بحوث في علم الأصول - ج ٧

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٧

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٢٧

هو المقيد لا المطلق. وبذلك يتفادى محذور الإجمال عند احتمال القرينة المنفصلة ، إذ يمكن إحراز الإطلاق لأن الظهور في الخطاب المطلق فعلي مع قطع النّظر عن القرينة المنفصلة فيكون مكذباً لاحتمال وجودها (١).

وهذه المحاولة في دفع إشكال الإجمال عن الاتجاه الّذي سلكه الشيخ ـ قده ـ مما لا يمكن المساعدة عليه. بل لو فرض توقّف الإطلاق على عدم البيان الأعم من المتصل والمنفصل لأجملت المطلقات وما أمكن التمسك بشيء منها في موارد احتمال صدور بيان منفصل على التقييد ، فنفس وضوح عدم سقوطها وتمسك العرف بها دليل آخر على أن المأخوذ في مقدمات الإطلاق إنما هو عدم البيان المتصل خاصة ـ كما عليه صاحب الكفاية ـ قده ـ.

والوجه في ذلك : إنه إذا كان المقصود من ارتفاع الظهور الإطلاقي في كل زمان بورود البيان المنفصل في ذلك الزمان ، هو ارتفاع حجيته باعتبار القرينة والجمع العرفي لا ارتفاع ظهوره ودلالته التصديقية على إرادة الإطلاق ، فهذا صحيح فيما إذا كان البيان المنفصل صالحاً للقرينية والجمع العرفي لا في محل الكلام الّذي يكون المعارض جزء من مدلول العام. فإذا افترضت صلاحية هذا المقدار للقرينية والجمع العرفي أيضا كان لا بد من إبراز نكتة أخرى لها غير مسألة تنجيزية الظهور في العام وتعلقيّته في المطلق.

وإن كان المقصود ارتفاع أصل الظهور التصديقي في المطلق بورود البيان ولو منفصلاً ، بحيث يكون مجيء القرينة في كل زمان موجباً لارتفاع الظهور التصديقي بلحاظ ذلك الزمان ـ كما هو ظاهر كلمات هذه المدرسة ـ فهذا مما لا نتعقله. وقد ذكرنا في بحث التقييد أن المتكلم إما أن يكون ظاهر حاله أنه في مقام بيان تمام مراده الجدّي بشخص خطابه المطلق ، فهذا يعني أن مجرّد عدم نصب البيان والقرينة على التقييد متصلاً بالمطلق كافٍ في انعقاد الظهور الإطلاقي وفعليّته ولا يكون

__________________

(١) راجع مصباح الأصول ، ص ٣٧٧.

٢٨١

مرفوعاً بعد ذلك بمجيء المنفصل. وإمّا أن يكون المتكلم في مقام بيان تمام مراده الجدي بمجموع خطاباته ، وهذا يعني أنه لا ينعقد للمطلق ظهور في الإطلاق أصلاً إلاّ بعد ملاحظة مجموع ما يصدر عنه ، لأنه لا يفصح عن تمام مراده دفعة واحدة بل تدريجاً ، فيعود محذور الإجمال عند احتمال وجود بيان منفصل ولو متأخراً. وليس هناك حالة وسطى للمتكلم بين الحالتين كي يقال مثلاً أننا نفترض أن ظاهر حال المتكلم في كل زمان أنه يبيّن تمام مراده بلحاظ مجموع ما صدر منه إلى ذلك الزمان ، فإن ذلك يعني أن للمتكلم في كل زمان مراداً يختلف عن مراده في الزمان الآخر باختلاف ما يصدر عنه ، وهذا خلف ما هو المفروض من أن هناك حكماً واحداً ثابتاً في الواقع يكشف المقيد أو المخصص ـ متى ما جاء ـ عن حدوده من أوّل الأمر.

هذا بالإضافة إلى أن هذه المحاولة ـ كما قلنا فيما سبق ـ لا يفي بالمقصود تماماً لأن الرافع للظهور الإطلاقي بالنسبة لكل زمان هل هو وصول البيان والقيد إلى المكلف أو صدوره واقعاً؟

أما الأول ، فلا معنى لادعائه. إذ من الواضح أن خصوصية الوصول غير دخيلة في تكوّن الظهور التصديقي لكلام المولى الّذي هو كاشف تكويني عن مراده. وإنما يتعقّل دخالته في الحكم بالحجية والمنجزيّة.

وأما الثاني ، فيلزم منه أننا لو احتملنا ورود بيان منفصل في الزمان الثاني يبتلي المطلق بالإجمال بلحاظ ذلك الزمان لأنه على تقدير صدور البيان واقعاً يكون الإطلاق مرفوعاً في هذا الزمان ، ولا يمكن التمسك بأصالة عدم القرينة لأنه فرع وجود كاشف فعلي في ذلك الزمان. نعم يمكن التمسك باستصحاب بقاء الظهور الإطلاقي المنعقد في الزمان الأول لو فرض عدم احتمال وجود البيان من أول الأمر. وهذا إثبات لنتيجة الإطلاق بالأصل العملي لا اللفظي الّذي هو الغرض من الإطلاق.

فالصحيح : ما عليه المحقق الخراسانيّ ـ قده ـ من أن الإطلاق الثابت

٢٨٢

بمقدمات الحكمة يكفي فيه عدم البيان المتصل فينعقد الظهور الإطلاقي ويتم بنفس فراغ المتكلم من كلامه المطلق إذا لم ينصب قرينة على التقييد.

غير أنه مع ذلك يمكن دعوى وجود نكتة أخرى نوعية تقتضي تقديم العام على المطلق في مورد التعارض بملاك الأظهرية التي تقدّم كونها أحد أقسام التعارض غير المستقر.

وتوضيح ذلك :

ان المتكلم له ظهوران حاليان كاشفان عن الإرادة الجدية ، أحدهما الظهور السلبي في أن ما سكت عنه ولم يذكره في مرحلة الإثبات غير ثابت في مرحلة الثبوت والجد ، فليس هناك شيء قد قصده ولم يقله ، وهذا هو أساس الظهورات الإطلاقية في المطلقات. والآخر الظهور الإيجابي في أن ما ذكره في مرحلة الإثبات ثابت في مرحلة الثبوت أيضا ، فليس هناك شيء قد قاله ولم يقصده ، وهذا هو أساس الظهورات التقييدية في المقيدات.

والظهور الأول من هذين الظهورين الحاليين التصديقيين أضعف من الثاني بشهادة تقديم المقيد على المطلق. فإذا كان الأمر كذلك ، صح أن يقال بتقدم العام على المطلق في مورد التعارض ، باعتبار أن دلالة الأول من الظهور الإيجابي ودلالة الأخير من الظهور السلبي ، وقد افترضنا أن الظهور الإيجابي أقوى عند العرف من الظهور السلبي وأظهر ، فيتقدم العام على المطلق بالأظهرية النوعية ما لم يكن المطلق محفوفاً إطلاقه بخصوصيات إضافية صدفة تجعله في ذلك المورد أقوى من العموم.

ب ـ تعارض الإطلاق البدلي والشمولي :

إذا تعارض دليل مطلق يدل على شمول الحكم لتمام أفراده ، كما إذا ورد ( لا تكرم الفاسق ) وهو ما نصطلح عليه بالمطلق الشمولي مع مطلق آخر

٢٨٣

دل على ثبوت الحكم على فرد واحد مما ينطبق عليه من قبيل ( أكرم فقيراً ) وهو ما نصطلح عليه بالمطلق البدلي فهل يحكم بتقديم الأول على الأخير في مورد التعارض ـ وهو الفقير الفاسق ـ فيحرم إكرامه أم لا؟ نسب إلى الشيخ الأنصاري ـ قده ـ القول بالتقديم ، وخالف فيه المحقق الخراسانيّ ـ قده ـ مدعياً أن كلاهما بالإطلاق ومقدمات الحكمة التي قد تقتضي الشمولية وقد تقتضي البدلية وقد تقتضي غيرهما ، فلا موجب للتقديم (١).

وقد حاول المحقق النائيني ـ قده ـ توجيه ما اختاره الشيخ ـ قده ـ وتقريبه بوجوه أوجهها : أن تقييد الإطلاق الشمولي معناه رفع اليد عن جزء مدلول الخطاب ، لأن المطلق الشمولي منحل بحسب الحقيقة إلى دلالات عديدة بعدد أفراد الطبيعة المطلقة ، فتقديم المطلق البدلي عليه يستلزم رفع اليد عن بعض هذه الدلالات ، وهذا بخلاف العكس فإن مدلول المطلق البدلي إنما هو حكم واحد متعلق بصرف وجود الطبيعة المحفوظ حتى لو خرج بعض الأفراد عنه لأن صرف الوجود لا يقتضي ملاحظة كل فرد وإثبات الحكم عليه.

وقد ناقش السيد الأستاذ ـ دام ظله ـ في هذه المحاولة من جهتين :

أولاهما ـ إن الميزان في تقديم دليل على آخر هو القرينية أو الأظهرية لا الاستحسانات والمناسبات ومجرد كون الإطلاق في أحد الدليلين شمولياً انحلالياً وفي الآخر بدلياً لا يتضمن قرينية الشمولي ولا أظهريته بعد أن كان كل منهما بالإطلاق ومقدمات الحكمة.

ثانيتهما ـ ان المطلق البدلي أيضا مستلزم لحكم شمولي ينحل على أفراد المطلق ، فإن الوجوب المستفاد من أكرم فقيراً وإن كان بدلياً ومتعلقاً بصرف وجود الطبيعة إلاّ أن لازمه الترخيص في تطبيق هذا الواجب على كل فرد من أفراد طبيعة الفقير ، وتقييد المطلق البدلي يلزم منه رفع اليد عن بعض هذه

__________________

(١) كفاية الأصول ج ١. ص ١٦٩ ( ط ـ مشكيني ).

٢٨٤

الأحكام الترخيصية لا محالة ، فتقييد كل من الإطلاقين مستلزم للتصرف في جزء مدلول الآخر ، ومعه لا مرجح لأحدهما على الآخر (١).

أقول : أما المناقشة الأولى : فيمكن دفعها بأنه إن أريد ان تقديم أحد الظهورين على الآخر لا بد وأن يكون بملاك القرينية والجمع العرفي ، فهذه الكبرى لم يظهر من كلام المحقق النائيني ـ قده ـ في المقام إنكارها ، وإنما الظاهر أنه يحاول دعوى تقديم المطلق الشمولي على البدلي باعتباره واجداً لأحد ملاكات القرينية على ما سوف نشير إليه.

وإن أريد إنكار الصغرى وأن مجرد الشمولية لا يحقق القرينية فهذا ما يحتاج إلى بحث ونظر في وجه القرينية الّذي يحاوله المحقق النائيني ـ قده ـ.

وأما المناقشة الثانية ، فيمكن دفعها أيضا بأنّا لو سلمنا دلالة المطلق على أحكام ترخيصية شمولية فهي دلالة عقلية وليست ظهوراً لفظياً في الخطاب ، وهذا بخلاف شمولية الدليل الشمولي فإنها دلالة عرفية ومدّعي التقديم إنما يقول بتقديم ما يكون مدلوله العرفي شمولياً على ما يكون مدلوله العرفي بدلياً.

والتحقيق ان يقال : إن الشمولية والبدلية ليستا من شئون الإطلاق ومقدمات الحكمة فإن مقدمات الحكمة لا تقتضي إلاّ مطلباً واحداً دائماً في جميع المقامات ، وهو أن ما أخذ موضوعاً للحكم في مقام الإثبات ـ وهو الطبيعة ـ تمام الموضوع له ثبوتاً وأما الشمولية والبدلية أي كون الحكم بنحو صرف الوجود أو مطلق الوجود فيستفاد من دال آخر وبنكتة أخرى عقلية أو لفظية ، على ما حققنا ذلك مفصلاً في أبحاث الأوامر.

والمعارضة بين المطلق الشمولي والبدلي ليس بلحاظ الشمولية والبدلية فيهما وإنما بين الإطلاق من طرف ومجموع الإطلاق والشمولية في الطرف الآخر ، إلاّ أنه باعتبار صراحة الدال على الشمولية بحيث لا يحتمل عرفاً

__________________

(١) نقل بتصرف عن مصباح الأصول ص ٣٧٨.

٢٨٥

التصرف فيها سوف يتمركز التعارض بين الدال على الإطلاق في كل منهما ، فلا موجب لترجيح أحدهما على الآخر.

هذا ، ويمكن تقريب تقديم المطلق الشمولي على البدلي بأحد وجوه :

الأول ـ أن يقال بأقوائية الظهور الإطلاقي في المطلق الشمولي من الظهور الإطلاقي في المطلق البدلي ، لأنه يتكفل أحكاماً عديدة بنحو الانحلال بخلاف المطلق البدلي الّذي لا يتكفل إلاّ حكماً واحداً ، وأما الترخيصات المستفادة منه بالالتزام فهي أحكام وضعية انتزاعية ، بمعنى أنها ترخيصات في تطبيق ذلك الحكم الواحد على أي فرد من أفراد الطبيعة يختاره المكلف ، فيدّعي أن التعهد العقلائي أو الغلبة الخارجية على إرادة المتكلم لتمام مدلول الخطاب إثباتاً وعدم إرادة خلافه ـ الّذي هو ملاك الظهور الإطلاقي في المطلق الشمولي ـ أقوى وآكد منهما في المطلق البدلي ، لأن الاهتمام النوعيّ ببيان أصل حكم برأسه أشد من الاهتمام ببيان حدوده وتطبيقاته سعة وضيقاً ، فيندرج المقام في باب تقديم أقوى الظهورين على أضعفهما الّذي تقدم أنه أحد أقسام التعارض غير المستقر والجمع العرفي. ولعل هذا التقريب هو مقصود الميرزا ـ قده ـ من كلامه الّذي نقلناه آنفاً.

الثاني ـ تطبيق كبرى حققناها في بحث اجتماع الأمر والنهي لتقديم دليل الحكم الإلزاميّ على دليل الحكم الترخيصي بدعوى : أن المطلق البدلي يستبطن الترخيص في تطبيق الحكم على أي فرد شاء من أفراد الطبيعة ، فيعامل معه معاملة الدليل الترخيصي.

والتحقيق : ان تلك الكبرى لا تنطبق في المقام ، لأنها تحاول نفي المعارضة بين الدليل الإلزاميّ والدليل الترخيصي بدعوى : أنه لا يستفاد من الدليل الترخيصي عرفاً أكثر من إثبات الترخيص لعدم المقتضي في ذلك العنوان الترخيصي للإلزام ، فلا ينافي ثبوت حكم إلزامي بلحاظ عنوان آخر منطبق

٢٨٦

عليه إذا لم يكن ملازماً معه ، وهذا الأمر لا يمكن تطبيقه فيما نحن فيه ، لأن المفروض دلالة الدليل البدلي على الحكم الإلزاميّ ، كما أن المفروض عدم اجتماعه مع الحكم الشمولي في مادة الاجتماع ، إذ لو لا ذلك لم يكن بينهما تعارض أصلاً ، ولما احتيج إلى تقديم أحدهما على الآخر. ومجرد استلزام الحكم البدلي للترخيصات الشمولية لا ينفع في دفع هذه المعارضة.

نعم لو ادعي ـ كمصادرة إضافية على تلك الكبرى ـ أن العرف يفهم من الإطلاق البدلي الّذي مرجعه إلى الترخيص في تطبيق الواجب على أي فرد شاء من الطبيعة عدم المقتضي لتقييده قدّم الإطلاق الشمولي عليه باعتباره مقتضياً للتقييد ، ولعل هذا مقصود الميرزا ـ قده ـ مما ينقل عنه من أن إطلاق المطلق البدلي متوقف على عدم المانع من تطبيق الطبيعة على أي فرد والإطلاق الشمولي مانع.

الثالث ـ تطبيق مبنى المحقق النائيني ـ قده ـ في باب الواجب الموسع من اقتضاء الأمر اختصاص متعلقه بالحصة المقدورة عقلاً وشرعاً بمقتضى ظهور الأمر في الباعثية والمحركية التي لا تكون إلاّ في حق الحصة المقدورة عقلاً والمحرّم الشرعي كالممتنع العقلي ، فإنه بناء على هذا المبنى يقال في المقام : أنه إذا ورد ( أكرم فقيراً ، ويحرم إكرام الفاسق ) قدمنا مقتضى دليل الحكم الشمولي ـ وهو الحرمة ـ على مقتضى دليل الحكم البدلي ـ وهو الوجوب ـ فيحكم بحرمة إكرام الفقير الفاسق ـ لأن الإطلاق الشمولي يثبت حكماً تعيينياً على كل فرد من أفراد الطبيعة ، فيكون بشموله للفقير الفاسق مستوجباً لأن يكون إكرامه غير مقدور شرعاً. فيكون رافعاً لموضوع الأمر البدلي.

وفيه ، أولا : عدم تمامية المبنى في نفسه ، على ما أشرنا إليه في محله.

ثانياً : اختصاصه بما إذا كان المطلق الشمولي متضمناً لحكم إلزامي ، فلا يتم في جميع موارد التعارض بين المطلق الشمولي والمطلق البدلي.

٢٨٧

ج ـ نظرية انقلاب النسبة :

ويقصد بانقلاب النسبة ما إذا ورد مخصص لأحد المتعارضين بنحو لو لوحظ المتعارضان بعد أعماله انقلبت النسبة بينهما من التعارض المستقر إلى التعارض غير المستقر. وفحوى هذه النظرية أنه لا بد في هذه الحالة من تطبيق قواعد التعارض غير المستقر على المتعارضين ، ومرد هذا البحث بحسب الحقيقة إلى تشخيص النسبة بين الدليلين المتعارضين وأنه هل ينبغي أن تلحظ بالقياس إلى مدلولهما مع قطع النّظر عما يرد على كل منهما من القرائن المنفصلة أو تلحظ بعد إعمال تلك القرائن ، وفيما يلي نتحدث عن نظرية انقلاب النسبة في ثلاث جهات :

الجهة الأولى ـ في تحقيق حال أصل النظرية وأن النسبة بين الدليلين المتعارضين هل تنقلب حقاً بعد ورود مخصص لأحدهما أم لا؟

المشهور بينهم عدم الانقلاب. إلاّ أن مدرسة المحقق النائيني ـ قده ـ قد جعلت هذه النظرية نتيجة طبيعة لما تقدم في نظرية التخصيص من المصادرات المفترضة وجعلتها من تطبيقاتها الواضحة التي يكفي. ـ بحسب زعمها ـ مجرد تصورها للتصديق بصحتها.

والمتحصل من مجموع كلمات هذه المدرسة في البرهنة على هذه النظرية يمكن إرجاعه إلى أحد بيانين :

البيان الأول : ويتركب من مقدمتين. أولاهما ـ أن المعارض لا يكون معارضاً إلاّ بمقدار ما يكون حجة فيه إذ لا معنى لمعارضة الحجة مع اللاحجة. ثانيتهما ـ أن كبرى القرينية والجمع العرفي بين العام والخاصّ التي تقدم الحديث عنها في بحث التعارض غير المستقر بصورة مفصلة تقتضي قرينية كل حجة أخص على الحجة الأعم.

وبناء على التسليم بهاتين المقدمتين ، إذا ورد على أحد الدليلين المتعارضين

٢٨٨

ما يخصص مدلوله بنحو يكون ما عدا المقدار المخصص أخص من معارضه ، فسوف يكون المقدار الحجة من العام المخصص أخص من المعارض الآخر ، فيتقدم عليه بقانون التخصيص. ونحن لا نشك في صحة المقدمة الأولى من هاتين المقدمتين وإنما نختلف مع هذه المدرسة في المقدمة الثانية التي رتبتها وادعت بداهتها بعد الفراغ عن نظرية التخصيص. والواقع أن مجرد الفراغ عن نظرية التخصيص والجمع العرفي بين العام والخاصّ بحمل العام على الخاصّ لا تثبت ما حاولته هذه المدرسة من تقديم كل حجة أخص على حجة أعم. ذلك أن كل دليل لفظي يتضمن اعتبارين ، اعتبار أنه كلام له ظهور كاشف عن مرام المتكلم ، واعتبار أنه حجة في إثبات ذلك المرام. والمعارضة بين الدليلين وإن كان بلحاظ الاعتبار الثاني دائماً ، لأن التعارض إنما هو التنافي في الحجية ، إلاّ أن المصادرة العقلائية الإضافية زائداً على الحجية التي كانت هي مدرك نظرية التخصيص كما يُعقل أن تقتضي تقديم الخاصّ بما هو حجة على العام ، كذلك يعقل أن تقدم الخاصّ بما هو كلام ظاهر على العام ، وتشخيص أن ملاك التقديم أي الأخصيتين لم يتقدم البحث عنه ولم يُقم برهان عليه. فلا يصح تفريع هذه المسألة على تلك. بل لا بد من تحقيق ذلك في هذا المقام ، على ما سوف يأتي إن شاء الله تعالى.

البيان الثاني : ويترتب من مقدمتين أيضا ، أولاهما ـ أن كل كلام يصدر من المولى يحتوي على ثلاثة ظهورات ، الظهور التصوري ، والظهور التصديقي الاستعمالي ، والظهور التصديقي الجدي ، ـ وقد تقدم شرح هذه الظهورات ـ والمخصص سواء كان متصلاً أو منفصلاً يرفع الظهور الثالث لا محالة ، حيث يكشف عن عدم إرادة العموم جداً ، وإنما يختلف المخصص المتصل عن المنفصل في ارتفاع الظهور الثاني بل الأول أحياناً. ثانيتهما ـ ان كل دليل يكشف عن المراد الجدي ويكون بحسب ظهوره الكاشف أخص مطلقاً من الدليل الآخر يتقدم عليه بالتخصيص. وعلى

٢٨٩

أساس هاتين المقدمتين تكون النظرية واضحة الصحة ، فإنه إذا ورد التخصيص على أحد المتعارضين ارتفع ظهوره الكاشف عن إرادة العموم جداً وأصبح المراد منه ما عدا مقدار التخصيص ـ بحكم المقدمة الأولى ـ فينقلب أخص مطلقاً ـ بحسب هذا الظهور المتبقي ـ من معارضه ، فيتقدم عليه بالتخصيص ـ بحكم المقدمة الثانية ـ.

وتعليقنا على هذا البيان : أنه ما ذا يراد بارتفاع الظهور الكاشف عن المراد الجدي في موارد التخصيص بالمنفصل؟ فهل يراد ارتفاع نفس الدلالة التصديقية على الإرادة الجدية التي هي من الدلالات الحالية ، أو المراد ارتفاع حجية هذه الدلالة. فإذا أريد الأول كانت المقدمة الأولى من المقدمتين اللتين تألف منهما البيان مرفوضة ، لوضوح أن الدليل المنفصل لا يرفع الظهور الحالي في جديّة ما أظهره المتكلم بكلامه إذ بعد انعقاد هذا الظهور على أساس القرائن الحالية والمقالية المكتنفة بالكلام لا معنى لانثلامه وانقلابه عمّا وقع عليه.

أضف إلى ذلك : أن الالتزام بارتفاع الظهور التصديقي بالمخصص المنفصل يستلزم محذور الإجمال دائماً في موارد احتمال المخصص المنفصل بنحو لا يمكن التمسك لنفيه بأصالة العموم ، نظير ما كان يلزم من القول بتوقف الظهور الإطلاقي في المطلق على عدم البيان المنفصل ، لأن الحجة في الكشف عن المراد في الأدلة اللفظية إنما هو هذا الظهور التصديقي ، فلو كان ثبوته موقوفاً على عدم ورود المخصص الكاشف عن الخلاف ولو منفصلاً كان احتمال وروده مستلزماً لإجمال الظهور التصديقي وعدم إمكان التمسك به.

وإن أريد الثاني ، وأن المخصص المنفصل يرفع حجية الظهور التصديقي فالمقدمة الأولى تامة ولكن المقدمة الثانية سوف تكون راجعة إلى البيان الأول وهو دعوى : أن الميزان في التخصيص أن يكون أحد الظهورين بما هو حجة أخص من الآخر وإن لم يكن كذلك بما هو ظهور.

٢٩٠

والصحيح : عدم انقلاب النسبة بين الدليلين المتعارضين ، لأن كل النكات والمصادرات المتقدمة لتخريج نظرية التخصيص لا تقتضي أكثر من تقديم الخاصّ بحسب ظهوره على العام. وتوضيح ذلك : أن الوجوه التي ذكرناها لتخريج نظرية التخصيص المنفصل ثلاثة. وكلها لا تصلح لإثبات انقلاب النسبة. أما الأول ، وهو أن يقال بإلغاء الفواصل الزمنية بين الخطابات الشرعية في مقام اقتناص المراد منها. فلو أريد به الإلغاء الحقيقي فهذا واضح البطلان ولم يدعه أحد أيضا ، إذ لازمه عدم انعقاد الظهور من العموم لا في موارد التخصيص بالمنفصل ولا في موارد مجيء المعارض. وإن أريد به اعتبار تلك الفواصل ملغية بين ذي القرينة والقرينة فحسب ـ كالعام مع مخصصه مثلاً ـ فمن الواضح أن هذا لا يقتضي الانقلاب إلاّ بافتراض مصادرةً زائدة ، أي بافتراض إلغاءين طوليين. أحدهما ، إلغاء الفاصل الزمني بين العام والخاصّ واعتبار هما بحكم الكلام المتصل. والآخر ، إلغاء الفاصل الزمني بين العام الآخر وهذا الكلام المتصل الّذي تكوّن ببركة الإلغاء الأول. فما لم يدّع الإلغاء الثاني لا يمكن تفسير انقلاب النسبة على هذا الأساس. وهذا معنى احتياج تطبيق ذلك التخريج إلى افتراض مصادرة زائدة تتمثل في الإلغاء الثاني ، بينما التخصيص الساذج الاعتيادي لم يكن يتوقف إلاّ على التسليم بالإلغاء الأول ، ولا ملازمة بين الإلغائيين كما هو واضح.

وأما الثاني ـ وهو أن يكون المخصص المنفصل منزلاً في الآثار الشرعية منزلة المخصص المتصل تعبداً فلأن غاية ما يفترض فيه من عناية التنزيل إلغاء خصوصية الانفصال تعبداً وتنزيلاً مع التحفظ على الشرائط الأخرى التي لا بد من توفرها في المخصص المتصل من قبيل كونه بحسب الظهور أخص ، وهذا لا ينطبق في المقام ، فإن العام المخصص بالمنفصل ليس مصداقاً لموضوع دليل التنزيل لأن الموضوع الّذي يعطيه دليل التنزيل حكم الأخص المتصل هو الأخص المنفصل والعام المخصص بالمنفصل ليس أخص. نعم إذا افترضنا

٢٩١

تنزيلين طوليين أحدهما تنزيل العام المخصص بالمنفصل منزلة العام المخصص بالمتصل ـ وهذا ينتج أن العام المخصص بالمنفصل يصبح بمثابة أخص منفصل بالنسبة إلى العام الآخر ـ والثاني تنزيل هذا الأخص المنفصل بسبب التنزيل الأول منزلة أخص متصل بالعامّ المذكور ، تم انقلاب النسبة ، إلاّ أن هذه عناية زائدة على التنزيل المفترض في هذا الوجه أيضا.

وأما الثالث ـ وهو تطبيق القاعدة التي تقول : كلما كان على تقدير اتصاله قرينة هادمة للظهور كان على تقدير انفصاله هادماً للحجية ، والمخصص كذلك. فربما يتوهم إمكان تخريج نظرية انقلاب النسبة على أساسه. لأنا إذا جمعنا بين الأدلة الثلاثة ـ الدليلان المتعارضان والمخصص المنفصل لأحدهما ـ وافترضنا صدورهما في مجلس واحد ارتفع التعارض من البين وأصبح العام المخصص أخص من معارضه وهادماً لعمومه فلا بد وأن يكون في فرض الانفصال هادماً لحجيته.

إلاّ أن هذا التطبيق يحتوي على مغالطة ، لأن الّذي يكون على تقدير اتصاله هادماً للعموم إنما هو العام المتصل به مخصصه ومقتضى تطبيق القاعدة المذكورة ـ بدون إضافة مصادرة جديدة ـ أن العام المتصل به مخصصه كما يكون قرينة تهدم ظهور العام الآخر في فرض الاتصال يكون أيضا قرينة تهدم حجيته في فرض الانفصال. ومن الواضح أن هذا لا يصدق في محل الكلام ، إذ لا يوجد عندنا عام متصل به مخصص إلى جانب العام الآخر لا متصلاً به ولا منفصلاً عنه ، فلا بد من إضافة مصادرة جديدة من قبيل أن يقال مثلاً : إن كل كلامين كانا على فرض اتصالهما يشكلان قرينة على كلام ثالث بموجب القاعدة السابقة فهما يشكلان نفس القرينة على الكلام الثالث أيضا مع عدم اتصال أحدهما بالآخر ، ومن الواضح أن هذا معنى زائد أيضا لم يكن مفترضاً في القاعدة المصححة لقرينية الخاصّ سابقاً ولم يكن يحتاجه مدعي القرينية في موارد التخصيص الاعتيادي. وهذا يعني أن قانون انقلاب النسبة وكونه

٢٩٢

جمعاً عرفياً لا يكفي في استنباطه المقدار الّذي يحتاجه من مصادرات عقلائية إثبات القرينية في موارد التخصيص الاعتيادي.

وهناك وجه آخر لتصحيح انقلاب النسبة على أساس القاعدة المرزائية بدلاً عن إضافة مصادرة جديدة وهو أن يقال : إن المراد بالأخصية التي هي ميزان القرينية الهادمة للظهور على فرض الاتصال وللحجية على فرض الانفصال أخصية ما هو المقدار الحجة لا أخصية ذات المدلول. وهذا أيضا افتراض لمعنى واسع للقاعدة المرزائية لم يكن يتوقف عليه تفسير قرينية المخصص المنفصل في الموارد الاعتيادية ، إذ في تلك الموارد كما يكون المخصص المنفصل أخص بما هو حجة كذلك هو أخص بلحاظ ذات مدلوله ، فالتسليم بأن الأخصية ملاك للقرينية بموجب تلك القاعدة لا يكفي تخريجاً لعرفية انقلاب النسبة وكونه جمعاً عرفياً إلاّ مع إثبات كون الأخصية ملحوظة بالنسبة إلى مقدار ما هو حجة من مفاد الدليل لا إلى ذاته.

والصحيح : أن الأخصية التي هي ميزان القرينية بحسب المرتكز العقلائي إنما هي الأخصية بلحاظ ذات المدلول لا بلحاظ المقدار المعتبر منه ، لأن النكتة النوعية الملحوظ عقلائياً في هذه القرينية بعد وضوح أن البناءات العقلائية في أمثال المقام ليست تعبدية وإنما هي بنكات الطريقية والكاشفية ، هي أن الأخصية توجب مرتبة من تركيز نظر الدليل على الحكم الخاصّ أقوى من مرتبة تركيز نظر الدليل العام على ذلك الحكم الخاصّ المشمول له بالعموم ، وهو معنى الأظهرية النوعية. ومن الواضح أن هذه الدرجة من التركيز التي تشكل نكتة للأظهرية النوعية وبالتالي لقرينية الخاصّ على العام إنما هي من شئون الأخصية بلحاظ ذات المدلول لا الأخصية بلحاظ ما هو المقدار الحجة منه ، لأن مجرد سقوط جزء من المدلول عن الحجية لسبب خارجي لا يغير شيئاً من درجة ظهور اللفظ بالنسبة إلى باقي الأفراد ، ولا يعطي للدليل ظهوراً أشد بالنسبة إلى تلك الأفراد الباقية لكي يصلح للقرينية على عام ما. نعم غاية

٢٩٣

الأمر أنه يعلم من الخارج بأن هذا الدليل الّذي سقط جزء من مدلوله عن الحجية لسبب خارجي لو كان له محصّل ومفاد جدّي فهو في الأفراد الباقية ، وأما درجة دلالة لفظ الدليل على تلك الأفراد وقوة ظهوره في إرادتها فلا تختلف بعد التخصيص عنها قبله. فهو نظير القدر المتيقن من الخارج ، فإن القدر المتيقن من الخارج لا يجعل الدليل صريحاً بنحو يصلح للقرينية على تخصيص دليل آخر ، ولهذا لا يكون قوله ( ثمن العذرة سحت ) مخصصاً لقوله ( لا بأس بثمن العذرة ) بغير ما هو القدر المتيقن منه لأن هذا التيقن لا يجعل دلالة الدليل بما هو دليل على حكم عذرة ما لا يؤكل لحمه نصاً أو أقوى من دلالته على حكم عذرة ما يؤكل لحمه.

وهكذا يتضح : عدم كفاية شيء من الوجوه التي تقدمت في نظرية التخصيص لإثبات انقلاب النسبة. وأنه لا بد من افتراض مصادرة إضافية إذا أريد إثباته.

الجهة الثانية ـ في استعراض صور التعارض بين الدليلين المتعارضين إذا ورد على أحدهما أو كلاهما مخصص منفصل ليتبين موارد تطبيق نظرية انقلاب النسبة ، وتوضيح حال بعض النتائج المتفقة معها غير المبتنية عليها مما قد يتوهم ابتنائها عليها. وقبل البدء بذكر صور التعارض لا بد من توضيح ما يلي : إن هناك نكتتين ينبغي التمييز بينهما.

الأولى ـ إذا كان أحد الدليلين بحسب ما هو حجة من مدلوله أخص من الدليل الآخر تقدم عليه بالتخصيص ولو لم يكن بحسب تمام مدلوله أخص. وهذه هي نكتة نظرية انقلاب النسبة التي لم نوافق عليها في الجهة السابقة.

الثانية ـ إن أحد الدليلين المتعارضين إذا سقط عن الحجية في شيء من مدلوله كان معارضه حجة في ذلك المورد لا محالة ، وإن كان التعارض باقياً بينهما بلحاظ الموارد الباقية تحت ما هو الحجة من مدلول كل منهما. وهذه

٢٩٤

النكتة تامة وغير مرتبطة بانقلاب النسبة إذ لا شك في أن التعارض والتساقط بين الدليلين في أي جزء من مدلولهما فرع ثبوت مقتضي الحجية لهما في ذلك الجزء ، فإذا لم يكن مقتض للحجية في أحدهما لم يكن مانع من حجية الآخر ، كما هو واضح.

وعلى هذا الضوء نقول : هنالك صور ثلاث رئيسية لانقلاب النسبة ينبغي استعراضها بما تحتوي عليها كل واحدة من شقوق وأقسام.

الصورة الأولى ـ المتعارضان بنحو التباين كما إذا ورد ( تستحب الصدقة على كل فقير ) وورد ( تكره الصدقة على فقير ) مع افتراض ورود مخصص بأحد الأنحاء التالية :

النحو الأول ـ أن يرد دليل واحد يخصص أحدهما فقط. كما إذا ورد ( لا تستحب الصدقة على الفقير الهاشمي ) الّذي هو مخصص دليل الاستحباب. وهذا هو القدر المتيقن من موارد تطبيق نظرية انقلاب النسبة حيث يجمع بين الأدلة الثلاثة بتخصيص دليل الاستحباب ثم تخصيص دليل الكراهة بدليل الاستحباب المخصص ، بناء على انقلاب النسبة بينهما. وعلى القول بعدم انقلاب النسبة يحكم بتساقط الدليلين المتعارضين في غير مورد المخصص مع الأخذ بمفاد العام غير المخصص في مورد تخصيص العام المخصص على أساس النكتة الثانية المتقدمة.

النحو الثانية ـ أن يرد دليل واحد يخصص كلا العامين المتعارضين بالتباين ، كما إذا ورد ( تحرم الصدقة على الفقير الهاشمي ) المخصص لدليل الاستحباب والكراهة معاً. وفي هذه الحالة يبقى التعارض بين العامين مستحكماً سواء قيل بانقلاب النسبة أم لا. لبقاء نفس النسبة بينهما بعد إعمال التخصيص أيضا.

النحو الثالث ـ أن يرد مخصصان كل واحد منهما يخصص العامين

٢٩٥

المتعارضين معاً ـ سواء كان بينهما تعارض بالعموم من وجه المستلزم للتساقط في مورد الاجتماع ، أو بالعموم المطلق المستلزم لتقييد أحدهما بالآخر ، أو لم يكن تعارض بينهما ـ فإنه على جميع هذه التقادير تكون النتيجة كما في النحو السابق ، حيث تبقى النسبة بين العامين على التباين بعد إعمال التخصيص أيضا.

النحو الرابع ـ أن يرد مخصصان أحدهما يخصص كلا العامين المتعارضين والآخر يخصص أحدهما ، وهذا تلفيق ـ بحسب الحقيقة ـ بين النحوين الأول والثاني. وفي هذه الحالة لا ينتج المخصص المشترك نسبة جديدة بين المتعارضين وإنما لا بد من ملاحظة المخصص المختص ، فإن كانت نسبته إلى المقدار الباقي من العام بعد تخصيصه بالمخصص المشترك العموم والخصوص كان من النحو الأول ، وإلاّ كان من أحد شقوق النحو الآتي.

النحو الخامس ـ أن يرد مخصصان كل منهما يتفرد بتخصيص أحد العامين. وهنا شقوق عديدة.

الأول ـ أن لا يكون تعارض بين المخصصين ، بأن يكون موضوع أحدهما غير موضوع الآخر ، كما إذا ورد ( لا يكره التصدق على الفقير التميمي ) المخصص لدليل الكراهة وورد ( لا يستحب التصدق على الفقير الهاشمي ) المخصص لدليل الاستحباب. وهذا الشق تارة : يفترض فيه استيعاب المخصصين معاً حقيقة أو عرفاً لتمام مدلول العامين وأخرى : يفترض عدم استيعابهما لذلك بحيث يبقى مقدار من أفراد العامين غير مشمول للمخصصين ففي الفرض الأول تثبت حجية كل من العامين المتعارضين في مورد تخصيص الآخر على أساس النكتة الثانية المتقدمة ، لسقوط مقتضي الحجية عن كل من العامين في مورد التخصيص. فينتج في المثال استحباب التصدق على غير الهاشمي ـ الّذي يساوق التميمي بحسب الفرض ـ وكراهته على غير التميمي. ـ الّذي يساوق الهاشمي بحسب هذا الفرض ـ وفي الفرض الثاني سوف تكون النسبة بين المقدار الحجة لكل من العامين بعد إعمال التخصيص العموم من

٢٩٦

وجه ، فيتعارضان في الأفراد غير المشمولة للمخصصين ، والنتيجة على كل حال هو التساقط في مورد الاجتماع وبقاء الحجية لهما في موردي الافتراق ـ وهما موردي المخصصين ـ من دون فرق بين القول بانقلاب النسبة ، وعدم انقلابهما.

الثاني ـ أن تكون النسبة بين المخصصين العموم من وجه من حيث الموضوع ، سواء كانا متعارضين من حيث الحكم أولا. فإنه في الحالتين معاً ، تكون النتيجة حجية العامين المتعارضين فيما ورد فيه التخصيص على الآخر والتساقط في غيره ، إما لانقلاب النسبة بينهما إلى العموم من وجه ، أو لأنهما متباينان كما هو على القول بعدم الانقلاب.

الثالث ـ أن تكون النسبة بين الخاصّين العموم والخصوص المطلق ، فيكون أحدهما أكثر تخصيصاً لعامه من تخصيص الآخر. وهنا أيضا تارة : يفترض عدم التنافي بين المخصصين وأخرى : يفترض تنافيهما. ففي الحالة الأولى سوف تنقلب النسبة بين العامين المتعارضين إلى العموم والخصوص المطلق حيث يصبح العام المخصص بأعم الخاصّين أخص من العام المخصص بأخص الخاصّين فيخصص أحدهما بالآخر على القول بانقلاب النسبة ، وأما على القول بعدم انقلابها فيقع التعارض بينهما ولا تثبت الحجية إلاّ لأحدهما في مورد افتراقه عن الآخر. أي تثبت حجية العام المخصص بأخص الخاصّين في المقدار الزائد من التخصيص الوارد على العام الآخر على أساس النكتة الثانية المتقدمة. وفي الحالة الثانية يتخصص أعم الخاصّين بأخصهما فيكون كالشق الأول من حيث ورود مخصصين غير متعارضين على العامين.

الرابع ـ أن يكون الخاصان متساويين موضوعاً ـ ولا بد أن يفرض عدم التنافي بينهما حكماً وإلاّ سقطا بالمعارضة ـ وفي هذه الحالة تكون النتيجة هي التعارض بين العامين على كل حال أيضا.

الصورة الثانية ـ المتعارضان بالعموم من وجه ، كما إذا ورد ( يستحب

٢٩٧

إكرام الشعراء ) وورد ( يكره إكرام الفاسق ) مع افتراض ورود مخصص بأحد الأنحاء التالية.

النحو الأول ـ أن يرد مخصص واحد يخرج مورد افتراق أحد العامين عن مدلوله. وفي هذه الحالة تنقلب النسبة بين العامين من وجه إلى العموم والخصوص المطلق فيخصص أحدهما بالآخر بناء على القول بانقلاب النسبة. وبناء على عدم الانقلاب يبقى التعارض بينهما في مورد الاجتماع على حاله.

النحو الثاني ـ أن يرد خاص واحد بلحاظ مورد اجتماع العامين من وجه المتعارضين ، وفي هذه الحالة سواء كان الخاصّ مخصصاً لأحد العامين بلحاظ مورد اجتماعه مع الآخر أو لكليهما ، فالنتيجة هي حجية كل من العامين في غير مورد التخصيص ، من دون فرق بين القول بانقلاب النسبة وعدمه.

النحو الثالث ـ أن يرد مخصصان كل منهما يخرج مورد افتراق أحد العامين من وجه ويخصصه فيه كما إذا ورد ( يستحب إكرام الشعراء ) وورد ( يكره إكرام الفاسق ) ثم ورد على الأول مخصص يخرج الشاعر العادل ، وعلى الثاني مخصص يخرج الفاسق الجاهل. وبعد إعمال التخصيص في هذا الحال على العامين المتعارضين سوف يختص المقدار الحجة في كل منهما بمورد الاجتماع فيتعارضان فيه ويتساقطان ، من دون فرق بين القول بانقلاب النسبة وعدمه. إلاّ أن البحث في هذا القسم إنما يقع في سريان التعارض إلى الخاصّين وعدمه ، إذ على القول بسريان التعارض إلى الخاصّين تسقط الأدلة الأربعة جميعاً ، وعلى القول بعدم سريانه إليهما لا يسقط غير العامين المتعارضين. وقد اختار المحقق النائيني ـ قده ـ عدم السريان ، وخالفه في ذلك السيد الأستاذ ـ دام ظله ـ فحكم بسقوط الأدلة الأربعة جميعاً. وقد أفاد في وجهه : « والتحقيق هو الثاني ، لما ذكرناه سابقاً من أن منشأ التعارض في أمثال هذه المقامات إنما هو العلم الإجمالي بعدم صدور أحد المتعارضين ، وفي المقام

٢٩٨

ليس لنا علم إجمالي بعدم صدور خصوص أحد العامين من وجه بل لنا علم بعدم صدور أحد هذه الأدلة الأربعة ، إذ لو لم يصدر أحد العامين أو أحد الخاصّين لم يكن تناف بين الثلاثة الباقية ، أما لو لم يصدر أحد العامين فواضح ، وأما لو لم يصدر أحد الخاصّين فلأنه بعد تخصيص أحد العامين يصير أخص من العام الآخر فيخصص به ، فإذا لا بد من ملاحظة الترجيح بين الأدلة الأربعة وطرح أحدها والأخذ بالثلاثة الباقية ، ومع فقد الترجيح والحكم بالتخيير يتخير بين الأدلة الأربعة بطرح أحدها والأخذ بالباقي » (١).

وهذا البيان غير تام. وذلك.

أولا ـ لورود النقض بما إذا ورد مخصصان كل واحد منهما يخصص أحد الدليلين المتعارضين بنحو يبقى التعارض بينهما على حاله بعد التخصيص أيضا ، كما إذا كان موضوع الخاصّين واحداً ـ وقد تقدمت الإشارة إلى حكمه في الحالات السابقة ـ فإنه لا إشكال في إعمال المخصصين وإيقاع التعارض بين العامين والحكم فيهما بالتخيير أو الترجيح ، سواء قيل بانقلاب النسبة أم لا. مع أنه بناء على ما أفيد في هذا البيان لا بد من إيقاع المعارضة بين الأدلة الأربعة جميعاً للعلم إجمالاً بعدم صدور أحدها بحيث لو تعين في واحد منها لارتفع التعارض المستحكم.

وثانياً ـ أن فرضية التعارض بالنحو المذكور غير مخصوص بالأدلة ظنية السند كي يكون العلم الإجمالي بعدم صدور أحدها موجباً لسريان التعارض إلى سندها جميعاً ، بل يمكن افتراض هذا اللون من التعارض بين الأدلة قطعية الصدور التي لا يوجد فيها غير الظهورات المتعارضة ، والعلم الإجمالي بعدم جدية أحدها منحل بالعلم التفصيليّ بعدم جدية ظهور أحد العامين من وجه للتعارض بينهما على كل تقدير ، فلا يبقى مانع من الأخذ بظهور الخاصّين.

__________________

(١) مصباح الأصول ص ٤٠٠ ـ ٤٠١.

٢٩٩

وثالثاً ـ أن التعارض السندي يكون بأحد ملاكين.

الملاك الأول ـ أن يعلم إجمالاً بكذب أحد السندين ، بمعنى عدم صدور الكلام عن المعصوم عليه‌السلام رأساً وكذب النقل.

الملاك الثاني ـ ويتحقق حيث ينقل من قبل راويين كلامان عن المعصوم يحتمل صدورهما معاً غير أن ظاهر كل منهما لا يلائم ظاهر الآخر ، فيقع التعارض في دليل حجية الظهور بين ظهوريهما ويسري إلى دليل حجية السند ، باعتبار لغوية بقاء حجية السند مع سقوط الدلالة.

فإن قصد السيد الأستاذ ـ دام ظله ـ من تعارض الأدلة الأربعة جميعاً حصول التعارض على أساس الملاك الأول ـ كما يساعد عليه تعبير التقرير حيث عبر بالعلم الإجمالي بكذب أحدها ـ فهذا الملاك للتعارض لو فرض وجوده فلا إشكال في استلزامه سقوط الأدلة الأربعة جميعاً ، لوقوع التكاذب بين شهادة الراوي في كل واحد منها مع شهادة الراوي في الثلاثة الباقية.

إلاّ أن وجود مثل هذا العلم الإجمالي عناية زائدة لم تفترض في المسألة ، ومجرد فرض التعارض بين الظهورات لا يستلزم العلم بعدم صدور أحدها وكذب الراوي في مقام النقل ، لوضوح إمكان صدور البيانات المتعارضة عن المعصومين عليهم‌السلام. فلو فرض وجود علم إجمالي من هذا القبيل في مورد ما فهو لعناية إضافية ، لو تمت اقتضت إجمال السند ولو لم يكن تعارض يحسب الدلالة ، كما إذا ورد عام وخاص وعلم إجمالاً بكذب أحد السندين.

وإن كان مقصوده ـ دام ظله ـ التعارض على أساس الملاك الثاني ، فالتعارض على هذا الأساس إنما يسري إلى السند فيما إذا أجملت الدلالة وسقط الظهور عن الحجية ، بأن كان التعارض الدلالي مستحكماً ولا تعارض كذلك بالنسبة إلى دلالة المخصصين في المقام ، إذ لو ادعي ذلك على أساس تعارض كل خاص مع مجموع العامين والخاصّ الآخر ، فالجواب : أن هذه المعارضة

٣٠٠