بحوث في علم الأصول - ج ٧

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٧

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٢٧

فما هو مقتضى دليل الحجية؟ التساقط أو التخيير أو الترجيح؟

الثالث ـ أن التعارض سواء كان مستحكماً أو لم يكن مستحكماً هل عولج حكمه في دليل خاص وراء دليل الحجية العام؟ وهذا هو بحث الأخبار العلاجية.

وكل هذه الأسئلة يقع الجواب عليها في عهدة علم الأصول ، لدخول ذلك في نطاق وظيفته.

وعلى هذا الأساس يمكن القول : بأن المقصود من تعريف التعارض إذا كان التعارض المستحكم الساري إلى دليل الحجية ، باعتباره موضوع البحث في السؤال الثاني الّذي ينقح في مقام الجواب عنه الأصل الأولي من حيث التخيير أو التساقط ، فلا بد من صياغة التعريف بنحو يقتضي خروج موارد الجمع العرفي. ولكن عرفت أن تعريف المشهور ـ وكذا تعريف المحقق الخراسانيّ قده ـ لا يفي بذلك ، لأن موارد الجمع العرفي لا تخرج لا بفرض المنافاة بين المدلولين ولا بفرض المنافاة بين الدلالتين ، لانحفاظهما معاً في غير الورود من أقسام الجمع العرفي. وإنما الصحيح أن يقال في تعريفه حينئذ : إن التعارض هو التنافي بين الدليلين في مرحلة شمول دليل الحجية لهما ، وبهذا العنوان قد ينطبق التعارض على دليلين غير متكاذبين في الدلالة والمدلول أيضا ، كدليلين ترخيصيين غير مثبتين للّوازم مع العلم الإجمالي بانتفاء أحد الترخيصين ، فإن هذين الدليلين متنافيان في مرحلة شمول دليل الحجية لهما لكنهما غير متكاذبين.

ولكن ، يبقى السؤال عن الهدف الفني الّذي يستهدفه الباحث وراء إخراج موارد الجمع العرفي عن موضوع بحث التعارض ، مع أن علم الأصول هو العلم الّذي يتعهد ببيان قواعد هذا الجمع. ويجيب عن السؤال الأول من الأسئلة الثلاثة المتقدمة ، كما أن السؤال الثالث أيضا لا يختص بغير موارد

٢١

الجمع العرفي ، فلا موجب لحصر التعارض المبحوث عنه هنا في خصوص ما يقع مورداً للسؤال الثاني خاصة. نعم لا بأس بالاستفادة من هذا التعريف لتعريف أحد قسمي التعارض الرئيسيين ، وهو التعارض المستقر الّذي سوف يقع موضوعاً للبحث في الأصل الأولي والأصل الثانوي على ما سوف يأتي بيانه.

وأما إذا كان المقصود من تعريف التعارض ، التعارض الّذي يقع مورداً للأسئلة الثلاثة جميعاً ، فلا بد في تعريفه بنحو يشمل موارد الجمع العرفي بأقسامه المتعددة ، وحينئذ فلا يصح التعريف المشهور ـ ولا تعريف المحقق الخراسانيّ ـ قده ـ لذلك ، لأن المنافاة ، سواء جعلت بين الدلالتين أو المدلولين لا تشمل الورود من أقسام الجمع العرفي ، إذ لا منافاة بين الدليل الوارد والدليل المورود ، لا في المدلول ولا في الدلالة.

فالصحيح ، أن يقال في تعريفه : إن التعارض هو التنافي بين المدلولين ذاتاً بلحاظ مرحلة فعلية المجعول التي هي مرحلة متأخرة عن المرحلة التي يتعرض لها الدليل ، حيث إن الدليل متكفل للجعل لا لفعلية المجعول ، فكلما كان هناك تناف بين المدلولين بلحاظ مرحلة المجعول ـ أي لم يمكن اجتماع المدلولين في عالم الفعلية معاً ولو باعتبار التنافي بين موضوعهما ـ صدق التعارض بهذا المعنى ، سواء كان هذا التنافي ناشئاً من التنافي بين الجعلين أو لا. وبذلك يشمل التعريف موارد الورود أيضا ، لأن هذه الموارد لا يمكن فيها اجتماع المجعولين الفعليين وإن كان اجتماع الجعليين ممكناً. وإنما قيّدنا التنافي بين المجعولين بكونه ذاتياً ، لإخراج التنافي المصطنع بينهما الناشئ من تقييد موضوع خطاب بعدم خطاب آخر ، دون أن يكون ذلك على أساس التنافي الذاتي بين حكميهما مسبقاً.

وأما إذا كان المقصود من تعريف التعارض ، تحديد التنافي الحقيقي بين

٢٢

دليلين ، فسوف نجد أن تعريف المشهور وتعريف المحقق الخراسانيّ ـ قده ـ يفي بذلك ، دون الصيغة التي تفي بالمقصود الأول والصيغة التي تفي بالمقصود الثاني ، وذلك لأن الصيغة التي تفي بالمقصود الأول تكون أضيق دائرة من حالات التنافي الحقيقي ، لما تقدم من أن التنافي بين الدليلين بحسب المدلول والدلالة ثابت في غير الورود من أقسام الجمع العرفي ، والصيغة الثانية أوسع دائرة من حالات التنافي الحقيقي ، لأن عدم إمكان اجتماع المجعولين في الفعلية في موارد الورود لا يحقق تنافياً بين الدليلين ، لأن المرحلة التي يتعرض لها الدليل إنما هي الجعل لا المجعول. ويكون التعارض بموجب هذه الصيغة المستفادة من تعريف المشهور غير مختص بموارد التعارض المستحكم ، كما لا يكون شاملاً لقسم الورود من أقسام التعارض غير المستقر ، ولا حاجة في هذه الصيغة إلى الاهتمام بإخراج موارد الجمع العرفي جميعاً ، بل العكس هو الصحيح ، لأن المقصود بها ضبط حالات التنافي الحقيقي بين الدليلين وهي تشمل غير الورود من أقسام التعارض غير المستقر.

ويتلخص من ذلك كله : أن تعريف التعارض إن كان تعريفاً لمعنى مصطلح فالمسألة مسألة اختيار تبعاً للحاجة الفنية التي من أجلها وضع الاصطلاح ولهذا فالأنسب بهذه الحاجة هو الصيغة الثانية التي تستوعب الأسئلة الثلاثة التي يجب على علم الأصول معالجتها. وإن كانت الصيغة الأولى يمكن الاستفادة منها في تعريف قسم من التعارض يقع موضوعاً للبحث الأصولي. وإن كان تعريف التعارض تعريفاً لواقع موضوعي ، وهو حالات التنافي الحقيقي بين دليلين ، فكل من تعريف الشيخ الأعظم وتعريف المحقق الخراسانيّ ـ قدهما ـ يفي به ، للتلازم بين تنافي المدلولين وتنافي الدلالتين.

وسوف نعبر فيما يلي عن الصيغة الثانية بالتعارض الاصطلاحي وعن الصيغة الثالثة بالتعارض الحقيقي.

التعارض بين الأصلين وبين الأصل والأمارة :

والتعارض ، تارة : يفرض بين دليلين اجتهاديين ، كالتعارض بين

٢٣

روايتين. وأخرى : يفرض بين أصلين عمليين ، كالتعارض بين أصل البراءة والاستصحاب. وثالثة : بين أصل عملي ودليل اجتهادي ، كالتعارض بين البراءة والرواية الدالة على الحرمة مثلاً ، فهل هنا أقسام ثلاثة للتعارض حقيقة؟

الصحيح ، أن الفرضين الأخيرين ليسا قسيمين للفرض الأول ، بل هما حالتان من حالاته ، ومصداقان آخران للتعارض بين الدليلين الاجتهاديين. وذلك : لأن حالات التعارض بين الأصلين العمليين ترجع في الحقيقة إلى التعارض بين دليلي حجيتهما بلحاظ ما يدل عليه كل منهما من جريان أصل لا يلائم جريان الأصل الآخر ، وليس التعارض بين الأصلين حقيقة ، إذ ليس للأصل مدلول ومحكي ليحصل التنافي بينهما بلحاظ مدلوليهما أو دلالتيهما ، وإنما للأصل معلول وأثر على فرض الوصول ، وهو المنجزية والمعذرية ، فلا دلالة له على نفي الأصل الآخر.

وأما حالات التعارض بين الدليل الاجتهادي والأصل ، كتعارض الخبر الدال على الحرمة مع البراءة عنها ، فمرجعها ـ في الحقيقة ـ إلى التعارض بين الدليل الاجتهادي الدال على البراءة ودليل حجية الخبر ، ولا تعارض بين نفس الخبر والبراءة ، إذ ليس للبراءة مدلول ومحكي ينافي مدلول الخبر بل لها أثر معلول لوصولها ، وهو التأمين ، وهو ينافي ما لحجية الخبر المذكور من معلول لوصوله وهو التنجيز. فالتنافي بحسب الحقيقة بين ثبوت التعذير الّذي هو أثر الأصل وثبوت التنجيز الّذي هو أثر الدليل الاجتهادي ، حيث يستحيل صدقهما معاً فيكون التعارض بين ما يدل على ذلك التعذير وهذا التنجيز.

وهكذا نعرف : أن التعارض يكون دائماً بين الدليلين ، ونقصد بالدليل كل ما كان متكفلاً للكشف عن حكم شرعي.

٢٤

التعارض بين الدليل اللفظي والدليل العقلي :

والتعارض كما يمكن أن يفرض بين دليلين لفظيين كذلك يمكن أن يفرض بين دليلين عقليين ، أو دليل عقلي ودليل لفظي.

أما التعارض بين دليلين عقليين ، فلا بد وأن يفرض فيهما عدم كونهما معاً قطعيين بأن يكون أحدهما أو كلاهما ظنياً قام الدليل على حجيته تعبداً. وحينئذ ، فإن كان أحدهما قطعياً والآخر ظنياً كان الدليل القطعي وارداً على الدليل الظني ، لأن التعارض يقع ـ في الحقيقة ـ بين الدليل العقلي القطعي ودليل حجية ذلك الظن ، وقد أخذ في موضوع دليل الحجية الشك ، والدليل القطعي رافع له حقيقة. وأما لو كانا ظنيين معاً ، فيرجع التعارض بينهما إلى التعارض بين الدليلين الاجتهاديين الدالين على حجيتهما ، فلا بد من تطبيق قواعد التعارض عليهما.

وأما التعارض بين دليل عقلي ودليل لفظي ، فإن كان الدليل العقلي قطعياً كان وارداً على الدليل اللفظي أيضا لعين الملاك المتقدم ، وإن كان اللفظي قطعياً والعقلي ظنياً انقلبت النسبة وكان اللفظي وارداً على العقلي الظني ، لنفس السبب ، وإن كانا ظنيين معاً كان التعارض في الحقيقة بين دليل حجيتهما ، فتطبق عليهما قوانين باب التعارض.

والفرق الأساسي بين حالات التعارض في الأدلة اللفظية ، وحالات التعارض في غيرها ، أن ملاكات الجمع العرفي ـ باستثناء الورود ـ لا تتصور في غير الأدلة اللفظية الكاشفة عن مراد الشارع ـ على ما سوف تأتي الإشارة إليه في محله إن شاء الله تعالى ـ فإن إمكانية الجمع العرفي في حالة تعارض عقليين ظنيين أو عقلي ظني ولفظي ظني إنما تتوقع في رتبة دليلي الحجية للمتعارضين إذا كانا لفظيين لا في رتبة نفس المتعارضين ، وهذا بخلاف حالة تعارض الدليلين اللفظيين ، فإنه قد تكون إمكانية الجمع العرفي بينهما بنحو لا يستقر التعارض ولا يسري إلى دليل الحجية.

٢٥

التَعارُض والتَزاحُم

التزاحم ، هو التنافي بين الحكمين بسبب عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما في عالم الامتثال. ولا بد لنا بصدد تعريف التعارض من أن نعرف النسبة بين التزاحم الّذي هو نحو من أنحاء التنافي ، وبين التعارض الّذي عرفنا فيه نحواً من أنحاء التنافي أيضا.

وهنا لا بد وأن نلحظ كلا المعنيين السابقين للتعارض وهما ، التعارض الحقيقي والتعارض الاصطلاحي.

أما بالنسبة إلى التعارض الحقيقي ، فحالات التزاحم تخرج عنه إذا تم شرطان :

الأول ـ أن نلتزم في كل خطاب شرعي ـ بموجب مقيد لبي له ـ بقيد هو « عدم الاشتغال بضد واجب لا يقل عنه في الأهمية » فيكون موضوع الصلاة مثلاً من لم يشتغل بضد لها واجب لا يقل عنها في الأهمية ، وكذا في وجوب الإزالة.

الثاني ـ أن نلتزم بإمكان الترتب في الوجوبين المتزاحمين ، بأن يكون الوجوب الآخر مجعولاً على تقدير عصيان الوجوب الأول. فإن تم هذان الأمران كانت موارد التزاحم خارجة عن نطاق التعارض الحقيقي ، وأما إذا أنكرنا الأمر الأول ، وقلنا : بأن خطاب ( صل ) مثلاً غير مقيد بعدم الاشتغال بضد واجب لا يقل عنه في الأهمية ، وأن إطلاقه بنفسه يدل على

٢٦

عدم وجود مكافيء للصلاة في الأهمية ، فمن الواضح وقوع التعارض الحقيقي حينئذ بين إطلاق خطاب ( صل ) وإطلاق خطاب ( أزل ) لأن كلاً منهما يدل حينئذٍ على وجوب متعلقه مطلقاً حتى مع الاشتغال بالآخر ، ونتيجة هذا الإطلاق إلزام كل من الخطابين بصرف القدرة في متعلقه بدلاً عن متعلق الآخر.

كما أنا إذا قبلنا الأمر الأول وأنكرنا الأمر الثاني ، وقلنا باستحالة الترتب ، فسوف يحصل التنافي بين الخطابين ، ولو كانا مشروطين بالمخصص اللبي ، من ناحية أدائه إلى فعلية كلا الخطابين المجعولين في فرض العصيان ، وهذا يعني سراية التنافي إلى عالم الجعل واستحالة ثبوت الخطابين المشروطين بما هما مشروطان أيضا ، وهو معنى التعارض.

وأما دخول التزاحم إثباتاً ونفياً في التعارض الاصطلاحي ، فهو مسألة اختيار ، لأن مقوم التعارض الاصطلاحي التنافي بين المجعولين في عالم الفعلية ، فإن عمم هذا التنافي بين المجعولين للتنافي غير المباشر بينهما ـ ولو باعتبار ما يستتبعه المجعول من تنجز وامتثال ـ دخل التزاحم في التنافي المصطلح ، لأن كلا من المجعولين في موارد التزاحم ينافي المجعول الآخر ، لا بنفسه بل بامتثاله.

وأما نسبة البحث الأصولي في التزاحم إلى البحث الأصولي في التعارض الاصطلاحي ، فهي نسبة البحث الصغروي إلى البحث الكبروي ، لأن بحث التعارض الاصطلاحي يفي ببيان أحكام وقوانين التعارض المستحكم وأحكام وقوانين التعارض غير المستحكم « موارد الجمع العرفي » وعلى بحث التزاحم تقع عهدة تحقيق الصغرى ، إذ يبحث عما إذا كان هناك تعارض مستحكم في مورد التزاحم أولا ، وذلك عن طريق دراسة الأمرين السابقين اللذين يتوقف على تماميتهما خروج التزاحم عن التعارض الحقيقي ، فإن ثبت الأمران وانتفى التعارض المستحكم انفتح مجال للحديث عن قوانين الترجيح والتخيير في باب التزاحم ، وهي كلها في الحقيقة تطبيقات لقانون الورود الّذي يتعهد بحث التعارض الاصطلاحي بتنقيحه كبرويا ـ على ما يأتي تفصيله وتوضيحه إن شاء الله لدى دراسة نظرية الورود ـ.

٢٧

كيفَ نشَأ التعَارضُ في الأدلةِ الشرعيَّة

وقد يتساءل عن منشأ وقوع التعارض بين الأحاديث الصادرة عن المعصومين عليهم‌السلام رغم أنهم جميعاً يفصحون عن أحكام الشرع المبين المنزّه عن التناقض والاختلاف. وقد ينطلق من ذلك للتشكيك في الأسس والأصول الموضوعية التي يبتني عليها الفقه الجعفري بل التراث الشيعي بكامله ، من الاعتقاد بعصمة الأئمة واعتبار أقوالهم والنصوص الصادرة عنهم كالقرآن الكريم والسنّة النبوية مصدراً تشريعياً يرجع إليها في مجال التعرف على أحكام الشريعة المقدسة. فتجعل من ظاهرة التعارض والاختلاف الملحوظة بين النصوص الصادرة عنهم دليلاً على الزعم القائل : بأن الأئمة ليسوا إلاّ مجتهدين كسائر الفقهاء والمجتهدين ، وليست الأحاديث الصادرة عنهم إلاّ تعبيراً عن آرائهم الاجتهادية الخاصة ، فيكون من الطبيعي حينئذ وجود الاختلاف والتعارض فيما بينها ، وبهذا تفقد هذه الأحاديث الشريفة قيمتها التشريعية والمصدرية. ولسنا هنا بصدد الدفاع عن عقيدة العصمة ، فإن لذلك مجالاً غير هذا البحث ، وإنما نود أن نشير فيما يلي إلى أهم العوامل التي يمكن أن تفسر ظاهرة التعارض الموجودة بين الأحاديث والنصوص الصادرة عن أئمتنا عليهم‌السلام ، دون أن يكون فيها ما يفقد قيمتها التشريعية.

٢٨

١ ـ الجانب الذاتي للتعارض :

كثيراً ما لا يكون بين النصين المدعى تعارضهما أي تناف في الواقع ، ولكن الفقيه الممارس لعملية الاستنباط قد يُتراءى له التناقض بينهما على أساس الإطار الذهني الّذي يعيشه ويتأثر به في مجال فهم النص فيخطئ في تشخيص معنى النص إما لجهله باللغة وعدم اطلاعه على دقائقها ، أو لغفلته عن وجود بعض القرائن ، أو قرينية الموجود منها ، أو لعدم معرفته بطروّ تغيير في بعض الأوضاع اللغوية. فهو يفهم النص في ضوء ما يراه معنى له بالفعل ، ثم يفترض أنه كان معنى اللفظ في زمان صدور النص أيضا ، ولو من جهة أصالة عدم النقل والثبات العقلائية.

فكل واحد من هذه العوامل قد يسبب وقوع التعارض فيما بين النصوص لدى الفقيه الممارس لعملية الاستنباط ، ولكنه تعارض ذاتي وليس تعارضاً موضوعياً ثابتاً في واقع الأمر.

٢ ـ تغير أحكام الشريعة عن طريق النسخ :

ومن العوامل المؤثرة في نشوء ظاهرة التعارض بين الأحاديث وقوع النسخ في جملة من الأحكام الشرعية.

والنسخ ، إن أخذناه بمعناه الحقيقي ، وهو رفع الحكم بعد وضعه وتشريعه الّذي هو أمر معقول ، بل واقع في الأحكام العرفية بلا كلام وادّعي وقوعه في الأحكام الشرعية من قبل بعض الأصوليين ، فسوف لن يكون النسخ من باب التعارض والتنافي بين الدليلين بحسب الدلالة ومقام الإثبات ، لأن الدليل الناسخ حينئذٍ لا يكون مكذباً للدليل المنسوخ ، لا بلحاظ دلالته على أصل الحكم المنسوخ ولا بلحاظ دلالته على دوامه واستمراره ، وإنما يكون دالاً على تبدّل الحكم وتغيره ثبوتاً بعد أن كان نظر المشرّع على طبق

٢٩

المنسوخ حدوثاً وبقاءً حقيقةً. فالنسخ في الشريعة على هذا الأساس وإن كان من الاختلاف والتنافي في الحكم ، وقد يكون له مبرراته من التدرج في مقام التقنين والتشريع أو غيره من المبررات ، إلاّ أنه يكون تنافياً في عالم الثبوت وليس من التعارض الّذي هو التنافي في عالم الإثبات.

وإن فسرنا النسخ في الشريعة بما يرجع إلى التخصيص بلحاظ عمود الزمان ، وأن الناسخ يكشف عن انتهاء أمد الحكم المنسوخ ومحدوديته بذلك الزمان ، وأن الناسخ يكشف عن انتهاء أمد الحكم المنسوخ ومحدوديته بذلك الزمان من أول الأمر وإن كان بحسب ظاهر دليله مطلقاً من ناحية الزمان ، فسوف يندرج النسخ في باب التخصيص الّذي هو أحد أقسام التعارض غير المستقر ، حيث تحصل المعارضة بين أصل دلالة الدليل المنسوخ على استمرار الحكم ودوامه وبين الدليل الناسخ. وقد يدور الأمر بين أن يكون الدليل المتأخر ناسخاً للحكم المتقدم ورافعاً لاستمراره ، أو يكون مخصصاً لبعض أفراده فيكون بياناً لإرادة الخصوص من أول الأمر. وقد بينت في محلّه مرجحات كل من التخصيص أو النسخ بما لا مجال هنا لشرحه.

وهكذا يتضح : أن تغير أحكام الشريعة عن طريق النسخ يكون أيضا أحد العوامل المستوجبة للتعارض بين الأحاديث والنصوص. ولكن التعارض على أساس هذا العامل تنحصر دائرته في النصوص الصادرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا تعم النصوص الصادرة عن الأئمة عليهم‌السلام لما ثبت في محله من انتهاء عصر التشريع بانتهاء عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأن الأحاديث الصادرة عن الأئمة المعصومين ليست إلاّ بياناً لما شرعه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الأحكام وتفاصيلها.

٣ ـ ضياع القرائن :

ومن جملة ما يكون سبباً في نشوء التعارض بين النصوص أيضا ، ضياع كثير من القرائن المكتنف بها النص أو السياق الّذي ورد فيه ، نتيجة للتقطيع أو

٣٠

الغفلة في مقام النقل والرواية ، حتى كان يرد أحياناً التنبيه على ذلك من قبل الإمام نفسه. كما في الحديث الوارد في المسألة الفقهية المعروفة ( ولاية الأب على التصرف في مال الصغير ) حيث كان يستدل أصحابه على ولايته بما كان يروى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « أنتَ وَمَالُكَ لأبِيكَ » فجاء في رواية الحسين ابن أبي العلاء أنه قال : « قُلتُ لأبي عَبدِ اللهِ عليه‌السلام : مَا يَحلّ للرّجُلِ مِن مَال وَالِدِهِ؟ قال : قُوتُهُ بِغَيرِ سرَفَ إذَا اضطرّ إليهِ. فَقُلتُ لَهُ قولُ رَسولِ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للرّجُلِ الّذي أتَاهُ فَقَدّمَ أبَاهُ فَقَالَ لَهُ : أنتَ وَمَالُكَ لأَبِيكَ فَقَالَ : إنّمَا جَاءَ بِأبِيهِ إلى النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فَقَالَ : يا رَسُولَ اللهِ هذَا أبِي ظَلَمَنِي مِيرَاثي مِن أمّي ، فَأخبَرَهُ الأبُ أنّهُ قَد أنفَقَهُ عَلَيهِ وَعَلى نَفسِهِ. فَقَالَ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :أنتَ وَمَالُكَ لأبِيكَ ، وَلَم يَكُن عِندَ الرّجُلِ ، أو كَانَ رَسولُ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يَحبِسُ الأبَ للابنِ؟ » (١).

فقد حاول الإمام عليه‌السلام أن ينبه في هذه الرواية على أن الحديث المنقول عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد جرد من سياقه ، وما كان يحتفّ به من القرائن التي يتغير على أساسها المدلول ، فإنّ قولَه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « أنت ومالك لأبيك » لو كان صادراً مجرداً عن ذلك السياق أمكن أن يكون دليلاً على حكم شرعي ، هو ولاية الأب على أموال ابنه بل نفسه أيضا ولكنه حينما ينظر إليه في ذلك السياق لا يعدو أن يكون مجرد تعبير أدبي أخلاقي.

وتكثر الغفلة عن القرائن فيما إذا كانت ارتكازية عامة تنشأ من البيئة وظروف النص ، فإن الراوي وإن كان مسئولاً في مقام النقل والرواية عن نقل النصّ بكامله وكامل ما يكتنف به من القرائن والملابسات التي تلقي ضوءاً على المعنى المقصود منه ـ ولذلك اعتبرنا سكوت الراوي عن نقل القرينة شهادة سلبية منه على عدم وجودها حين صدور النص ، وبذلك استطعنا أن نتخلص من مشكلة الإجمال إذا ما احتمل وجود قرينة مع النص لم تصل إلينا ، على

__________________

(١) وسائل الشيعة باب ٧٨ من أبواب ما يكتسب به.

٣١

ما حققناه في محله ، ـ إلاّ أن القرائن إذا كانت ارتكازية عامة فلا تكون محسوسة لدى الراوي حين النقل كي يذكرها صريحاً ، لأنها حينئذ قضايا عامة معاشة في ذهن كل إنسان فلا يشعر الراوي بحاجة إلى ذكرها باللفظ ـ ولذلك استثنينا في محله عن قاعدة رفع إجمال النص حين احتمال وجود القرينة بشهادة الراوي السلبية المستكشفة من سكوته ، ما إذا كانت القرينة المحتملة قرينة ارتكازية عامّة ، لأن الراوي حينئذ يفترض وجودها ارتكازاً عند السامع أيضا فلا يتصدى لنقلها ، ولا يكون في سكوته شهادة سلبية بعدمها ـ فقد يبقى النص على هذا الأساس منقولاً بألفاظه مجرداً عن القرينة الارتكازية العامة ، فإذا ما تغير عبر عصور متعاقبة ذلك الارتكاز العام وتبدل إلى غيره ، تغيّر معنى النص لا محالة ، وإذا اعتبرنا مثل هذا الظهور حجة ، ولو تمسكاً بأصالة عدم القرينة كما هو مسلك المشهور ، فقد ينشأ على هذا الأساس التنافي بين هذا النص وغيره من النصوص المتكفلة لبيان نفس الحكم الشرعي.

٤ ـ تصرف الرّواة والنقل بالمعنى :

وتصرف الرّواة في ألفاظ النص ونقلهم له غير مكترثين بألفاظه وغير محافظين على حرفيته في أغلب الأحيان هو العامل الآخر في نشوء التعارض بين النصوص ، إذ من الطبيعي أن يقع حينئذ في دلالة النص أو مدلوله شيء من التغيير والتبديل ، بأن تتغير مرتبة دلالة النص ودرجة صراحتها ، أو يتغير مدلوله نتيجة غفلة الراوي أو جهله في مقام التصرف ، فينشأ على أساس ذلك التعارض أو تستحكم المعارضة بسبب التغيير الحاصل بحيث لولاه لكان من الممكن الجمع بين النصوص وحل المعارضة بأحد أنحاء الجمع العرفي التي سوف يأتي شرحها. وقد كان من الطبيعي على هذا الأساس أن يتأثر درجة التغير والتصرف في النص بمدى قدرة الراوي على ضبط تمام المعنى ونقله من دون تصرف فيه إلاّ بما لا يخل ، فكلما كان الراوي أعلم بدقائق اللغة وأعرف بظروف صدور النص وبيئته ، كان احتمال التغيير فيما ينقله إلينا

٣٢

أضعف درجة وأقل خطورة. ومما يشهد على وجود هذا العامل في الروايات ما نجده في أحاديث بعض الرّواة بالخصوص من أصحاب الأئمة عليهم‌السلام. من غلبة وقوع التشويش فيها ، حتى اشتهرت روايات عمار الساباطي مثلاً ، بين الفقهاء بهذا المعنى ، لكثرة ما لوحظ فيها من الارتباك والإجمال في الدلالة أو الاضطراب والتهافت في المتن في أكثر الأحيان ، وقد صار العلماء يعتذرون في مقام الدفاع عن صحة ما يصح عن طريقه وعدم قدح اضطراب متنه في اعتباره ، بأنه من عمار الساباطي الّذي لم يكن يجيد النقل والتصرف في النصوص لقصور ثقافته اللغوية.

٥ ـ التدرج في البيان :

ومن أهم عوامل نشوء التعارض بين الروايات أيضا ، أسلوب التدرج الّذي كان يسلكه أئمتنا عليهم‌السلام في مجال بيان الأحكام الشرعية وتبليغها إلى الناس ، حيث لم يكونوا يفصحون عن الحكم وتفاصيله وكل أبعاده دفعة واحدة وفي مجلس واحد في أكثر الأحيان ، بل كانوا يؤجلون بيان التحديدات والتفاصيل إلى أن تحين فرصة أخرى ، أو يتصدّى الراوي بنفسه للسؤال عنها ثانية.

وهذه ظاهرة واضحة في حياة الأئمة عليهم‌السلام التثقيفية مع أصحابهم ورواة أحاديثهم ، يلحظها كل من تتبع ودرس الأحاديث الصادرة عنهم. وربما تلحظ هذه الحالة في الحديث الواحد. حيث يبين الإمام عليه‌السلام الحكم الشرعي أولا على سبيل الإيجاز ويسكت عن التفاصيل لو لا إلحاح السائل بعد ذلك وتصدّيه بنفسه لفهم حدود الحكم ودقائقه ، كما نشاهد ذلك في مثل رواية العيص بن القاسم ، قال : « قَالَ أبُو عَبدِ اللهِ عليه‌السلام في حَدِيثٍ :وَكَره النّقَابَ ـ يعني للمرأة المحرمة ـ وَقَالَ تُسدِلُ الثّوبَ عَلى وَجهِهَا ، قُلتُ : حَدّ ذَلِكَ إلى أينَ؟ قَالَ : إلى طَرَفِ الأنفِ قَدَرَ مَا تُبصِرُ » (١).

__________________

(١) وسائل الشيعة ب ـ ٤٨ ـ من أبواب تروك الإحرام.

٣٣

فإن جواب الإمام عليه‌السلام بجواز إسدال المرأة الثوب على وجهها من دون تقييد ذلك بطرف الأنف ظاهر في جواز إسدالها على كامل وجهها ، ولكن تصدي السائل ثانيا للسؤال عن حد ذلك الحكم أوجب أن يبين الإمام عليه‌السلام ، ما يكون منافياً مع الجواب الأول ومقيداً له.

ولعل السبب الّذي كان يدعو لهذا التدرج في البيان ، هو مراعاة حالة المتشرعة التي لم تكن تسمح لهم باستيعاب التفاصيل كلها دفعة واحدة في ظل تلك الظروف السياسية ، ومع تلك الإمكانات المحدودة المستعصي معها التعليم والتعلم من جهة ، وتطبيقاً لفكرة التدرج الطبيعي في مجال التربية والتثقيف على الأحكام الشرعية تلك الفكرة التي طبقها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضا في بدء الدعوة إلى الإسلام ، من جهة أخرى. فكان من نتائج هذا الأسلوب أن اعتمد الأئمة في مقام تبليغ تفاصيل الأحكام الشرعية وتثبيتها في أذهان أصحابهم على القرائن المنفصلة والبيانات المتأخرة بعضها عن بعض ، فشاع على هذا الأساس التعارض والتنافي بين النصوص والأحاديث الصادرة عنهم بنحو التخصيص أو التقييد أو القرينة ، كما نجده في كتب الحديث التي بأيدينا اليوم.

٦ ـ التقية :

والتقية أيضا كان لها دور مهم في نشوء التعارض بين الروايات ، فلقد عاش أكثر الأئمة المعصومين عليهم‌السلام ظروفاً عصيبة فرضت عليهم التقية في القول أو السلوك.

ولا نريد هنا شرح الأسباب التأريخية التي دعت الأئمة عليهم‌السلام إلى الاتقاء في أحاديثهم أو التحفظ في حياتهم العملية ، فإن للحديث عن ذلك مجالاً آخر ، ولكنه ينبغي أن نشير إلى أن التقية التي كان يعملها الأئمة لم تكن تقية من حكام بني أمية وبني العباس فحسب ، بل كانوا يواجهون ظروفاً اضطرتهم

٣٤

إلى أن يتقوا أيضا من المسلمين والرّأي العام عندهم ، فلا يصدر منهم ما يتحدى معتقدات العامة ويخالف مرتكزاتهم وموروثاتهم الدينية التي تدخلت في نشأتها عوامل غير موضوعية كثيرة في ظل الأوضاع التي حكمت المسلمين في تلك الفترة من التاريخ.

فإن المتتبع لحياة الأئمة عليهم‌السلام يلاحظ أنهم كانوا حريصين كل الحرص على كسب الثقة والاعتراف لهم بالمكانة العلميّة والدينية المرموقة من مختلف الفئات والمذاهب التي نشأت داخل الأمة الإسلامية ، وإن كلفهم ذلك بعض التنازلات والتحفظات ، لكي يستطيعوا بذلك أداء دورهم الصحيح ، وتمثيل ثقلهم التشريعي والمرجعي الّذي تركه لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الأمة في الوقت الّذي يحفظون به أيضا على حياتهم وحياة أصحابهم المخلصين ، وهذا هو السبب فيما يلاحظ في أحاديثهم من الاعتراف في كثير من الأحيان بالمذاهب الأخرى وفتاوى علمائها ، فيعددون أن فتوى أهل العراق كذا ، وفتوى أهل المدينة كذا ، وهكذا ، رغم أنهم لا يرون صحتها ، ولكنهم يقصدون من وراء ذلك عدم تحدّي تلك المذاهب التي راجت وشاعت بين فئات من الأمة يعتدّ بها ، في الوقت الّذي يسجلون فيه خطأها ومخالفتها مع ما هم أدرى وأعرف من غيرهم به.

وكذلك ما يلاحظ في بعض الأحيان من أنهم يحرصون على نسبة ما يفتون به ورفعه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مسنداً عن آبائهم عليهم‌السلام ، فلو لا أنهم كانوا يراعون المذاهب الأخرى لقطع الحجة عليهم كان يكفي مجرد ذكر الحكم الشرعي وبيانه لشيعتهم في الأخذ به. وهكذا نستطيع أن نفسر ظاهرة التقية في أحاديث أئمتنا عليهم‌السلام بما يتضح معه السبب لشيوعها بين الروايات الصادرة عنهم ، مع أن أكثرها تتكفل مسائل فقهية بعيدة عن شئون الخلافة الإسلامية وما يرتبط بالخلفاء آنذاك ، وقد بلغ الأمر بالأئمة عليهم‌السلام في التقية لا من الحكام فحسب بل من الأمة بصورة آكد أن جعلوا مخالفة العامة مقياساً لترجيح إحدى الروايتين

٣٥

المتعارضتين على الأخرى ، على ما يأتي شرحه مفصلاً في مباحث الترجيح والمرجحات ( إن شاء الله تعالى ).

هذا علاوة على ما حاولوه من توضيح ظروف التقية أمام الأمة والرّأي العام التي كانوا يواجهونها لأصحابهم ورواة أحاديثهم الموثوقين ، لكي لا يرتابوا في أمرهم حينما تصلهم عن أحد الأئمة أحاديث مختلفة مغايرة مع ما هو معروف لديهم من مذهب أهل البيت عليهم‌السلام وفقههم. فقد ورد عن أبي بصير أنه قال : « سَألتُ أبَا عَبدِ اللهِ عليه‌السلام عَنِ القُنُوتِ ، فَقَالَ :فِيمَا يُجهَرُ فِيهِ بِالقرَاءَةِ. فَقَالَ : فَقُلتُ لَهُ : إنّي سَألتُ أبَاكَ عَن ذَلِكَ فَقَالَ في الخَمسِ كُلّها؟ فَقَالَ : رَحِمَ اللهُ أبي إنّ أصحَابَ أبي أتَوهُ فَسَألُوهُ فَأخبَرَهُم بالحَقّ ثُمّ أتَوني شُكّاكاً فَأفتَيتُهُم بالتّقِيّة » (١).

ورواية أبي عمرو الكناني قال : « قَالَ أبُو عَبدِ اللهِ عليه‌السلام يا أبَا عَمرو أرَأيتَ لَو حَدّثتُكَ بحدِيثٍ أو أفتَيتُكَ بفُتيَا ثُمّ جِئتَني بَعد ذَلِكَ فَسَألتَني عَنهُ فَأخبَرْتُكَ بخِلافِ ذَلِكَ بأيّهِمَا كُنتَ تَأخُذُ؟ قُلتُ بأحدَثِهِمَا وَأدَعُ الآخَرَ. فَقَالَ : قَد أصَبتَ يا أبَا عَمروٍ أبَى اللهُ إلاّ أن يُعبَدَ سِرّاً. أمّا وَاللهِ لئن فَعَلتُم ذَلِكَ إنّهُ لَخَيرٌ ليَ وَلَكُم وَأبَى اللهُ عَزّ وجَلّ لَنَا وَلَكُم في دِينِهِ إلاّ التّقِيّةَ » (٢) ورواية أبي عبيدة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « قَالَ لي : يا زِيَادُ مَا تَقُولُ لَو أفتَينَا رَجُلاً مِمّن يتَوَلاّنَا بشَيءٍ مِنَ التّقِيّةِ؟ قَالَ :قُلتُ لَهُ : أنتَ أعلَمُ جُعِلتُ فِدَاكَ. قَالَ : إن أخَذَ بِهِ فَهُوَ خَيرٌ لَهُ وَأعظَمُ أجراً. قال ، وفي رواية أخرى : إن أخَذَ بِهِ أُجِرَ

__________________

(١) وسائل الشيعة باب ـ ١ ـ من أبواب القنوت.

(٢) جامع أحاديث الشيعة الجزء الأول باب ـ ٦ ـ من أبواب المقدمات ، ص ٦٦.

٣٦

وَإن تَرَكَهُ وَاللهِ أثِمَ » (١).

بل نجد في بعض الروايات أكثر من ذلك ، حيث يلاحظ أنهم لا يقتصرون في تطبيق مبدأ التقية على أنفسهم بل يأمرون الأصحاب بالتمسك به أيضا في أقوالهم وسلوكهم.

فقد روي عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال : « قَالَ أبُو جَعفَر عليه‌السلام في القُنُوتِ إن شِئتَ فَاقنُت وَإن شِئتَ فَلا تقنُت. قَالَ أبُو الحَسَنِ : وَإذَا كَانَتِ التّقِيّة فَلا تُقنِت وَأنَا أتَقَلّدُ هذَا » (٢) وعن عبد الله بن زرارة قال : « قَالَ لي أبُو عَبدِ اللهِ عليه‌السلام : اقرَأ مِنّي عَلى وَالِدِكَ السّلامَ وَقُل إنّمَا أعِيبُكَ دِفَاعاً مِنّي عَنكَ ، فَإنّ النّاسَ وَالعَدُوّ يُسَارِعُونَ إلى كُلّ من قَرّبنَاهُ وَحَمِدنَاهُ مَكَانَهُ بإدخَالِ الأذَى فِيمَن نُحِبّهُ وَنُقَرّبُهُ ( إلى أن قال ) وَعَلَيكَ بالصّلاةِ السّتّةِ وَالأربَعِين ، وَعَلَيكَ بالحَجّ أن تَهِلّ بالإفرادِ وَتَنوِي الفَسخَ إذَا قَدِمتَ مَكّةَ فَطُفتَ وَسَعَيتَ فَسَختَ مَا أهلَلتَ بِهِ وَقَلَبتَ الحَجّ عُمرَةً ... ( إلى أن قال ) هذَا الّذِي أمَرنَاكَ بِهِ حَجّ التّمَتّع فَالزم ذَلِكَ وَلا يَضِيقُ صَدرُكَ ، وَالّذي أتَاكَ بِهِ أبُو بَصِير مِن صَلاة إحدَى وَخَمسِينَ وَالإهلالِ بالتّمَتّعِ بالعُمرَةِ لي الحَجّ وَمَا أَمَرنَا بِهِ مِن أن يَهِلّ بالتّمَتّعِ ، فَلِذَلِكَ عِندَنَا مَعَانٍ وَتَصَارِيفُ لِذلِكَ مَا تَسَعُنَا وَتَسَعُكُم ، وَلا يُخَالِفُ شَيءٌ مِنْ ذَلِكَ الحَقّ وَلا يُضَادّهُ وَالحَمدُ للهِ رَبّ العَالَمِينَ » (٣).

وعن معاذ بن مسلم النحوي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام « قال : بَلَغَني

__________________

(١) وسائل الشيعة باب ـ ٩ ـ من أبواب صفات القاضي.

(٢) وسائل الشيعة باب ـ ٤ ـ من أبواب القنوت.

(٣) وسائل الشيعة ب ـ ٥ ـ من أبواب أقسام الحج.

٣٧

أنّكَ تَقعُدُ في الجَامِعِ فَتُفْتي النّاسَ؟ قُلتُ : نَعَم ، وَأرَدتُ أن أسألَكَ عَن ذَلِكَ قَبلَ أن أخرُجَ ، إنّي أقعُدُ في المَسجِدِ فَيَجِيءُ الرّجُلُ فَيَسألُني عَن الشّيءِ فَإذَا عَرَفتُهُ بالخِلافِ لَكُم أخبَرتُهُ بِمَا يَفعَلُونَ ، وَيَجِيءُ الرّجُلُ أعرفُهُ بِمَوَدّتِكُم وَحُبّكُم فَأخبَرتُهُ بِمَا جَاءَ مِنكُم ، وَيَجِيءُ الرّجُلُ لا أعرِفُه وَلا أدرِي مَن هُوَ فَأقُولُ : جَاءَ عَن فُلانٍ كَذا وَجَاءَ عَن فُلانٌ كَذا فأدخِلُ قَولَكُم فِيمَا بَينَ ذَلِكَ. فَقَالَ عليه‌السلام : اصنَع كَذا فَإنّي كَذا أصنَعُ » (١).

وواضح على ألسنة هذه الروايات ما ذكرناه من أن تقية الأئمة لم تكن تحفظاً من الحكام فحسب ، بل كانت مراعاة للناس والمذاهب المختلفة التي راجت عندهم أيضا.

٧ ـ ملاحظة ظروف الراوي :

وقد ينشأ التعارض بين الحديثين نتيجة أن الإمام حينما قال أحدهما كان يلاحظ حالة في السائل يتغير على أساسها الحكم الشرعي ويتأثر بها ، فإن الأحكام الشرعية قد تتغير باختلاف حالات العلم والجهل والنسيان والعذر ونحو ذلك ، فيكون الإمام في أحد الموردين قد أفتى سائله بما يكون وظيفته الشرعيّة المقرّرة له وهو بتلك الحالة لا مطلقاً ، ولكن السائل قد نقل ذلك الحكم كقضية مطلقة دون أن يلتفت إلى احتمال دخالة الحالة التي كان عليها في الحكم ، فيحصل من أجل ذلك التعارض بينه وبين ما صدر عن المعصوم في مورد آخر كانت تختلف فيه ظروف الراوي للحديث عن ظروف الراوي الأول. وقد ورد التنبيه على ذلك من قبل الأئمة أنفسهم أيضا في بعض الروايات ، حين عرض عليهم بعض موارد التعارض من كلماتهم ، فقد روى صفوان

__________________

(١) وسائل الشيعة ب ـ ١١ ـ من أبواب صفات القاضي.

٣٨

عن أبي أيوب قال : « حَدّثَني سَلَمَةُ بنُ مُحرَز أنّهُ كَانَ يَتَمَتّعُ حَتّى إذا كَانَ يَومُ النّحرِ طافَ بالبَيتِ وَالصّفا وَالمَروَةِ ، ثمّ رَجَعَ إلى مِنَى وَلَم يَطُف طَوافَ النّسَاءِ فوَقَعَ عَلى أهلِهِ ، فَذَكَرَهُ لأصحَابِهِ فَقَالُوا : فُلانٌ قَد فَعَلَ مِثلَ ذلِكَ فَسَألَ أبَا عَبدِ الله عليه‌السلام فَأمَرَهُ أن يَنحَرَ بدنَةً. قَالَ سَلَمَة : فَذَهَبتُ إلى أبي عَبدِ اللهِ عليه‌السلام فَسَألتُهُ ، فَقَالَ : لَيسَ عَلَيكَ شَيءٌ. فَرَجَعتُ إلى أصحَابي فَأخبَرْتُهُم بِمَا قَالَ لي. قَالَ : فَقَالُوا : اتّقاكَ وَأعطاكَ مِن عَينٍ كَدِرَة. فَرَجَعتُ إلى أبي عَبدِ اللهِ ، فَقُلتُ : إنّي لَقيتُ أصحابي فَقَالُوا : اتّقَاكَ ، وَقَد فَعَلَ فُلانٌ مِثلَ مَا فَعَلتَ فَأمَرَهُ أن يَذبَحَ بدنَةً ، فَقَالَ عليه‌السلام صَدَقُوا ، ما اتّقَيتُكَ ، وَلَكِن فُلانٌ فَعَلَهُ مُتَعَمّداً وَهُوَ يَعلَم ، وَأنتَ فَعَلْتَهُ وَأنتَ لا تَعلَمُ ، فَهَل كَانَ بَلَغَكَ ذلِكَ ، قَالَ : قُلتُ لا وَاللهِ مَا كَانَ بَلَغَني. فَقَالَ : لَيسَ عَلَيكَ شَيءٌ » (١).

٨ ـ الدس والتزوير :

ومن جملة ما كان سبباً لحصول الاختلاف والتعارض بين الأحاديث أيضا ، عملية الدس بينها والتزوير فيها التي قام بها بعض المغرضين والمعادين لمذهب أهل البيت عليهم‌السلام ، على ما ينقله لنا التأريخ وكتب التراجم والسير.

وقد وقع كثير من ذلك في عصر الأئمة أنفسهم على ما يظهر من جملة من الأحاديث التي وردت تنبه أصحابهم إلى وجود حركة الدس والتزوير فيما يروون عنهم من الأحاديث. فهذا محمد بن عيسى بن عبيد يروي لنا عن يونس ابن عبد الرحمن « أنّ بَعضَ أصحَابِنَا سَألَهُ وَأنَا حَاضِرٌ ، فَقَالَ لَهُ : يا أبَا مُحَمّدٍ مَا أشَدّكَ في الحَدِيثِ وَأكثَرَ إنكَاركَ لِمَا

__________________

(١) وسائل الشيعة ب ـ ١٠ ـ من أبواب كفارات الاستمتاع.

٣٩

يَروِيهِ أصحَابُنا ، فَمَا الّذي يَحمِلُكَ عَلى رَدّ الأحَاديثِ؟ فَقَالَ : حَدّثَني هِشَامُ بنُ الحَكَمِ أنّهُ سَمِعَ أبَا عَبدِ اللهِ عليه‌السلام يَقُولُ : لا تَقبَلُوا عَلَينَا حَديثاً إلاّ مَا وافَقَ القُرآنَ وَالسّنّةَ ، أو تَجِدُونَ مَعَهُ شَاهِداً مِن أحادِيثِنَا المُتَقَدّمَة ، فَإنّ المُغيِرَةَ بنَ سَعيدٍ لَعَنَهُ اللهُ دَسّ في كُتُبِ أصحَابِ أبي أحَاديثَ لم يُحدّثْ بِهَا أبي ، فَاتّقُوا اللهَ وَلا تَقُولُوا عَلَيْنَا مَا خَالَفَ قَولَ رَبّنا تَعَالى وَسُنّةَ نَبيّنَا مُحَمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فَإنّا إذَا حَدّثْنَا قُلنْا قَالَ اللهُ عَزّ وَجلّ وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. قَالَ يُونُسُ : وَافَيْتُ العَرَاقَ فَوَجَدْتُ بِهَا قطْعَةً مِنْ أصْحَابِ أبي جَعْفَر عليه‌السلام وَوَجَدْتُ أصْحَابَ أبي عَبدِ اللهِ عليه‌السلام مُتَوَافِرِينَ ، فَسَمِعتُ مِنهم وَأخَذتُ كُتُبَهُمَ فَعَرَضتُهَا مِن بَعدُ عَلى أبي الحَسَنِ الرّضا عليه‌السلام ، فَأنكَرَ مِنهَا أحَادِيثَ كثِيرَةً أن يَكُونَ مِن أحاديِث أبي عَبدِ اللهِ عليه‌السلام ، وَقَال لي : إنّ أبَا الخَطّابِ كَذِبَ عَلى أبي عَبدِ اللهِ عليه‌السلام. لَعَنَ اللهُ أبَا الخَطّابِ ، وَكَذلِكَ أصحَاب أبي الخَطّابِ ، يَدُسّونَ في هذِهِ الأحَاديِثِ إلى يَومِنَا هذَا ، في كُتُبِ أبي عَبدِ اللهِ عليه‌السلام ، فَلا تَقبَلُوا عَلَينَا خِلافَ القُرآنِ ، فإنّا إن تَحَدّثنَا حَدّثنَا بمُوَافَقَةِ القُرآنِ ومُوَافَقَةِ السّنّةِ ... إلخ » (١).

وعملية التنبيه الأكيدة من الأئمة عليهم‌السلام على وجود حركة الدس ، والتي أعقبها التحفظ الشديد من قبل أصحاب الأئمة والسلف المتقدم من علماء الطائفة في مقام نقل الحديث وروايته وتطهير الروايات عمّا دُسّ فيها ، وإن كان لها الفضل الكبير البالغ في تحصين كتب الحديث عن أكثر ذلك الدس والتزوير ، إلاّ أن هذا لا يعني حصول الجزم واليقين بعدم تواجد شيء مما زوّر على الأئمة عليهم‌السلام في مجموع ما بأيدينا من أحاديثهم ، سيما إذا لاحظنا

__________________

(١) رجال الكشي ، ص ١٤٦.

٤٠