بحوث في علم الأصول - ج ٧

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٧

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٢٧

هذه هي أقسام التعارض غير المستقر التي لا يسري التعارض فيها إلى دليل الحجية وإنما يعالج بتقديم الوارد والحاكم والمقيد والخاصّ والأظهر على ما يقابله من مورود ومحكوم ومطلق وعام وظاهر.

وينبغي التنبيه على نقطتين لهما ارتباط وثيق ببحث التعارض غير المستقر.

النقطة الأولى ـ في ملاحظة النسبة بين الدليل الّذي حكمنا بتقديمه من أقسام التعارض غير المستقر ـ كالخاص مثلاً ـ وبين دليل حجية ما يقابله ـ كالعام ـ وأنها هل تكون نسبة الدليل الوارد إلى المورود أو الحاكم إلى المحكوم؟ وهذا بحث نظري مجرد بعد الفراغ عن أصل التقديم.

وقد ذهبت مدرسة المحقق النائيني ـ قده ـ إلى أن النسبة بينهما هي الحكومة ، بمعنى أن الخاصّ رافع لموضوع حجية العام تعبداً لا وجداناً.

وقد ذكروا في تقريب ذلك أن دليل الحجية قد أخذ في موضوعه مجموع أمرين. الظهور ، وعدم العلم بإرادة الخلاف ، فالعام إذا ورد خاص حجة في قباله كان علماً بإرادة خلاف العموم منه ، ولكنه علم تعبدي لا وجداني فيكون حكومة لا وروداً. ـ بناء على أن الحكومة هي ارتفاع الموضوع تعبداً ـ.

والصحيح : أن النسبة هي الورود لا الحكومة ، ذلك أن مثل العام مقيد حجية بعدم نصب الخاصّ قرينة على خلافه ولو منفصلاً ، فمع ورود الخاصّ يرتفع ما هو موضوع الحجية عن العام حقيقة ووجداناً فيكون وروداً لا حكومة.

وهذا واضح بناء على الحالتين الأولى والثالثة من الحالات التي خرجنا عليها التخصيص المنفصل ، لأن الحجة إنما هو الظهور الكاشف عن مراد المتكلم والّذي لم يعد المتكلم ما يكون قرينة على خلافه وإرادته لغيره وينتفي هذا الموضوع بورود الخاصّ ولو منفصلاً بعد أن افترضنا قرينيته.

٢٠١

وأما بناء على الحالة الثانية ، وهي ما إذا فرض تنزيل الخطابات المنفصلة منزلة المتصلات في الآثار الشرعية ، فهذا التنزيل وإن كان يعقل فيه أن يكون على أساس الحكومة ونظر دليل حجية الخاصّ المنفصل إلى دليل حجية العام لتنزيله إياه منزلة العام المتصل به الخاصّ في الآثار الشرعية المترتبة عليه ، إلاّ أنه بعد ثبوت هذا التنزيل تكون حجية العام مقيدة لباً بعدم ورود القرينة على خلافه ، فيكون الخاصّ بوروده رافعاً لموضوع حجية العموم ، فالحاكم إنما هو دليل حجية الخاصّ لا نفسه.

وبهذا يتضح : أن ما أفيد من قبل مدرسة المحقق النائيني ـ قده ـ في توجيه الحكومة غير تام. فإن كل دليل وإن كانت حجيته مقيدة لباً بعدم العلم على خلافه ، إلاّ أن هذا لا يكفي ملاكاً لتقديم الخاصّ على العام فضلاً عن كونه حاكماً عليه ، إذ لا موجب لافتراض الخاصّ هو الحجة في مقابل العام دون العكس كي يتحقق علم تعبدي على خلاف العموم ما لم توجد في المرتبة السابقة نكتة تستوجب تقديم أحد الظهورين المتعارضين على الآخر ، فلا بد من ملاحظة تلك النكتة ليرى هل تقتضي أن تكون النسبة بين الخاصّ ودليل حجية العام الورود أو الحكومة كما صنعنا آنفاً. وقد تقدم شطر من الكلام حول هذا الموضوع في أول الكتاب حينما كان يراد جعل هذا التقريب بنفسه نكتة لتقديم الخاصّ على العام.

بل التحقيق أنه لا يمكن أن يكون الدليل الخاصّ حاكماً على دليل حجية العام ولو تجاوزنا هذه النقطة ، لأن أدلة الحجية أدلة لبية وهي لا تتحمل الحكومة ، لأنها ـ على ما تقدم ـ عبارة عن كون أحد الدليلين مفسراً وشارحاً للمقصود من الدليل الآخر وهو غير معقول في الأدلة اللبية التي ليس لها ألسنة وظهورات كي تفسر وتشرح.

النقطة الثانية ـ في وجه تقديم سند القرينة الظني ـ كالخالص الثابت بخبر الثقة ـ على دلالة ذي القرينة ـ كالعام ـ ولنفترض لمزيد التوضيح أن سند

٢٠٢

العام قطعي ، فنقول : إن ظهور العام يكون إمارة ظنية على عدم صدور الخاصّ ، كما أن سند الخاصّ يكون إمارة ظنية على عدم إرادة عموم العام ، فقد يقال بوقوع التعارض بينهما فإن الظهور وإن كانت حجيته مقيدة بعدم القرينة على الخلاف ، إلاّ أن ذلك حيث تثبت القرينة وأما حيث لم تثبت فيكون الظهور بنفسه مكذباً ونافياً لوجود القرنية على الخلاف ، وهذا هو معنى أصالة عدم القرينة. وهذا يعني أن مقتضى الحجية في كل من ظهور العام وسند الخاصّ فعلي في نفسه فيقع التعارض بينهما لا محالة.

والصحيح ، تقديم سند الخاصّ ولو كان ظنياً على ظهور العام. وذلك بأحد تقريبات.

١ ـ إن سند الخاصّ الظني إذا كان حجة عند العقلاء على حد الظهور ـ كما في خبر الثقة الّذي هو المهم في المقام ـ كان اللازم ملاحظة سيرتهم العملية في موارد معارضته للعام ، ولا ينبغي الإشكال في أن سيرتهم منعقدة على العمل بالخاص وتخصيص العام على أساسه ، فيكون مقتضى عدم ردع الشارع عنها إمضائه لحجية سند الخاصّ الظني. هذا إذا كان الدليل على الحجية هو السيرة العقلائية ، وأوضح من ذلك ما إذا كان دليل الحجية هو السيرة المتشرعية. فإنه لا إشكال ولا ريب في انعقادها عند الرّواة وأصحاب الأئمة عليهم‌السلام على العمل بالرواية المخصصة لعموم أو إطلاق ، ولو كان في دليل قطعي السند.

٢ ـ لو فرضنا إجمال السيرة العملية مع ذلك قد يقدم سند الخاصّ الظني على دلالة العام تمسكاً بإطلاق الأدلة اللفظية المثبتة لحجية السند ـ إذا تم شيء منها ، كما هو الصحيح في بحث حجية خبر الثقة ـ لعدم انحصار أدلة حجيته بالسيرة العقلائية أو المتشرعية التي تعتبر دليلا لبياً لا إطلاق فيه كما هو الحال في دليل حجية الظهور.

إلاّ أن هذا التقريب موقوف على أن يكون الدليل اللفظي متعرضاً للتعريف

٢٠٣

بكبرى الحجية مطلقاً ، أما إذا لم يتضمن ذلك صريحاً وإنما عول في مقام بيان الحجة على ما هو المركوز لدى العرف بدرجة يستغنى معها عن التصريح به ـ كما في رواية : العمري وابنه ثقتان فما أديا فعني يؤديان ـ أو صرّح بكبرى الحجية ولكن في سياق إمضاء ما هو المرتكز في أذهان العقلاء. فلا ينعقد فيه إطلاق حينئذ حتى يتمسك به كما هو واضح.

٣ ـ لو فرضنا أن سند الخاصّ لم يكن حجة عند العقلاء وإنما ثبتت حجيته بدليل شرعي ، فكان عمل العقلاء في مورد ذلك الخاصّ بعموم العام لا بسند الخاصّ الظني ، مع ذلك قلنا بلزوم تقديم سند الخاصّ تمسكاً بإطلاق دليل اعتباره شرعاً لا من جهة كونه ردعاً عن إطلاق السيرة العقلائية على العمل بعموم العام كي يقال : بأن مثل هذه الإطلاقات لا تصلح لردع سيرة بالغة الارتكاز في أذهان العقلاء ، بل باعتبار أن مدلول السيرة العقلائية على حجية الظهور ليس بنحو القضية الخارجية كما أفاده بعض المحققين ، بل بنحو القضية الحقيقية القاضية بحجية كل ظهور ما لم تثبت قرينة على الخلاف ، فإذا ثبتت حجية دليل عند الشارع وكونه تاماً في مقام إثبات مراده كان صالحاً لإثبات القرينة ورفع حجية ذلك الظهور. وكذلك العكس ، أي إذا نفي الشارع حجية طريق ثابت عند العقلاء ـ كالقياس مثلاً ـ فردع عنه كان الظهور حجة في مقابل تلك الحجة المرفوضة شرعاً وإن كانت أخص وكان العقلاء يعملون بها ، وليس ذلك إلاّ من جهة ما أشرنا إليه وحققناه مفصلاً في بحث السيرة من استفادة إمضاء النكتة العامة والكبرى المرتكزة عليها سيرة العقلاء بنحو القضية الحقيقية لا خصوص العمل الخارجي الّذي كان عليه جريهم في عصر الإمضاء. وعلى هذا الأساس يتضح وجه تقديم سند الخاصّ الظني ما دام معتبراً شرعاً ـ ولو لم يكن معتبراً عند العقلاء ـ على ظهور العام القطعي سنداً.

٢٠٤

أحكامٌ عامّة

لِلتعارُض غير المُستَقِرّ

١ ـ شروطه العامة

٢ ـ نتائجه بالنسبة لكل من المتعارضين

٢٠٥
٢٠٦

الشّرُوط العامّة لِلتعَارُضِ غير المُستَقِرّ

بعد أن استعرضنا أقسام الجمع العرفي في التعارض غير المستقر الّذي لا يسري إلى دليل الحجية ، يحسن بنا أن نتحدث عن الشروط العامة التي يخضع لها جميع أقسام الجمع العرفي ، أو ما قد يدعى كونه شرطاً لها وهي أربعة.

الأول ـ أن يكون المتكلم بكلا الكلامين اللذين يجمع بينهما بأحد أنحاء الجمع العرفي المتقدمة واحداً أو بحكم الواحد ، وأما مع فرض التعدد فلا يتأتى الجمع المذكور.

وهذا الشرط ثابت في كل أقسام الجمع العرفي القائم على القرينية ، كالجمع بالتخصيص أو بالتقييد أو بتقديم الأظهر على الظاهر ، لوضوح أن الجمع في هذه الموارد يستند إلى كون القرينة معدة لتفسير ذي القرينة ومن المعلوم أن هذا الإعداد العرفي إنما هو في القرينة الصادرة من نفس الشخص الّذي صدر منه ذو القرينة. وكذلك يثبت هذا الشرط في موارد الجمع بالحكومة لأنه مبني على الإعداد الشخصي للمتكلم وهو فرع وحدة مصدر الخطابين أيضا كما هو واضح.

وأما الورود فإن كان الورود فيها بلحاظ الجنبة الإنشائية للدليل الوارد بأن كان متكفلاً لجعل مولوي يقتضي رفع موضوع الجعل في الدليل الآخر ، فهذا أيضا يتوقف على الشرط المذكور. لأن رافعية جعل لموضوع جعل آخر

٢٠٧

إنما تكون في داخل تشريعات جهة واحدة. نعم لو فرض أن شخصاً أناط حكمه بعدم صدور الحكم من الآخر يكون صدور الحكم من الآخر وارداً عليه. ولكن من الواضح أنه لا تعارض حتى الاصطلاحي فضلاً عن الحقيقي بين المجعولين في هذا الفرض لتعدد الحاكم وإنما هو من التعارض المصطنع.

وأما إذا كان الورود بلحاظ الجنبة الإخبارية ، بأن كان الوارد متكفلاً للاخبار عن عدم انطباق موضوع المورود على فرد فهذا لا يتوقف على وحدة المصدر للوارد والمورود كما هو واضح.

ثم إن المراد بكون المتكلم بحكم الواحد ، المتكلمون المتعددون الذين يمثلون جهة واحدة بحيث تكون كلماتهم كلها كلمات تلك الجهة من قبيل الأئمة من أهل بيت العصمة عليهم‌السلام الممثلين لجهة الشريعة ، ولا دخل في ذلك كون الممثلين معصومين من الخطأ أو غير معصومين ، فلو فرض أن أشخاصاً غير معصومين كانوا يمثلون جهة واحدة غير الشريعة لسرى الجمع العرفي إلى كلماتهم ، لتعقل الإعداد الخاصّ والإعداد العام للقرينية فيها ما داموا يمثلون جهة واحدة بنحو يعتبر كل واحد منهم كلام الآخر بمثابة كلامه ، فإن هذا يتيح له أن يعد كلام الآخر لتفسير كلامه.

الثاني ـ أن لا يكون هناك علم إجمالي بعدم صدور أحد الخطابين اللذين بينهما جمع عرفي من الشارع ، وإلاّ لم تجد إمكانية الجمع العرفي في عدم إسراء التعارض إلى دليل الحجية ، لأن الجمع العرفي إنما يوجب علاج التعارض الدلالي بين الخطابين ومع العلم الإجمالي بكذب أحدهما لا يكون التعارض بين مدلولي الخطابين بل بين نفس الخطابين ولا معنى حينئذ للجمع العرفي ، فيكون التعارض مستقراً وسارياً إلى دليل الحجية.

الثالث ـ أن يبقى مجال للتعبد بمقدار من دلالة ذي القرينة ، وأما إذا اقتضى الجمع العرفي إلغاء التعبد بدلالته رأساً فلا مجال حينئذ لإعمال الجمع

٢٠٨

العرفي. ومثاله ما إذا فرض أن الجمع العرفي اقتضى حمل أحد المتعارضين على كونه إخباراً عن واقعة خارجية لا إنشاء مولوياً ، فإنه في مثل ذلك لا يبقى مجال للتعبد بدلالة ذي القرينة لعدم انتهاء دلالته التي تتعين على أساس الجمع العرفي للأثر العملي. والوجه في هذا الشرط هو أنه مع عدم إمكان التعبد بدلالة ذي القرينة كذلك يكون التعارض بحسب الحقيقة بين القرينة ودليل التعبد بسند ذي القرينة ، أي أن التعارض يسري إلى دليل التعبد بالسند ، وذلك لأن ذا القرينة إذا كان التعبد بسنده بعد الجمع العرفي ممكناً فالتعارض ليس في دليل السند بل في دليل حجية الظهور ، والمفروض تقدم أحد الظهورين على الآخر بلحاظ هذا الدليل. وأما إذا كان التعبد بالسندين مع الجمع العرفي غير ممكن فهذا يعني التعارض بين التعبد بسند القرينة والتعبد بسند ذي القرينة وهو معنى سريان التعارض إلى دليل حجية السند ، ولا موجب بلحاظ هذا الدليل لتقديم أحد السندين على الآخر فيتساقطان.

وقد يبنى على هذا الشرط عدم صحة كون الحمل على التقية جمعاً عرفياً بين الدليلين بلحاظ مرحلة ظهورهما التصديقي في الإرادة الجدية لكون المخالف للعامة نصاً في الإرادة الجدية دون الآخر ، فيؤول غير النص على أساس النص من باب حمل الظاهر على الأظهر ، فإنه قد يقال : بأن هذا الجمع ليس صحيحاً لأن حمل الخبر الموافق على التقية يوجب إلغاء التعبد بدلالته رأساً ومعه لا يمكن شمول دليل التعبد بالسند له ، فيحصل التعارض بين التعبدين بالسندين ، ومعه لا ينفع إمكان الجمع العرفي (١).

ولكن التحقيق عدم صحة هذا الشرط ، وذلك لأن دليل التعبد بالسند مقيد لباً بوجود أثر عملي لمفاد السند المتحصل بعد ملاحظة سائر القرائن ، فإذا فرض أن ما هو المفاد العرفي للسند المتحصل بعد ملاحظة القرائن لم يكن له أثر عملي فهو خارج عن موضوع دليل التعبد بالسند ، وهذا يعني أن دليل

__________________

(١) كما جاء في كفاية الأصول للمحقق الخراسانيّ ـ قده ـ.

٢٠٩

التعبد بالسند بشموله لسند القرينة يقتضي كون المفاد العرفي لذي القرينة سنخ مفاد لا أثر عملي له ، ومعه يخرج سند ذي القرينة موضوعاً عن دليل التعبد لأنه أخذ في موضوعه أن يكون للمفاد العرفي أثر عملي ، وهذا بخلاف العكس.

الرابع ـ أن يكون التعارض غير المستقر بين الدليلين ذاتياً قائماً على أساس التناقض أو التضاد ، وأما إذا كان التعارض بالعرض وعلى أساس العلم الإجمالي بمخالفة مدلول أحدهما للواقع فسوف يطبق عليه قواعد الجمع العرفي وتقديم أقوى الدليلين ، فإذا افترضنا مثلاً ورود أمرٍ بصلاة الظهر في يوم الجمعة الظاهر في وجوبها ، وورد دليل آخر صريح في وجوب الجمعة فيها وعلم من الخارج بعدم جعل فريضتين على المكلف في وقت واحد ، فلا يمكن جعل الدليل الصريح في وجوب الجمعة قرينة لحمل الأمر بالظهر على الاستحباب.

وقد استفيد هذا الشرط من كلمات المحقق النائيني ـ قده ـ وما يمكن أن يذكر وجهاً فنياً لتخريجه أحد أمور.

الوجه الأول ـ أن يكون ذلك قياساً على ما تقدم في الشرط الثاني المتقدم ، فكما لا يقدم الخاصّ على العام إذا علم إجمالاً بكذب أحدهما كذلك لا يقدم أقوى الدليلين على أضعفهما إذا كان يعلم إجمالاً بكذب مفاد أحدهما.

وهذا الوجه واضح الاندفاع ، إذ القياس المذكور في غير محله. لأن قوانين الجمع العرفي موضوعها الظهوران المتنافيان في كلام متكلم واحد فلا بد من إحراز صدور الكلامين عن متكلم واحد كي يمكن تطبيقها عليهما ، وفي موارد العلم الإجمالي بكذب أحد الراويين ـ السندين ـ لم يحرز بعد صدور الكلامين من متكلم واحد لكي نطبق قواعد الجمع العرفي. وهذا بخلاف المقام الّذي لا يعلم فيه بكذب أحد السندين وإنما علم بمخالفة مفاد إحدى الروايتين للواقع ، فبمقتضى حجية السند يحرز صدور الكلامين معاً من متكلم واحد فتجري عليهما قواعد الجمع العرفي.

٢١٠

وإن شئت قلت : إن العلم الإجمالي بكذب أحد السندين لا يستوجب تعارضاً في الخطابات الشرعية كي يطبق عليها قواعد التعارض وإنما يوجب تعارضاً بين شهادتي الراويين ومن الواضح أن تقديم إحدى الشهادتين على الأخرى في مقام النقل لا موجب له حتى إذا افترضنا صراحة ألفاظها في مقام الشهادة ونقل المشهود به ، لأن كلام شخص لا يكون قرينة على مراد شخص آخر ، كما هو واضح ، وهذا بخلاف المقام فإن الشهادتين لا تنافي بينهما من حيث إثبات المشهود به وإنما التنافي بين الخطابين الشرعين.

الوجه الثاني ـ قياس المقام بموارد اشتباه الحجة باللاحجة ، بدعوى : أن العلم الإجمالي بكذب أحد الدليلين يوجب سقوط معلوم الكذب عن الحجية واقعاً فيكون أحدهما غير حجية في نفسه ، فيدخل في موارد معارضة دليلين علم بعدم حجية أحدهما تفصيلاً ثم اشتبه الأمر وتردد غير الحجة مع الحجة منهما ، فإنه لا يحكم في ذلك بتقديم أقوى الظهورين ، كما هو واضح.

وهذا الوجه أيضا لا يمكن المساعدة عليه. لأن موضوع الحجة هو الظهور الّذي لم تصل قرينة على خلافه ولم يعلم مخالفته للواقع ، والعلم الإجمالي بالمخالفة نسبته إلى كل منهما على حد واحد ، أي نسبة احتمالية وليست يقينية فالقياس على مورد العلم التفصيليّ بعدم حجية أحدهما المعين ثم اشتباهه بالحجة في غير محله.

الوجه الثالث ـ أن تقديم أقوى الظهورين على أضعفهما إنما يكون بملاك القرينية واعتبار العرف الظهور الأقوى مفسراً للمراد من الظهور الأضعف ، وهذا إنما يصح فيما إذا كان الدليل الأقوى متعرضاً بمفاده لمفاد الآخر ومجرد العلم الإجمالي بكذب أحدهما لا يجدي في ذلك.

وهذا الوجه أيضا لا يمكن المساعدة عليه. لأنه لو أريد به أن القرينية موقوفة على أن يكون الدليل القرينة بحسب مدلوله المطابقي مفسراً لمدلول الآخر وقرينة عليه عرفاً ، فالكبرى ممنوعة ، فإن القرينية كما تتعقل في المدلول

٢١١

المطابقي لدليل بالقياس إلى دليل آخر كذلك تتعقل في المدلول الالتزامي له. وإن أريد به أن العلم الإجمالي في موارد التعارض بالعرض لا يحقق دلالة عرفية صالحة للقرينية فالصغرى ممنوعة ، فإن كلاً من الدليلين يحتوي على دلالة التزامية على قضية شرطية فحواها أنه لو كان أحد المفادين كذباً فهو مفاد الآخر والعلم الإجمالي بالكذب بحسب الحقيقة يحرز الشرط من هذه القضية فليس هو القرينة على التصرف في الاخر وإنما القرينة تلك الدلالة الالتزامية في الدليل الأقوى ، وبذلك يتضح أن كل تعارض بالعرض يرجع بعد التحليل إلى تعارض بالذات بين المدلول الالتزامي لكل من الخطابين مع المدلول المطابق للآخر ، ويحل هذا التعارض بتطبيق قوانين الجمع العرفي بينهما من أول الأمر ، بحمل مدلول الدليل الأضعف على ما يوافق الدليل الأقوى على تقدير وجود كذب في البين ، والعلم الإجمالي دوره الحقيقي إنما هو إحراز هذا التقدير لا أكثر.

الوجه الرابع ـ قد تقدم أن أحد الدليلين المنفصلين إنما يصلح أن يكون قرينة على الآخر ورافعاً لحجيته فيما إذا فرض كونه قرينة رافعة لأصل الظهور على تقدير اتصاله به ، وفي موارد التعارض بالعرض لو فرض الجمع بين الدليلين المتعارضين في مجلس واحد مع ذلك لا يصلح الدليل الأقوى منهما للقرينية على الدليل الأضعف وهدم ظهوره ، بل تكون نسبة العلم الإجمالي بالخلاف إليهما على حد واحد. وهذا يعني عدم صلاحية أقوى الدليلين للقرينية على أضعف الدليلين في موارد التعارض بالعرض.

وهذا الوجه غير تام أيضا ، لأنه لو أريد من فرض الاتصال والجمع بين الدليلين الجمع بينهما فقط مع كون العلم الإجمالي بالكذب منفصلاً عنهما لكونه ثابتاً بدليل آخر خارج عنهما ، فما ذكر من عدم انثلام ظهور الدليل الأضعف وإن كان صحيحاً إلاّ أنه ليس من الاتصال بين أقوى الظهورين وأضعفهما ما دام الدليل على العلم الإجمالي المستوجب للتعارض منفصلاً

٢١٢

وإن أريد الجمع بينهما مع دليل العلم الإجمالي بحيث يكون العلم الإجمالي بيّنا وواضحاً في مقام التخاطب ـ كما إذا كان مركوزاً في الذهن العرفي ـ فلا نسلم عدم القرينية أو الأظهرية المستلزمة لانثلام الظهور الأضعف بسبب الظهور الأقوى فإن ملاك تقدم أقوى الظهورين على أضعفهما سواء كان هو القرينية أو الأقوائية في مقام التأثير ـ على ما تقدم شرحه ـ محفوظ في المقام أيضا.

وهكذا يتضح أنه لا فرق في تطبيق قواعد الجمع العرفي والتعارض غير المستقر بين أن يكون التعارض بين الدليلين بالذات أو بالعرض.

٢١٣

نتائج الجَمع العُرفيّ

بعد فرض تطبيق قواعد الجمع العرفي على الدليلين المتعارضين يقع البحث عن مقتضاها ونتائجها بلحاظ كل من الدليل الغالب والدليل المغلوب. ولا إشكال في أن مفاد الدليل الغالب لا بد من الأخذ به ، وأما حال الدليل المغلوب وتشخيص ما يتبقى له من مدلول بعد تقديم الدليل الغالب عليه ، فيتصور على خمسة أنحاء.

١ ـ أن لا يبقى له مدلول عملي رأسا فيلغو شمول دليل الحجية له ويخرج عن موضوعه تخصّصاً ، على ما تقدم شرحه في الشروط العامة للتعارض غير المستقر. ومثال ذلك موارد الحمل على التقية أو على جملة خبرية غير مولوية بقرينة منفصلة.

٢ ـ أن يبقى الدليل المغلوب محتفظاً بتمام مدلوله ، كما هو الحال قبل الجمع العرفي. ومثال ذلك موارد الجمع العرفي بالورود التي لا تنافي فيها بين الجعلين وإنما بين المجعولين في مقام الفعلية.

٣ ـ أن يبقى الدليل المغلوب محتفظاً بجزء من مدلوله ويقتطع منه جزئه الآخر ، كما هو الحال في موارد التخصيص والتقييد التي يبقى فيها العام أو المطلق حجة في الباقي.

٤ ـ أن يثبت للدليل المغلوب مفاد يغاير مفاده الأول يعيّنه الدليل

٢١٤

الغالب ، كما في الحكومة بلسان أعني فيما إذا حدد له الحاكم مفاداً مغايراً مع ما كان يفهم منه لولاه.

٥ ـ أن يثبت للدليل المغلوب مفاد مغاير مع مفاده الأول يعينه الدليل المغلوب نفسه ، وهذا إنما يكون فيما إذا كان الدليل المغلوب يتحمل أكثر من معنى واحد وإن كان ظاهراً في واحد منها وهو الّذي عارضه فيه الدليل الغالب. وحينئذ إذا افترضنا أن المعنى الآخر كان هو البديل الوحيد للمعنى الأولي الّذي رفع اليد عنه بالدليل الغالب لم نكن بحاجة في إثبات ذلك المعنى إلى افتراض عناية إضافية ، وأما إذا لم يكن ذلك المعنى هو البديل المنحصر بأن كانت هنا لك مجازات عديدة للفظ مثلاً ، فلا بد في تعيين أحدها بالخصوص من افتراض ظهور ثانوي للدليل المغلوب في إرادة ذلك المعنى على تقدير عدم إرادة معناه الحقيقي الأولي.

ويمكننا أن نطبق أكثر هذه الأنحاء من النتائج على المثال الفقهي المعروف ، وهو حمل دليل الأمر على الاستحباب بعد مجيء دليل الترخيص ، وذلك بحسب اختلاف المباني في وجه دلالة الأمر على الوجوب. فإنه على مسلك مدرسة المحقق النائيني ـ قده ـ القائل بأن الوجوب مستفاد بحكم العقل وليس مدلولاً لفظياً للأمر يندرج هذا المثال في النحو الثاني ، حيث لا يكون أي تناف بين مدلول دليل الترخيص مع الأمر بل يبقى دليل الأمر محتفظاً بتمام مدلوله ـ وهو الطلب ـ وإنما الّذي ارتفع موضوعه هو حكم العقل بالوجوب.

وبناء على المسلك القائل بأن الوجوب يستفاد من الأمر ببركة الإطلاق وجريان مقدمات الحكمة ، حيث أن إطلاق الطلب يقتضي الطلب المطلق الّذي هو الوجوب. يكون هذا المثال من النحو الثالث الّذي يتبقى فيه للدليل المغلوب جزء من مدلوله ، وهو أصل الطلب.

وبناء على المسلك المختار في باب الأمر من أن دلالته على الوجوب بالوضع

٢١٥

لا بد في حمله على الاستحباب من تطبيق النحو الخامس ودعوى : أن الأمر له ظهور وضعي أولي في الوجوب ، وظهور ثانوي في الاستحباب عند عدم إرادة الوجوب منه. فإن الميزان في الحجية إنما هو الظهور دائماً ، فما لم يكن للكلام ظهور في المعنى المراد إثباته لا يمكن تعيينه من بين المعاني المحتملة ، كما هو واضح.

٢١٦

القِسم الثاني

التعَارُض المُستَقِرّ

٢١٧
٢١٨

تقسيم البَحث في التعارُض المُستَقِرّ

التعارض المستقر ـ على ما تقدم ـ عبارة عن التنافي بين الدليلين بنحو يسري إلى دليل الحجية ، فيقع التنافي في اقتضاءات دليل الحجية العام لشمول الدليلين معاً. وهذا النحو من التعارض إنما يكون في الموارد التي لا ينطبق عليها أحد أقسام الجمع العرفي المتقدمة في التعارض غير المستقر.

والبحث عن التعارض المستقر يقع في مسألتين رئيسيتين.

المسألة الأولى ـ أن التعارض إذا كان مستقراً وسارياً إلى دليل الحجية ، فما هو مقتضى دليل الحجية العام فيها؟ التساقط أو التخيير أو الترجيح.

المسألة الثانية ـ أن التعارض المستقر هل عولج حكمه في دليل خاص وراء دليل الحجية العام؟ وما هو ذاك العلاج ، وهل يشمل التعارض غير المستقر أيضا أم لا؟

٢١٩
٢٢٠