بحوث في علم الأصول - ج ٧

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٧

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٢٧

الإضافية التي يحتاجها التقييد بالمنفصل لإثبات عدم سراية المعارضة إلى دليل الحجية. فالكلام إذن في أمرين.

الأمر الأول ـ في أن مقدمات الحكمة التي هي منشأ الدلالة الإطلاقية هل تتوقف على عدم الدال على التقييد ولو منفصلاً فيكون المقيد المنفصل وارداً أيضا على دليليتها أم لا؟ الصحيح : أن الدلالة الإطلاقية تتوقف على عدم المقيد المتصل فحسب ، ومجيء المقيد المنفصل لا يرفع الدلالة الإطلاقية وإنما يوجب سقوطها عن الحجية. والبرهان على ذلك : ما نجده من تمامية الدلالة الإطلاقية وانعقادها وصحة التمسك بها بمجرد انتهاء المتكلم من المطلق وعدم نصب قرينة على تقييده ، في حين أن الدلالة الإطلاقية لو كانت متوقفة على عدم القرينة المنفصلة على التقييد أيضا لما أمكن إثبات الإطلاق في مورد ولا نسد باب مقدمات الحكمة ، إذ لا يمكن إحراز شرطه وهو عدم التقييد المنفصل. ولا يتوهم : إمكان إحرازه بأصالة عدم القرينة ، لأن أصالة عدم القرينة إنما تجري فيما إذا كان هناك ظهور في مقام الإثبات يقتضي إفادة معنى واحتمل ورود القرينة على خلافه ففي مثل ذلك تجري أصالة عدم القرينة ، ومرجعها لباً إلى أصالة الظهور وعدم جواز رفع اليد عن كشفه النوعيّ لمجرد الاحتمال. وأما في المقام ، فلا يوجد ـ بقطع النّظر عن مقدمات الحكمة ـ أي ظهور يقتضي إفادة الإطلاق.

وإن شئت قلت : إن أصالة عدم القرينة إنما تجري فيما إذا كانت القرينة المنفية بالأصل موجبة لتكذيب ظهور متحقق في مقام الإثبات ، لأن هذا الظهور بنفسه يكون كاشفاً نوعياً عن عدمها ، وأما إذا لم تكن موجبة لذلك فلا كاشف نوعي عن عدمها ولا يجري العقلاء أصالة عدم القرينة فيه لأنهم يجرون هذا الأصل بلحاظ الطريقية والكاشفية لا من باب التعبد الصرف. وهناك محاولة من السيد الأستاذ ـ دام ظله ـ ذكرها لإثبات تقديم العموم الوضعي على الإطلاق الحكمي مفادها توقف الدلالة الإطلاقية على عدم

١٨١

التقييد بالمنفصل في موارد الشك في التقييد ، من دون أن يبتلي المطلق بالإجمال. وهي : أن عدم بيان المقيد الّذي هو جزء من مقدمات الحكمة إنما هو عدم مطلق التقييد سواء كان متصلاً أو منفصلاً ، ولكن لا بأن يكون عدم القرينة المنفصلة المتأخرة شرطاً في انعقاد الإطلاق المتقدم حتى يبتلي المطلق بمحذور الإجمال وعدم إمكان إحراز الإطلاق فيه ، بل بأن يكون الظهور الإطلاقي في كل زمان موقوفاً على عدم بيان القيد إلى ذلك الزمان فعند ما يرد الخطاب المطلق ولا قرينة على التقييد انعقد بذلك ظهور يكشف بالفعل عن الإطلاقي ويبقى هذا الظهور مستمراً ما دام لم يجئ القرينة على التقييد ، فإذا جاءت القرينة ارتفع هذا الظهور لمجيء البيان الكاشف عن أن المراد الجدي كان هو المقيد من أول الأمر (١)

وبهذا التقريب يتفادى محذور الإجمال عند احتمال القرينة المنفصلة فيمكن إحراز الإطلاق ، لأن الظهور الإطلاقي فعلي مع قطع النّظر عن القرينة المحتملة فيكون مكذباً لاحتمال وجود القرينة وكاشفاً عن عدمها.

وقد فرع ـ دام ظله ـ على تصويره للدلالة الإطلاقية بالنحو المذكور نتائج عديدة ، أهمها تقديم العموم على الإطلاق في مقام التعارض باعتبار كون العام بياناً صالحاً لرفع الدلالة الإطلاقية المتوقفة على عدم البيان.

هذا ، والصحيح : عدم تمامية التوجيه المذكور أيضا ، فإنه إذا كان المقصود من ارتفاع الظهور ، وكشف القرينة المنفصلة عن إرادة المقيّد من أول الأمر ، ارتفاع حجيته لا أصل ظهوره وكاشفيته ، فهذا يعني تمامية الدلالة الإطلاقية وعدم توقفها إلاّ على عدم التقييد المتصل فتكون الدلالة الإطلاقية الحكمية كالدلالة الأداتية الوضعيّة من حيث انعقادهما بمجرد انتهاء الكلام وعدم اتصال القرينة على الخلاف ، ولكن هذا عكس المقصود تماماً ولا يكون

__________________

(١) مصباح الأصول ، ص ٣٧٧.

١٨٢

وجهاً لتقديم العموم على الإطلاق.

وإن كان المقصود من ارتفاع الظهور الفعلي أن القرينة المنفصلة تهدم الظهور التصديقي للمطلق في إرادة الإطلاق فعندئذ لا يبقى معنى محصل للتقريب المذكور ، إذ المتكلم إما أن يكون ظاهر حاله أنه في مقام بيان تمام مراده الجدي بشخص خطابه المطلق ، فهذا يعني أن مجرد عدم نصب القرينة متصلاً بالمطلق كاف في انعقاد الظهور التصديقي المذكور ، ولا يكون هذا الظهور مرفوعاً بعد ذلك بمجيء القرينة المنفصلة وإنما ترتفع حجيته كما هو واضح. وإما أن يكون المتكلم في مقام بيان تمام مراده الجدي من مجموع خطاباته لا خطابه المطلق خاصة. فهذا يعني عدم انعقاد ظهور تصديقي لإرادة الإطلاق من الخطاب المطلق إلاّ بعد ملاحظة مجموع ما صدر أو سوف يصدر من خطابات إذا كان المتكلم ممن يتدرج في مقام بيان مرامه ، فيعود محذور الإجمال عند احتمال وجود المقيد ولو منفصلاً. وليست هناك حالة وسطى بين الحالتين كي يقال مثلاً أننا نفرض أن ظاهر حال المتكلم في كل زمان أن يفصح عن مراده بلحاظ مجموع ما صدر من كلماته إلى ذلك الزمان ، لأن ذلك يعني أن للمتكلم في كل زمان مراداً يختلف عن مراده في الزمان الآخر باختلاف ما صدر منه ، وهذا خلف ، إذ المفروض أن هناك حكماً واقعياً واحداً يكشف المخصص متى جاء عن حدوده وقيوده من أول الأمر.

هذا ، مضافاً إلى أن هذا التقريب يرد في حقه تساؤل آخر حاصله : أن الرافع للظهور الإطلاقي بالنسبة لكل زمان هل هو وصول البيان أو يكفي وجوده الواقعي ولو لم يصل. أما الأول فلا معنى لادعائه لوضوح أن خصوصية الوصول غير دخيلة في تكوين الظهورات بل في الحجية والتنجيز والتعذير فحسب.

وأما الثاني فيلزم منه الإجمال في كل زمان احتملنا فيه وجود بيان على التقييد ، إذ على تقدير وجوده واقعاً يكون الإطلاق مرتفعاً في ذلك الزمان ،

١٨٣

ولا يمكن التمسك فيه بأصالة عدم القرينة لنفي هذا الاحتمال لأنها فرع وجود كاشف فعلي عن الإطلاق كما تقدمت الإشارة إليه.

الأمر الثاني ـ فيما يمكن أن يكون أساساً لتقديم المقيدات المنفصلة. والصحيح أن ما يمكن أن يكون أساساً لذلك هو القرينية بوصفها ملاكاً للجمع العرفي على ما تقدم توضيحه. وعلى هذا الأساس نقول : أن تقديم المقيد على المطلق بملاك القرينية بعد فرض انعقاد الظهور الإطلاقي في المطلق بالفعل يتوقف على دعوى قرينيته بلحاظ المرحلة الثالثة من الظهور بأن يقال ، ان البيان المخالف الأخص موضوعاً معد عرفاً لتفسير الأعم ولو كان منفصلاً عنه. وهكذا نرى : أن إثبات تقدم المقيد المنفصل على المطلق وعدم سريان التعارض بينهما إلى دليل الحجية موقوف على التسليم كبروياً بنكتة تقدم الحاكم على المحكوم وأن ظهور ما يعده المتكلم لتفسير كلامه يكون هو المحدد النهائيّ لمدلول مجموع كلماته ، وضم مصادرة أخرى تثبت صغرى هذه النكتة ، وهي وجود كاشف نوعي عن إعداد المتكلم للبيان المخالف الأخص موضوعاً لتفسير الأعم ، والكاشف النوعيّ هو بناء العرف على ذلك ، وأصالة تبعية المتكلم للبناءات العرفية في مجال المحاورة.

١٨٤

التخصيص

التخصيص عبارة عن رفع اليد عن الإطلاق الثابت بالوضع وأدوات العموم باعتبار وجود دال على التخصيص ، والدال على التخصيص تارة يكون متصلاً بالعامّ وأخرى يكون منفصلاً عنه ، فالبحث يقع في مقامين.

المقام الأول ـ في التخصيص بالمتصل : وهو ما إذا كان الدال على التخصيص متصلاً بالعامّ. ولا إشكال في تقديم المخصص المتصل على العام وإنما يقع البحث عنه في الجواب على السؤالين التاليين.

الأول ـ ما هو التخريج الفني لملاك تقديم الخاصّ المتصل على العام.

الثاني ـ ما يبحث عنه عادة في مباحث العام والخاصّ ، من أن العام كيف صح أن يكون حجة في تمام الباقي مع أن نسبته إليه أو غيره من مقادير الأفراد غير المخصصة على حد سواء.

ولتوضيح الجواب على هذين السؤالين لا بد من استعراض أقسام التخصيص بالمتصل ، فإنه يقع بأحد أنحاء ثلاثة. وهي تختلف في النكات والخصوصيات التي على أساسها يمكن أن يصاغ الملاك الفني للتقديم.

القسم الأول ـ التخصيص بالمتصل الّذي يكون مدخولاً لأداة العموم ، كما هو الحال في التخصيص بالوصف وشبهه من قبيل ( أكرم كل عالم عادل ).

١٨٥

وفي هذا القسم من التخصيص لا نواجه بحسب الحقيقة أي تعارض أو تناف بين الدال على العموم والدال على التخصيص ، لا بلحاظ مرحلة المدلول التصوري ولا بلحاظ مرحلة المدلول التصديقي. لأن أدوات العموم موضوعة للدلالة على عموم أفراد مجموع ما يقع مدخولاً لها لا خصوص ما يتعقبها ويتصل بها من العناوين. وهذا يعني أن التقييد بالوصف يتم في مرحلة سابقة على العموم ويكون العموم طارئاً على العنوان المقيد من أول الأمر.

وعلى هذا الأساس يتضح : أنه لا موضوع في هذا القسم من التخصيص بالمتصل للسؤالين المطروحين آنفاً إذ لم تنعقد دلالتان فعليتان إحداهما في العموم ، والأخرى في الخصوص ويراد تقديم إحداهما على الأخرى كي يفتش عن ملاك للتقديم.

كما أن العام إنما كان حجة في تمام الباقي في هذا القسم باعتبار أن عمومه لم يخصص ولم يقتطع منه شيء أصلاً وإنما انصب العموم من أول الأمر على العنوان المقيد ، فيكون الباقي هو تمام العام.

القسم الثاني ـ التخصيص بالاستثناء ، من قبيل ( أكرم كل الشعراء إلا الفساق ) وفي هذا القسم من التخصيص المتصل تكون الدلالة على العموم منعقدة في نفسها لاكتمال مدخول الأداة قبل الاستثناء لعدم كون الاستثناء جزءً من مدخولها وإنما هو نظير قولنا ( أكرم هؤلاء العشرة إلاّ زيداً ) من حيث انعقاد الدلالة على العشرة في نفسها ولكنه قد اقتطع منها المستثنى.

والتحقيق في هذا القسم : أنه يوجد فيه ثلاث دلالات. إحداها : دلالة الأداة على العموم. والثانية : دلالة أداة الاستثناء على الاقتطاع وعدم شمول حكم المستثنى منه للمستثنى. والثالثة : دلالة الحالة السياقية المتحصلة من العام المتعقب بالاستثناء على العموم المقتطع منه بمقدار الخاصّ المستثنى. وهذه الدلالة هي التي تستقر في الذهن أخيراً ، فإن للحالة السياقية تأثيراً في تكوين الظهور

١٨٦

التصوري للكلام على ما تقدم شرحه سابقاً.

والدليل على ما ندعيه : ما يشهد به الوجدان من انسباق المدلول المذكور إلى الذهن من مجرد سماع اللفظ ولو لم يكن من متكلم ذي شعور ، ولا يكون ذلك إلاّ على أساس تأثير الحالة السياقية في المدلول التصوري للكلام بقطع النّظر عن مدلوله التصديقي والإرادة التصديقية من ورائه.

وبهذا يتضح : أنه في هذا القسم ولو كان يوجد بحسب ما هو المدلول الأولي للكلام دلالتان متنافيتان تدل إحداهما على العموم ، والأخرى على الخصوص ، إلاّ أنه مع ذلك لا يوجد تعارض حقيقي بين الدليلين ، لأن دليلية الدليل إنما تكون بدلالته النهائيّة المستقرة ، والدلالتان المذكورتان ليستا كذلك لأنهما تندمجان في الدلالة الثالثة السياقية التي هي الدلالة المستقرة من مجموع الكلام. ومنه يظهر الجواب على السؤالين المطروحين في مستهل البحث ، فإننا أيضا لا نواجه في هذا القسم من التخصيص دلالتين مستقرتين متنافيتين كي يتساءل عن وجه تقديم إحداهما على الأخرى ، ووجه حجية العام بعد تقديم الخاصّ عليه في تمام الباقي ، وإنما هي دلالة واحدة على العام المقتطع منه بمقدار الخاصّ فتكون هي موضوع حجية الظهور. وقد تقدم في بحث القرينية أن ما هو قرينة بلحاظ مرحلة الظهور التصوري وما يوجب سياقاً يعطي للكلام مدلولاً تصورياً يختلف عن مدلوله التصوري الأولي لا نحتاج في إثبات تقديم ظهورها ـ وهو الخاصّ في المقام ـ على ظهور ذي القرينة ـ وهو العام ـ وعدم سريان التعارض منهما إلى دليل الحجية إلى أي مصادرة إضافية زائداً على حجية الظهور.

القسم الثالث ـ التخصيص بما لا يكون قيداً لمدخول أداة العموم ولا تكملة للجملة الدالة عليه كالاستثناء ، وإنما يكون جملة مستقلة تعقبت العام ودلت على خلاف حكمه في موضوع تكون نسبته المنطقية إلى موضوع العام العموم والخصوص المطلق من قبيل ( لا يجب إكرام أي عالم ، وأكرم الفقيه ).

١٨٧

وللإجابة على السؤالين السابقين في هذا القسم من التخصيص يمكن أن تذكر عدة محاولات :

المحاولة الأولى ـ دعوى تعميم النكتة التي ذكرناها في القسم السابق من التخصيص بالمتصل إلى هذا القسم بتقريب : أن الجملتين المتعاقبتين وإن كان لكل منهما بحسب طبعهما الأولي مدلولاً تصورياً ينافي الآخر إلاّ أن سياق التعاقب بين جملتين متنافيتين تكون نسبة موضوع إحداهما إلى موضوع الأخرى العموم والخصوص المطلق يعطي للكلام ظهوراً تصورياً ثالثاً هو العام المقتطع منه بمقدار الخاصّ فيكون هو المدلول التصوري النهائيّ للكلام.

وعلى أساس هذه المحاولة سوف لن نحتاج أيضا في إثبات تقديم الخاصّ على العام وعدم سريان التعارض إلى دليل الحجية إلى مصادرة إضافية زائداً على حجية الظهور ، بل يكون حكم هذا القسم هو حكم القسم السابق ، وصيغة الإجابة على السؤالين فيه نفس تلك الصيغة المتقدمة.

إلاّ أن هذه المحاولة مما لا يمكن المساعدة عليها ، لأن هذا الظهور التصوري الثالث إنما يكون بأحد منشأين. الوضع أو الغرابة وعدم أنس الذهن للمعنى الأولي ـ على ما تقدم شرحه في بحث القرينية ـ والأول من هذين المنشأين عهدة ادعائه في المقام على مدعيها ، إذ لم يثبت أن سياق التقارن بين جملتين إحداهما أعم من الأخرى موضوع لغة لمدلول تصوري ثالث. والثاني منهما أيضا لا ينطبق في المقام ، لأن الحديث في هذا القسم عن جملتين مستقلتين يوجد بينهما التناقض المنطقي ، وواضح أن عدم التناقض من شئون مرحلة المدلول التصديقي لا التصوري فلا يكون منشأ للتأثير في المداليل التصورية.

ومما ينبه الوجدان العرفي على عدم وجود مثل هذه الدلالة التصورية الثالثة هو أنا لو سمعنا الجملتين من لافظ غير ذي شعور لم نكن نتصور أكثر من

١٨٨

معنيين متناقضين منطقياً في حين أن الدلالات السياقية التصورية لا يفرق فيها بين سماع اللفظ من ذي شعور أو غير ذي شعور.

المحاولة الثانية ـ وتبتني على ما ذهب إليه المحقق النائيني ـ قده ـ في بحث العام والخاصّ من أن أدوات العموم تدل على عموم ما يراد من مدخوله لا ما وضع له مدخوله ، فإنه بناء على أساس هذا المبنى سوف تكون دلالة الأداة على العموم في طول الإطلاق وجريان مقدمات الحكمة التي تحدد ما يراد من مدخوله. ويكون كل ما يمنع عن جريان مقدمات الحكمة لإثبات إطلاق مدخول الأداة رافعاً لموضوع دلالتها على العموم ، ومن الواضح أن الخاصّ المتعقب للعام صالح لأن يكون بياناً مانعاً عن جريان مقدمات الحكمة بمقداره وإن لم يكن جزءً من مدخول الأداة فيرتفع موضوع العموم ولا ينعقد من أول الأمر إلاّ بمقدار الباقي الّذي قد تمت فيه مقدمات الحكمة.

وعلى أساس هذه المحاولة سوف يكون الموقف من السؤالين المطروحين في أول البحث نفس الموقف الّذي كنا نقفه في القسم الأول من التخصيص بالمتصل وهو الخاصّ الّذي يكون جزءً من مدخول الأداة ، إذ هما يشتركان في ورود التقييد في المرتبة السابقة على العموم وعدم انعقاد العموم إلاّ بمقدار المقيد فلا تعارض بين عام وخاص كي يتساءل عن وجه تقديم الخاصّ أو وجه حجية العام المخصص في تمام الباقي كما هو واضح.

وقد يناقش في هذا الأصل الموضوعي الّذي تبتني عليه هذه المحاولة بلزوم لغوية وضع أدوات العموم إذا فرض أن دلالتها على ذلك في طول إجراء الإطلاق ومقدمات الحكمة.

غير أن هذا النقاش يكفي في مقام رده أن يقال : بأن الثمرة المطلوبة لتصحيح الوضع واللغة لا يشترط فيها أن تكون ثمرة فقهية أو أصولية وإنما يشترط فيها أن تكون ثمرة بحسب اللغة وعالم معاني الألفاظ ، بأن تكون هنالك صورة جديدة من المعنى يحققها الوضع الجديد للفظ وهذا محفوظ في المقام

١٨٩

باعتبار أن المعنى المتحصل ببركة أدوات العموم ، وهو سريان الحكم إلى كل فرد فرد من ذلك العنوان العام ، لم يكن يمكن تحصيله بالإطلاق ومقدمات الحكمة فإنها لا تفي إلاّ بإثبات الحكم على الطبيعة دون الأفراد.

والصحيح في إبطال هذا المسلك أن يقال : بأنه خلط بين الدلالة التّصورية والدلالة التصديقية. إذ ما ذا يقصد بالمراد في القول بأن أداة العموم وضعت لتدل على العموم بلحاظ ما يراد من مدخولها؟ فهل يقصد مفهوم المراد أو يقصد واقع المراد؟ لا مجال لتوهم الأول إذ من الواضح عدم تبادر مفهوم المراد إلى الذهن من العام. والثاني مدلول تصديقي وليس مدلولاً تصورياً فلا يمكن أن يكون هو مدلول الأداة لأن المداليل اللفظية الوضعيّة تصورية وليست تصديقية ، على ما حققناه مفصلاً في مباحث الوضع. فلو كانت أدوات العموم غير موضوعة لعموم ما يصدق عليه العنوان المدخول عليه الأداة لزم أن لا يكون لها مدلول تصوري ولا ينتقش في الذهن شيء عند سماعها من لافظ غير ذي شعور كالجدار مثلاً وهذا واضح الفساد ، إذ لا شك في أننا حينما نسمع العام من لافظ غير ذي شعور ننتقل إلى معنى العموم أيضا.

هذا ، مضافاً إلى أن الالتزام بهذا المسالك لا يكفي في تصحيح هذه المحاولة للإجابة على كلا السؤالين السابقين في جميع الحالات ، بل يبقى السؤال عن وجه تقديم الخاصّ على العام قائماً فيما إذا فرض أن دلالة الخاصّ كانت أيضا بالإطلاق ومقدمات الحكمة ، كما إذا افترضنا ان دلالة صيغة الأمر على الوجوب بالإطلاق وورد ( لا يجب إكرام أي عالم ، وأكرم الفقيه ) فإنه في مثل ذلك كما يمكن جعل الخاصّ رافعاً للإطلاق ومقدمات الحكمة من العام كذلك يمكن اعتبار العام رافعاً للإطلاق ومقدمات الحكمة الجارية في صيغة الأمر فيحمل على الاستحباب.

المحاولة الثالثة ـ دعوى أن الخاصّ المتعقب للعام إنما يتقدم عليه باعتبار

١٩٠

الأظهرية وأقوائية دلالته من دلالة العام ، فينطبق عليه قانون تقديم الأظهر على الظاهر وتقديم أقوى الدلالتين على أضعفهما.

وهذه المحاولة فيها نقطتان من الضعف.

الأولى ـ أنها لا تتمكن من تفسير تقدم الخاصّ على العام في مورد أظهرية دلالة العام من دلالة الخاصّ ، كما لو قال ( لا يجب إكرام أي عالم ، وأكرم النحوي ) وبنينا على أن دلالة الأمر على الوجوب بالإطلاق ومقدمات الحكمة التي تكون أضعف من دلالة الأداة على العموم ، فلا بد وأن يحمل الأمر في الخاصّ على الاستحباب حينئذ ، لأقوائية دلالة العام اللفظية على إطلاق صيغة الأمر الحكمي. فلما ذا يحمل العام على مَن عدا النحويين ويخصص الأقوى بالأضعف والأظهر بالظاهر؟

الثانية ـ إن هذا التفسير لو تم فإنما يعالج المشكلة الأولى في السؤالين المتقدمين. وأما المشكلة الثانية المرتبطة بالسؤال عن وجه بقاء العام حجة في تمام الباقي فلا تعالج بهذا التفسير. ولذلك التجأ أصحاب هذه المحاولة في علاج هذه المشكلة إلى بيان آخر ، وهو دعوى : التبعيض في الدلالات من حيث الحجية. حيث أن العام كان يدل على إرادة تمام أفراده فكل فرد منها كان مراداً ضمناً وعند ما تسقط إرادة بعض الأفراد بالتخصيص لا موجب لسقوط الباقي بل يبقى العام حجة في دلالاتها التضمنية الأخرى.

وقد نسب هذا البيان إلى الشيخ الأعظم ـ قده ـ مع حمل كلامه على إرادة مرحلة الدلالة الاستعمالية التي تكون على وزان المدلول التصوري للكلام. ومن ثم أشكلوا عليه : بأن الدلالة الاستعمالية هي الدلالة على إرادة إخطار المعنى الموضوع له اللفظ في ذهن السامع ، فإذا لم يرد العموم فقد استعمل اللفظ في غير ما وضع له رأساً. ومن هنا طبق المحقق الخراسانيّ ـ قده ـ والسيد الأستاذ ـ دام ظله ـ هذا البيان على مرحلة الدلالة التصديقية الثانية

١٩١

للكلام ، بتقريب : ان هناك دلالات جدية بعدد الأفراد ، فكل فرد يشمله العموم يكون ظاهر حال المتكلم دخوله في مراده الجدي ، فإذا سقط بعض تلك الدلالات فلا وجه لسقوط الباقي.

إلاّ أن هذا البيان أيضا لا يتم في العام المجموعي ولو فرض تماميته في العام الاستغراقي ـ كما أشرنا إلى ذلك في أحد تنبيهات الاستصحاب ـ إذ لا توجد في العام المجموعي دلالات تصديقية عديدة بعدد أفراد العام ، بل هناك دلالة تصديقية واحدة على إرادة المجموع كموضوع واحد ذي حكم واحد ، في حين أن مبنى حجية العام في تمام الباقي لا يفرق فيه بين العام المجموعي والعام الاستغراقي.

المحاولة الرابعة ـ ما ذكره المحقق النائيني ـ قده ـ من تقدم الخاصّ على العام بملاك القرينية ، وقد تقدم في بحث القرينية ، أن القرينة هي الدلالة المعدة إعداداً نوعياً لتفسير دلالة أخرى وتحويل مفادها إلى مفاد آخر ، وقد ذكرنا أن ذلك تارة يكون بلحاظ المرحلة التصورية من الدلالة وأخرى بلحاظ المرحلة التصديقية الاستعمالية أو الجدية.

فإن أريدت القرينية بلحاظ مرحلة الدلالة التصورية ، وأن الخاصّ الّذي يتعقب العام يشكل سياقاً يعطي الكلام مدلولاً تصورياً ثالثاً يتحصل من المزج بين الدلالتين الأوليين ، فهذا رجوع إلى المحاولة الأولى التي تقدم بيانها وبيان ما يتفرع عليها ، والظاهر أن أصحاب هذه المحاولة لا يقصدون القرينية بلحاظ هذه المرحلة. وإن أريدت القرينية بلحاظ الدلالة التصديقية ، وأن الخاصّ المتعقب يكون مفسراً للمدلول التصديقي الاستعمالي من العام ، فملاك تقديم الخاصّ المتصل على العام سوف يكون نفس ملاك تقدم الحاكم ، مع فارق أن الحاكم يثبت بإعداد شخصي ، والقرينة تكون إعداداً نوعياً عاماً ، ولذلك كان لا بد من افتراض وجود قرار نوعي على إعداد الخاصّ عرفاً لتفسير

١٩٢

المدلول التصديقي من العام ، الأمر الّذي يحقق بضم أصالة المتابعة صغرى نكتة الحكومة وأن ما يعد من قبل المتكلم لتفسير كلامه يكون ظهوره هو المعول عليه في فهم مراده ، كما شرحنا ذلك مفصلاً في بحث القرينية.

وهذا التخريج لتقدم الخاصّ على العام تام.

وأما حجية العام في تمام الباقي فقد لجأ أصحاب هذه المحاولة إلى تخريجها على أساس التكملة التي مضت في المحاولة السابقة. والتي تقدم أنها لا تفي بحل الأشكال في العام المجموعي.

والصحيح أنه يمكن تخريج حجية العام في تمام الباقي على أساس المحاولة نفسها فإن نكتة التقديم التي ذكرت فيها وهي كون الخاصّ قرينة نوعية على خلاف العموم لا تختص بالجانب السلبي من القرينية ، وهو إخراج مقدار مدلول الخاصّ عن العام فحسب ، بل الخاصّ معد عرفاً للقرينية بأصله على الجانب السلبي وهو إخراج مقدار الخاصّ وبحدّه على الجانب الإيجابي وهو كون الباقي بتمامه داخلاً تحت العموم ، أي كونه محدداً للعام ومفسراً للمراد منه كما هو الحال في الحاكم تماماً إلاّ من ناحية كون الاعداد نوعياً في القرينية وشخصياً في الحكومة ، على ما تقدم توضيحه في بحث القرينية.

وإن شئت قلت : إن مخالفة العام المجموعي بعدم إرادة شيء من أفراده أشد عناية وأكثر مخالفة في مقام المحاورة من إرادة البعض فيكون مقتضى الأصل عدم المخالفة الزائدة. وبهذا نثبت حجية الدلالات الارتباطية إذا كانت تضمنية على ما سوف يأتي الحديث عنه عند البحث عن مسألة التبعية بين الدلالة المطابقية والالتزامية في الحجية.

المقام الثاني ـ في التخصيص بالمنفصل ، وهو ما إذا كان الدال على التخصيص في خطاب منفصل عن خطاب العام.

وهنا لا تفيد المحاولات المتقدمة في التخصيص المتصل لإثبات تقديم

١٩٣

الخاصّ على العام ما لم تضف إليها مصادرة جديدة زائداً على المصادرات المتقدمة.

نعم ، تستثنى من تلك المحاولات المحاولة الثانية التي كانت تبتني على الرّأي القائل بأن أدوات العموم وضعت لعموم ما يراد من مدخوله ، بحيث كان لا بد من تحديد المراد في المرتبة السابقة بالإطلاق ومقدمات الحكمة ، فإن هذه المحاولة لو ضممنا إليها الرّأي القائل بأن الإطلاق يتوقف على عدم البيان المتصل والمنفصل معاً كانت وافية لتخريج نظرية التخصيص المنفصل ، ولكنه قد تقدم في نظرية التقييد أن عدم البيان الّذي هو إحدى مقدمات الحكمة لإثبات الإطلاق يراد به عدم البيان المتصل بالخصوص.

كما أن المحاولة الثالثة القائلة بتقديم الخاصّ المتصل لكونه أظهر وأقوى دلالة لو أريد منها التقدم في الحجية مع انعقاد كلا الظهورين ذاتاً لجرت في المقام أيضا. وأما لو أريد منها تقدم مقتضى الظهور الأقوى على مقتضى الظهور الأضعف في مقام التأثير لإيجاد الظهور النهائيّ الكاشف عن المراد ـ كما هو المنسجم مع القاعدة المشهورة القائلة بأن المخصص المتصل يهدم أصل الظهور في العام والمخصص المنفصل يهدم حجية ـ فهذه نكتة مختصة بالمخصص المتصل ولا يمكن تعميمها إلى المخصص المنفصل من دون افتراض مصادرة إضافية.

والمصادرة الإضافية التي تحتاجها نظرية التخصيص بالمنفصل يمكن توضيحها بافتراض إحدى الحالات التالية.

الحالة الأولى ـ أن يكون المخصص رغم انفصاله عن العام بحسب السماع وتعاقب الألفاظ متصلاً به بحسب عالم اقتناص المراد وفهمه من الكلام ، من قبيل ما إذا أخذه السعال إلى فترة في أثناء كلامه أو غشي عليه ثم بعد ارتفاع السعال أو الغشوة أتم كلامه وذكر الخاصّ ، فإنه بحسب النظام العرفي في المحاورة

١٩٤

لا إشكال في اعتبار هذا الخاصّ متصلاً بالعامّ والفاصل الزمني الواقع بينه وبين العام ملغى في مقام اقتناص المراد. ولذلك لا يقتنص السامع مراد المتكلم بمجرد سماعه لذلك العام بدعوى أنه لم يوصل به مخصصاً وإنما ينتظر إلى أن يفيق ليرى ما ذا يعقب عليه.

ويلحق بهذا ما لو لم يأخذه مانع قهري ولكنه كان هناك شاهد حال أو مقال يشهد بأن له كلاماً واحداً يذكره بشكل متقطع ، كالأستاذ المحاضر في موضوع واحد خلال أيام عديدة ، فإذا ثبت من حال المتكلم أو مقاله أنه سنخ شخص على خلاف النظام العام للمحاورة يتدرج في مقام بيان تمام مراده يقطع الكلام الواحد ويذكر العام في وقت والخاصّ في وقت آخر ، فإنه حينئذ يكون الخاصّ المنفصل متصلاً في كلام هذا الشخص من حيث كشفه عن المدلول التصديقي وإن لم يكن متصلاً بلحاظ المدلول التصوري.

وفي هذه الحالة لا نحتاج إلى مصادرة إضافية زائداً على ما تقدم في التخصيص المتصل إلاّ أنه باعتبار مخالفة هذا التقطيع مع الوضع العرفي والاعتيادي في مقام المحاورة يحتاج إلى وجود ما ينص على أن المتكلم يخالف العرف في الوضع الاعتيادي المذكور وأنه يلغي الفواصل الزمنية عن التأثير في افتراض الكلام مكتملاً وصالحاً لاقتناص المراد منه.

الحالة الثانية ـ أن يرد تعبد من المتكلم على إعطاء حكم الاتصال للظهورات المنفصلة وترتيب آثاره الشرعية عليها رغم كونه غير متصل حقيقة ، وهذا إنما يعقل في حق المتكلم المشرع ، وهو أيضا لا يحتاج إلى مزيد مصادرة وعناية غير ثبوت أصل هذا التعبد والتزيل.

الحالة الثالثة ـ ما إذا لم يفترض شيء مما سبق في الحالات السابقة ، ويحتاج تقديم الخاصّ على العام في ذلك إلى افتراض مصادرة جديدة هي توسيع لنطاق المصادرة التي كنا نحتاج إليها في بعض أقسام التخصيص المتصل ، وذلك بأن

١٩٥

يقال : إن إعداد البيان الأخص لكي يكون مفسراً لما هو المراد من العام لا يختص بفرض الاتصال بل يجري في فرض الانفصال أيضا. وبعبارة أخرى : أن الأمر دائر بين أن يكون المتكلم قد جعل كلامه الخاصّ قرينة على مراده من العام أو بالعكس بعد أن صدر منه مخالفة الفصل بين القرينة وذي القرينة على أي حال ، وهذا وإن لم يكن بالدقة من الدوران بين الأقل والأكثر في المئونة والمخالفة لأن ما هو القرينة إنما هو الخاصّ المتصل والمفروض عدم الانفصال فسواء أريد جعل الخاصّ المنفصل قرينة على العام أو العكس فليس هنالك أكثر من مخالفة واحدة. إلاّ أنه مع ذلك كأن في الثاني مزيد مئونة ومخالفة بحيث تكون بمثابة مخالفتين في التكلف والعناية ، فتكون منفية بأصالة عدم المخالفة الزائدة.

وهذه التوسعة هي المعبر عنها في كلمات المحقق النائيني ـ قده ـ والتي أرسلها كأصل مسلم به ، من أن كلما كان على فرض اتصاله قرينة هادمة للظهور كان في فرض الانفصال قرينة هادمة للحجية.

وهكذا يتضح : أن التخصيص بالمنفصل لا بد من تخريجه على أساس إحدى هذه الحالات ولا أثر في المقام للبحث عن أن النصوص الشرعية من أي قسم منها وإن كان يترتب على تعيين ذلك بعض الفوارق والآثار المرتبطة ببحث حجية الظهور من مباحث علم الأصول.

١٩٦

الأظهَرُ والظاهِر

ويعني بهما في المقام الدلالتان المتنافيتان اللتان تمتاز إحداهما على الأخرى بالأقوائية أو الصراحة. وهما أيضا تارة : يكونان متصلين في كلام واحد ، وأخرى : يكونان في كلامين منفصلين. وقد ذهبوا إلى تقديم الأظهر على الظاهر في كلا القسمين.

أما القسم الأول ، أي المتصلان ، فقد ذهبوا فيه إلى أن الأظهر يهدم ظهور الظاهر. ويمكن تخريج ذلك فنياً بأحد وجوه.

الأول ـ افتراض وقوع التزاحم بين المقتضيين للظهور التصوري من كل منهما في مقام التأثير لتعيين الصورة النهائيّة المستقرة في الذهن من اللفظ فيتغلب المقتضي الأقوى في مقام التأثير الّذي يتمثل في الأظهر بحسب الفرض ، فيكون المدلول التصوري المستقر من اللفظ على وفق الأظهر. فمثلاً قولنا ( رأيت أسداً يرمي ) يتزاحم فيه مقتضيان تصوريان أحدهما ما يقتضيه ( أسد ) من إعطاء صورة الحيوان لا الرّجل الشجاع ، وما يقتضيه ( يرمي ) من إعطاء صورة الرمي بالنبل لا بالنظر. وبعد غرابة إرادة المعنيين معاً على الذهن وعدم تقبله لصورة حيوان مفترس يرمي بالنبل ، فلا محالة يقع التزاحم بين المقتضيين المذكورين ويتغلب أقواهما لا محالة في تثبيت الصورة النهائيّة من بين الصورتين الحيوان المفترس الّذي يرمي بنظره ، والرّجل الشجاع الّذي يرمي بقوسه ـ على

١٩٧

ما تقدم شرحه في بحث القرينية بلحاظ المدلول التصوري ـ وهذا التطبيق وإن كان في مدلولي الكلمتين المستعملتين في الجملة الواحدة فهو تحليل للاستعمالات المجازية إلاّ أن نفس الفكرة ربما يدعى تطبيقها على موارد الظاهر والأظهر اللذان يكونان جملتين مستقلتين ، وبناء عليه ، لا يحتاج في تقديم الأظهر إلى أي مئونة أو مصادرة زائدا على كبرى حجية الظهور كما هو واضح.

إلاّ أن هذا الوجه مما لا يمكن المساعدة عليه ، لما تقدم في بحث التخصيص من أن القرينية بلحاظ مرحلة المدلول التصوري اما يكون بالوضع أو بالمناسبة ، وكلاهما لا يتم في الجملتين المستقلتين كما هو في الظاهر والأظهر.

الثاني ـ أن لا يقع تزاحم بين مقتضي الظهورين التصورين ، كما إذا فرض أنه لا يصعب على الذهن أن يتصور مدلوليهما معاً ، كما لو قال ( أكرم العلماء ، ولا بأس بترك إكرامهم ) فإن معنى الجملتين معاً ينطبع في الذهن على حد سواء ، غير أنه لا يمكن التصديق بإرادتهما معاً فيكون التزاحم بلحاظ مرحلة الظهور التصديقي. هنالك يقال : بأن الظهور التصديقي ينعقد على طبق ما يكون ظهوره التصوري أقوى وآكد ـ سواء كان منشأ الظهورات التصديقية هو الغلبة النوعية ، على أساس أن الغالب للمتكلم أن يقصد مدلول كلامه جداً ، أو التعهد النوعيّ من قبل المتكلم بأنه متى ما يأتي بكلام له معنى تصوري فهو قاصد له جداً وتكون الغلبة في طول هذا التعهد بنكتة أن الغالب فيمن يتعهد بشيء أن يفي بتعهده ـ إذ يمكن أن يقال بناء على الاتجاه الأول : بأن هناك تعهداً آخر على أن المتكلم كلما جاء بكلامين أحدهما أقوى وآكد في مدلوله التصوري يكون مقصوده على طبق الأظهر دون الظاهر. وبهذا يرجع هذا التقريب بحسب روحه إلى التقريب الآتي القائم على أساس القرينية. أو يقال : بوجود غلبة نوعية ابتداء في أن المتكلم المتعهد بإرادة المعنى من كلامه جداً يكون قاصداً للمعنى الأظهر في موارد صدور كلامين مختلفين منه ،

١٩٨

وبذلك ينعقد الظهور التصديقي النهائيّ على طبق الأظهر. فإن غلبة مطابقة المراد مع المدلول التصوري تشتد وتتأكد باشتداد الظهور في المدلول التصوري إذ كلما كان الظهور التصوري أقوى كانت غلبة إرادته وعدم إرادة خلافه أكثر وكذلك يقال بناءً على الاتجاه الثاني.

وبناء على هذا التخريج سوف لن نحتاج في تقديم الأظهر إلى أي مصادرة إضافية زائداً على كبرى حجية الظهور لأن الظاهر وإن كان محفوظاً في مرحلة الظهور التصوري إلاّ أنه في مرحلة الظهور التصديقي الّذي هو موضوع الحجية لا يوجد إلاّ ظهور واحد على وفق الأظهر كما هو واضح.

الثالث ـ تطبيق ما مضى في التخصيص من مصادرة القرينية بلحاظ المدلول التصديقي بالنحو المتقدم شرحه ، غاية الأمر لا بد وأن يفترض أن هذه القرينية في طول القرائن الأخرى كالتخصيص والتقيد والحكومة فلا تصل النوبة إليها إلاّ حيث لا يمكن علاج التعارض على أساس تلك القرائن. هذا كله في القسم الأول.

وأما القسم الثاني ، وهو ما إذا كان الظاهر والأظهر منفصلين فقد ذهبوا فيه إلى تقديم الأظهر على الظاهر في الحجية إلاّ أن شيئاً من الوجوه الثلاثة المتقدمة لا يتم فيه ، لأنها جميعاً موقوفة على انعقاد الدلالة التصورية أو التصديقية على خلاف الظاهر وهي لا تنعقد بالمنفصلات ، فنحتاج على هذا الأساس في إثبات تقديم الأظهر على الظاهر المنفصلين إلى مصادرة إضافية زائداً على ما تقدم في المتصلين وذلك بتعميم إحدى الحالات الثلاث التي ذكرناها لتخريج التخصيص بالمنفصل إلى الظاهر والأظهر أيضا.

إلاّ أن قاعدة تقديم الأظهر على الظاهر ـ سواء في المتصلين أو المنفصلين ـ إنما يمكن إعمالها فيما إذا كانت الأظهرية أو النصوصية في مرحلة الدلالة

١٩٩

بحسب ما يكتنف بالكلام من ملابسات وقرائن ، ولا تكفي النصوصية المتولّدة من مجرد علم خارجي يحصل صدفة ، كما ذا انتفى من الخارج احتمال في أحدهما موجود في الآخر. والوجه في ذلك واضح على ضوء ما تقدم ، فإن ملاك هذا التقديم إما القرينية أو التزاحم بين المقتضيين في مقام التأثير وكلاهما يختصان بما إذا كان الخطاب بما له من درجة الكشف والظهور قرينة أو أقوى اقتضاء من الآخر.

ثم أنه يمكن أن يخرج على أساس هذه القاعدة الجمع بين الخبرين المتعارضين بحمل ما يوافق منهما للعامة على التقية كجمع عرفي في حالات التعارض. وذلك بتطبيق الأظهرية أو النصوصية على مرحلة الظهور التصديقي من الدليلين المتعارضين فيما إذا أوجبت الموافقة أو المخالفة مع مجموع الملابسات والقرائن اختلافاً في درجة الظهور في الجدية.

إلاّ أن هذا الجمع لا يبعد أن يكون طولياً بالنسبة إلى أنحاء الجمع العرفي الأخرى فلا تصل النوبة إليه إلاّ بعد عدم إمكان التوصل إلى جمع عرفي بأحد تلك الأنحاء. وتطبيقاً لهذه الكبرى نستشهد بما ورد في الفقه في مسألة طهارة أهل الكتاب ونجاستهم ، فإن فيها طائفتين من الروايات دلت إحداهما بالصراحة على طهارة الكتابي ، ودلت الأخرى بالظهور على نجاسته (١) فلو لا أنه كان يمكن علاج هذا التعارض في مرحلة المدلول الاستعمال بحمل الأخبار الظاهرة في النجاسة على التنزه كنا نجمع بينهما بحمل أخبار الطهارة على التقية باعتبار موافقتها للعامة ومخالفة أخبار النجاسة لها.

ولعل النكتة في تأخر مرتبة هذا الجمع أن الجمع بأحد الأنحاء الأخرى أكثر شيوعاً وعمومية من الجمع بلحاظ مرحلة الدلالة الجدية ، فإن إرادة المقيد من المطلق أو الخاصّ من العام بناء عقلائي نوعي بخلاف إرادة التقية مما ظاهره الجدّ فهي عناية شخصية لظروف خاصة بالإمام فتكون أشد مخالفة.

__________________

(١) راجع الجزء الثالث من بحوث في شرح العروة الوثقى ، ص ٢٦٣.

٢٠٠