بحوث في علم الأصول - ج ٧

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٧

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٢٧

بأي سبب كان بل اخبار عن نجاسته المسببة من وقوع البول عليه فبعد العلم بكذب البيّنة في إخبارها عن وقوع البول على الثوب يعلم كذبها في الاخبار عن نجاسة الثوب لا محالة. وأما النجاسة بسبب آخر فهي وإن كانت محتملة إلاّ أنها خارجة عن مفاد البيّنة رأساً. وكذا الكلام في المقام ، فالخبر الدال على الوجوب يدل على حصة من عدم الإباحة التي هي لازمة للوجوب لا على عدم الإباحة بقول مطلق ، والخبر الدال على الحرمة يدل على عدم الإباحة اللازمة للحرمة لا مطلق عدم الإباحة فمع سقوطهما عن الحجية في مدلولهما المطابقي للمعارضة يسقطان عن الحجية في المدلول الالتزامي أيضا. وكذا الحال في سائر الأمثلة التي ذكرناها (١).

أقول : بالإمكان المناقشة في كل من النقض والحل ، ففيما يتعلق بالنقض يناقش.

أولا ـ أن هذه النقوض تشترك كلها من أن المشهود به فيها من قبل البينة أو غيرها هو الموضوع الخارجي المحسوس به ، وأما الحكم بالنجاسة أو الملكية فليس ثبوته شرعاً باعتباره مدلولاً التزامياً للشهادة ، كيف وقد لا يعتقد الشاهد بترتب ذلك الحكم وإنما يثبت الحكم ثبوتاً واقعياً بدليله الوارد في الشبهة الحكمية ، وثبوتاً ظاهرياً في مورد الشهادة بدليل حجية الشهادة وهذا يعني أن ترتبه يكون أثراً شرعياً مصححاً للحجية لا مدلولاً التزامياً للمشهود به. وعلى هذا الأساس ، إذا أريد تطبيق دليل حجية الشهادة في موارد النقض على المدلول الالتزامي لمفاد البينة ابتداء فهو ليس موضوعاً آخر لدليل حجية الشهادة ، وإن أريد تطبيقه على الشهادة بالملاقاة ـ الموضوع الخارجي ـ لترتيب آثارها فالمفروض سقوطه بالعلم الوجداني ، وان أريد تطبيقه بلحاظ الجامع بين ذلك الموضوع الخارجي وغيره ، بدعوى : انحلال الشهادة بالملاقاة مع البول إلى الشهادة بجامع الملاقاة والشهادة بالخصوصية ، والساقط من هاتين الشهادتين الثانية لا الأولى ، فالجواب : أن الشهادة بالجامع

__________________

(١) مصباح الأصول ص ٣٦٩ ـ ٣٧٠.

٢٦١

شهادة تضمنية تحليلية ، وقد تقدم أن حجيتها ضمنية أيضا ، كيف ولو كان مثل هذه الدلالات باقية على الحجية لأمكن إثبات كل شيء بالشهادة الكاذبة على أي شيء ، لانحلالها إلى الشهادة على الجامع بينه وبين الشيء المراد إثباته ـ ولو كان جامعاً انتراعياً ـ فتكون حجة في إثبات الجامع ، وبنفي ذلك الفرد المعلوم كذبه يتعين الآخر لا محالة ، وهذا واضح البطلان.

وثانياً ـ أن بعض هذه النقوض ليس من باب سقوط الدلالة المطابقية بل من باب عدم ترتب الأثر عليها ، لعدم توفر شرائط الحجية كلها ـ كما في النقض الثالث ـ والمدعى عند القائل بالتبعية سقوط الدلالة الالتزامية بسقوط المطابقية ، لا توقف حجيتها على حجية المدلول المطابقي وترتب أثر شرعي عليه بالفعل.

وفيما يتعلق بالحل يناقش : بأنه إذا أريد قياس المقام على البينة في الأمثلة المتقدمة ، فقد عرفت أن المدلول الالتزامي فيها لم يكن بنفسه موضوعاً جديداً لدليل حجية الشهادة وإنما مصحح جعل الحجية للشهادة بالموضوع الخارجي ولكن الدلالة الالتزامية للظهور في الكلام الصادر من المعصوم عليه‌السلام كشف لفظي عن لازم المدلول المطابقي وليس مصحح جعل الحجية للمدلول المطابقي كما هو واضح ، وان أريد أن المدلول الالتزامي إنما هو الحصة الخاصة المقارنة مع الملزوم فتكون المعارضة سارية إليه أيضا ، فالجواب : أن هذا إنما يتم في المداليل الالتزامية التي لها تخصص وتعين في نفسها مع قطع النّظر عن المقارنة المنتزعة بلحاظ المدلول المطابقي ، فتكون بنفسها مما لا تجتمع مع المدلول في الدليل الآخر ، وأما إذا لم يكن لها تعين كذلك فلا يتم هذا الوجه ، لأن المدلول الالتزامي حينئذ ذات اللازم ، والدلالة الالتزامية دلالة عليه بما هو هو لا بما هو لازم مقارن ، فالتلازم نسبة بين المتلازمين وليس مأخوذاً في أحد الطرفين فمع سقوط الدلالة المطابقية عن الحجية وعدم مشموليتها لدليل الحجية العام لا مانع من بقاء الدلالة الالتزامية للكلام على حجيتها ما دام مدلولهما محتمل الثبوت في نفسه والدلالة عليه محفوظة ذاتاً ووجوداً.

٢٦٢

وبعبارة أخرى : أن عدم الترخيص المستفاد من دليل الوجوب مثلاً وإن كان على تقدير ثبوت الوجوب مقارناً مع الوجوب إلاّ أن دليل الوجوب يدل على ذات عدم الترخيص أولا ـ على أساس برهان استحالة اجتماع الضدين ـ وينتزع في طول ذلك ثانياً وبعد ثبوت المدلول المطابقي عنوان التقارن بينهما ، والّذي يدخل ميدان التعارض الدلالة على التقارن لا الدلالة على عدم الترخيص.

التقريب الثاني ـ ان الدلالة الالتزامية العقلية ليست من دلالة اللفظ على المعنى بل من دلالة المعنى على المعنى ، فهناك بحسب الحقيقة دالان ومدلولان ، أحدهما الكلام ومدلوله المعنى المطابقي ، والآخر نفس المعنى المطابقي ومدلوله المعنى الالتزامي ، لأن الملازمة العقلية ملازمة تصديقية بين واقع المعنيين بوجوديهما الحقيقيّين فإذا سقطت الدلالة اللفظية في إثبات مدلوله فلا يبقى ما يدلنا على المعنى الالتزامي ، وهو معنى التبعية بينهما في الحجية.

وهذا الوجه لو تم لأثبت التبعية بمعنى توقف حجية الدلالة الالتزامية على حجية المطابقية لا مجرد الملازمة بينهما وعدم الانفكاك ، كما هو الحال على الوجه السابق.

إلاّ أن هذا الوجه غير تام أيضا ، لأن الملازمة العقلية إنما تكون بين ثبوت المعنى المطابقي واقعاً وثبوت المعنى الالتزامي كذلك لا ثبوتهما التعبدي ، فإن أريد من عدم الدال على المعنى الالتزامي عند سقوط الدلالة المطابقية عدم ذات الدال على المعنى الالتزامي فهو غير صحيح ، فإن الدال عليه ذات المعنى المطابقي وهي غير ساقطة وإنما الساقط حجيتها ، وإن أريد عدم التعبد بثبوت الدال على المعنى الالتزامي فهو صحيح إلاّ أنه لم يكن هو الدال على المعنى الالتزامي ، وإلاّ لثبتت حجية لوازم الأصول العملية أيضا لثبوت التعبد بمداليهما المطابقية.

وإن أريد أن حجية الدلالة المطابقية ينقح تعبداً موضوع حجية الدلالة

٢٦٣

الالتزامية ، حيث يثبت بها وجود المعنى المطابقي الدال على المعنى الالتزامي ، فيترتب عليه حجيته تعبداً نظير إثبات الحكم الشرعي بالبينة المحرزة لموضوعه تعبداً ، فإذا سقطت الدلالة المطابقية عن الحجية فلا يمكن إثبات حجية الدلالة الالتزامية لعدم إحراز موضوعها ولو تعبداً. ففيه : أن المعنى المطابقي ليس موضوعاً لحجية المعنى الالتزامي بل ملازماً عقلاً مع المعنى الالتزامي فالنسبة بينهما هي النسبة بين الأمرين التكوينيين المتلازمين لا نسبة الموضوع إلى حكمه الشرعي الّذي يكون مصحح جعل الحجية للأمارة الحاكية عن موضوعه.

وإن شئت قلت : إن موضوع الحجية في الأمارات تلك الدرجة من الكشف التصديقي الثابت في موارد قيامها ، وهي كما توجد بالنسبة إلى المدلول المطابقي كذلك توجد بالنسبة إلى المدلول الالتزامي ، ومجرد سقوط الكشف الأول عن الحجية لا يستوجب ارتفاع الكشف الثاني.

التقريب الثالث ـ وهو الوجه المختار ـ إن ملاك الحجية في الدلالتين واحد فلا تبقى نكتة لحجيته الدلالة الالتزامية إذا سقطت الدلالة المطابقية. وتوضيح ذلك : إن نكتة الحجية وملاكها في الاخبار والحكاية إنما هو أصالة عدم الكذب ـ بالمعنى الشامل للاشتباه ـ وفي الإنشاء والقضايا المجعولة أصالة الظهور وإرادة المعنى من اللفظ ، وإذا سقطت الدلالة المطابقية بظهور كذبها في باب الأخبار أو عدم إرادتها في باب الإنشاء فافتراض عدم ثبوت المدلول الالتزامي لها لا يستدعي افتراض كذب زائد في الاخبار أو مخالفة زائدة في الإنشاء لأن هذه الدلالة لم تكن بدال إخباري أو إنشاء مستقل وإنما كانت من جهة الملازمة بين المدلولين فتكون من دلالة المدلول على المدلول وليست دلالة واجدة لملاك مستقل للكاشفية والحجية.

وعلى هذا الأساس صح التفصيل في التبعية بين الدلالة الالتزامية البينة عرفاً ـ أي الدلالة التصورية ـ والدلالة الالتزامية غير البينة ـ الدلالة التصديقية

٢٦٤

العقلية ـ حيث لا نلتزم بالتبعية في الأولى ، إذ لو كانت الدلالة الالتزامية بدرجة من الوضوح بحيث تشكل ظهوراً في الكلام زائداً على مدلوله المطابقي فسوف يكون عدم إرادة المتكلم لها مخالفة إضافية زائداً على ما يستلزمه عدم إرادته للمدلول المطابقي فيكون مثل هذه الدلالة الالتزامية مستقلة عن الدلالة المطابقية في ملاك الحجية فلا تتبعها في السقوط.

وعلى هذا الأساس أيضا صح التفصيل بين الدلالة التضمنية التحليلية والدلالة التضمنية غير التحليلية ولو كانت ارتباطية ـ كما في دلالة العام المجموعي ـ فإن الأولى لا تبقى على الحجية بعد سقوط الدلالة المطابقية عن الحجية لعدم لزوم خطأ آخر أو مخالفة زائدة من سقوطها بينما الثانية تبقى على الحجية ولو سقط المدلول المطابقي ، فلو علم من الخارج عدم إرادة العموم من العام المجموعي للعلم بخروج فرد معين منه مع ذلك يصح التمسك به لإثبات الحكم على مجموع الباقي ، كما هو الحال في العموم الاستغراقي ، ولا تخريج فني لذلك إلاّ ما أشرنا إليه في المقام من أن الدلالة التضمنية في العام المجموعي وإن كانت ارتباطية ولكن مخالفة العام المجموعي بعدم إرادة شيء من أفراده أشد عناية وأكثر مخالفة من إرادة البعض منه فيكون مقتضى الأصل عدم المخالفة الزائدة ، وهو معنى عدم التبعية.

ج ـ التعارض بين الأدلة المتعددة :

لا فرق في ما هو مقتضى الأصل الأولي في موارد التعارض المستقر بين ما إذا كان التعارض بين دليلين أو أكثر ، فكما يحكم بتساقطهما في الأول يحكم بتساقط الجميع في الثاني ـ إذا لم تفرض خصوصية تقتضي تعين بعضهما للسقوط ، على ما سوف يأتي الحديث عنه في نظرية انقلاب النسبة ـ والوجه في ذلك واضح ، فإنه سوف يقع التنافي في اقتضاء دليل الحجية لشمول كل واحد منها مع اقتضائه لشمول الآخر فشموله لها جميعاً غير ممكن وشموله

٢٦٥

لبعض دون بعض ترجيح بلا مرجح ، من دون فرق بين أن تكون هناك معارضة واحدة بين مجموع تلك الأدلة أو أكثر ، كما إذا تعارض دليل مع دليلين بملاكين مختلفين. ومن دون فرق بين أن تكون المعارضة من جهة التنافي بين مدلول كل منها مع مدلول الآخر أو من جهة التنافي بين الرواية ، كما إذا علم بكذب أحد الرّواة وعدم صدور ما ينقله عن المعصوم عليه‌السلام. وبهذا يعرف أن موارد اختلاف النسخ في نقل الرواية تكون من باب التعارض أيضا.

إلاّ أنه ربما يتصور في خصوص ما إذا وقع الاختلاف والتهافت في طريق نسخة واحدة دون طريق النسخة الأخرى أو الرواية المعارضة ، إمكان إنجاء النسخة الأخرى أو المعارض الّذي لم يقع اختلاف في طريق نقلهما عن المعارضة. ومن تطبيقات هذه الكبرى في الفقه رواية ذريح المعروفة في العصير العنبي المغلي قال : « سَمِعتُ أبا عَبدِ اللهِ عليه‌السلام يَقُول : إذا نَشّ العَصِيرُ أو غَلا حَرُمَ » (١). حيث أنها نقلت في التهذيب بـ ( أو ) ونقلها صاحب الوسائل عن الكافي بـ ( و) ونقلها صاحب البحار عن الكافي بـ ( أو ) فيدعى حينئذ اختصاص التعارض بطريقي النسختين الواردتين في مقام تعيين عبارة الكافي ويبقى نقل التهذيب سليماً عن التعارض.

والتحقيق ـ على ما أوضحناه في محله في الفقه (٢) ان الأمر يختلف باختلاف المبنى في كيفية تصور حجية الخبر مع الواسطة. فالتصور المتعارف لحجيته هو أن يقال : بأن المخبر المباشر لنا يخبرنا عن خبر من قبله فيثبت لنا خبر من قبله على أساس حجية إخبار المخبر المباشر ومن قبله يخبر عن خبر من قبله فيثبت لنا ذلك الخبر وهكذا ، فبناء على هذا التصور لا معارض لنقل التهذيب

__________________

(١) وسائل الشيعة باب ٣ من أبواب الأشربة المحرمة.

(٢) بحوث في شرح العروة الوثقى الجزء الثالث ، ص ٤٠٥.

٢٦٦

لأن كتاب البحار يثبت خبر من قبله وهكذا إلى أن يصل إلى الكافي وكذلك كتاب الوسائل فيتعارضان في تعيين خبر الكافي قبل أن يصلا إلى إثبات خبر ذريح فنقل التهذيب عن ذريح يبقى بلا معارض إذ لا يوجد ما يصلح لمعارضته ، أما نقل الكليني فلأنه لم يثبت اشتماله على الواو مع تهافت نسخ الكافي وأما نقل البحار فلأن التهذيب ينقل عن ذريح أنه نطق بـ ( أو ) والبحار ينقل عن الكافي أنه قال أن ذريحاً نطق بالواو ولعل كلا هذين الكلامين صادقان. لكن المختار في تصوير حجية الخبر مع الواسطة أن الناقل المباشر عن الإمام ينقل. حكماً واقعياً ونقله له موضوع لحكم ظاهري منجز للواقع وهو الحجية فالناقل عنه ناقل لموضوع ذلك الحكم الظاهري وهذا النقل الجديد يشمله دليل الحجية بهذا اللحاظ ويكون بنفسه موضوعاً لحكم ظاهري منجز لذلك الحكم الظاهري المنجز للواقع وهكذا إلى أن نصل إلى الناقل المباشر لنا الّذي يكون نقله موضوعاً لحكم ظاهري عاشري مثلاً ويكون حجة لأنه نقل موضوع حكم الشارع فيثبت ذلك الحكم ، وبناء على هذا التصور يقع التعارض لا محالة بين خبر التهذيب وخبر البحار وخبر الوسائل في عرض واحد ويسقط الكل فإن نقل التهذيب موضوع لحكم ظاهري ينجز الحرمة عند النشيش ونقل البحار موضوع لحكم ظاهري يعذر عن الحرمة عند النشيش من دون غليان فلا محالة يتعارضان ويتساقطان ، غاية الأمر أن نقل البحار له معارض آخر وهو نقل الوسائل فيسقط الكل في عرض واحد.

د ـ مقتضى الأصل الثانوي :

وأما ما تقتضيه القاعدة إذا افترضنا العلم من الخارج بحجية أحد الدليلين المتعارضين وعدم تساقطهما المطلق ، فيقال عادة في هذا المجال : أنه تارة نفرض القطع بأن ملاك الحجية في أحدهما المعين أقوى منه في الآخر ، وأخرى : نفرض القطع بتساويه فيهما ، وثالثة : نفرض احتمال تعين الملاك وأقوائيته

٢٦٧

في أحد الطرفين تعييناً ، ورابعة : نحتمل تعيّنه في كل من الطرفين. ففي الأول يثبت الترجيح ، وفي الثاني يثبت التخيير ، وفي الثالث والرابع يكون من موارد الدوران بين التعيين والتخيير في الحجية من طرف واحد أو كلا الطرفين ، وسوف يأتي البحث عن حكمه.

أقول : قد عرفت مما تقدم أنه في الفروض الثلاثة الأولى لسنا بحاجة إلى افتراض علم خارجي يدلنا على عدم التساقط ، بل كان يكفي دليل الحجية وحده لإثبات نفس النتائج المفترضة في التقادير الثلاثة ، فالحاجة إلى ضم دليل خارجي على عدم التساقط إنما تظهر في التقدير الأخير الّذي يبحث فيه عن مقتضى الأصل الثانوي ، وأنه التخيير أو التعيين.

وأيا ما كان ، فالذي علينا البحث عنه هنا هو التفتيش عن مقتضى الأصل الثانوي في موارد علم فيها بعدم التساقط المطلق وتردد الأمر بين تعيين الحجية في أحد الطرفين المتعارضين أو التخيير بينهما. وقد ذكروا : أن مقتضى الأصل التعيين.

والتحقيق : أنه تارة : يبحث مع افتراض عدم انحلال العلم الإجمالي الكبير بوجود تكاليف إلزامية في مجموع الشبهات ، وأخرى : يبحث مع افتراض انحلال هذا العلم بموارد حددت فيها تفصيلاً التكاليف بالوجدان أو التعبد بحيث لم يبق مانع من الانتهاء إلى الأصول العملية المؤمنة في غير دائرة ما علم تفصيلاً من الشبهات.

فعلى الفرضية الأولى. ـ إذا كان احتمال التعيين في أحد الدليلين المتعارضين فقط ، وفرض التزام الفقيه به كان حجة عليه لا محالة ، سواء كان دليلا إلزامياً أم ترخيصياً. وإذا فرض عدم الالتزام به وإنما التزم بالآخر ، أو لم يلتزم بشيء منهما ، أو كان احتمال التعيين في كل من الطرفين وارداً ، فالنتيجة في جميع هذه التقادير الثلاثة عدم ثبوت الحجية لأحدهما المعين ولزوم

٢٦٨

لاحتياط في مقام العمل ، وذلك للشك في حجية كل منهما وعدم إمكان رفع اليد عن مقتضى العلم الإجمالي الكبير المقتضى للاحتياط في تمام الأطراف.

لا يقال ـ لا بد من الالتزام بشيء منهما ، إذ المفروض ثبوت الحجية في الجملة ولو بدليل خارجي المستلزم لوجوب الالتزام بأحدهما في الجملة.

فإنه يقال ـ وجوب الالتزام بأحدهما في الجملة الثابت في موارد التخيير وعدم التساقط المطلق إنما يراد به حكم طريقي فحواه تنجز الواقع على المكلف إذا لم يلتزم بشيء منهما وليس حكماً تكليفياً مستقلاً عن الواقع المشتبه ، والمفروض أن الواقع منجز بالعلم الإجمالي الكبير وان المكلف لا بد وأن يحتاط بلحاظه ، فلا مخالفة في ترك الالتزام بهما مع الاحتياط.

وأما على الفرضية الثانية ، فتارة : يفترض وجود علم إجمالي بالتكليف في خصوص مورد التعارض ، كما إذا دل أحد الدليلين على نفي وجوب الجمعة والآخر على نفي وجوب الظهر وكان يعلم إجمالاً بوجوب أحدهما ، وحكم هذه الصورة حكم الفرضية السابقة أيضا ، بمعنى أن ما يلتزم به يكون هو الحجة إذا كان محتمل التعيين ، وإلاّ فالاحتياط. وأخرى : لا يفترض وجود علم إجمالي في مورد التعارض. وحينئذ تارة : يتكلم فيما إذا تعارض دليل الإلزام مع دليل الترخيص ، وأخرى : فيما إذا تعارض دليلان كلاهما يدل على الحكم الإلزاميّ.

وقبل الدخول في تفاصيل القسمين لا بد وأن نوضح : أن الحجية التخييرية ترجع بحسب روحها وصياغتها الثبوتية إلى مجموع أحكام ثلاثة. حجية كل من الطرفين مشروطة بالأخذ به مع وجوب الالتزام بأحدهما وجوباً طريقياً لأن كل الفرضيات الأخرى لتصوير حقيقة الحجية التخييرية كانت غير معقولة باستثناء فرضية حجية كل منهما مشروطاً بكذب الآخر الّذي كان معقولاً في بعض أقسام التعارض ولكنها لم تكن مفيدة لتعيين الحجة في أحد

٢٦٩

الطرفين حين الأخذ به وإنما كان يظهر أثره في نفي الحكم الثالث فقط ـ على ما تقدم شرحه مفصلاً ـ وهذا هو الفارق بين الحجية التخييرية والوجوب التخييري ، فإن الأخير يعقل جعله كحكم واحد متعلق بالجامع بخلاف الحجية فإنها لا يعقل تعلقها بالجامع فلا محالة ترجع لباً إلى حجيّتين مشروطتين في الطرفين مع إيجاب الالتزام بأحدهما كحكم طريقي ـ ونقصد بالحكم الطريقي ما شرحناه قبل قليل من تنجز الواقع على المكلف فيما إذا لم يلتزم بشيء منهما وعدم إمكان رجوعه إلى الأصول المؤمّنة ـ ونكتة ذلك لغوية جعل الحجية المشروطة من دونه. فالدليل على الحجية التخييرية بدلالته على هذا الوجوب الطريقي يكون مخصصاً لأدلة الأصول المؤمنة. وبهذا يعرف أيضا أنه لو كان الواقع منجزاً بنفسه إما لعدم انحلال العلم الإجمالي الكبير أو لوجوب الاحتياط في كل شبهة ولو كانت بدوية ، فلا موجب لجعل الوجوب الطريقي.

وعلى ضوء هذا المعنى نقول : إذا فرضنا التعارض بين دليلين يدل أحدهما على حكم إلزامي ، والآخر على حكم ترخيصي وكان يعلم بثبوت الحجية لأحدهما في الجملة ولكنها ترددت بين أن تكون تخييرية أو تعيينية ، فهناك ثلاث صور تختلف النتيجة العملية باختلافها.

الصورة الأولى ـ ما إذا كان احتمال التعيين في دليل الإلزام بالخصوص. وحكم هذه الصورة أنه إذا التزم الفقيه بدليل الإلزام تمت لديه الحجة على الإلزام للقطع بحجيته في هذا الحال على كل تقدير ، وأما إذا لم يلتزم به فيدور الأمر بين ثبوت الحجية المطلقة لدليل الإلزام أو ثبوت الحجية التخييرية التي كانت عبارة عن الأحكام الثلاثة المتقدمة ، وحينئذ قد يتوهم : أن العلم الإجمالي هذا دائر بين متباينين لأن الحجية المطلقة لدليل الإلزام مباينة مع الأحكام الثلاثة ، فيجب الاحتياط.

إلاّ أن الصحيح ـ كما أشرنا إليه فيما سبق ـ عدم منجزية مثل هذا العلم الإجمالي ، لجريان الأصل المؤمن عن الحجية المطلقة ـ التعيين ـ من دون

٢٧٠

معارض لأن الحجية التخييرية لا معنى لإجراء الأصل المؤمن عنها ، لأن مئونتها مشتركة بينها وبين الحجية المطلقة فتكون ثابتة بالعلم الوجداني على كل حال ، إذ كلتا الحجيتين تشتركان في تنجيز الإلزام فيما إذا التزم بدليل الوجوب أو لم يلتزم بشيء منهما وتزداد مئونة الحجية المطلقة لدليل الإلزام وتظهر فيما إذا التزم بدليل الترخيص ، فما يجري عنه الأصل المؤمن إنما هو الحجية التعيينية لدليل الإلزام.

وبتعبير آخر : تجري أصالة البراءة عن الإلزام المحتمل في صورة الالتزام بدليل الترخيص ولا يعارض بأصل مؤمن آخر ، لأنه لو لم يلتزم بشيء منهما أو التزم بدليل الإلزام لم يكن الأصل المؤمن جارياً في حقه لعلمه بالمنجز حينئذ المتمثل في الوجوب الطريقي أو الحجة على الإلزام. وهذه نتيجة التخيير وجواز الأخذ بدليل الترخيص الّذي لا يحتمل تعينه. وبهذا يتضح أن إطلاق فتوى المشهور بالتعيين في كافة صور الدوران بينه وبين التخيير غير تام.

الصورة الثانية ـ ما إذا كان محتمل التعيين دليل الترخيص. والحكم في هذه الصورة هو إجراء الأصل المؤمن عن الحجية التخييرية لدليل الإلزام ، لأنها تتضمن كلفة زائدة بخلاف الحجية التعيينية لدليل الترخيص. وبالتعبير الآخر : تجري البراءة عن الإلزام الواقعي المشكوك سواء التزمنا بدليل الإلزام أو بدليل الترخيص أو لم نلتزم بشيء منهما ، إذ على جميع التقادير لا علم لنا بالمنجز لأن الحجة لو كانت متعينة في دليل الترخيص فلا تنجيز أصلاً ومع احتمال ذلك لا يبقى علم منجز فيمكن إجراء البراءة. نعم لو التزمنا بدليل الترخيص لقطعنا بالحجة على الترخيص فيمكن الاستناد إليه في الإفتاء بمضمونه. فالنتيجة في هذه الصورة نتيجة التعيين.

الصورة الثالثة ـ أن نحتمل التعيين في الدليلين الإلزامي والترخيصي معاً ، وحكم هذه الصورة. كما في الصورة السابقة من حيث جريان الأصل المؤمن عن الحجية التعيينية والتخييرية المحتملتين لدليل الإلزام ، لأن فيهما معاً كلفة زائدة ،

٢٧١

دون الحجية التعيينية لدليل الترخيص. فالنتيجة في هذه الصورة تعيين دليل الترخيص أيضا ، نعم تختلف الصورتان في أنه لا يمكن الإفتاء بمضمون دليل الترخيص حتى لو التزم به الفقيه في هذه الصورة لاحتمال تعيين دليل الإلزام عليه. بينما كان يمكن ذلك في الصورة السابقة.

هذا كله إذا كان الدوران بين التعيين والتخيير في الحجية لدليلين متعارضين أحدهما يدل على الإلزام والآخر على الترخيص.

وأما إذا كان المتعارضان معاً يدلان على الإلزام ، فتارة : يفترض أن الحكمين الإلزاميين المفادين بهما سنخ حكمين يمكن الاحتياط فيهما ، كما إذا دل أحدهما على وجوب الصدقة على الفقير ودل الآخر على وجوب زيارة الحسين عليه‌السلام وعلم بكذب أحدهما إجمالاً. وأخرى : يفترض أن الحكمين الإلزاميين لا يمكن فيهما الاحتياط ، كما إذا دل أحدهما على وجوب شيء والآخر على حرمته. وفي كلا الفرضين ، تارة : يكون احتمال التعيين في أحد الطرفين ، وأخرى : يكون احتمال التعيين في كلا الطرفين ، فمجموع الصور أربع.

أما الصورة الأولى ـ وهي ما إذا أمكن الاحتياط واحتمل التعيين في أحدهما ـ فيلزم فيها الأخذ بالدليل المحتمل تعيّنه ، لأنه بالأخذ به يقطع بالحجة على الإلزام في أحد الطرفين ، والتعذير عن الطرف الآخر المحتمل بالدلالة الالتزامية ، وبذلك يكون قد أفرغ ذمته بالتعبد ، بينما إذا التزم بالآخر حصل العلم الإجمالي بوجود إحدى حجتين إلزاميتين وهو منجز ، كما أنه إذا لم يلتزم بشيء منهما حصل العلم الإجمالي بحجية الدال على الإلزام الّذي كان يحتمل تعينه ، أو ثبوت الوجوب الطريقي المنجز للواقع وهو علم إجمالي منجز أيضا.

وأما الصورة الثانية ـ وهي ما إذا أمكن الاحتياط واحتمل التعيين في

٢٧٢

الطرفين معاً فيجب فيها الاحتياط وامتثال كلا الدليلين ، لأنه سواء التزم بأحدهما أو لم يلتزم يحصل علم إجمالي منجز ، ولا يكون الالتزام بأحدهما موجباً للعلم بالفراغ عن التكليف ولو تعبداً.

وأما الصورة الثالثة ـ وهي ما إذا لم يكن الاحتياط مع احتمال التعيين في أحد الطرفين ـ فيجب فيها الأخذ بالدليل المحتمل تعيّنه حيث يقطع معه بالحجة على الحكم الواقعي ، ولا يجوز تركه إلى الأخذ بالآخر أو تركهما معاً إذ يتشكل على الثاني علم إجمالي بالمنجز الّذي هو إما الحجية التعيينية أو الوجوب الطريقي. وعلى الأول ، علم إجمالي بحجية أحدهما وهو علم بالحجة المنجزة فيكون كالعلم بالواقع ، فلا يمكن إجراء البراءة عن مفاد محتمل التعيين لا من جهة الدوران بين الوجوب والحرمة وما قد يقال فيه من عدم جريان البراءة عن شيء منهما. فإنه لا دوران بينهما هنا لاحتمال كذب كلا الدليلين ، بل من جهة تشكل هذين العلمين الإجماليين المنجزين. كما أنه لا ينبغي أن يتوهم عدم منجزيّتهما بدعوى : أن المقام من موارد دوران الأمر بين المحذورين فلا يعقل التنجيز فيه ، لإمكان الموافقة القطعية عن طريق الالتزام بالطرف الّذي يقطع بحجيته وتفريغ الذّمّة بالعمل على طبقه حين الالتزام به ، فما نحن فيه حاله حال دوران الأمر بين المحذورين قبل الفحص الّذي يكون العلم الإجمالي فيه منجزاً ، وأثره دفع المكلف إلى الفحص عن الحجة على الحكم الشرعي وتحصيل الموافقة القطعية له ، فالنتيجة في هذه الصورة نتيجة التعيين.

لا يقال : جعل الحجية التخييرية للمتعارضين الدائر مفادهما بين المحذورين لغو في نفسه ، لأن المكلف يطابق عمله مع أحدهما على كل حال.

فإنه يقال : أن التنجيز المذكور تخيير في المسألة الأصولية وليس تخييراً في المسألة الفقهية كي يلغو جعله في موارد الدوران بين المحذورين ، إذ يترتب عليه الأثر في مثل الإفتاء وثبوت اللوازم.

٢٧٣

الصورة الرابعة ـ نفس الصورة المتقدمة مع افتراض احتمال التعيين في كلا الدليلين ـ وحكمها جريان البراءة عن احتمال التعيين في كل من الطرفين. وبتعبير آخر : إجراء البراءة عن كل من الوجوب والحرمة الواقعيين المحتملين لأنه على جميع التقادير يتشكل علم إجمالي دائر بين محذورين ، ولا يمكن موافقته القطعية فيكون حاله حال الدوران بين المحذورين بعد الفحص ، مع فرق من ناحية أنه لا دوران هنا بين احتمال الوجوب والحرمة فقط ، بل يحتمل عدمهما أيضا ـ إذا لم يفترض العلم بصدق أحد الدليلين ـ وإن كان منفياً بالحجة المعلومة إجمالاً ، فالنتيجة في هذه الصورة نتيجة التخيير.

وهكذا اتضح أن مقتضى الأصل الثانوي عند الدوران بين التعيين والتخيير ليس هو التعيين دائماً كما ذهب إليه المشهور ، بل قد تثبت نتيجة التخيير.

٢ ـ حكم التعارض بلحاظ دليلين للحجية :

إذا كان مركز التعارض بين الدليلين المتنافيين دليل حجية السند في أحد المتعارضين ودليل حجية الظهور في المعارض الأخرى. كما هو الحال في الفرضية الثالثة من فرضيات التعارض الرئيسية ، أي ما إذا تعارض دليل ظني السند كخبر الثقة مع دليل قطعي كالكتاب الكريم مع تعذر الجمع العرفي ـ فتارة : يفرض أن دلالة الخبر قطعية ، بحيث لا يحتاج في التمسك به إلى دليل حجية الظهور ، وأخرى : تفرض الحاجة إليه.

فعلى التقدير الأول ، يكون التعارض ابتداء بين دليل حجية السند الظني ودليل حجية ظهور الدليل القطعي. وبما أن الأخير منحصر في السيرة العقلائية والمتشرعية التي هي من الأدلة اللبية ، فقد يتوهم : تعيّن السند الظني للحجية لأن دليل حجية الظهور لا بد وأن يقتصر فيه على قدره المتيقن وهو غير مورد التعارض ، بينما دليل حجية السند الظني غير منحصر في الأدلة اللبية بل فيه ما يتضمن إطلاقاً لفظياً ـ كما إذا تم الاستدلال على حجية خبر الثقة بالآيات

٢٧٤

أو الروايات القطعية السند ـ فيمكن التمسك بإطلاقه لحالات التعارض أيضا. وأما الأدلة اللفظية الآمرة بالرجوع إلى الكتاب والعترة فهي مسوقة لبيان عصمتهما ومرجعيتهما التشريعية ، وليست بصدد بيان حجية دلالات القرآن أو الأحاديث ولو كانت ظنية.

وفيه : أن أدلة حجية خبر الثقة اللفظية إمضائية فتتحدد بحدود ما قامت على اعتباره سيرة العقلاء والمفروض أنها غير شاملة لموارد التعارض.

وقد يدعى العكس وتعين الدليل الظني للسقوط بأحد تقريبين.

١ ـ دعوى : انصراف أدلة حجية الخبر عن مورد علم فيه خلافه من نفس المتكلم ، كما إذا سمعه بنفسه يبين خلاف ما ينقله المخبر. فكأن دليل حجية السند تنزيل للراوي منزلة المتكلم في مورد لا يصل إليه ، فلا يعم صورة اطلاع السامع مباشرة على رأيه ، والدليل القطعي في حكم السماع مباشرة. فإذا خالفه خبر الثقة خرج عن موضوع الحجية.

٢ ـ ما تقدم في أبحاث حجية خبر الثقة ، من أن حجيته الثابتة بالسيرة العقلائية الممضاة شرعاً ليست تعبدية ، وإنما بملاك الطريقية ودرجة الكشف النوعيّ المحفوظة فيه ، فإذا انسلخت عنه تلك الدرجة بقيام إمارة نوعية معتبرة ومعتدّ بها عند العقلاء على خلاف ما أخبر به الثقة سقط عن الاعتبار عندهم. وهذا بخلاف حجية الظهور الثابتة بالسيرة العقلائية أيضا ، فإن ديدنهم على العمل به حتى يعلم بالخلاف فلا يكفي مجرد قيام سند ظني على خلافه ولو كان معتبراً لإسقاطه عن الحجية.

فإذا تم شيء من هذين التقريبين كان ظهور الدليل القطعي حجة ويسقط الدليل الظني على القاعدة ، وإلاّ رجعنا إلى ما كان يقتضيه الأصل الأولي والثانوي المتقدم شرحهما مفصلاً فيما إذا كان مركز التعارض دليل الحجية الواحد.

٢٧٥

وإما إذا كان الدليل الظني سنداً ظنياً دلالة أيضا ، فمركز التعارض أولا وبالذات وإن كان حجية الظهور إلاّ أنه يسري إلى دليل حجية السند ، بناء على ما هو الصحيح من ارتباطية حجية السند وحجية الظهور جعلاً ـ وقد تقدم شرحه ـ فلو قلنا في التقدير السابق بتقديم ظهور الدليل القطعي لأحد التقريبين المتقدمين حكم بذلك هنا أيضا.

وإن قلنا في التقدير السابق بتقديم الدليل الظني في الحجية تمسكاً بإطلاق الدليل اللفظي على حجية الخبر ، فلا يمكن إجراء هذا البيان هنا إذ المفروض ظنية دلالة الخبر فيكون بحاجة إلى التمسك بدليل حجية الظهور والمفروض سقوطه في موارد التعارض ، فيكون دليل حجية السند ساقطاً أيضا.

٢٧٦

تطبيقاتٌ مشكوكٌ فيها لِلتَعارُض المُستَقِرّ

وَبَيَانُ أحكَامِهَا

بعد أن اتضحت أحكام التعارض المستقر وغير المستقر على مقتضى القاعدة والأصل الأوّلي والثانوي ، ينبغي البحث عن حالات من التعارض وقعت مورداً للنزاع في كونها صغرى من صغريات التعارض غير المستقر أو المستقر. وأهم هذه الحالات ما يلي :

أولا ـ إذا تعارضت دلالة وضعية ـ كالعموم ـ مع دلالة حكمية ـ كالإطلاق ـ.

ثانياً ـ إذا تعارض المطلق الشمولي مع المطلق البدلي.

ثالثاً ـ موارد انقلاب النسبة.

ولا بد من تحقيق حال كل واحد من هذه الموارد.

أ ـ تعارض الدلالة الوضعيّة مع الدلالة الحكمية :

والمثال المعروف لهذه الحالة من حالات التعارض ، ما إذا تعارض عام مع المطلق بنحو العموم من وجه من قبيل ما إذا ورد ( أكرم كل شاعر ) ، وورد أيضا ( لا تكرم فاسقاً ) فهل يقدّم العام على المطلق فيحمل المطلق على غير موارد شمول العام كجمع عرفي بينهما فلا تسري المعارضة إلى دليل

٢٧٧

الحجية أو يحكم باستقرار التعارض بينهما في مادة الاجتماع؟

وتوضيحاً لذلك نبحث في مقامين :

المقام الأول ـ في المتصلين.

المقام الثاني ـ في المنفصلين.

أما المقام الأول : وهو ما إذا ورد العام الوضعي متصلاً بالمطلق الحكمي كما إذا قال : ( أكرم كل الشعراء ولا تكرم الفاسق ). فتارة : يُبنى على أنّ دلالة العام موقوفة على جريان مقدمات الحكمة في متعلق أداة العموم ، كما بنى عليه المحقق النائيني ـ قده ـ وأخرى : يُبنى على المسلك المشهور المنصور من أن أدوات العموم بنفسها تثبت إطلاق مدخولهما من دون حاجة إلى إجراء مقدمات الحكمة فيه.

فعلى المسلك الأول ، سوف لن نتعقل وجهاً فنياً لتقديم العموم على الإطلاق بعد ان كانت دلالتهما معاً بمقدمات الحكمة ، فيكون حالهما حال المطلقين المتعارضين ، فلا يصح ـ على هذا المسلك ـ تقديم العام على المطلق في فرض انفصالهما أيضا ، كما هو واضح.

وأما على المسلك الثاني ، فقد قيل بتقديم العموم الوضعي على الإطلاق الحكمي بتقريب معروف حاصله : ان دلالة الإطلاق إنما تكون بمقدمات الحكمة فتكون مشروطة بعدم البيان. وأمّا دلالة العام فهي فعلية لكونها بالوضع فتكون صالحة للبيانية وبالتالي رافعة لموضوع مقدمات الحكمة.

والتحقيق : أنه ينبغي أن يلاحظ ما المراد بالبيان في عدم البيان الّذي هو من مقدمات الحكمة ، فإنه يحتمل فيه أحد معانٍ ثلاثة :

الأول ـ بيان القرينة على التقييد.

الثاني ـ ما يكون بياناً بالفعل سواء كان قرينة أم لا.

٢٧٨

الثالث ـ ما يكون بياناً في نفسه لو لا الإطلاق.

فعلى الاحتمال الأول القائل بأن الإطلاق موقوف على عدم بيان ما يصلح للتقييد ، تكون الدلالة الإطلاقية منعقدة في نفسها كالدلالة الوضعيّة في العام لأن عموم العام وإن كان بياناً في نفسه في مادة التعارض بينهما إلاّ أنه ليس بياناً بنحو التقييد والقرينية.

وعلى الاحتمال الثاني لا تتم الدلالة الحكمية لما ذكر من أن العام رافع لموضوعها.

وكذلك على الاحتمال الثالث فإن العام أيضا يكون بياناً في نفسه صالحاً لرفع موضوع الإطلاق. بل بناء على هذا الاحتمال لو كانا مطلقين أيضا لا موضوع للدلالة الإطلاقية لأن البيان اللولائي صادق على كل منهما ، وهذا بخلافه على المبنى الأول والثاني ، فإن المطلقين المتصلين يكونان متزاحمين في اقتضاء الظهور لتمامية مقدمات الحكمة في كل منهما.

وأما المقام الثاني : وهو ما إذا كانا في خطابين منفصلين ، فقد ذهب الشيخ الأنصاري ـ قده ـ إلى تقديم العام تطبيقاً لنفس التقريب المتقدم في المتصلين من أن الدلالة الإطلاقية تعليقية متفرعة على جريان مقدمات الحكمة وتماميتها. ومن جملة هذه المقدمات عدم بيان الخلاف والعام صالح لأن يكون بياناً على خلاف المطلق ، وأما دلالة العموم فإنها بالوضع والأداة فتكون دلالة فعلية منجزة والدلالة المنجزة ترفع موضوع الدلالة التعليقية ، ويستحيل العكس.

وخالف في ذلك المحقق الخراسانيّ ـ قده ـ مدّعياً أن عدم البيان الّذي هو جزء المقتضي في مقدمات الحكمة إنما هو عدم البيان في مقام التخاطب لا إلى الأبد (١).

__________________

(١) كفاية الأصول ج ٢ ، ص ٤٠٤ ( ط ـ مشكيني ).

٢٧٩

فالمطلق وإن كانت دلالته تعليقية بخلاف العام إلاّ أن المعلّق عليه إنما هو عدم البيان المتصل بالمطلق لا مطلق عدم البيان ولو منفصلاً. فمع عدم اتصال البيان بالمطلق تنعقد دلالة فعلية له على حدّ دلالة العام فيكون من تعارض دلالتين فعليتين ناجزتين ، ولا مرجّح لأحدهما على الآخر ما لم يفترض ملاك آخر للترجيح ، وهو كما يحتمل تحققه في العام يحتمل تحققه في المطلق.

وجاءت بعد ذلك مدرسة المحقق النائيني ـ قده ـ لتؤكد صحة الاتجاه الّذي سلكه الشيخ ـ قده ـ من توقف المطلق على عدم البيان الأعم من المتصل والمنفصل ، بعد إجراء تعديل عليه.

وتوضيح ذلك : ان المسلك القائل بتوقف الإطلاق على عدم البيان الأعم من البيان المتصل والمنفصل يواجه إشكالاً عويصاً حاصله : أنه يستلزم عدم جواز التمسك بالإطلاق كلما شك في ثبوت الحكم لفرد أو حال مما يشمله الإطلاق ، لاحتمال وجود مقيّد منفصل لم يصل إلينا ، إذ الشك في ذلك يساوق ، الشك في ثبوت الإطلاق وعدمه ، والتمسك بالإطلاق ـ كالتمسك بكل ظهور ـ فرعُ إحراز أصل الظهور الإطلاقي في الدليل. وأصالة عدم القرينة على الخلاف إنما تجري فيما إذا كان ظهور في مقام الإثبات يقتضي إفادة معنى واحتمل ورود قرينة على خلافه ومرجعها لُبّاً إلى أصالة الظهور وعدم جواز رفع اليد عن كشفه النوعيّ لمجرد الاحتمال.

وهذه المشكلة حاولت مدرسة المحقق النائيني ـ قده ـ التغلب عليها ببيان يحفظ لها في نفس الوقت موقفها من نزاع الشيخ الأنصاري والمحقق الخراسانيّ ـ قدهما ـ وذلك بافتراض أن الإطلاق في كل زمان فرع عدم البيان إلى ذلك الزمان ، لا عدم البيان ولو متأخراً. فعند ما يتكلم المولى بالخطاب المطلق ولم ينصب قرينة على التقييد ينعقد بذلك ظهور فعلي على إرادة الإطلاق ، وهذا الظهور يبقى مستمراً ما دام لا قرينة على خلافه. فإذا جاءت القرينة ارتفع هذا الظهور من حينه لمجيء البيان الكاشف عن أن المراد الجدي للمولى

٢٨٠