بحوث في علم الأصول - ج ٧

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٧

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٢٧

يكون أحد الدليلين منجزاً لتكليف والآخر معذراً عنه ، فإن هذا أيضا مستحيل. وفي محل الكلام وإن كان التعارض بالملاك الأول منتفياً إذا كان الدليلان إلزاميين ، إلاّ أن التعارض بالملاك الثاني موجود ، لأن كلاً من الدليلين يكون حجة في مدلوله الالتزامي أيضا الّذي ينفي ما أثبته الآخر فيقع التعارض بين المدلول المطابقي لكل منهما مع المدلول التزامي للآخر بالملاك الثاني. وبهذا يختلف المقام عن الأصلين الإلزاميين في موارد العلم الإجمالي بالخلاف ، فإن حجية الأصل إنما تكون بمقدار المؤدى المطابقي لا الالتزامي.

المحاولة الثانية ـ ان التساقط ـ حسب ما عرفنا في إبطال الحالة الأولى ـ إنما جاء من قبل الدلالتين الالتزاميتين مع أن الدلالتين الالتزاميتين متعينتان للسقوط على كل حال اما تخصيصاً أو تخصصاً ، لأن الجمع بين الدلالات الأربع غير ممكن فاما أن يسقط الجميع فتكون الدلالتان الالتزاميتان ساقطتين أيضا بالتخصص حيث لا موضوع لحجيتهما بعد سقوط المطابقتين ـ بناء على ما هو الصحيح من التبعية بين المطابقية والالتزامية في الحجية ـ واما أن تسقط الالتزاميتان فقط دون المطابقيتان وهو معنى التخصيص ، وعلى كلا التقديرين تكون الالتزاميتان ساقطتين ، فتبقى المطابقيتان على الحجية من دون معارض.

وهذه المحاولة باطلة أيضا. إذ توجد في المقام معارضتان بحسب الحقيقة ، لأن المدلول الالتزامي لكل من الدليلين يعارض معارضة مستقلة مع المدلول المطابقي للآخر ، والدلالة الالتزامية الداخلة في ميدان التعارض مع المطابقية في كل من هاتين المعارضتين ليست تابعة لمعارضها المطابقي في الحجية بل تابعة للدلالة المطابقية الأخرى فلا تكون متعينة للسقوط في مقابل ما يعارضها على كل حال ، بل يمكن افتراض سقوط إحدى الدلالتين المطابقيتين مع دلالتها الالتزامية وبقاء دلالة التزامية مع المطابقية في الطرف الآخر. هذا مضافاً إلى أن هذا التقريب مبنى على افتراض الطولية بين حجية الدلالة الالتزامية وحجية الدلالة المطابقية بحيث تكون الأولى مشروطة بالثانية فيدور الأمر بين التخصيص

٢٤١

والتخصص ، مع أن الشيء الّذي حققناه في محله إنما هو مجرد التلازم بين الحجيتين فلا تخصص على كل حال.

المحاولة الثالثة ـ أن الحكم بسقوط المتعارضين إنما يكون فيما إذا كان مقتضي الحجية في كل منهما تاماً في نفسه وأما إذا كان مقتضي الحجية غير تام في أحدهما المعين كان الآخر حجة بالفعل ، وهذا واضح.

وبناءً عليه يقال : ان الدلالتين الإلزاميتين لا تصلحان لمعارضة المطابقيتين إذ لو كانتا صالحتين لذلك كان معناه توقف عدم الحجية الفعلية للدلالة المطابقية لدليل وجوب الظهر مثلاً على اقتضاء الحجية للدلالة الالتزامية لدليل وجوب الجمعة ـ بناء على التبعية ـ ونفس الشيء يقال في حق عدم حجية الدلالة المطابقية لدليل وجوب الجمعة. وهذا يعني أن عدم الحجية لكل من الدلالتين المطابقيتين يكون موقوفاً على حجية الآخر وهو مستحيل لاستلزامه مانعية كل منهما عن الآخر ، وإذا لم يمكن ثبوت اقتضاء الحجية للدلالتين الالتزاميتين معاً وكان ثبوته لإحداهما دون الأخرى ترجيحاً بلا مرجح ، فلا يثبت في شيء منهما ، وهو معنى عدم صلاحيتهما لمعارضة الدلالتين المطابقتين.

والجواب ـ ما ذكرناه في رد المحاولة السابقة من أن التبعية بين الدلالتين في الحجية لا يعنى الطولية والتوقف وإنما يراد بها مجرد التلازم وعدم الانفكاك ، على ما سوف يأتي الحديث عنه مفصلاً.

المحاولة الرابعة ـ إن الدلالتين الالتزاميتين ، وإن كان لا يعلم بسقوطهما على كل حال ، إلاّ أنهما يتساقطان بالإجمال والتعارض الداخليّ فيما بينهما ، فتبقى الدلالتان المطابقيتان بلا معارض. ومنشأ التعارض الداخليّ بين الدلالتين الالتزاميتين هو العلم الإجمالي بثبوت تكليف إلزامي منجز ، وذلك فيما إذا علم بصدق أحد المدلولين المطابقيين ، فإنه لا يمكن حينئذٍ حجية المدلولين الالتزاميين معاً حتى لو قيل بعدم التبعية لكونه ترخيصاً في المخالفة القطعية.

وهذه المحاولة بهذا المقدار من البيان أيضا لا تتم ، وذلك لوضوح أن

٢٤٢

مجرد وجود معارضة ثالثة بين الدلالتين الالتزاميتين أنفسهما لا يُنجي المعارضة بين الدلالة المطابقة من طرف والالتزامية من الطرف الآخر عن التساقط ، بل تكون الدلالة الالتزامية في كل طرف مبتلاة بمعارضتين في مرتبة واحدة. وتكون المعارضة مع الدلالة المطابقية بملاك التناقض ومع الدلالة الالتزامية الأخرى بملاك العلم الإجمالي ، فلا وجه لملاحظة المعارضة الثانية في مرتبة أسبق من المعارضة الأولى فتسقط الجميع في عرض واحد. بل مقتضى مسلك المشهور من أن المحذور في شمول دليل الحجية لموارد العلم الإجمالي محذور ثبوتي وليس إثباتياً وهو مخصص منفصل أن تكون المعارضة على أساس التناقض متقدمة رتبة على المعارضة بملاك العلم الإجمالي ، فلا تصل النوبة إلى المعارضة بين الدلالتين الالتزاميتين بملاك العلم الإجمالي. لأن المعارضة بملاك التناقض مستوجب للإجمال الداخليّ وسقوط أصل الإطلاق في دليل الحجية بالنسبة للمتعارضين لأن محذور استحالة التناقض مخصص متصل عرفاً لدليل الحجية فلا إطلاق في دليل الحجية لشمول الالتزاميتين في نفسه حتى يقع التعارض بينهما بملاك العلم الإجمالي.

المحاولة الخامسة ـ إن البرهان الّذي يستند إليه للتساقط في موارد التعارض بصورة رئيسية إنما هو برهان الترجيح بلا مرجح ، حيث أننا لو أردنا أن نأخذ بأحد الدليلين دون الآخر كان ترجيحاً بلا مرجح ، بمعنى أن نسبة دليل الحجية إلى كل منهما على حد سواء فلا معين للاستناد إلى أحدهما دون الآخر. إلاّ أن هذا البرهان إنما يمكن تطبيقه فيما إذا افترض تمامية دليلية المتعارضين من سائر الجهات بحيث لم يبق إلاّ محذور التعارض والترجيح بلا مرجح ، وأما إذا افترض أن أحدهما المعين كان مبتلى بمحذور آخر ولو قطع النّظر عن محذور هذا التعارض ، كان في تقديمه على معارضه ارتكاب محذورين ، وفي مثل ذلك يتعين هذا الدليل للسقوط ويكون معارضه حجة ، لأن تقديمه عليه ليس فيه ترجيح بلا مرجح إذ الآخر في نفسه لم يتم ولم ينج من محذور الترجيح بلا مرجح كي

٢٤٣

يقابل هذا الدليل. وينتج من هذا البيان قاعدة كلية يكون المقام تطبيقاً من تطبيقاتها ، وهي : أنه متى ما كانت لدينا طائفتان من الأدلة وكان كل واحد من أفراد إحدى الطائفتين يعارض فرداً بعينه من أفراد الطائفة الأخرى وكانت إحدى الطائفتين إضافة إلى هذه المعارضة توجد بين أفرادها معارضة داخلية بحيث لا يمكن الالتزام بتمام أفرادها في نفسها تقدمت الطائفة الأولى التي أفرادها سليمة عن المعارضة الداخلية على الطائفة الثانية ، لأن ترجيح أفرادها ليس ترجيحاً بلا مرجح بعد عدم تمامية أفراد الطائفة الأخرى في نفسها لمحذور مستقل بها.

وفيه : أن مجرد التعارض الداخليّ بين إحدى الطائفتين لا يوجب سلامة الطائفة الأخرى ، لأن كل فرد في الطائفة الأولى له معارضان ، فرد من الطائفة الثانية وفرد من نفس طائفتها ، وإطلاق دليل الحجية لا يمكن أن يشمل الثلاثة معاً وشموله لبعضها دون بعض ترجيح بلا مرجح في عرض واحد ، إلاّ إذا افترضنا أن المعلوم بالإجمال كذبه في الطائفة الأولى بمقدار المعلوم بالإجمال في مجموع الطائفتين وأما إذا كان أقل ـ كما هو كذلك في المقام حيث أن المعلوم بالإجمال كذبه إحدى الدلالتين الالتزاميتين واثنتين من مجموع الدلالات الأربع ـ كان إطلاق دليل الحجية ـ أو دليل الأصل ـ لغير المعلوم كذبه في دائرة العلم الإجمالي الصغير معارضاً مع إطلاقه لسائر الأفراد. ولذلك اشترطنا في انحلال العلم الإجمالي الكبير بالعلم الإجمالي الصغير تساوي المعلومان الإجماليان كماً.

المحاولة السادسة ـ إن العلم الإجمالي بسقوط إحدى دلالتين من مجموع الدلالات الأربع منحل بالعلم الإجمالي بكذب إحدى الدلالتين الالتزاميتين الترخيصيتين لأن إطلاق دليل الحجية للالتزاميتين ساقط تعييناً ، لأن حجية إحدى الالتزاميتين بعينها ساقطة بمنجزية العلم الإجمالي وحجية إحداهما لا بعينه لا أثر له ، إذ لا يثبت بها إلاّ نفي أحد الوجوبين لا بعينه وهو ثابت

٢٤٤

وجداناً بحسب الفرض للعلم بعدم ثبوت وجوبين ولولاه لما كان تعارض بين الدليلين. وتمام النكتة : أن المدعي ليس هو دعوى انحلال العلم الإجمالي بكذب اثنين بالعلم الإجمالي بكذب إحدى الالتزاميتين ليقال أن المعلوم الثاني أقل عدداً ، بل انحلال العلم الإجمالي بسقوط الحجية عن اثنين بالعلم التفصيليّ بسقوط الحجية عن الالتزاميتين بسبب تنجز العلم الإجمالي بالإلزام ، ولهذا تجري النكتة نفسها لو كان الالتزامي مطابقياً أو المطابقي التزامياً وتقتضي حينئذ سقوط المطابقيتين دون الالتزاميتين. وهذه المحاولة صحيحة بمرّ الصناعة.

هذه هي المحاولات التي يمكن أن يخرج على أساسها حجية الدليلين في الجملة إذا كان التعارض بينهما عرضياً. وقد عرفت أن بعضها صحيح بقطع النّظر عن ملاحظة الارتكازات العقلائية ، وأما إذا أريد ملاحظتها وتحكيمها على دليل الحجية العام ـ كما هو الصحيح ـ فالتفكيك بين الدلالتين المطابقية والالتزامية في الأدلة الاجتهادية ليس مقبولاً عرفاً ، بل يرى العرف إجمال دليل الحجية العام وعدم شموله للمدلولين المطابقي والالتزامي معاً. نعم يمكن إثبات حجية أحد الدليلين المتعارضين في مدلولية المطابقي والالتزامي ببيان يأتي في القسم الثالث على ما سوف نشير إليه إن شاء الله تعالى.

القسم الثاني ـ أن يكون التعارض ذاتياً على نحو التناقض ونقصد به ما إذا كان فرض كذب أحدهما مساوقاً مع صدق الآخر ولو لم يكونا من النقيضين اصطلاحاً. والصحيح في هذا القسم هو التساقط المطلق لأن المحتملات المتصورة للحجية ثلاثة. حجيتهما بصورة مطلقة ، وحجية أحدهما المعين ، وحجية أحدهما تخييراً ، وكلها غير معقولة في هذا القسم ، فيتعين التساقط.

أما بطلان الأول ، فلأن افتراض الحجية بالنسبة إليهما معاً معناه اجتماع التنجيز والتعذير معاً ، فحجية الدليل الدال على الوجوب مثلاً تنجيز للوجوب ،

٢٤٥

وحجية الدليل الدال على نفي الوجوب تعذير عنه ولا يمكن ثبوتهما معاً. وبهذا يفترق هذا القسم عن القسم السابق حيث لم يكن ينشأ من الأخذ بالدليلين في مدلولهما الأولي المطابقي هناك هذا المحذور.

وأما بطلان الثاني ، فلأن تعيين أحدهما للحجية ترجيح بلا مرجح.

وأما بطلان الثالث ، فلأن التخيير يتصور على أنحاء عديدة.

١ ـ حجية كل منهما بشرط عدم حجية الآخر.

٢ ـ حجية كل منهما بشرط عدم صدق الآخر وعدم مطابقته للواقع.

٣ ـ حجية كل منهما بشرط عدم الالتزام بالآخر.

٤ ـ حجية كل منهما بشرط الالتزام به.

٥ ـ حجية الفرد المردد منها.

٦ ـ حجية الجامع بينهما.

٧ ـ حجية غير ما علم إجمالاً كذبه.

وكل هذه الأنحاء المتصورة بدواً لتخريج الحجية التخييرية غير معقولة في المقام ، لأنها جميعاً تفقد شرطاً أو أكثر من شروط التخيير في الحجية التي سوف نذكرها وبتوضيح ذلك يتضح أيضا بطلان ما يمكن أن يفترض للتخيير من أنحاء أخرى للحجية في الجملة ، فنقول :

إن الشروط الضرورية في الحجية التخييرية تتضح بعد ملاحظة غرض الأصولي من التخيير في الحجية ، وهو رفع التنافي بين اقتضاءات دليل الحجية لشمول المتعارضين بتقييد حجية كل منهما بحالة دون الحالة التي يكون الآخر حجة فيها. وتقييد الحجية بنحو يعالج التعارض إنما يتم إذا توفرت الشروط التالية :

٢٤٦

الشرط الأول ـ أن لا تكون الحجيتان المشروطتان باقيتين على التعارض كالحجيتين المطلقتين ، وهذا واضح.

الشرط الثاني ـ أن تكون تلك الحجية المشروطة معقولة ، في نفسها ، بأن لا يستلزم من تقييد الحجيتين المحال.

الشرط الثالث ـ أن لا تكون الحجية المشروطة في أحد الطرفين منافية للحجية المطلقة في الطرف الآخر ، وإلاّ لوقع التعارض بين دلالة دليل الحجية على الحجية ولو بالمقدار المشروط في كل طرف ، مع إطلاق دليل الحجية في الطرف الآخر.

الشرط الرابع ـ أن لا تكون الحجية المشروطة حجية مباينة مع ما يستفاد من دليل الحجية العام ، بل تكون حصة من حصصها التي بقيت من باب أن الضرورات تقدر بقدرها دائماً.

هذه هي الشروط التي لو توفرت في الحجية المشروطة أمكن إثباتها بدليل الحجية العام. وكل الأنحاء الستة التي ذكرناها آنفاً للتخيير والحجية المشروطة تفقد شرطاً أو أكثر من هذه الشروط. فالنحو الأول وهو الحجية المشروطة بعدم حجية الآخر فاقد للشرط الثاني من الشروط ، لأن لازمه مانعية حجية كل منهما عن حجية الآخر ، والتمانع من الطرفين دور محال. نعم هي واجدة للشرائط الثلاثة الأخرى ، إذ لا تعارض بين الحجيتين المشروطتين ، لأن فعلية كل منهما ترفع فعلية الآخر فلا يقع التنافي بينهما فالشرط الأول والثالث محرزان ، كما أن الشرط الرابع محرز من جهة أن الحجية المشروطة كذلك حصة من الحجية المطلقة وليست مباينة معها.

والنحو الثاني ، وهو الحجية بشرط كذب الآخر ، فاقد للشرط الثاني ، لأن كذب الآخر في النقيضين مساوق مع صدق الأول فجعل الحجية على هذا التقدير لغو ، إذ لو فرض إحراز كذب الآخر كان يعلم بصدق الأول فلا

٢٤٧

حاجة معه إلى جعل الحجية ، ولو فرض عدم إحراز ذلك لم تكن الحجية المذكورة إلاّ كالعلم بصدق أحدهما واقعاً غير مجد شيئاً ، بمعنى أنه غير منجز ولا يوفر غرض الحجية التخييرية للفقيه وهي تعيين الحجة في أحدهما والاستناد إليها ، وأما سائر الشرائط فهي متوفرة في هذا النحو أيضا.

والنحو الثالث ، وهو الحجية المشروطة بعدم الالتزام بالآخر ، يفقد الشرط الثالث من الشرائط المتقدمة إذ حجية كل منهما كذلك معارض بإطلاق حجية الآخر لفرض الالتزام بالأول ، كما أنه إذا أريد من الالتزام الموافقة الالتزامية فقدنا الشرط الأول أيضا ، لأنه في حال عدم الالتزام بشيء منهما سوف تثبت الحجيتان معاً فيقع التنافي بينهما.

والنحو الرابع ، وهو الحجية بشرط الالتزام به أيضا فاقد لبعض الشروط ، إذ لو أريد منه الالتزام العملي انتفى الشرط الأول والثاني والثالث جميعاً لأنه بالإمكان أن يعمل عملاً منسجماً مع كلا الدليلين فلو كان أحدهما يدل على عدم الوجوب والآخر ينفيه ، أمكنه العمل بكلا الدليلين لأن عدم الوجوب لا ينافي الإتيان بالفعل فتثبت الحجيتان معاً ويقع التنافي بينهما وهو خلف الشرط الأول ، كما أن أصل حجية دليل بشرط العمل به غير معقول ثبوتا لأنها لغو ، إذ الحجية تكون من أجل الإلزام بالعمل فإذا أنيطت بالعمل كان تحصيلاً للحاصل وهذا خلاف الشرط الثاني ، كما أن الحجية المشروطة بهذا النحو في أحدهما تعارض الحجية المطلقة في الآخر ، وهذا خلاف الشرط الثالث.

وأما لو أريد من الالتزام الموافقة الالتزامية ، فالشرط الثالث منثلم أيضا ، لأن الحجية كذلك في أحدهما يعارضها إطلاق حجية الآخر. وأما الشرطان الأول والثاني ، فإن أريد من الموافقة الالتزامية معنى لا يمكن حصوله في حق النقيضين معاً من دون أن يكون ذلك المعنى مساوقاً أو ملازماً

٢٤٨

مع العمل فالشرطان محفوظان ، وإلاّ بأن أريد مجرد البناء الّذي قد يحصل في حق النقيضين انتفى الشرط الأول أيضا.

وأما النحو الخامس ، وهو حجية الفرد المردد ، والنحو السادس ، وهو حجية الجامع بينهما ، فيشتركان في فقدان الشرط الثاني حيث أن الحجية كذلك لو أريد منها إيصال مفاد أحد الدليلين بعينه وإثبات الضيق أو التوسعة به على المكلف فهو غير حاصل بهذه الحجية ، لأن نسبتها إلى كليهما على حد سواء وإن أريد بها إيصال أحد المفادين إجمالاً ، فهذا بنفسه حاصل في هذا القسم من التعارض ، للعلم وجداناً بصدق أحد النقيضين فجعل مثل هذه الحجية لغو ولا يستفيد منها الفقيه عملياً إذ لا يمكن تعيين الحجة في أحدهما الّذي هو الغرض الأصولي من التخيير في الحجية.

كما أنه يختص كل واحد منهما بمفارقة تتجه عليه. وتوضيح ذلك : أن حجية الفرد المردد تارة : تقرب ببيان أن الفرد المردد مشمول لإطلاق دليل الحجية العام على حد مشمولية الفردين المعيّنين ، فإطلاقه للفرد المردد لا يعارض بشيء فلا موجب لسقوطه. وأخرى تقرّب ببيان آخر : وهو أن مقتضي الحجية في كل من الفردين تام في نفسه وإنما لم تثبت الحجية فيهما لوجود المانع ، وهو إنما يمنع عن حجيتهما معاً وأما حجية أحدهما المردد فلا محذور فيه ولذلك لم يكن محذور في ثبوت الحجية إذا قام دليل على حجية أحدهما المعين ، فلا موجب لرفع اليد عن إطلاق دليل الحجية في كليهما ، بل يرفع اليد عنه بلحاظ أحدهما وتبقى الحجية في أحدهما.

ويرد على البيانين : أن الفرد المردد بالمعنى المقابل للجامع أي الفرد المردد المصداقي غير معقول ، لأن التردد يساوق الكلية ولا يجامع التشخص ـ على ما حققناه في محله ـ فلا يوجد فرد ثالث بين الفردين المعينين كي يكون لدليل الحجية إطلاق آخر له.

٢٤٩

ويرد على البيان الأول : إنه لو سلمنا فلسفياً وجود الفرد المردد فلا نسلم إطلاق الدليل له عرفاً وإنما الدليل له إطلاقان للفردين المعينين وقد سقطا بالتعارض فإثبات الحجية لهذا العنوان بدليل الحجية العام غير ممكن ، وهذا يعني انثلام الشرط الرابع من الشروط المتقدمة.

ويرد على البيان الثاني : أن الكاشف عن الملاك وثبوت مقتضي الحجية انما هو إطلاق الدليل نفسه ، فإذا فرض سقوط الإطلاقين في دليل الحجية للفردين فمن أين نستكشف انحفاظ مقتضي الحجية في أحدهما.

وأما حجية الجامع بينهما ـ الفرد المردد المفهومي ـ فلتقريبها بيانان أيضا.

البيان الأول ـ أن الجامع بين الدليلين دليل أيضا ، فإذا سقط إطلاق دليل الحجية لشمول الدليلين بعنوانهما يبقى إطلاقه للجامع بينهما.

البيان الثاني ـ إن كلاً من الدليلين المتعارضين يشتركان في الدلالة على الجامع بين الحكمين وإنما يتنافيان في تشخيص خصوصية هذا الجامع وانه إلزام أو ترخيص مثلاً ، فإذا سقطت حجيتهما بلحاظ الخصوصيّتين فلتبق حجيتهما بلحاظ الجامع ، فتمّ الحجية على الجامع بين المفادين.

وكلا هذين البيانين غير تام ، إذ يرد على البيان الأول :

أولا ـ إن الجامع بين الدليلين ليس دليلاً يحكي عن مدلول معين كي يشكل فرداً ثالثاً لموضوع دليل الحجية ، فالشرط الثاني مفقود.

وثانياً ـ أنه لو فرض أن الجامع بينهما دليل فالعرف لا يستفيد من دليل الحجية العام أكثر من إطلاقين للفردين المتعارضين ، فالشرط الرابع مفقود.

ويرد على البيان الثاني : انه تفكيك في الحجية بين الدلالات التضمنية التحليلية للدليل الواحد نظير ما إذا أخبرنا الثقة بوجود زيد في الغرفة ، ونحن

٢٥٠

نعلم بعدم وجوده فيه ، فيقال ببقاء الخبر على الحجية في إثبات وجود كلي الإنسان في الغرفة ، وهو غير صحيح ، فإن الدليل إنما يحكي عن ثبوت الجامع في ضمن الفرد والحصة الخاصة ، أي يحكي عن وجود الجامع بمقدار ما هو مرتبط بذلك الفرد الّذي علم بانتفائه فلا كاشفية ولا حكاية له عن ثبوت الجامع مع قطع النّظر عن ذلك الفرد لكي يكون حجة فيه ، بل المقام أوضح بطلاناً من المثال لعدم وجود جامع حقيقي بين المفادين. وليس هذا من قبيل الدلالات التضمنية غير التحليلية في باب العمومات أو المطلقات والتي تبقى على حجيتها ولو علم بكذب بعضها الآخر.

وإن شئت قلت : إن حجية هذه الدلالة التضمنية وإن كانت داخلة في إطلاق دليل الحجية إلاّ أنها كانت داخلة فيه ضمن حجية أصل ذلك الدليل لإثبات الخصوصية لا أن حجيته لإثبات الخصوصية وحجيته لإثبات الجامع فردان مستقلان لإطلاق دليل الحجية حتى يبقى أحدهما على حاله ولو سقط الآخر. فالشرط الرابع مفقود في المقام أيضا.

وأما النحو السابع ، وهو حجية غير معلوم الكذب منهما ، فيرد عليه : ما أوردناه على النحو الثاني ، وهو حجية كل منهما بشرط كذب الآخر ، من لغوية جعل مثل هذه الحجية ، فيكون الشرط الثاني مفقوداً ، لأن غير ما علم إجمالاً كذبه يعلم بصدقة في النقيضين ، فلو أريد من هذه الحجية تنجيز غير ما علم كذبه من الدليلين على المكلف فيما لو أحرز شرط هذه الحجية ، فهذا غير معقول لأنه حينما يحرز ذلك يحرز صدق الآخر ، فيحرز الحكم الواقعي ولا يبقى مجال لجعل الحجية. ولو أريد منها إيصال مفاد أحد الدليلين إجمالاً فهو ثابت بالعلم الوجداني ، وباعتباره دائراً بين الإلزام والترخيص لا يكون منجزاً ، فجعل مثل هذه الحجية لغو ولا يستفاد منها فائدة الحجية التخييرية من تعيين الحجة في أحد الدليلين المتعارضين والاستناد إليها ولو تنزلنا عن هذا الإيراد ، بافتراض عدم العلم بصدق أحدهما ـ كما

٢٥١

في غير المتناقضين ـ ورد عليه : أنه مع احتمال كذبهما معاً يكون المعلوم إجمالاً كذبه غير متعين في كثير من الأحيان حتى في الواقع ونفس الأمر ، لتساوي نسبة العلم إليهما لو كانا كاذبين معاً فيكون غير المعلوم بالإجمال أيضا غير متعين ومع عدم التعين الواقعي يستحيل جعل الحجية له ثبوتاً ، فيكون الشرط الثاني مفقوداً. كما أنه لا يشمله إطلاق الدليل إثباتاً ، فيكون الشرط الرابع مفقوداً.

وهكذا يتلخص : ان مقتضى القاعدة والأصل الأولي في المتعارضين من هذا القسم ـ المتعارضان بنحو التناقض ـ هو التساقط المطلق.

القسم الثالث ـ أن يكون التعارض ذاتياً على نحو التضاد. ونقصد بالتضاد ما يقابل القسم الثاني ، أي التقابل بنحو يمكن فيه كذب الدليلين معاً ولكنه لا يمكن صدقهما معاً.

والمتجه في هذا النوع من التعارض هو الحكم بالتخيير على مقتضى الأصل الأولي بنحو من الأنحاء السبعة المتقدمة لتصوير الحجية التخييرية ، وهو النحو الثاني والنحو السابع ـ على معنى يرجع لباً إلى النحو الثاني أيضا ـ وتفصيل ذلك : أن الحجية التخييرية بالنحو الثاني ـ وهو حجية كل منهما شروطاً بعدم صدق الآخر ـ معقول في هذا القسم وإن لم يكن معقولاً في القسم السابق ، لتواجد كل شروطها فيه. إذ الشرط الأول ، وهو عدم التنافي بين الحجيتين المشروطتين محفوظ من جهة أن هذه الحجية مقيدة في كل طرف بكذب الآخر ، وهذا يمنع عن فعلية كلتا الحجيتين بنحو يلزم التنافي في إطلاقات دليل الحجية. أما بناء على مسلك المشهور من تقوّم الحجية بالوصول ـ ولو إجمالاً ـ وأن الأحكام الظاهرية تتعارض في مرحلة الوصول فلأن الواصل من هاتين الحجيتين إحداهما لا أكثر ، إذ لا يعلم إلاّ بكذب أحد الضدين إجمالاً

٢٥٢

فتكون حجية أحدهما هي الواصلة بوصول موضوعها إجمالاً فلا يقع تناف بين الحجتين.

وأما بناء على المسلك المختار من ثبوت الأحكام الظاهرية واقعاً كالأحكام الواقعية ، فأيضاً لا محذور في البين لعدم مانع عن إطلاق دليل الحجية لكل منهما مشروطاً بكذب الآخر لاحتمال أن الثابت واقعاً فعلية إحدى الحجيتين ، ومجرد احتمال كذبهما معاً لا يمنع عن صحة التمسك بإطلاقه لإثبات الحجيتين المشروطتين اللتين يعلم بتحقق شرط إحداهما إجمالاً.

كما أنه لا تنافي بين هذه الحجية المشروطة في أحد الطرفين والحجية المطلقة في الطرف الآخر ، لأن الحجية المشروطة لا تصبح فعلية في أحد الطرفين تعييناً إلاّ إذا علم بكذب الآخر تعييناً ، ومعه لا موضوع للحجية المطلقة فيه حتى تتنافى مع الحجية المشروطة ، فالشرط الثالث محفوظ. وكذلك الشرط الرابع ، فإن هذه الحجية حصة من حصص الحجية المطلقة المستفادة من دليل الحجية العام وليست حجية جديدة. وأما الشرط الثاني ، وهو معقولية جعلها ، فقد يتوهم عدم توفره ، لأنه لو أحرز شرط هذه الحجية وهو كذب أحدهما المعين خرج المورد عن التعارض بين الحجتين ، وإن لم يحرز ذلك لم تبق فائدة لجعلها إذ لا يحصل منها علم بالمنجز شرعاً.

ولكن الصحيح : توفر هذا الشرط ، لأن فائدة هذه الحجية إحراز حجية أحد الدليلين إجمالاً حيث يعلم بكذب أحدهما فيعلم إجمالاً بفعلية إحدى الحجيتين ، وهذا أمر زائد لم يكن محرزاً لو لا الحجية المشروطة ، إذ مفاد الدليلين يحتمل كذبهما معاً. وليس فرض كذب أحدهما مساوقاً مع صدق الآخر. والنتيجة العملية الفقهية لإحراز هذه الحجية الإجمالية نفي الثالث ، فالفقيه يمكنه أن يفتي بعدم الثالث استناداً إليها. وهذا هو التخريج الفني الصحيح لنظرية نفي الثالث في موارد التعارض ، والتي حارت الصناعة الأصولية في كيفية تخريجها بعد البناء على المسلك الصحيح القائل بتبعية الدلالة

٢٥٣

الالتزامية للمطابقة في الحجية.

وأما الأنحاء الأخرى للحجية التخييرية. فبين ما لا يتم في هذا القسم ، وما لا بد من إرجاعه لباً إلى النحو المتقدم للحجية المشروطة. فالنحو الأول وهو حجية كل منهما مشروطاً بعدم حجية الآخر ، يرد عليه. محذور الدور والتمانع من الطرفين المتقدم في القسم السابق. والنحو الثالث وهو حجية كل منهما مشروطاً بعدم الالتزام بالآخر وكذلك النحو الرابع وهو حجية كل منهما مشروطاً بالالتزام به ترد عليهما نفس المحاذير والمناقشات المتجهة عليهما في القسم السابق.

وأما النحوان الخامس والسادس ـ وهما حجية أحدهما المردد مصداقاً وحجية الجامع بينهما ـ فمحذور اللغوية الّذي كان يشكل به عليهما في القسم السابق غير متجه في هذا القسم ، لما تقدم من عدم اللغوية فيما إذا لم يكن فرض كذب أحد الدليلين مساوقاً مع صدق الآخر ، غير أن المناقشات الخاصة المتجهة هناك من عدم معقولية الفرد المردد مصداقاً وعدم مساعدة العرف على أن يكون فرداً ثالثاً من دليل الحجية ، وأن الجامع بين الدليلين ليس دليلاً ثالثاً ، والجامع بين المدلولين مدلول تضمني وهو لا يبقى على الحجية بعد سقوط المدلول المطابقي ، فكلها متجهة هنا أيضا.

وأما النحو السابع والأخير من تلك الأنحاء ـ وهو حجية غير معلوم الكذب منهما ـ فإنما يعقل هنا لو كان المعلوم كذبه له تعين وامتياز واقعي فيما إذا كانا معاً على خلاف الواقع ، بأن كان يعلم بكذب ما رواه الثقة الواقفي مثلاً واشتبه الأمر ولم يعرف أيهما للواقفي وأيهما لغيره ، فإنه في مثل ذلك يوجد تعين واقعي لغير معلوم الكذب إجمالاً.

لا يقال : هذا يخرجه عن باب التعارض ويجعله من اشتباه الحجة باللاحجة ، لأن ما هو معلوم الكذب خارج من دليل الحجية في نفسه بمقتضى تخصيصه ولو لباً بعدم العلم بالخلاف ،

فإنه يقال : المقيد إنما يخرج معلوم الكذب المنجز لا أكثر من ذلك

٢٥٤

فدليل الحجية شامل في نفسه لكل من الدليلين ولا يكون التمسك به من التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية لمخصصه اللبي.

إلاّ أن هذا يرجع بحسب الروح إلى النحو الثاني ، إذ معناه حجية كل منهما مشروطاً بعدم كونه المعلوم كذبه المساوق لكون الآخر كذباً.

تلخيص واستنتاج :

وهكذا يتبين أن مقتضى صناعة الأصل الأولي لو كان دليل الحجية العام لفظياً تعبدياً فيما إذا كان بين الدليلين تناف ذاتي بنحو التناقض بالمعنى المتقدم هو التساقط. وفيما إذا كان بينهما تناف ذاتي بنحو التضاد هو الحجية في الجملة والتي من نتائجها نفي الثالث. وفيما إذا كان التعارض بينهما عرضياً هو إعمال كلا الدليلين في مدلوليهما المطابقيين في خصوص ما إذا علم بصدق أحدهما وكانا إلزاميين. هذا كله مع قطع النّظر عن الارتكازات العقلائية وتحكيمها على الدليل العام للحجية. وأما إذا حكمنا الارتكازات العقلائية التي تأبى التفكيك بين المداليل المطابقية والالتزامية ، فإذا فرض العلم بصدق أحد المفادين كان كفرضية التناقض التي حكمنا فيها بالتساقط ، لجريان ما ذكرناه في ذلك القسم فيه حرفاً بحرف. وإذا فرض عدم العلم بصدق أحد المفادين بحيث احتملنا كذبهما معاً كان كفرضية التضاد التي أثبتنا فيها الحجية في الجملة بنفس البيان المتقدم أيضا.

وبما أن الصحيح في دليل الحجية العام أنه ليس دليلاً لفظياً تعبدياً فالمتعين هو التساقط المطلق في باب التعارض وعدم ثبوت الحجية التخييرية على مقتضى القاعدة الأولية ، وإن شئت قلت : إن هذا النحو من الحجية لو لم يدع كونه على خلاف الارتكاز العقلائي في باب الحجية القائمة على أساس الطريقية والكاشفية فلا أقل من أنه لا ارتكاز على وفاقه ، فلا يمكن إثباته لا بأدلة الحجية اللبية ولا بالأدلة اللفظية ، لأن الأدلة اللبية المتمثلة في السيرة العقلائية قد

٢٥٥

عرفت عدم اقتضائها هذا النحو من الحجية ، والأدلة اللفظية المتمثلة في بعض الآيات أو الروايات القطعية ، بين ما لم يصرح فيه بكبرى الحجية وإنما قدرت الكبرى باعتبار مركوزيتها ـ كما في مثل قوله عليه‌السلام العمري وابنه ثقتان فما أديا إليك فمعنى يؤديان ـ والمفروض عدم وفاء تلك الكبرى المركوزة لإثبات هذا النحو من الحجية ، وبين ما صرح فيه بالكبرى ولكن في سياق إمضاء ما عليه البناء العقلائي ، فلا يكون فيه إطلاق أوسع مما عليه السيرة العقلائية نفسها.

ومن خلال مجموع ما ذكرناه اتضح الحال في القول الثاني ، وهو القول ببقاء الحجية في الجملة في تمام موارد التعارض.

وأما القول الثالث الّذي ذهب إليه المحقق العراقي ـ قده ـ فهو ـ على ما جاء في تقريرات بحثه ـ التفصيل بين ما إذا كان الخبران متنافيين بحسب مدلولهما فيحكم فيه بالتساقط المطلق ، وبين ما إذا لم يكن تناف بين مدلول الخبرين ، بل يمكن صدقهما معاً لكنه علم بكذب أحد الرّاويين المستلزم لدلالة كل منهما بالملازمة على كذب الآخر فيحكم فيه بالحجية وتنجيز مدلولهما على المكلف ، وقد أفاد في وجه ذلك ما حاصله : إن كلاً من الخبرين في الفرض الثاني وإن كان يكذّب الآخر بالالتزام إلاّ أنه لا يدل على عدم مطابقة مدلوله للواقع فلعل ما تضمنه من الحكم ثابت في الشرع ، وهذا يعني أن هذه الدلالة التزامية لا يترتب عليها أثر عملي لكي يكون حجة ومعارضاً مع مدلول الآخر ، إذ لو أريد بها نفي الحكم الشرعي الواقعي الّذي دل عليه الآخر فقد عرفت عدم دلالته على ذلك ، وان أريد إيقاع المعارضة بينهما باعتبار الدلالة على عدم صدور الكلام المنقول للآخر ولو لم ينته إلى نفي ذات المدلول ففيه : أن عدم الصدور بمجرده لا يترتب عليه تنجيز أو تعذير لكي تقع المعارضة بينهما.

وهذا التفصيل غير تام وذلك.

أولا ـ للنقض بموارد التكاذب بين الأمارتين صريحاً بحسب مدلولهما

٢٥٦

المطابقيتين ، كما إذا أخبر أحدهما عن صدور كلام معين من المعصوم ونفي الآخر صدور شخص ذلك الكلام عنه ، فإن لازم هذا البيان بقاء الدليل المثبت على الحجية ، مع أن التعارض وعدم الحجية في مثله من الواضحات ارتكازاً وعقلائياً.

وثانياً ـ الحل ، وحاصله : أنه تارة : نبني على أن دليل حجية السند يحقق تعبداً صغرى الحكم الظاهري بحجية شخص ذلك الظهور المنقول عن المعصوم عليه‌السلام وأخرى : نبني على أنه ينجز الحكم الواقعي المفاد بالخبر ابتداء.

فعلى الأول ، يكون التعارض في المقام واضحاً ، إذ كما يكون كل من الخبرين محققاً لصغرى حجية شخص الظهور المنقول به فيكون منجزاً بهذا الاعتبار ، كذلك ينفي بدلالته الالتزامية تلك الصغرى فيكون معذراً عنه بهذا الاعتبار ، ومجرد احتمال وجود الحكم واقعاً لا يضر بذلك لأن المنجز إنما هو حجية الظهور التي تكون انحلالية بعدد أشخاص الظهورات ، كما هو واضح.

وعلى الثاني ، قد يشكل الأمر ، حيث يقال : أن المدلول التزامي لكل منهما لا ينفي وجود الحكم واقعاً حتى يكون معذراً عما ينجزه المدلول المطابقي للآخر ، ومجرد الدلالة على كذبه لا يكفي لإسقاطه عن الحجية ، لأن حجية الأمارات ليست مقيدة بعدم الكذب واقعاً أو بعدم قيام الحجة على كذبه وإنما الأمارة حجة مطلقاً ، غاية الأمر لا يعقل ثبوت الحجية له في موارد العلم الوجداني بالخلاف الّذي يكون حجة ذاتاً ، كما حقق في محله.

إلاّ أن الصحيح مع ذلك وقوع التعارض والتساقط بين الخبرين على هذا المسلك أيضا ، وذلك : لأننا يمكننا بالتلفيق بين مدلولين التزاميين للخبرين معاً التوصل إلى التعذير عن ذلك الحكم الواقعي المجهول فيكون معارضاً مع الخبر المنجز له ، فإن الحاكي لصدور الخطاب المثبت للحكم يدل بالالتزام

٢٥٧

على أن ذلك الحكم الواقعي مقرون بصدور ذلك الخطاب وليس حكماً مجرداً عنه ، والخبر الآخر يدل بالالتزام على أنه إذا فرض عدم وجود حكم واقعي مجرد عن ذلك الخطاب فلا حكم أصلاً ، فينتج بالتلفيق بين المدلولين التعذير عن ذلك الحكم. وإن شئت قلت : أن الحكم المقرون بشخص ذلك الخطاب ينفيه الخبر النافي والحكم غير المقرون به ينفيه الخبر المثبت وبالجمع بينهما ينفي أصل الحكم الواقعي ويؤمن عنه.

وعلى أية حال ، لا إشكال أن البناء العقلائي القاضي بالحجية من باب الطريقية والكاشفية لا يرى انحفاظ نكتة الحجية في الخبرين المتكاذبين. فهذا التفصيل مما لا يكن المساعدة عليه.

ب ـ نظرية نفي الثالث :

ثم إنه بناء على التساقط المطلق ـ كما ذهب إليه المشهور ـ هل يمكن نفي الحكم الثالث المخالف مع مفاد كلا الدليلين المتعارضين فيما إذا لم يكن يعلم بصدق أحدهما أم لا يمكن ذلك ، فيجوز الالتزام بحكم ثالث مخالف لمفادهما إذا اقتضاه الأصل؟

ذهب مشهور المحققين إلى إمكان ذلك. وقد أفيد في تخريجه وجهان.

الوجه الأول ـ ما ذكره صاحب الكفاية ـ قده ـ من أن التعارض بين الدليلين غاية ما يستلزمه العلم بكذب أحدهما ، فالذي يسقط عن الحجية هو أحدهما المعلوم كذبه إجمالاً وأما الآخر فلا وجه لرفع اليد عن حجيته ، وحجيته وإن كانت غير مفيدة بالقياس إلى المدلول المطابقي منهما لعدم إمكان تعيين الحجية في أحد الطرفين ، إلاّ أنها مفيدة بلحاظ المدلول الالتزامي ، وهو نفي الثالث (١).

__________________

(١) راجع كفاية الأصول الجزء ٢ ، ص ٣٨٥ ( ط ـ مشكيني ).

٢٥٨

وهذا الوجه غير صحيح على ضوء ما تقدم. إذ لو أريد من بقاء حجية أحدهما حجية أحدهما المفهومي أي الجامع بينهما ، أو أحدهما المصداقي ـ الفرد المردد ـ فهي غير معقولة ثبوتاً ، لما تقدم من أن الجامع بين الدليلين ليس دليلاً والفرد المردد ليس فرداً ثالثاً بين الفردين ، وأن دليل الحجية العام لا إطلاق له لمثل هذه العناوين بحسب مقام الإثبات عرفاً. وإن وأريد حجية غير معلوم الكذب من الدليلين بوجوده الواقعي فهذا إنما يعقل فيما إذا كان هناك تعين واقعي لمعلوم الكذب ـ على ما تقدم تفصيله أيضا ـ فلا يتم فيما إذا كان العلم الإجمالي بالكذب ناتجاً من مجرد التعارض بين الدليلين وتنافي مدلوليهما.

الوجه الثاني ـ ما نسب إلى المحقق النائيني ـ قده ـ من أن الدلالة الالتزامية وإن كانت تابعة للدلالة المطابقية ذاتاً ، إلاّ أنها غير تابعة لها حجية ، لأن كلاً منهما فرد مستقل لدليل الحجية العام فإذا انعقدت الدلالة المطابقية ذاتاً انعقدت الدلالة الالتزامية أيضا وسقوط الدلالة المطابقية بعد ذلك عن الحجية لوجود المعارض لا يستوجب سقوط الدلالة الأخرى وخروجها عن إطلاق دليل الحجية ما دام لا محذور في بقائها على الحجية. وعليه ، يكون الثالث منفياً بالدلالة الالتزامية لكل من الدليلين المتعارضين ، لأن التعارض بينهما بلحاظ مدلوليهما المطابقيين ، وأما الثالث فكلاهما متفقان على نفيه بحسب الفرض.

وهذا الوجه أيضا غير تام ، لأن الصحيح تبعية الدلالة الالتزامية للدلالة المطابقية في الحجية. وهذه كبرى كلية تظهر ثمرتها في موارد كثيرة ، فلا بد من تنقيحها وتمحيصها في هذا المقام. فنقول :

يمكن أن يبرهن على عدم التبعية بين الدلالتين المطابقية والالتزامية في الحجية بعدة تقريبات.

التقريب الأول ـ ما أفاده السيد الأستاذ ـ دام ظله ـ في إبطال الوجه المتقدم ، ويتألف من نقض وحل. أما النقض فبموارد :

٢٥٩

منها ـ ما لو قامت بينة على وقوع قطرة من البول على ثوب مثلاً ، وعلمنا بكذب البينة وعدم وقوع البول على الثوب ولكن احتملنا نجاسة الثوب بشيء آخر كوقوع الدم عليه مثلاً ، فهل يمكن الحكم بنجاسة الثوب لأجل البينة المذكورة باعتبار أن الإخبار عن وقوع البول على الثوب اخبار عن نجاسته لكونها لازمة لوقوع البول عليه ، وبعد سقوط البينة عن الحجية في الملزوم ـ للعلم بالخلاف ـ لا مانع من الرجوع إليها بالنسبة إلى اللازم. ولا نظن أن يلتزم به فقيه.

ومنها ـ ما لو كانت دار تحت يد زيد وادعاها عمرو وبكر فقامت بينة على كونها لعمرو ، وبينة أخرى على كونها لبكر ، فبعد تساقطهما في مدلولهما المطابقي للمعارضة هل يمكن الأخذ بهما في مدلولهما الالتزامي ، والحكم بعدم كون الدار لزيد وأنها مجهول المالك؟

ومنها ـ ما لو أخبر شاهد واحد بكون الدار في المثال المذكور لعمرو وأخبر شاهد آخر بكونها لبكر فلا حجية لواحد منهما في مدلوله المطابقي ـ مع قطع النّظر عن المعارضة ـ لتوقف حجية الشاهد الواحد على انضمام اليمين ، فهل يمكن الأخذ بمدلولهما الالتزامي والحكم بعدم كون الدار لزيد لكونهما موافقين فيه ، فلا حاجة إلى انضمام اليمين؟

ومنها ـ ما لو أخبرت بينة عن كون الدار لعمرو واعترف عمرو بعدم كونها له فتسقط البينة عن الحجية لكون الإقرار مقدماً عليها ، كما أنها مقدمة على اليد فبعد سقوط البينة عن الحجية في المدلول المطابقي للاعتراف هل يمكن الأخذ بمدلولها الالتزامي وهو عدم كون الدار لزيد مع كونها تحت يده؟ إلى غير ذلك من الموارد التي لا يلتزم بأخذ اللازم فيها فقيه أو متفقه.

وأما الحل : فهو أن الإخبار عن الملزوم وإن كان اخباراً عن اللازم إلاّ أنه ليس اخباراً عن اللازم بوجوده السعي بل اخبار عن حصة خاصة هي لازم له ، فإن الاخبار عن وقوع البول على الثوب ليس اخباراً عن نجاسة الثوب

٢٦٠