بحوث في علم الأصول - ج ٧

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٧

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٢٧

المَسألة الأولى

حكم التعارض المستقر من زاوية دليل الحجية العَام

١ ـ حكم التعارض المستقر إذا كان غير مستوعب لتمام مدلول الدليل.

٢ ـ حكم التعارض المستقر إذا كان مستوعباً لتمام مدلول الدليل.

١ ـ متى يكون التعارض مستقراً.

٢ ـ فرضيات التعارض المستقر وأحكامها.

« أ ـ تحديد مركز التعارض بين الدليلين.

ب ـ تأسيس الأصل في فرضيات التعارض.

١ ـ بلحاظ دليل الحجية الواحد.

٢ ـ بلحاظ دليلين للحجية ».

٣ ـ تطبيقات مشكوك فيها للتعارض المستقر.

« أ ـ العموم الوضعي والإطلاق الحكم.

ب ـ الشمولي والبدلي.

ج ـ موارد انقلاب النسبة ».

٢٢١

ولتحديد ما يقتضيه دليل الحجية العام في موارد التعارض المستقر ينبغي أن يلاحظ أن التعارض المستقر ينقسم إلى قسمين :

القسم الأول ـ التعارض المستقر غير المستوعب لتمام المدلول ، أي التعارض بنحو العموم من وجه.

القسم الثاني ـ التعارض المستقر المستوعب لتمام المدلول ، كما في التعارض بنحو التباين. ولا بد من الحديث عن أحكام كل من القسمين.

٢٢٢

١ ـ حُكم التَعارُضِ المُستَقِرّ

غير المستوعِبِ لِتمامِ المَدلول

إذا كان التعارض المستقر بين الدليلين غير مستوعب لتمام مدلولهما ، بأن كان بنحو العموم من وجه ، فإذا كان مورد الافتراق لدلالة كل منهما أو أحدهما بنحو لا يعقل حجية الدليل فيه بالخصوص خرج ذلك عن هذا القسم واندرج في التعارض المستقر المستوعب على الأول ، حيث تسري المعارضة حينئذ إلى مورد الافتراق منهما. وفي التعارض غير المستقر على الثاني.

وأما إذا كان مورد الافتراق لهما قابلاً لأن يكون الدليل حجة بلحاظه بالخصوص ، فلا إشكال ولا ريب أن مقتضى القاعدة حينئذ بقاء الدليلين المتعارضين على الحجية سنداً ـ لو كانا ظنيين ـ لإثبات مدلول كل منهما في مورد افتراقه عن الآخر ، إذ لا موجب لتوهم سريان الإجمال إلى السند الظني إلاّ دعوى : أن المعارضة وإن كانت بين الدلالتين أولا وبالذات إلاّ أنه يعلم إجمالاً اما بكذب إحدى الدلالتين أو كذب السند الظني ، فيكون السند الظني داخلاً في أطراف العلم الإجمالي بالكذب. وكما يكون رفع اليد عن إحدى الدلالتين كافياً لانتفاء التعارض كذلك يكون رفع اليد عن سند ظني رافعاً للتعارض ، فلا موجب لترجيح حجية السند على حجية الدلالة.

وهذا التوهم غير صحيح : لأن حجية الدلالة متعينة للسقوط على أي حال. وتوضيح ذلك : أن الدوران بحسب الحقيقة ليس بين التمسك بدليل حجية السند الظني

٢٢٣

أو أو دليل حجية الدلالة الظنية ، بل الدليل المتمسك به في المقام هو دليل حجية السند لا غير ، وأما حجية الدلالة وآثارها فتثبت ثبوتاً ظاهرياً تعبدياً بدليل حجية السند ، لأننا لا نواجه النص الصادر المعصوم عليه‌السلام حقيقة وواقعاً لكي نواجه دليل حجية الظهور وإنما نحرز النص بشهادة الراوي وببركة دليل حجية هذه الشهادة ، ومن الواضح أن هذا إحراز ظاهري ، فتكون حكومة ظاهرية لا واقعية ويكون التمسك بدليل حجية الشهادة وإطلاقها لإثبات تمام الآثار الشرعية المترتبة على الواقع ظاهراً والتي منها حجية الظهور في مادة التعارض. وعلى أساس هذا التوضيح يتبين أن الأمر دائر بين الأقل والأكثر في إطلاق دليل واحد وهو دليل حجية الشهادة ، حيث يدور الأمر بين الأخذ به بلحاظ الأثر المترتب في مورد الافتراق أو ترك الأخذ به رأساً الّذي يعني عدم ترتيب شيء من آثار الشهادة ، فيكون إطلاقه لترتيب الأثر في مورد التعارض ساقطاً على كل حال وأما الآثار المترتبة على حجية الدلالة في مورد الافتراق فلا موجب لرفع اليد عن إطلاق دليل حجية الشهادة بلحاظها ، ولا يقصد بحجية السند أكثر من هذا المعنى ، كما هو واضح.

هذا كله بلحاظ مورد الافتراق للدليلين المتعارضين. وأما مورد الاجتماع منهما فيستقر التعارض فيه لا محالة ، ولا بد حينئذٍ من تطبيق ما سوف نذكره في التعارض المستوعب من مقتضى الأصل الأولي أو الثانوي ، فإنه على ما سوف يظهر لا يفرق فيه بين أن يكون التعارض مستوعباً أو غير مستوعب.

٢٢٤

٢ ـ حُكمُ التَعارُضِ المُستَقِرّ

المُستَوعِبِ لِتمَامِ المَدلول

إذا كان التعارض المستقر مستوعباً لتمام مدلول الدليلين بحيث لا يبقى بعد تقديم أحدهما مجال للآخر ، كما في موارد التعارض بنحو التباين ، فيقع الكلام عنه تارة : في تنقيح الموضوع وأنه متى يكون التعارض مستقراً ، وأخرى : في أحكامه.

أما البحث في تنقيح الموضوع ، فقد يحاول إخراج المتعارضين عن التعارض المستقر ، والجمع بينهما انطلاقاً من قاعدة أن الجمع مهما أمكن أولى من الطرح ، فيؤخذ بكل من الدليلين في جزء من مفاده.

والواقع أن هذه القاعدة يمكن تقريبها بأحد وجهين :

الأول ـ التفسير المدرسي والبدائي لها ، وهو أننا نأخذ بكل من الدليلين في جزء من مدلوله ونطرح جزئه الآخر ليكون قد عملنا بهما معاً ، فلو ورد مثلاً ( ثمن العذرة سحت ولا بأس ببيع العذرة ) حملنا الأول على عذرة غير المأكول والثاني على عذرة المأكول ، فإن العمل بهما في تمام مدلولهما وإن كان متعذراً إلاّ أن هذا لا يسوغ طرحهما في تمام مفادهما ، لأن الضرورات تقدر بقدرها دائماً ، فليعمل بشيء من مدلول كل منهما فيكون جمعاً بين الدليلين.

وهذا التفسير واضح البطلان ، فإن ترك جزء من مفاد كل دليل أخذاً

٢٢٥

بما يقابله من الدليل الآخر اعتباط وجزاف ، إذ كما يمكن الأخذ بجزء من المفاد في كل منهما كذلك يمكن طرح كلا الجزءين من مفاد أحدهما والأخذ بكلا جزئي مفاد الآخر ، فالجزء المطروح من مفاد كل منهما كالجزء الّذي أخذ به من الآخر من حيث كونه موضوعاً للحجية فترجيحه على الآخر بلا مرجح.

الثاني ـ تفسير هذه القاعدة على أساس الجمع العرفي ، بدعوى : أن موارد التعارض يمكن فيها الجمع العرفي بوجه من الوجوه في أغلب الحالات ولأجل توضيح هذه الفكرة نطبقها على الموردين التاليين.

المورد الأول ـ أن يجمع بينهما بحسب الموضوع ، وذلك فيما إذا ورد مثلاً ( لا بأس ببيع العذرة ) و ( ثمن العذرة سحت ) ، فإنه يخصص الموضوع في كل منهما بغير موضوع الآخر ، بدعوى : أن في كل منهما دلالتين. دلالة وضعية على ثبوت الحكم بنحو القضية المهملة المستفادة من اسم الجنس ، ودلالة إطلاقية على شمول الحكم لتمام الأفراد المستفادة من مقدمات الحكمة. والمعارضة بحسب الحقيقية ليست بين الدالين على القضيتين المهملتين بل بين الدلالة الإطلاقية من كل منهما مع مدلول الآخر ، وباعتبار كون الدلالة على القضية المهملة وضعية والدلالة الوضعيّة أقوى وأظهر من الدلالة الإطلاقية ، فيرفع اليد لا محالة عن إطلاق كل منهما بالظهور الوضعي في الآخر ، وبذلك لا تصل النوبة إلى تعارض الدلالتين الإطلاقيتين وتساقطهما ، فيستخلص قضيتان مهملتان تتعيّنان في القدر المتيقن من كل طرف ، فيحكم في المثال بحرمة بيع عذرة غير المأكول ، وجواز بيع عذرة المأكول.

المورد الثاني ـ الجمع العرفي بينهما بحسب المحمول ، كما إذا ورد أمر بشيء ظاهر في وجوبه مع ورود ترخيص في تركه بلسان ظاهر في إباحته بالمعنى الأخص ، فإنه يمكن أن يجمع بينهما بحمل الأمر على مطلق الرجحان ،

٢٢٦

لأن كلاّ من الدليلين يكون له دلالة ظهورية ودلالة صريحة ، فالأمر يدل بمظاهره على الوجوب ويكون صريحاً في الرجحان ، ودليل الترخيص ظاهر في الإباحة بالمعنى الأخص ونصّ في نفي الإلزام ، فيرفع اليد عن ظهور كل منهما بصراحة الآخر وينتج الاستحباب.

وهذا الوجه في تفسير قاعدة الجمع غير تام أيضا. وذلك باعتبار أن أحد الدليلين إنما يتقدم على الدليل الآخر المعارض له بالجمع العرفي ، فيما إذا كان مدلوله متعيناً للقرينية ـ ولو بملاك النصوصية أو الأظهرية ـ بحيث لا يحتمل فيها أن يكون هادماً لمدلول الدليل المعارض ، وفي المقام ليست استفادة الرجحان من دليل الأمر ، أو القضية المهملة من المطلق ، بدلالة مستقلة صريحة أو أظهر من مدلول الدليل المعارض لكي يكون قرينة عليه ومورداً لقاعدة الجمع العرفي ، وإنما هو مدلول مستخلص من مفادين يتردد بينهما الدليل ويكون على أحدهما معارضاً مع الدليل الآخر ، لأنه يهدم أصل ظهوره ، وعلى الآخر قرينة عليه. ومثل هذه الدلالة لا تكون مورداً للجمع العرفي.

وتفصيل ذلك وتحقيقه بأن يقال : إن الدليل إذا تردد مفاده بين معنيين محتملين في أنفسهما يكون على أحدهما معارضاً وعلى الآخر صالحاً للقرينة ، فتارة : يفترض ظهوره في المعنى الصالح للقرينية ، وأخرى : يفترض ظهوره في المعنى المعارض ، وثالثة : يكون مجملاً مردداً بينهما.

أما الصورة الأولى ، فلا إشكال فيها فيها في تقديم أحد الدليلين على الآخر بعد افتراض أن مفاده الظاهر منه صالح للقرينية على الآخر. ولعل من أمثلة ذلك ما إذا كان دليل الترخيص ظاهراً في الإباحة العامة ـ نفي الإلزام ـ كما إذا ورد ( لا تصل في الحمام ) و ( لا بأس بالصلاة في الحمام ) فإن دليل الترخيص وإن كان يحتمل في حقه الإباحة الخاصة وبناء عليها يكون هادماً

٢٢٧

لأصل النهي ، إلاّ أنه باعتبار استظهار الإباحة العامة منه يتعين في القرينية على دليل النهي وحمله على التنزه.

وأما الصورة الثانية ، فإنه وإن كان يحتمل فيها أن يكون المراد من الدليل معناه القرينة خلافاً لظاهره المعارض ، ولكن هدم ظهور الدليل الآخر ليس بأشد حالاً من إهمال الظهور في مفاد الدليل الّذي يكون بظاهره معارضاً. وبعبارة أخرى : الأخذ بالمفاد الّذي يصلح للقرينية على الدليل الآخر لا دليل عليه ولا حجة تعيّنه ، وإنما الحجة ـ وهو الظهور ـ تعين المفاد الّذي لا يصلح للقرينية. ومن أمثلة هذه الصور الموردان المتقدمان للجمع التبرعي بين الدليلين حيث أن دليل الترخيص مفاده الظاهر ـ وهو الإباحة بالمعنى الأخص ـ معارض مع دليل الأمر ، وكذلك دليل تجويز بيع العذرة ، فإن ما هو ظاهره ولو بمقتضى الإطلاق ومقدمات الحكمة معارض مع دليل النهي عن بيع العذرة وغير صالح للقرينية عليه. وما قيل فيهما من الجمع العرفي بحمل الظاهر على النص ورفع اليد عن الإطلاق الحكمي بالظهور الوضعي لاسم الجنس مغالطة واضحة ، وذلك : لأن الجمع العرفي بين الدليلين المنفصلين يكون بملاك القرينية لا غير ، على ما تقدم شرحه فيما سبق. والقرينية فرع تعين مفاد ما يراد جعله قرينة في المرتبة السابقة لكي يفسر به المراد من ذي القرينة فلا تتم فيما إذا كان مفاد الدليل مردداً بين ما يصلح للقرينية وما يكون معارضاً ـ كما هو الحال في المقام ـ ولهذا لا نقول بالقرينية في أمثال هذه الموارد حتى إذا كانت إحدى القضيتين مجملة مرددة بين المطلق والمقيد ، كما إذا لم تتم فيها مقدمات الحكمة في نفسها ، واتصلت إحداهما بالأخرى ، فإنه لا تجعل المهملة قرينة على إرادة المقيد من المطلقة نعم لو كانتا منفصلتين كانت المطلقة حجة في مورد الإجمال من الأخرى من باب عدم العلم بالمعارض.

إن قلت : من جملة وجوه الجمع العرفي حمل الظاهر على الأظهر لا

٢٢٨

بملاك القرينية بل باعتبار تزاحم مقتضى الظهور والدلالة في كل من الظاهر والأظهر وحصول ظهور نهائي على وفق الأظهر ، على ما تقدم شرحه فيما سبق. وهذا وجه يمكن تطبيقه على المورد الثاني في المقام ، بدعوى : ان دلالة اسم الجنس على القضية المهملة باعتبارها بالوضع تكون أقوى وأظهر من دلالة مقدمات الحكمة على الإطلاق فيتقدم عليها ويرفع اليد عن القضيتين الثابتتين بمقدمات الحكمة في كل واحد منهما بالدلالة الوضعيّة في الأخرى.

قلنا ـ إن تقديم الأظهر على الظاهر على أساس التزاحم بين مقتضيات الظهور وإن كنا نقبله على ما تقدم في الأبحاث السابقة ، إلاّ أن ذلك يصح في الأظهر المتصل بالظاهر لا المنفصل عنه ـ كما هو المفروض في موارد التعارض المستقر ـ لأن الدلالة المنفصلة لا تكون مؤثرة سلباً أو إيجاباً في مرحلة الظهور ، فهذا الجمع إنما يتم فيما إذا فرض اتصال القضيتين إحداهما بالأخرى.

وأما الصورة الثالثة ، فهي وإن كانت كالصورة السابقة من حيث عدم إمكان إعمال قاعدة الجمع العرفي فيه ، لإجمال الدليل وعدم الحجة على تعيين المفاد الصالح للقرينية ، إلاّ أنه يمكن أن يتوصل ـ بقاعدة عقلية لا بجمع عرفي ـ إلى نفس النتيجة المطلوبة من الجمع العرفي ، بمعنى رفع الإجمال وتعيين مفاد الدليلين بنحو يرتفع التعارض من البين في بعض أمثلة هذه الصورة وأبرز مثال لذلك ما ورد في تحديد الكر من تحديده تارة : في مرسلة ابن أبي عمير بألف ومائتا رطل. وأخرى : في رواية محمد بن مسلم بستمائة رطل (١) ، مع إجمال كلمة الرطل وتردده بين الرطل الملكي الّذي هو ضعف الرطل العراقي وبين الرطل العراقي حيث يمكن رفع الإجمال والتنافي بين الدليلين وتحديد مقدار الكر بستمائة بالرطل المكي وألف ومائتا رطل بالعراقي ، لا على أساس حمل رواية محمد بن مسلم على المكي والمرسلة على العراقي فإنه لا معين لذلك مع الإجمال والتردد ، بل باعتبار أننا لا نعلم بكذب شيء من الروايتين بحسب منطوقهما اللفظي ، فيكون كل منهما محتمل الصدق والمطابقة للواقع ، وإذا لم نعلم بكذب واحد منهما كان مقتضى القاعدة شمول الحجية

__________________

(١) وسائل الشيعة باب ١١ من أبواب الماء المطلق ، حديث ـ ١ ، ٣.

٢٢٩

لهما معاً فتثبت بذلك قضيتان مجملتان تدلان على أن الكر ستمائة رطل وألف ومائتا رطل. وصدق مثل هاتين القضيتين معاً يلزم منه عقلاً قضية ثالثة هو أن الكر ستمائة رطل بالمكي وألف ومائتا رطل بالعراقي ، إذ لو كان أقل من هذا المقدار أو أكثر لما صدقت القضيتان معاً على إجمالهما بل كانت إحداهما كاذبة لا محالة.

وبعبارة أخرى : إن رواية الستمائة تدل على أن الكر ليس بأكثر من ستمائة رطل مكي ـ لأنه سواء أريد بالرطل فيهما الرطل المكي أو العراقي فهو لا يزيد على هذا المقدار لأن الرطل العراقي أقل من المكي بحسب الفرض ـ ورواية الألف والمائتين تدل على أن الكر ليس بأقل من ألف ومائتي رطل بالعراقي ـ سواء أريد بالرطل فيهما المكي أو العراقي ـ لأن المكي أكثر من العراقي بحسب الفرض فلا يمكن أن يقل الكر عن ألف ومائتين بالعراقي ولا تدل على أنه أكثر من ستمائة رطل مكي لاحتمال إرادة العراقي منه بحسب الفرض وهو نصف المكي ، فيكون مقتضى الجمع بين هاتين النتيجتين أن الكر لا يزيد على ستمائة رطل بالمكي ولا ينقص عن الألف ومائتين بالعراقي.

وهكذا اتضح : أن الجموع التبرعية المدعاة بقاعدة أن الجمع مهما أمكن أولى من الطرح لا يمكن تخريجها على أساس قواعد الجمع العرفي.

نعم ، نستثني من ذلك حالة واحدة يكون الموقف فيها من الدليلين المتعارضين موافقاً مع الجمع التبرعي ولكن لا بملاك الجمع العرفي والقرينية بل بملاك العلم الوجداني بسقوط الإطلاق في كلا الدليلين الأمر الّذي ينتج الاقتصار على القدر المتيقن لكل منهما. وتلك الحالة هي ما إذا كان الدليلان معاً قطعيي السند والجهة. وكان لكل منهما قدر متيقن مستفاد ولو من الخارج ، كما إذا فرضنا أن قوله ( ثمن العذرة سحت ) القدر المتيقن منه عذرة غير مأكول اللحم وقوله ( لا بأس ببيع العذرة ) القدر المتيقن منه المأكول ، فإنه يعلم تفصيلاً حينئذ بسقوط الإطلاق في كل واحد من الدليلين بالقياس إلى ما

٢٣٠

هو المتيقن من الآخر ، فتكون النتيجة نفس النتيجة المستحصلة في الجمع التبرعي.

ويلحق بهذه الحالة أيضا ما إذا كان أحد هذين الدليلين قطعي السند والجهة دون الآخر وكان له قدر متيقن وقلنا بكبرى انقلاب النسبة ـ التي سوف يأتي الحديث عنها ـ فإنه في هذه الحالة يعلم تفصيلاً بسقوط الإطلاق في الدليل ظني السند بالمقدار المقابل مع المتيقن من الدليل القطعي ، فتنقلب النسبة بينهما ويصبح الدليل الظني أخص من القطعي فيتقدم عليه بملاك الأخصية

إلاّ أن هذا كما عرفت مبتنٍ على القول بانقلاب النسبة ، وسوف يأتي أنه غير تام بل تبقى نسبة التعارض المستقر بين الدليلين على حالها ولو علم بسقوط شيء من مفاد أحدهما ، فيدخل المقام بناء على ذلك في فرضية التعارض بين الدليل القطعي السند والدليل الظني السند ، وسوف يأتي التعرض له.

ولو افترضنا في المثال السابق قطعية سند الدليل الثاني أيضا دون جهته ودلالته انقلبت النسبة بين الدلالتين فيجمع بينهما ـ بناء على نظرية انقلاب النسبة ـ وأما بناء على إنكارها فيقع التعارض بين إطلاق الدلالة الظنية في الدليل قطعي السند والجهة وبين المجموع المركب من أصالة الجد وإطلاق الدلالة في الدليل الآخر.

٢٣١

فرضيّات التَعارُضِ المُستقِرّ وأَحكامُها

وأما البحث عن أحكام التعارض المستقر من زاوية دليل الحجية العام ، فتارة : يكون على مستوى ما يقتضيه دليل الحجية العام من دون افتراض علم من الخارج بثبوت الحجية في الجملة في مورد التعارض ونصطلح عليه بالأصل الأولي. وأخرى : يكون عما يقتضيه دليل الحجية بعد افتراض العلم من الخارج بانحفاظ الحجية في الجملة حتى في موارد التعارض ، وعدم التساقط المطلق. ونصطلح عليه بالأصل الثانوي. ثم أن الدليلين المتعارضين تارة : يفترض قطعية سندهما معاً بحيث يعلم بصدورهما عن الشارع. وأخرى : يفترض ظنية سندهما معاً بأن يكون صدورهما ثابتاً بدليل الحجية. وثالثة : يفترض قطعية سند أحدهما وظنية سند الآخر. والبحث عن هذه الفرضيات الثلاث يقع من ناحيتين.

الناحية الأولى ـ في تحديد مركز التعارض بين الدليلين في كل منها.

والناحية الثانية ـ في مقتضى الأصل الأولي والثانوي بلحاظ دليل الحجية الّذي وقع مركزاً للتعارض.

أ ـ تحديد مركز التعارض بين الدليلين :

أما في الفرضية الأولى ، التي يكون الدليلان قطعيين سنداً ولم يقطع ببطلان

٢٣٢

مفاد أي واحد منهما في نفسه مع تعذر الجمع العرفي فمركز التعارض فيها إنما هو دليل حجية الظهور لا السند ، لأنه قطعي بحسب الفرض

وأما في الفرضية الثانية ، التي يكون الدليلان ظنيين سنداً فلا إشكال أن مركز التعارض فيها دليل حجية السند إذا كانت الدلالة قطعية.

وإنما الكلام في تحديد مركز التعارض فيما إذا لم تكن الدلالتان قطعيتين حيث قد يقال بأنه لا موجب لسريان التعارض إلى دليل حجية السند ، لأن كلاً منهما يحتمل مطابقتة للواقع ، بأن يكون كلا الظهورين المتعارضين صادراً من المولى حقيقة ، فلا يقاس بموارد قيام أمارتين متعارضتين في الموضوعات مثلاً ، كما إذا شهدت بيّنة بعدالة زيد وأخرى بفسقه ، الّذي يسري فيه التعارض إلى دليل حجيتهما للعلم بكذب أحدهما.

والصحيح أن يقال : أن هناك تقادير ثلاثة لحجية السند.

التقدير الأول ـ وهو التقدير الصحيح ـ أن تكون حجية كل من سند الرواية ودلالتها ثابتة بجعل واحد يثبت حجية المجموع بنحو الارتباط كما إذا كان دليل الحجية قد دل على لزوم اتباع مفاد الرواية وما أخبر به الثقة ، أي النتيجة المتحصلة من مجموع سنده ودلالته.

وبناء على هذا التقدير ، لا إشكال في سريان التعارض إلى دليل حجية السند ، لأنه لو أريد إثبات مجموع الحجيتين في كل من الطرفين بدليل الحجية فهو مستحيل ، وإن أريد إثبات إحدى الحجيتين في أحد الطرفين أو كليهما فهو خلف الارتباطية في جعل الحجيتين.

التقدير الثاني ـ أن تكون حجية السند مستقلة وغير مشروطة بحجية الظهور ، أي يكون مفاد دليل الحجية التعبد بأصل الصدور دون أن يكون ناظراً بمدلوله المطابقي إلى مفاد الرواية ويكون دوره الحكومة الظاهرية على دليل حجية الظهور ، بمعنى إحراز صغرى ذلك الدليل تعبداً. وبناء على

٢٣٣

هذا التقدير تثبت الحجية للسندين معاً وتترتب آثار الصدور الثابتة للأعم من المعنى الظاهر المعارض وغير الظاهر. فلو كان هناك أثر يترتب على الأعم من المعنيين نرتّبه لا محالة ، فإذا افترضنا أن الدليل كان مفاده ظاهراً في وجوب شيء ويحتمل فيه الاستحباب أثبتنا بدليل حجية السند ـ على هذا التقدير ـ الجامع بين الوجوب والاستحباب ، فإن كان ظهوره مما يمكن الأخذ به ـ كما في غير مورد التعارض ـ أثبتنا الوجوب أيضا ، وإذا كان ظهوره معارضا ثبت الجامع بمجرده لأن الصدور يستلزم الجامع ، وحينئذ إذا فرض أن المعارض كان ظاهراً في الإباحة مع احتمال الاستحباب فيه أيضا أمكن إثبات الجامع في كل منهما بنحو القضية المجملة المرددة بين الوجوب والاستحباب في الأول ، والاستحباب والإباحة في الثاني ، فإذا استبعدنا احتمال التقية كان مقتضى صدق كل من الرّاويين ومطابقة كلامهما للواقع ثبوت الاستحباب لا محالة. وقد تقدم في مستهل البحث عن التعارض المستقر أن هذا نحو من الجمع بين الدليلين ، وعلى أساسه حدّدنا مقدار الكر بالوزن في أخبار الرطل المتعارضة في ألف ومائتي رطل عراقي.

غير أنا قيّدنا هذا الجمع بما إذا كان مفاد الدليلين مجملاً مردداً بين ما يمكن معه صدق الدليلين ومالا يمكن. ولم نعمله فيما إذا كانا ظاهرين في معنيين متعارضين وذلك باعتبار ما بيناه في التقدير الأول المختار في حجية السند من أن حجيته ارتباطية وليست مستقلة فلا محالة يسري التعارض من الظهورين إلى السندين. وبعبارة أخرى : إن هناك حجية واحدة جعلت لما هو المتحصل من اخبار الراوي الثقة ، وما هو المتحصل منه فيما إذا كان معارضاً بخبر آخر لا يمكن حجيته بخلاف ما إذا كان مفاده مجملاً مردداً من أول الأمر بين المعنيين ، فإن ما هو المتحصل منه ـ وهو الجامع بين المعنيين ـ يمكن التعبد به ، ثم تعيينه في أحدهما بالنحو الّذي شرحناه آنفاً.

التقدير الثالث ـ أن تكون حجية السند مستقلة جعلاً عن حجية الظهور

٢٣٤

ولكنها مقيدة بحجيته ، بأن تكون الحجة من الأسانيد ما يكون على تقدير ثبوته حجة بحسب الظهور أيضا.

وبناء على هذا التقدير ، تارة : يفترض أن الشرط في حجية السند حجية ظهوره في نفسه وبقطع النّظر عن المعارضات ، أي أن الشرط ثبوت مقتضي الحجية في ظهوره ، وأخرى : يكون الشرط حجيته بالفعل. فعلى التقدير الأول لا يسري التعارض إلى السندين بل يكون دليل الحجية شاملا لهما فيتعبد بصدور الحديثين معاً وحينئذ ، على القول بتعارض الأحكام الظاهرية بوجودها الواقعي يكون السندان كاشفين عن ظهورين معتبرين متعارضين واقعاً ، وعلى القول بتعارض الأحكام الظاهرية بوجودها الواصل ، أي في مرحلة وصولهما ، يكون السندان كاشفين عن ظهورين معتبرين وموجدين بذلك التعارض بينهما ، وعلى كلا التقديرين لا بأس بالتعبد بالسند ويثبت به الجامع بين المعنى الظاهر وغيره ، كما هو الحال على التقدير السابق.

وعلى التقدير الثاني لا تثبت حجية شيء منهما ، لأن ثبوتها لهما معاً محال إذ يستلزم عدم ثبوتها. وبعبارة أخرى : يستحيل اجتماع الشرطين معاً في هذه الحالة فيكون من قبيل موارد التوارد من الجانبين المستحيل. وهذا يعني أن مركز التعارض في هذه الحالة دليل حجية السندين كما كان كذلك على التقدير الأول.

وأما في الفرضية الثالثة ، التي يكون أحد الدليلين ظنياً سنداً والآخر قطعياً مع تعذر الجمع العرفي ، كما إذا تعارض خبر الثقة مع ظهور قرآني ، فإن فرض أن الدليل الظني السند قطعي الدلالة كان مركز التعارض دليل حجية السند الظني ودليل حجية الظهور في الدليل القطعي. وإن فرض أن الدليل الظني السند ظني الدلالة أيضا كان التعارض بين دليل حجية الظهور في كل منهما ويسري إلى دليل حجية السند الظني أيضا ، بحسب ما تقدم في الفرضية السابقة.

٢٣٥

ب ـ تأسيس الأصل في فرضيات التعارض الثلاث :

والكلام تارة : يقع فيما إذا كان مركز التعارض دليلاً واحداً ، وأخرى : فيما إذا كان مركز التعارض دليلين. والأول يكون في الفرضيتين الأولى والثانية ، والثاني يكون في الفرضية الثالثة.

١ ـ حكم التعارض بلحاظ دليل الحجية الواحد :

إذا كان مركز التعارض بين المتعارضين دليلاً واحداً للحجية ، كما في التعارض بين القطعيين سنداً الّذي يكون مركز التعارض فيه دليل حجية الظهور لكل منهما ، أو التعارض بين الظنيين سنداً الّذي يكون مركز التعارض فيه دليل حجة السند لكل منهما ، فاما أن يفترض انحصار دليل الحجية في السيرة العقلائية أو دليل لفظي يتقدر بمقدارها ، ولو باعتبار ظهوره في الإمضاء. وإما أن يفترض وجود دليل لفظي على الحجية له إطلاق لكل حالة لم يقم برهان عقلي على امتناع شمولها لها.

فعلى الأول لا محيص عن التساقط وعدم حجية شيء من المتعارضين ، لقصور مقام الإثبات وعدم مساعدته لإثبات الحجية في حالات التعارض ، حيث لم يحرز وجود ارتكاز عقلائي يساعد على ثبوت الحجية في مورد التعارض ، لا بدلاً ولا تعييناً.

وعلى الثاني ، لا بد من البحث أولا عن مقتضى الأصل الأولي المستفاد من ذلك الدليل اللفظي المطلق ، وأنه هل يقتضي التخيير أو الترجيح أو التساقط. وثانياً عن مقتضى الأصل الثانوي ، لو فرض قيام دليل على عدم التساقط المطلق.

أ ـ مقتضى الأصل الأولي في التعارض بين دليلين :

أما الحديث عن مقتضى الأصل الأولي في التعارض بين دليلين ، فالأقوال

٢٣٦

فيه ثلاثة : أحدها التساقط المطلق ، والثاني بقاء الحجية في الجملة ، والثالث التفصيل بنحو يأتي عن المحقق العراقي ـ قده ـ.

أما القول بالتساقط ، فقد ذهب إليه المشهور. وتوضيح برهانهم على ما أفاده السيد الأستاذ ـ دام ظله ـ أن إعمال دليل الحجية في المتعارضين يتصور بأحد أنحاء أربعة كلها باطلة ، فلا يبقى الا التساقط.

النحو الأولى ـ افتراض شمول دليل الحجية لهما معاً. وهذا غير معقول لأدائه إلى التعبد بالمتعارضين وهو مستحيل.

النحو الثاني ـ افتراض شمول دليل الحجية لواحد منهما بعينه. وهذا غير معقول أيضا لاستلزامه الترجيح بلا مرجح.

النحو الثالث ـ افتراض شمول دليل الحجية لكل منهما على تقدير عدم الأخذ بالآخر ، لأن ثبوت الحجية المقيدة في كل من الطرفين لا محذور فيه وإنما المحذور في الحجيتين المطلقتين فلا موجب لرفع اليد عن أصل دليل الحجية بالنسبة إلى كل منهما في الجملة ، وإنما يرفع اليد عن إطلاق الحجية فيهما. وهذه الحالة أيضا باطلة ، لاستلزامها اتصاف كل منهما بالحجية عند عدم الأخذ بهما معاً ، فيعود محذور التعبد بالمتعارضين.

النحو الرابع ـ افتراض حجية كل منهما مقيدة بالأخذ به لا بترك الآخر دفعاً للمحذور المتجه على النحو السابق. وهذا باطل أيضا ، إذ لازمه أن لا يكون شيء منهما حجة في فرض عدم الأخذ بهما فيكون المكلف مطلق العنان بالنسبة إلى الواقع ويرجع فيه إلى الأصول اللفظية أو العملية وهذا ما لا يلتزم به القائل بالتخيير ولا يقاس المقام على التخيير الثابت بالدليل والّذي ترجع روحه إلى الحجية المقيدة في كل منهما ، فإنه لو تمّت أخبار التخيير فهي بنفسها تدل ـ ولو بالالتزام العرفي ـ على لزوم الأخذ بأحدهما وأنه على تقدير تركهما يؤاخذ

٢٣٧

على مخالفة الواقع ، وهذا بخلاف المقام إذ لم يستفد بمقتضى القاعدة إلا التقييد في حجية كل منهما وإشراطها بالأخذ به وأما وجوب الأخذ به فلم يدل عليه دليل (١).

والتحقيق : أن هذا المقدار من البيان لا يمكن أن يكون برهاناً على التساقط ولا يصح السكوت عليه بهذا الصدد. إذ أقل ما يمكن أن يناقش فيه ـ بغض النّظر عن المناقشات التي سوف تتبين من خلال الأبحاث المقبلة ـ إنه من الممكن الالتزام بإعمال دليل الحجية على النحو الرابع من دون محذور ، إذ نتساءل : انه هل من المحتمل بحسب الارتكاز العرفي والمتشرعي الانفكاك بين حجيتين مشروطة كل واحدة منهما بالأخذ وبين وجوب الأخذ بإحدى هاتين الحجتين؟ فإن كان الانفكاك محتملاً التزمنا بالحجيتين المشروطتين تمسكاً بما يمكن من دليل الحجية ولا يلزم محذور. وإلاّ كان دليل الحجية الصالح لإثبات هاتين الحجيتين بالمطابقة دالاً بالالتزام على وجوب الأخذ بأحدهما.

والصحيح : هو أن الموقف ليس بشكل واحد في جميع فروض التعارض بل يختلف باختلاف حالاتها. فقد يقتضي الموقف التخيير ، وقد يقتضي الترجيح ، وقد يقتضي التساقط ، بل قد يقتضي أحياناً الجمع بينهما.

وتوضيحاً لذلك نقول : إن هناك فروضا أربعة.

الفرض الأول ـ أن يعلم من الخارج ـ ولو بحسب الارتكاز العقلائي ـ أن ملاك الحجية ومقتضيها لو كان موجوداً في مورد التعارض فهو في أحدهما المعين أقوى من الآخر ، بحيث يراه المولى أرجح في مقام جعل الحجية له. وفي هذه الفرضية مقتضى الأصل ترجيح ذلك الدليل ، لأن إطلاق دليل الحجية له يثبت حجيته المطلقة ولا يعارضه إطلاقه للآخر لأنه معلوم السقوط

__________________

(١) مصباح الأصول ، ص ٣٦٦.

٢٣٨

حيث يعلم بعدم حجيته إما مع الآخر ، كما لو لم يكن ملاك الحجية ثابتاً في مورد التعارض أصلا ، أو لوحده باعتباره مرجوحاً في ملاك الحجية ، فلا محذور في الأخذ بإطلاق دليل الحجية في الآخر.

الفرض الثاني ـ أن يفترض العلم الخارجي بأن ملاك الحجية إن كان محفوظاً في موارد التعارض فنسبته إليهما على حد واحد. وفي هذه الحالة يثبت التخيير لأن إطلاق دليل الحجية لكل منهما على تقدير الأخذ بالآخر ساقط جزماً إما لعدم وجود الملاك رأساً أو لأن الملاك في أحدهما ليس بأقوى منه في الآخر ، فلا يقتضي حجيته بالتعيين ، فيبقى إطلاق دليل الحجية لكل منهما على تقدير الأخذ به بلا معارض ، وبذلك يتجه التخيير في هذا الفرض.

الفرض الثالث ـ أن نحتمل الترجيح لأحدهما المعين ولا نحتمله في الآخر. وحينئذ نقطع بسقوط إطلاق دليل الحجية لشمول الآخر عند الأخذ بالأول ، اما لعدم ملاك للحجية فيه رأساً أو لوجوده فيهما بنحو التساوي أو لوجوده في الأول بنحو أرجح منه في الثاني ، وعلى جميع هذه الاحتمالات يكون الإطلاق المذكور ساقطاً عند الأخذ بالخبر المحتمل رجحانه فيكون إطلاق دليل الحجية للخبر المحتمل رجحانه بلا معارض فيتمسك به. وبهذا يثبت عدم التساقط المطلق ويدور الأمر حينئذ بين الترجيح والتخيير فيدخل في البحث القادم عن مقتضى الأصل الثانوي في المتعارضين بعد قيام دليل على عدم التساقط المطلق ويكون الدليل المثبت لعدم التساقط المطلق نفس إطلاق دليل الحجية العام مع ضم العناية المفترضة.

الفرض الرابع ـ ما إذا احتملنا الترجيح في كل من الطرفين سواء احتمل التساوي أولا. وهذه الفرضية هي التي يتبادر فيها الحكم بالتساقط لأن احتمال الترجيح والحجية المطلقة في كل منهما معارض به في الآخر ، والتخيير ـ أي الحجية المقيدة في كل منهما ـ أيضا لا يمكن إثباته بدليل الحجية العام ، لا لما

٢٣٩

أفاد السيد الأستاذ ـ دام ظله ـ بل لأن إطلاق دليل الحجية العام لكل منهما على تقدير الأخذ به أو عدم الأخذ بالآخر معارض بإطلاقه لشمول الآخر في نفس هذا التقدير.

والتحقيق في المقام أن يقال : إن التعارض بين الدليلين تارة : يكون التنافي بينهما بالعرض. وأخرى : يكون التنافي بينهما بالذات. ونقصد بالتنافي بالعرض ما إذا كان كل منهما دالاً على حكم متعلق بموضوع غير ما تعلق به الآخر بحيث كان ثبوتهما معاً في أنفسهما معقولاً ولكنه يعلم من الخارج بعدم ثبوت أحدهما إجمالاً ، كما إذا دل أحدهما على وجوب الجمعة والآخر على وجوب الظهر في يوم الجمعة وعلم إجمالاً بعدم مطابقة أحدهما للواقع ، إذ لا تجب صلاتان في وقت واحد. ونقصد بالتعارض الذاتي ما إذ كان الدليلان مما لا يمكن ثبوت مفادهما معاً في نفسه ، إما لتضاد المفادين ، كما كما إذا دل أحدهما على وجوب شيء والآخر على حرمته ، أو لتناقضهما كما إذا دل أحدهما على وجوب شيء والآخر على نفي الوجوب عنه. فالأقسام ثلاثة.

أما القسم الأول ـ وهو التعارض بالعرض على أساس العلم الإجمالي من الخارج بكذب أحد الدليلين ، فيمكن أن تذكر بشأنه عدة محاولات للمنع عن الحكم بتساقطهما.

المحاولة الأولى ـ دعوى الالتزام بكلا الدليلين فيما إذا كانا يدلان على حكمين إلزاميين لا ترخيصيين ، إذ لا يلزم منهما محذور الترخيص في المخالفة وبذلك نكون قد عملنا بكلا الدليلين إذ كل دليل لا بد وأن يعمل به ما لم يلزم منه محذور.

ولكن الإشكال على هذه المحاولة بهذا المقدار من البيان واضح ، إذ هنا لك ملاكان للتعارض. أحدهما : الترخيص في المخالفة القطعية. والآخر : أن

٢٤٠