي صادقاً في شهادته كان الحكم ثابتاً في الجملة. وقد بينّا في الحالة السابقة أن للمخصص دلالة التزامية على قضية شرطية مفادها أنه لو ثبت حكم العام في الجملة فهو في غير دائرة التخصيص ، وقد كان شرطها مقطوعاً به في الحالة السابقة ولكنه في المقام يثبت بالدال الأول ـ وهو شهادة الراوي ـ تعبداً وبه يتم التخصيص.

لا يقال : عموم العام غير المخصّص ينفي حجية سند العام المخصص ، لأن المعارضة تسري إلى سند العام المخصص بعد أن كان غير قطعي.

فإنه يقال : عموم العام إنما ينفي حجية الدال الأول فيما إذا لم يكن المخصص في البين ، لعدم صلاحية الدلالة الالتزامية على ثبوت الحكم في الجملة المستفادة من شهادة الراوي للحديث العام بمجردها للقرينية وتخصيص العام الآخر ، لأنها وإن كانت أخص إلاّ أنها دلالة لشهادة الراوي فلا تصلح لتقييد كلام الإمام عليه‌السلام وأما بعد فرض ورود الخاصّ من المعصوم عليه‌السلام فسوف تتشكل تلك الدلالة الالتزامية في حديث الإمام نفسه فتصلح للقرينية والتخصيص.

الحالة الرابعة ـ أن يكون العام المخصص قطعي السند ظني الجهة ، بحيث يحتمل فيه عدم الإرادة الجدية وإن كان على خلاف الأصل. والحكم في هذه الحالة استحكام التعارض بين العامين كما كان في الحالة الأولى ، لأن الخاصّ وإن كان يدل على قضية شرطية بالالتزام وهي أخص من العام غير المخصص ولكنه لا يوجد في هاتين الحالتين ما يثبت الشرط لهذه الشرطية الأخص

٣١١

لا بالوجدان ـ لفرض ظنية الجهة ـ ولا بالحجة ، لأن أصالة الجد لا تدل على جدية القضية المهملة المنتزعة من العام ، وإنما تدل على جدية ما هو المدلول لكلام المعصوم عليه‌السلام وما هو المدلول إنما هو القضية المطلقة لا المهملة المنتزعة عقلاً ، وأصالة الجد في القضية المطلقة ساقطة بالمعارضة بحسب الفرض.

٣١٢

المَسألة الثَانية

حكم التعارض المستقر من زاوِيَة الأخبار الخاصّة

١ ـ أخبار الطرح

٢ ـ أخبار العلاج

أ ـ أخبار التخيير

ب ـ أخبار الترجيح

ح ـ أخبار التوقف والإرجاء

٣ ـ تنبيهات المسألة

٤ ـ ملتقى المسألتين

٣١٣

بعد أن اتضح فيما سبق مقتضيات دليل الحجية العام في موارد التعارض بين الأدلة. تنتهي النوبة إلى دراسة حالات التعارض من زاوية الأخبار الخاصة ليرى ـ بحسب النتيجة ـ هل يثبت بها ما يخالف تلك المقتضيات أم لا ، فإن مشكلة التعارض والاختلاف في الروايات الصادرة عن المعصومين عليهم‌السلام قد واجهها أصحاب الأئمة عليهم‌السلام أيضا فتصدوا لمعرفة الموقف الشرعي منها وكيفية علاجها عن طريق السؤال عنهم عليهم‌السلام ، فوردت أحاديث كثيرة ترتبط بهذا الشأن ، ودراسة هذه الأحاديث وتحديد معطياتها تقع في فصلين :

الفصل الأول ـ فيما تقتضيه أخبار الطرح.

الفصل الثاني ـ فيما تقتضيه أخبار العلاج.

٣١٤

أَخبارُ الطّرح

ونقصد بأخبار الطرح الروايات المستفيضة التي تأمر بعرض الحديث على الكتاب والأخذ بما وافقه وطرح ما خالفه. وقد وردت هذه الأخبار بألسنة مختلفة بالإمكان تصنيفها إلى ثلاث طوائف نبحث عنها تباعاً.

الطائفة الأولى ـ ما ورد بلسان الاستنكار والتحاشي عن صدور ما يخالف الكتاب من المعصومين عليهم‌السلام.

ومن نماذج هذه الطائفة رواية أيوب بن حمر قال : « سَمِعتُ أبَا عَبدِ اللهِ عليه‌السلام يَقُولُ : كُلّ حَدِيثٍ مَردُود إلى الكِتَابِ وَالسّنّةِ وَكُلّ شَيءٍ لا يُوَافِقُ كِتَابَ اللهِ فَهُوَ زُخرُفٌ » (١).

ومثلها رواية أيوب بن راشد عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « مَا لَم يُوَافِق مِنَ الحَدِيثِ القُرآنَ فَهُوَ زُخرُفٌ » (٢) وهما صحيحتان سنداً.

والتعبير بالزخرف فيهما يجعلهما من أمثلة هذه الطائفة الدالة على التحاشي عن صدور ما يخالف الكتاب منهم.

ومن نماذج هذه الطائفة أيضا رواية هشام بن الحكم وغيره عن أبي

__________________

(١) وسائل الشيعة باب ٩ من أبواب صفات القاضي.

(٢) وسائل الشيعة باب ٩ من أبواب صفات القاضي.

٣١٥

عبد الله عليه‌السلام قال : « خَطَبَ رَسُولُ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فَقَالَ : يا أيّهَا النّاسُ مَا جَاءَكُم عَنّي يُوَافِقُ كِتَابَ اللهِ فَأنَا قُلتُهُ وَمَا جَاءَكُم يُخَالِفُ كِتَابَ اللهِ فَلَم أقُلهُ » (١).

ولكنها غير نقية السند لورود محمد بن إسماعيل فيه ، وهو مردد بين من ثبت توثيقه ومن لم يثبت. وإنما جعلناها من أمثلة هذه الطائفة باعتبار أن التعبير بـ ( لم أقله ) يفهم منه عرفاً استنكار الصدور والتحاشي عنه لا مجرد الاخبار بعدمه.

وهكذا يتضح أن مفاد هذه الطائفة استنكار صدور ما لا يوافق الكتاب الكريم والسنة الشريفة عنهم. ويقع الحديث بعد هذا حول هذا المفاد من جهات عديدة.

الأولى ـ في تحديد المراد مما لا يوافق الكتاب ، فهل يراد منه المخالفة مع الكتاب بأن يكون هنالك تعرض من الكتاب ولا يوافقه الحديث ، أو يعم ما إذا لم يكن الكتاب متعرضاً لذلك الموضوع أصلاً ، فيكون عدم موافقة الحديث معه من باب السالبة بانتفاء الموضوع؟

لا ينبغي الإشكال في أن المستظهر عرفاً هو الأول ، لأن جملة ما لا يوافق الكتاب وإن كانت قضية سالبة وهي منطقياً أعم من السالبة بانتفاء الموضوع والسالبة بانتفاء المحمول ، إلاّ أن المتفاهم العرفي منها هو السالبة بانتفاء المحمول بأن يكون عدم الموافقة للكتاب مع وجود دلالة كتابية ، ويؤيده : أن الحديث الثالث عبر عما يقابل موافقة الكتاب بالمخالفة ، فيكون شاهداً على إرادة هذا المعنى من عدم الموافقة.

الثانية ـ في أن المستفاد من هذه الطائفة هل هو نفي الصدور كجملة خبرية أو نفي الحجية؟ ويترتب عليه ، أنه على التقدير الثاني تكون هذه الطائفة كالطائفة الثالثة الآتية مقيدة لإطلاق دليل الحجية العام بما إذا لم يكن

__________________

(١) المصدر السابق.

٣١٦

الخبر مخالفاً مع القرآن الكريم ـ على أبحاث وتفاصيل سوف يأتي التعرض لها ـ وعلى التقدير الأول يقع التعارض بين شهادة الراوي بصدور الخبر المخالف مع هذه الطائفة النافية لصدور ذلك عنهم وقد يطبق عليهما حينئذ قواعد التعارض من الترجيح أو التخيير ، بل قد يقال بتقديم الخبر المخالف على أساس الجمع العرفي إذ يحتمل صدوره عنهم واقعاً فيكون تخصيصاً في عموم هذه الطائفة ، فإن الجمل الخبرية كالجمل الإنشائية تقبل التخصيص فيحكم بعدم صدور ما يخالف الكتاب عنهم إلاّ في ذلك المورد.

إلاّ أن هذا الكلام غير تام. وذلك أولا : لأن الإخبار بصدور ما يخالف الكتاب عنهم في موردٍ كلام للراوي لا المعصوم فلا يصلح لتخصيص الجملة الخبرية من كلام المعصوم عليه‌السلام فإن قواعد القرينية والجمع العرفي إنما تجري في الكلمات الصادرة عن متكلم واحد.

وثانياً ـ إباء ألسنة هذه الطائفة عن التخصيص باعتبار ما ورد فيها من لسان الاستنكار وأن ما خالف الكتاب زخرف باطل.

وثالثاً ـ أن مدلول هذه الروايات نفي صدور صرف وجود المخالف للكتاب عنهم ، وأنه لا يصدر منهم ذلك ولو مرة واحدة ، وليس المقصود أنهم لا يخالفون الكتاب في كل فرد فرد من أحاديثهم ، فإن هذا لم يكن هو المحتمل أو المتوقع حصوله ، فصدور حديث واحد كاف لأن يكون طرحاً لمفاد هذه الطائفة وتكذيباً لها. وحينئذ ، إذا احتملنا صدور الحديث المخالف عنهم واقعاً وقع التنافي بين هذه الروايات والخبر المخالف بلحاظ المروي وإن استبعدنا صدوره عنهم على تقدير صدور هذه الطائفة وقع التنافي بينهما بلحاظ الرواية ، إذ يعلم إجمالاً بكذب الشهادة في أحدهما ، ويكون تطبيق أحكام التعارض المستقر من الترجيح أو التخيير مبنياً في هذه

٣١٧

الحالة على القول بتعميمها لموارد التعارض بملاك التكاذب في الرواية أيضا ، على ما سوف يأتي الحديث عنه.

الثالثة ـ فيما تشمله هذه الطائفة من أقسام التعارض بين الخبر والكتاب الكريم. فهل تشمل جميع أقسام التعارض المستقر وغير المستقر أو المراد ، منها قسم خاص فقط. والبحث عن هذه الجهة سوف نتعرض له بصورة مفصلة فيما يأتي عند التعرض لمعنى المخالفة مع الكتاب ، إلاّ أنه ينبغي الإشارة في المقام إلى أنه لا يبعد أن يكون المتفاهم من هذه الطائفة بقرينة لسان التحاشي والاستنكار عدم صدور ما يكون مخالفاً مع الكتاب منهم بمعنى عدم صدور ما يكون مستوجباً لطرح القرآن وتكذيبه لا مجرد المخالفة معه بالتخصيص أو التقييد ، بل ولا المخالفة بنحو العموم من وجه مما لا يستلزم طرح الكتاب وقد شاع لدى المتشرعة صدوره منهم كثيراً ، فإن هذا هو الّذي يناسب أن يستنكر ويتحاشى منه.

الطائفة الثانية ـ ما دل على إناطة العمل بالرواية بأن يكون موافقاً مع الكتاب وعليه شاهد منه ، من قبيل رواية أبي يعفور قال : ( سَألتُ أبَا عَبدِ اللهِ عَنِ اختِلافِ الحَدِيثِ يَروِيهِ مَن نَثِقُ بِهِ وَمِنهُم مَن لا نَثِقُ بِهِ؟ قَال : إذَا وَرَدَ عَلَيكُم حَدِيثٌ فَوَجَدتُم لَهُ شاهِداً مِن كِتابِ اللهِ أو مِن قولِ رَسُولِ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وَإلاّ فالّذِي جاءكُم بِهِ أولى بِهِ » (١).

والتعبير باختلاف الحديث الوارد في كلام السائل ـ سواء أريد به تنوع الحديث بمعنى مختلف الحديث ، أو أريد به تعارض الحديث وتهافته أو أريد الحديث المختلف المتناقض مع المسلمات والمركوزات الدينية الثابتة بالكتاب والسنة ـ لا يضرّ بالاستدلال ، لأن الاستدلال إنما يكون بجواب الإمام عليه‌السلام الّذي يحتوي على كبرى كلية مستقلة تدل على أن كل حديث ليس عليه شاهد

__________________

(١) وسائل الشيعة باب ٩ من أبواب صفات القاضي.

٣١٨

من الكتاب الكريم أو السنّة النبوية فلا يؤخذ به.

والتفسير المشهور لمفاد هذه الطائفة : أن كل حديث لا يكون في القرآن دلالة ، ولو بالعموم أو الإطلاق ، توافق مدلوله وتشهد عليه لا يكون مقبولاً.

ونحن نجعل البحث حول الاستدلال بهذه الطائفة مبنياً على هذا التفسير ، تاركين التعرض لتفسير آخر محتمل في معنى هذه الروايات جميعاً إلى نهاية المطاف ، فنقول :

يمكن أن يسجل على الاستدلال بهذه الطائفة عدة مفارقات.

الأولى ـ أن مفادها عرفاً في حكم إلغاء حجية خبر الواحد مع كونها أخبار آحاد ، ولا يمكن الاستناد في إلغاء حجية خبر الواحد إلى خبر واحد. أما كون مفادها بحكم الإلغاء فباعتبار أنها وإن دلت على عدم حجية خصوص ما ليس عليه شاهد من الكتاب الكريم ، إلاّ أن ذلك مساوق عرفاً لإلغاء الخبر مطلقاً ، فإن الغرض العرفي من جعل الحجية للخبر إثبات ما لا يوجد عليه دليل مسلم من كتاب أو سنّة قطعية به.

وأما أن خبر الواحد لا يستند إليه في إلغاء حجية خبر الواحد. فلأنه يستلزم الخلف كما هو واضح.

وهذا الاعتراض ، صحيح لا دافع له.

الثانية ـ لو افترضنا أن المستفاد من هذه الطائفة إلغاء حجية صنف خاص من الأخبار تخصيصاً لدليل الحجية العام ، مع ذلك يقال : بأن تخصيص أدلة حجية خبر الواحد العامة بخصوص الخبر الّذي عليه شاهد من الكتاب الكريم تخصيص غير عرفي ، فتكون معارضة معها لا مخصصة ، ومعه لا يبقى ما نثبت به حجية هذه الطائفة التي هي من أخبار الآحاد أيضا.

وهذا الاعتراض مبني على انحصار أدلة حجية الخبر في الأدلة اللفظية ،

٣١٩

وأما إذا كان هناك دليل لبي متمثل في السيرة العقلائية أو المتشرعية يدل على حجيته أيضا فلا مانع من أن يقال : أن هذه الطائفة تصلح أن تكون رادعة عن السيرة في جزء من مدلولها مع بقائها ممضاة في جزئها الآخر الّذي يندرج فيه نفس هذه الطائفة ـ بقطع النّظر عن مناقشات قادمة ـ.

الثالثة ـ أن دليلية هذه الطائفة مستحيلة ، لأنه يلزم من دليليتها عدم دليليتها إذ هي أيضا مما لا شاهد عليها من الكتاب الكريم ـ بناء على عدم صحة الاستدلال بالآيات الناهية عن العمل بالظن لنفي حجية خبر الواحد ـ وكل ما يلزم من ثبوته عدمه محال.

والجواب : أن مفاد هذه الأخبار ـ شأن كل قضية عامة ـ يحتوي على إطلاقات عديدة بعدد مصاديق الأخبار الآحاد التي لا شاهد عليها من الكتاب ، ومن جملتها إطلاقها لنفسها بوصفها خبراً واحداً لا شاهد عليه من القرآن الكريم ، والّذي يلزم من دليليته عدم دليليته إنما هو هذا الإطلاق خاصة ، فتكون حجيته مستحيلة دون حجية إطلاقاتها الأخرى.

لا يقال ـ لا يحتمل التفكيك بين خبر وخبر مما لا شاهد عليه من الكتاب ، فسقوط الحجية في بعضها يستلزم سقوطها في الكل ، وبهذا أبطلنا في بحث حجية خبر الثقة الاستدلال بالإجماع المنقول من قبل السيد المرتضى ـ قده ـ لنفي حجية خبر الواحد.

فإنه يقال ـ احتمال التفكيك بين خصوص هذه الأخبار التي لا شاهد عليها من الكتاب وغيرها مما لا شاهد عليه منه موجود هنا وإن لم يكن مثل هذا الاحتمال عرفياً في الفرق بين إخبار السيد وغيره. وذلك باعتبار أن هذه الطائفة ، رغم كونها مما لا شاهد عليها من الكتاب الكريم ، تكون مقربة بحسب النتيجة إلى الكتاب الكريم ، فمن المعقول أن تكون حجة لأجل إسقاط الخبر المخالف للكتاب الكريم عن الحجية.

٣٢٠