بحوث في علم الأصول - ج ٧

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٧

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٢٧

بإمكان الترتب في مطلق الأوامر إذ لا مانع من إطلاق ما هو مفادها حينئذ ـ وهو الطلب ـ للضدين معاً ، وإنما المحذور في وجوب الضدين بناء على استحالة الترتب ، والمفروض أنه حكم عقلي ينتزع من الطلب حيث لا ترخيص في الترك ، وفي موارد التزاحم يكون إطلاق الأمر لكل منهما دالاً بالتزام على جواز ترك الآخر إليه ، لأن فعله ملازم مع ترك الآخر فلا يعقل عدم الترخيص فيه مع طلب ملزومه ، فلا ينتزع العقل وجوبه في قبال الآخر.

وثانياً ـ عدم اندراج التزاحم في باب الورود ، سواء قيل بإمكان الترتب أو باستحالته ، لعدم التنافي بين ما هو مفاد الخطابين ـ وهو الطلب ـ لا في مرحلة الجعل ولا المجعول.

وثالثاً ـ عدم جريان شيء من أحكام التزاحم المتقدمة من الترجيح والتخيير فيه ، لأن ذلك فرع لزوم تقييد الخطاب بعدم الاشتغال بالمساوي والأهم فيكون كل منهما وارداً على الآخر بامتثاله ، فإذا فرض عدم لزوم التقييد فيما هو مفاد الأمر لم يكن شيء من الخطابين رافعاً لموضوع الآخر ولو كان أرجح.

ورابعاً : إمكان إثبات الملاك بإطلاق الخطاب في موارد العجز وعدم القدرة وبالتالي إثبات كون القدرة عقلية في الواجب.

وبعض هذه النتائج يترتب أيضا على القول بدلالة الأمر على الوجوب لفظاً بالإطلاق ومقدمات الحكمة.

١٦١
١٦٢

القرينية بأنواعِهَا

القرينية الشخصية ( الحكومة )

القرينية النوعية

( التقييد التخصيص ، الأظهرية )

١٦٣
١٦٤

القَرينيّة الشخصِيَّة

١ ـ نظرية الحكومة :

الحكومة عبارة عن نظر أحد الدليلين إلى الآخر بمعنى اشتماله على خصوصية تجعله ناظراً إلى مدلول الدليل الآخر ومحدوداً للمراد النهائيّ منه. ومن هنا نستطيع أن نعتبر الحكومة عبارة عن القرينية الشخصية لأحد الدليلين على الآخر حيث يكون الدليل الحاكم مشتملاً بحكم نظره إلى الدليل المحكوم على ظهور ثان زائداً على ظهوره الأول المخالف مع مفاد الدليل المحكوم وهو الظهور في أن المتكلم يجعل الظهور الأول هو المحدد النهائيّ لمرامه من الدليل المحكوم. وبذلك يكون الاختلاف بين الحكومة والتخصيص أو غيره من المجموع العرفية الأخرى اختلافاً جوهرياً لا بحسب اللفظ ولسان الدليل فحسب ، إذ القرينية في التخصيص قرينية نوعية عرفية وليس بإعداد شخصي من المتكلم نفسه على ما سوف يأتي توضيحه قريباً إن شاء الله.

وبهذا يعرف أيضا الفارق بين الحكومة والورود ، فإن موارد الورود تكون خارجة عن التعارض الحقيقي بين الدليلين على ما تقدم توضيحه في نظرية الورود ، في حين أن الحكومة ـ فيما إذا كان الدليل الحاكم يثبت خلاف ما يثبته المحكوم ـ يكون من حالات التعارض بين الدليلين مدلولاً ودلالة ، لأن نسبة الدليل الحاكم إلى الدليل المحكوم نسبة القرينة إلى ذي القرينة والقرينة

١٦٥

تنافي ذا القرينة ومجرد كون القرينة شخصية لا نوعية وبإعداد المتكلم نفسه لا بقانون عرفي عام لا يستوجب رفع التنافي بين الدليلين كما هو واضح. وعلى هذا الأساس كان لا بد في إثبات عدم سريان التعارض في حالات الحكومة إلى دليل الحجية وكونها من التعارض غير المستقر من التسليم بكبرى عرفية تقول : بأن ظهور ما يعده المتكلم لتفسير كلامه يكون هو المحدد النهائيّ لمدلول مجموع كلامه ، إذ من دون التسليم بهذه الكبرى كمصادرة عقلائية في باب المحاورات لا يكفي مجرد فرض الحكومة ونظر أحد الدليلين للآخر مبرراً لتقديمه عليه في الحجية. وهذه المصادرة التي افترضناها لنظرية الحكومة تكفي بنفسها لتخريج الحكومة وتقديم الدليل الحاكم على المحكوم سواء كان متصلاً به أو منفصلاً عنه فلا نحتاج في تقديم الحاكم المنفصل إلى مصادرة إضافية ـ كما نحتاج إليها في التخصيص على ما سوف يأتي ـ فإن نكتة أن للمتكلم أن ينصب القرينة بنفسه لتحديد مرامه من خطابه نسبتها إلى القرينة المتصلة والمنفصلة على حد سواء وإن كانت القرينة المتصلة تختلف عن المنفصلة من حيث تأثيرها على ظهور ذي القرينة وهدمها له في حين أن القرينة المنفصلة تهدم الحجية فحسب.

هذا ولكن هناك بيانين آخرين يترددان في كلمات مشهور المحققين لوجه تقديم الحاكم على المحكوم غير ما ذكرناه ، وهما.

البيان الأول : دعوى خروج موارد الحكومة عن التعارض الحقيقي بين الدليلين لأن الدليل المحكوم يدل على قضية شرطية مفادها ثبوت الجزاء على تقدير ثبوت الشرط ، فقوله تعالى ( وَحَرّمَ الرّبا ) (١) يدل على قضية شرطية مفادها أن ما كان رباً فهو حرام والقضايا الشرطية لا تتكفل إثبات الشرط أو نفيه إذ لا نظر لها إلاّ إلى الملازمة بين ثبوت الجزاء وثبوت الشرط والدليل الحاكم الدال على أنه لا ربا بين الوالد وولده ناظر إلى الشرط في

__________________

(١) سورة البقرة : آية ٣٧٥.

١٦٦

الدليل المحكوم إثباتاً أو نفياً ، فليس ما هو محط النفي في أحد الدليلين محط الإثبات في الدليل الآخر كي يتحقق التعارض بينهما.

وهذا البيان واضح البطلان ، ذلك أن القضية الشرطية وإن لم تكن متكلفة لإثبات الشرط أو نفيه ولكنها دالة على فعلية الجزاء عند تحقق الشرط ، بمعنى أنها بضميمة الدليل المثبت لفعلية الشرط ـ ولو كان هو العلم بتحققه ـ تدل على فعلية الجزاء والدليل الحاكم ينفي فعليته بنفي فعلية شرطه ، فإن كان الشرط المأخوذ في الشرطية ـ وهو الرّبا في المثال ـ ما كان ربا بنظر الشارع واعتباره ، إذن كان الدليل الدال على عدم اعتبار الزيادة بين الوالد والولد رباً وارداً عليه لا حاكماً لأنه يرفع موضوعه حقيقة لا تعبداً ، وإن كان الشرط ما هو رباً حقيقة فالتعارض بين مدلولي الدليلين ثابت لا محالة.

على أن هذا البيان قاصر عن إثبات وجه التقديم في جميع حالات الحكومة وأقسامها ، لأن منها ما لا يكون بلسان نفي الموضوع على ما يأتي تفصيله.

البيان الثاني ـ إن الدليل الحاكم يتعرض إلى شيء زائد لا يتعرض إليه الدليل المحكوم ، فالحاكم مثلاً يتعرض إلى أن الربابين الوالد وولده ليس رباً إضافة على تعرضه لعدم الحرمة. لكن المحكوم يتعرض لحرمة الرّبا فقط ولا يتعرض لكون ذلك رباً أو لا ، فيتقدم الأول على الثاني.

وهذا البيان أيضا لا يرجع إلى محصل ، فإن مجرد فرض تعرض الحاكم إلى شيء زائد لا يتعرض إليه المحكوم لا يكون سبباً للتقدم. نعم ، هذا يستلزم النّظر إلى المحكوم فيتقدم عليه بملاك القرينية الشخصية ولذا يتقدم عليه حينما يوجد النّظر وحده ولا يوجد تعرض لشيء زائد كما في بعض أقسام الحكومة من قبيل حكومة إطلاق دليل نفي الضرر والحرج على إطلاقات أدلة الأحكام الأولية.

إن قلت : قد يكون المقصود من هذا البيان تطبيق نكتة أخرى لتخريج الحكومة وهي نكتة تقديم أقوى الظهورين على أضعفهما ،

١٦٧

وذلك بتقريب : أن الحاكم يتعرض بمدلوله اللفظي لتحديد المراد الجدي من الدليل المحكوم ، بينما دلالة الدليل المحكوم إنما يكون بمقتضى الأصل والظهور الحالي والدلالة اللفظية أقوى وأظهر من مقتضى الأصل العقلائي.

قلنا : إن دلالة الدليل على جدية مدلوله أيضا يكون بمقتضى الأصل والظهور الحالي فيما إذا لم يكن صريحاً ، فلو لا افتراض نكتة النّظر وان حجية الظهور في الدليل المحكوم مقيدة بعدم نصب المتكلم نفسه قرينة شخصية على خلافه مما يجعل الأصل والظهور الحالي في جديد مدلول الحاكم حاكماً على حجية الظهور الحالي للدليل المحكوم ومحرزاً لموضوع ارتفاعه. أقول : لو لا هذه النكتة التي هي المصادرة التي ادعيناها لنظرية الحكومة لم يبق موجب للتقديم لأن الظهور التصديقي في كل من الحاكم والمحكوم كثيراً ما يكون بدرجة واحدة من الظهور والكاشفية وبملاك واحد.

٢ ـ أقسام الحكومة :

قد عرفت أن الدليل الحاكم يشتمل على خصوصية تجعله ناظراً إلى مفاد الدليل المحكوم وقرينة شخصية على تحديد المراد النهائيّ منه. وهذه الخصوصية تكون بأساليب ثلاثة رئيسية.

١ ـ لسان التفسير ، بأن يكون أحد الدليلين مفسراً للآخر ، سواء كان ذلك بأحد أدوات التفسير البارزة. مثل أو وأعني ، أو بما يكون مستبطناً لذلك. وهذه حكومة تفسيرية.

٢ ـ لسان التنزيل ، بأن يكون أحد الدليلين منزلاً لشيء منزلة موضوع الدليل الآخر كما إذا قال ( الطّوَافُ بالبَيتِ صَلاةٌ ) فإنه يكون حينئذ ناظراً إلى مفاد الدليل المحكوم من خلال التنزيل ، إذ لو لا نظره إليه وفرض ثبوت ما رتّب من الحكم على ذلك الموضوع فيه لم يكن التنزيل معقولاً وهذه حكومة تنزيلية.

١٦٨

٣ ـ مناسبات الحكم والموضوع المكتنفة بالدليل الحاكم وو التي تجعله ناظراً إلى مفاد الدليل المحكوم ، من قبيل ما يقال في أدلة نفي الضرر والحرج من ظهورها في نفي إطلاقات الأحكام الأولية لا نفي الحكم الضرري والحرجي ابتداء باعتبار أنه لم يكن من المترقب في الشريعة جعل أحكام ضررية بطبيعتها وإنما المترقب جعل أحكام قد تصبح ضررية أو حرجية في بعض الأحيان ، فتكون أدلة نفي الضرر والحرج بهذه المناسبة ناظرة إلى تلك الإطلاقات وبحكم الاستثناء منها ، ولنصطلح على هذا اللون من الحكومة بالحكومة المضمونية. والجامع بين أقسام الحكومة كلها ، أن الدليل الحاكم يكون ناظراً إلى مفاد الدليل المحكوم بمعنى أنه يشتمل على ظهور زائد يدل على أن المتكلم يريد تحديد مفاد الدليل المحكوم على ضوء الدليل الحاكم فيكون قرينة شخصية عليه.

وليعلم أن القرينة الشخصية كما تتحقق في حالات الحكومة عن طريق نظر أحد الدليلين إلى الآخر ، كذلك قد تتحقق على أساس تعيين أحد الدليلين للقرينية بموجب قرار شخصي عام من المتكلم ، كما إذا عين الشارع المحكمات التي هي أم الكتاب للقرينية على المتشابهات وتحديد المراد النهائيّ منها. فإنه في مثل ذلك يتقدم ظهور الدليل الّذي عين قرينة على ظهور الدليل الآخر بنفس ملاك تقدم الدليل الحاكم على الدليل المحكوم وإن لم يكن مشتملاً على خصوصية النّظر إلى الدليل الآخر.

هذا ، والسيد الأستاذ ـ دام ظله ـ لم يفسر الحكومة بتفسير جامع وإنما قسمها رأساً إلى قسمين وكأنه مشترك لفظي بينهما.

١ ـ الحكومة بملاك النّظر والشرح ، بحيث لو لا الدليل المحكوم لكان الدليل الحاكم لغواً. ومثّل لها بحكومة أدلة الأحكام الواقعية بعضها على بعض ، كحكومة دليل نفي الرّبا بين الوالد وولده على دليل حرمة الرّبا ، وحكومة دليل لا ضرر ولا ضرار على أدلة الأحكام الأولية.

١٦٩

٢ ـ الحكومة بملاك رفع الموضوع ، ومثل لها بحكومة الأحكام الظاهرية بعضها على بعض ، كحكومة الأمارات على الأصول العملية (١).

وكأن مقصوده ـ دام ظله ـ أن الحكومة في الأحكام الواقعية يكون بملاك النّظر دائماً إذ لو لا المحكوم للغا الحاكم ، في حين أنه ليس الأمر كذلك في حكومة الأحكام الظاهرية بعضها على بعض ، فإن دليل حجية الأمارة لا يلغو وإن فرض عدم ورود « رفع ما لا يعلمون » مثلا.

إلاّ أنك ترى أنه في باب الأحكام الواقعية أيضا قد لا يلغو الحاكم لو لم يرد المحكوم ، كما في حكومة دليل حجية الأمارة وجعلها علماً ـ حسب مبناهم ـ على دليل حرمة الإفتاء بغير العلم الّذي هو من أدلة الأحكام الواقعية.

وعلى أي حال ، فالحكومة لا تكون إلاّ بملاك النّظر والقرينية الشخصية وفرضها تارة بملاك النّظر وأخرى بملاك رفع الموضوع غير صحيح. وإنما الاختلاف في وسائل إثبات الناظرية وأساليبها التي تقدمت الإشارة إليها. وما أفيد في حكومة دليل الأمارة على دليل الأصل بملاك رفع الموضوع لو أريد منه ملاك مستقل للحكومة غير الناظرية ، فيرد عليه : أنه إن فرضت الغاية في الأصل مطلق ما يعتبره الشارع علماً فالدليل الّذي جعل الأمارة علماً يكون وارداً على دليل الأصل لا حاكماً عليه. وإن فرضت الغاية العلم الوجداني الّذي هو المعنى الحقيقي له ، فإن كان دليل جعل الأمارة علماً تعبداً إنما يجعل ذلك استطراقاً إلى ترتيب ما رتب في دليل الأصل على العلم من الأثر العملي ، أصبح ناظراً إلى مفاده ، وإن لم يكن كذلك وإنما دل على مجرد فرض غير العلم واعتباره علماً فهذا لا أثر له ، ولا يثبت به آثار العلم لا بالدليل المحكوم ، لأن الغاية فيه العلم الحقيقي لا الاعتباري ، ولا بالدليل الحاكم ، لأنه لم يدل على ترتيب أثر شرعي وإنما غايته أنه اعتبر ما ليس بعلم علماً ولا قيمة لمجرد هذا الاعتبار.

__________________

(١) نقل مع تصرف من مصباح الأصول ، ص ٣٤٨ ـ ٣٤٩.

١٧٠

٣ ـ أحكام الحكومة :

وبعد أن اتضحت نظرية الحكومة وحقيقتها لا بد وأن نشير إلى أهم أحكامها وهي كما يلي :

١ ـ إن الدليل الحاكم كالتخصيص من حيث أنه إذا كان متصلاً بالكلام يرفع الظهور وإذا كان منفصلاً عنه فيرفع الحجية دون الظهور. وهذا واضح بعد أن عرفنا أن ملاك الحكومة إنما هو القرينية الشخصية ، فإن القرينة كلما اتصلت بذي القرينة كانت صالحة لرفع الظهور وجعل مدلوله على وفق القرينة وإذا انفصلت عنه فتهدم حجيته ، بناء على المصادرة العقلائية المتقدمة القائلة بأن للمتكلم أن يحدد المراد النهائيّ لمدلول كلامه ، وأما ظهوره المنعقد فيبقى على حاله على توضيح وتفصيل تأتي الإشارة إليه في الجمع العرفي والقرينية النوعية.

٢ ـ إن موازين التمسك بالمحكوم عند الشك في الحاكم المنفصل بأقسامه هي نفس موازين التمسك بالعامّ عند الشك في مخصصه المنفصل بأقسامه ، فيجوز التمسك بالمحكوم في باب الحكومة عند ما يجوز التمسك بالعامّ في باب التخصيص ولا يجوز الأول حينما لا يجوز الثاني. كما أن ابتلاء الدليل الحاكم بالإجمال إذا كان متصلاً بالدليل المحكوم كابتلاء المخصص المتصل بذلك من حيث تأثيره على ما اتصل به وسريان الإجمال منه إليه ، والسبب في كل ذلك هو ما تقدم من أن تقديم الدليل الحاكم يكون بملاك القرينية.

٣ ـ إن الدليل الحاكم يتقدم ولو كانت دلالته من أضعف الظهورات على الدليل المحكوم ولو كانت دلالته من أقوى الظهورات ولا يطبق عليهما قانون تقديم أقوى الظهورين ، لأن حجية الظهور في الدليل المحكوم مقيدة ـ بحكم المصادرة المفترضة للحكومة ـ بأن لا يرد تفسير من المتكلم على الخلاف فأي ظهور يدل على ورود ذلك التفسير مهما كان ضعيفاً يستحيل

١٧١

أن يكون مزاحماً في الحجية مع ظهور الدليل المحكوم فلا تنتهي النوبة إلى تقديم أقوى الظهورين ، وهذا هو السبب في عدم ملاحظ النسبة أو درجة الظهور بين مفاد الدليل الحاكم ومفاد الدليل المحكوم في موارد الحكومة.

٤ ـ بعد أن عرفت أن الحكومة إنما تكون بالنظر فلا بدّ في إثبات أي حكم بالدليل الحاكم رفعاً أو وضعاً من إحراز نظر ذلك الدليل الحاكم إليه.

فلو دل الدليل على أن الطواف بالبيت صلاة ، فالمقدار الّذي يثبت من آثار الصلاة وأحكامها للطواف بهذا الدليل للطواف إنما يكون بمقدار نظر هذا الدليل إلى أحكام الصلاة ، لأن نكتة الحكومة إذا كانت عبارة عن النّظر والتفسير فلا محالة تتحدد بحدوده.

وكذلك الحال في حكومة أدلة نفي الحرج والضرر على أدلة الأحكام الأولية فإنها تحكم على أدلة الأحكام بمقدار إطلاق نظرها إليها لا أكثر وهذا واضح.

٥ ـ إن الحكومة تختص بالأدلة اللفظية ولا معنى لها في الأدلة العقلية واللبية ، لأن الحكومة على ما عرفت لا تكون تصرفاً حقيقياً في الدليل المحكوم ثبوتاً وإنما هي خصوصية النّظر في الدليل الحاكم إلى مفاد الدليل المحكوم والنّظر من شئون الدلالة اللفظية وخصائصها ، سواء كان نظراً تفسيرياً أو تنزيلياً أو بمناسبات الحكم والموضوع. فإن التفسير أسلوب من أساليب التعبير والتنزيل لا واقع له إلاّ في عالم التعبير والاستعمال ، ومناسبات الحكم والموضوع تنشئ ظهوراً في الدليل اللفظي فيصبح ذاك الظهور حجة وليست هي حجة مستقلة ، ولذلك لا يصح إعمالها وتحكيمها في الفقه على الأدلة اللبية كالإجماع ونحوه.

١٧٢

القَرينيّة النوعِيَّة

القرينية معناها : أن تكون هناك إفادتان ودلالتان تكون إحداهما معدة إعداداً عرفياً عاماً لتفسير الدلالة الأخرى وتحويل مفادها إلى مفاد آخر. والفرق بين الدليل القرينة والدليل الحاكم أن الدليل الحاكم معد إعداداً شخصياً من قبل المتكلم لتفسير الدليل المحكوم بقرينة نظر المتكلم فيه إلى الدليل المحكوم ، وأما في المقام فالإعداد قد لا يكون بجعل شخصي من قبل المتكلم وإنما يكون بجعل عرفي فهو إعداد نوعي لا شخصي ، ومقتضى عرفية المتكلم متابعته للعرف في ذلك فيثبت بأصالة المتابعة كون المتكلم قد أعد القرينة لتفسير ذي القرينة غير أن إعداده لذلك منكشف بكاشف نوعي لا بكاشف شخصي كما هو الحال في موارد الحكومة.

وإذا اتضح ذلك يتبين : أن ملاك تقدم القرينة على ذي القرينة هو نفس ملاك تقدم الحاكم على المحكوم ، لأن مجرد كون الكاشف عن نكتة التقدم شخصياً أو نوعياً لا يضر بانحفاظها وتأثيرها في عدم سريان المعارضة إلى دليل الحجية. والقرينية لها ثلاث مراتب تبعاً للرتب المتصورة للظهور في نفسه ، فإن الظهور على ثلاث مراحل.

الأولى ـ درجة الظهور التصوري ، وهو الظهور الّذي ينشأ بسبب الوضع والّذي لا يتوقف على أكثر من سماع اللفظ ولو كان من غير ذي شعور على ما

١٧٣

حققناه مفصلاً في أبحاث الوضع.

الثانية ـ درجة الظهور التصديقي بلحاظ الإرادة الاستعمالية ، وهو عبارة عن ظهور حالي في المتكلم يدل على أنه قاصد استعمال اللفظ في معناه وإخطاره إلى ذهن السامع ، ولذلك كان هذا الظهور دلالة تصديقية لا تصورية وبحاجة إلى أن يكون اللفظ صادراً من ذي شعور يتأتى منه الإرادة والقصد.

الثالثة ـ درجة الظهور التصديقي بلحاظ الإرادة الجدية ، الّذي هو عبارة عن ظهور حالي في التكلم أيضا يدل على أنه قاصد لمعنى كلامه جداً وليس بهازل أو ممتحن أو غير ذلك ، حيث أن ظاهر حال كل متكلم ملتفت أن داعيه منه هو الجد وبذلك تكون هذه المرحلة من الظهور دلالة تصديقية أيضا وبحاجة إلى أن يكون اللفظ صادراً عن ذي شعور كما هو الحال في الظهور التصديقي بلحاظ الإرادة الاستعمالية.

ومنشأ هذين الظهورين التصديقيين الحالييّين هو الغلبة الخارجية ، فإن الغالب فيمن يتكلم بكلام أن يكون قاصداً تفهيم معناه للمخاطب لا ناطقاً باللفظ فقط. وجديّاً في إرادته ذلك المعنى لا هازلاً أو ممتحناً أو متقياً.

ولا يبعد أن يكون ملاك هذه الغلبة هو التعهد النوعيّ العقلائي من قبل المتكلم في حالات المحاورة على قصد المعنى وإرادته جداً كلما يتكلم بكلام ، فإن التعهد يمكن أن يكون منشأ للدلالة التصديقية وتفسيراً لها ، وإن لم يكن يصلح لتفسير الدلالة الوضعيّة التصديقية عندنا ، على ما حققناه وشرحناه مفصلا في أبحاث الوضع.

فإذا اتضحت هذه المراحل الثلاث للظهور ، رجعنا إلى القرينية لنرى كيف تتصور في كل من هذه المراحل ، فنقول :

أما تصور القرينية بلحاظ المرحلة الأولى ، فلكي نفهم ذلك يجب أن نعرف أن الظهور التصوري للكلام تارة : يكون بسبب مفردات الكلام كما في أسد وشجرة وعالم ، وأخرى : يكون متحصلاً من هيئة المفرد أو الجملة ، وثالثة :

١٧٤

يكون بسبب ما نسميه بالسياق أو الهيئة التركيبية لمجموع الكلام ، فإن السياق بهذا المعنى قد يكون له مدلول تصوري وظهور زائد على الظهورات التصورية للمفردات والهيئات فحينما يقال : ( صلّ صلّ ) بنحو التكرار يكون التكرار دالاً على التأكيد ، ودلالته على ذلك تصورية ولهذا تكون محفوظة حتى عند سماع ذلك من لافظ بدون شعور ، فكما أن الدلالة لصلّ محفوظة لو صدرت من لافظ غير ذي شعور كذلك دلالة التكرار ـ الّذي هو لون من السياق ـ على التأكيد محفوظة حتى في هذه الحالة. وهذا يعني أن التأكيد بنحو المدلول التصوري مفهوم من الكلام قبل الوصول إلى مرتبة انتزاع المدلول التصديقي منه. وكذلك الأمر في قولنا ( أسد يرمي ) فإن هذه الجملة تدل على الرّجل الشجاع لا بحسب مرحلة المدلول التصديقي فحسب بل بحسب مرحلة المدلول التصوري أيضا ولهذا لا ينتقش منها في الذهن إلاّ ذلك عند سماعها ولو من لافظ غير ذي شعور ، وهذا يعني أن ضم كلمة ( يرمي ) إلى ( أسد ) أوجد سياقاً غيّر من الظهور التصوري لكلمة ( أسد ) وأنشأ ظهوراً تصورياً آخر في الرّجل الشجاع وهو الّذي يشكل الظهور التصوري الفعلي للكلام ، لأن الصورة التي يبرزها هي التي تستقر في النّفس ، وفي مثل هذه الحالة تكون كلمة ( يرمي ) قرينة بحسب مرحلة الظهور التصوري لأنها أدت إلى إيجاد سياق أوجب تغيير الظهور التصوري وقلبه إلى ظهور آخر.

وأما كيف يتكون للسياق ظهور تصوري بحيث قد يغلب الظهور التصوري الأولي للمفردات ، فهذا يتم بأحد سببين.

الأول ـ أن يكون السياق بنفسه موضوعاً لإفادة صورة معينة ، فكما أن وضع المفرد لمعناه يوجب دلالته التصورية عليه كذلك وضع السياق لمعنى ـ من قبيل وضع التكرار للتأكيد ـ يوجب الدلالة التصورية للسياق على ذلك المعنى.

الثاني ـ أن يكون نتيجة للأنس الذهني ، ففي مثل جملة ( رأيت أسداً

١٧٥

يرمي ) لو لاحظنا الظهورات التصورية لمفردات السياق نجد أن لدينا صورتين على مستوى التصور ، إحداهما صورة مطابقة لما تقتضيه المفردات بطبعها الأول الّذي وضعت له في اللغة وهي صورة حيوان مفترس بين يديه قوس وسهم يرمي بهما ، وصورة أخرى ثانوية تدل عليها المفردات بملاحظة مناسبتها للصورة الأولى وهي صورة رجل شجاع يرمي بالسهم. ورغم أن الأولى هي الصورة التي تتطابق مع المدلول الأولى للمفردات مع ذلك يستقر في الذهن بلا تأمل أو تردد الصورة الثانية لبعد الصورة الأولى عن الذهن وعدم اعتياد الذهن على رؤيتها فتكون هذه الغربة وعدم الأنس الذهني سبباً لخطور الصورة الثانية التي هي المدلول الثانوي المناسب مع الكلام واستقرارها في الذهن. هذا إذا كانت القرينة نصاً في معناها بحيث لم يكن يحتمل التأويل فيها وأما إذا كانت تتحمل التأويل بأن يراد من الرمي في المثال الرمي بالنظر مثلاً ، فمسألة عدم الأنس مع المعنى الحقيقي لمفردات الجملة لا تقتضي إلاّ صرف الذهن عن ذلك المعنى وأما تعيينه في معنى مجازي يكون تصرفاً في معنى اللفظ المتقدم ذكراً أو معنى مجازي يكون تصرفاً في مدلول اللفظ متأخر ، فبحاجة إلى إضافة نكتة زائدة.

وهذه النكتة بالإمكان تصويرها بأحد نحوين :

الأول ـ أن تكون الدلالة التصورية في أحدهما أقوى من دلالتها في الآخر ، فتتغلب عليها في مرحلة إخطار المعنى إلى ذهن المخاطب ، فإن الأقوائية والأظهرية كما تتصور بلحاظ مرحلة الدلالات التصديقية كذلك تتصور بلحاظ مرحلة الدلالة التصورية ، لأن منشأ الدلالة التصورية إنما هو القرن والأنس الحاصل بين اللفظ والمعنى في عالم الذهن ، وهذا له مراتب متفاوتة شدة وضعفاً ، فكلما كان الاقتران بين اللفظ ومعناه آكد كانت الدلالة التصورية أقوى وأظهر.

وهذا التصوير صحيح في نفسه ، لكنه لا يصلح لتفسير كافة موارد

١٧٦

القرينية ، فإن بعضها لا يشترط فيها أن تكون أظهر من ذي القرينة.

الثاني ـ أن الظهور التصوري لكل ما يكون ذيلاً في الكلام وفضلة يتقدم على الظهور التصوري لكل ما يكون متقدماً عليه وركناً من الكلام ، لأن هذا هو المنسجم مع طبيعة دور القرينة ـ وهو النّظر إلى مدلول ذي القرينة في مقام تحديد المراد النهائيّ منه ـ فإن جعل المتقدم ناظراً إلى تحديد المتأخر الّذي لم يذكر بعد ـ وقد لا يكون متعيناً في نظر المتكلم نفسه فضلاً عن السامع ـ خلاف الطبع جداً. وهذا هو الّذي يفسر لنا وقوع القرائن غالباً فضلة في الكلام.

وهذا التصوير صحيح أيضا ، وعلى أساسه يمكن تخريج القرينية حتى في مورد لا يكون فيه ظهور القرينة أقوى من ظهور ذيها.

وهكذا نقصد بالقرينية في مرحلة الظهور التصوري كل ما أوجب سياقاً أعطى للكلام مدلولاً تصوريا يختلف عن المدلول التصوري الّذي يقتضيه الطبع الأولى لمفرداته ، سواء كان إعطاء السياق لذلك على أساس الوضع أو على أساس الأنس الذهني.

وأما تصور القرينية بلحاظ المرحلة الثانية من الظهور ، أي الظهور التصديقي بلحاظ المراد الاستعمالي ، فهو بأن ينضم إلى الكلام ما يكون معداً لتفسير المراد الاستعمالي منه وتغيير مدلوله التصديقي الاستعمالي ، فإن كان هذا الاعداد ثابتاً بقرينة شخصية من قبل المتكلم كان المفسر واجداً لملاك الحكومة ـ كما إذا قال رأيت أسداً وأعني بذلك الرّجل الشجاع ـ وإن كان الإعداد ثابتاً بكاشف نوعي وجعل عرفي كان المفسر مجرد قرينة وليس حاكماً. وإن كان يتقدم بنفس ملاك تقدم الحاكم كما عرفت سابقاً.

وأما تصور القرينية بلحاظ المرحلة الثالثة من الظهور ، فهو بأن يوجد ما يكون معداً من قبل المتكلم لتفسير المراد التصديقي الجدي من الكلام السابق ، فإن كان معداً من قبل المتكلم لتفسير المراد التصديقي الجدي من

١٧٧

الكلام السابق كان الإعداد مبرزاً بقرينة شخصية فهو حاكم ، وإن كان مبرزاً بقرينة نوعية وهي القرار العرفي فهو مجرد قرينة وليس حاكماً.

ويجب ان يلاحظ هنا : أن القرينية بلحاظ المرحلة الأولى لا تحتاج في إثبات تقديم ظهور القرينة على ظهور ذي القرينة وعدم سريان التعارض إلى دليل الحجية إلى أي مصادرة إضافية وراء كبرى حجية الظهور ، لأن المفروض إفناء ظهور القرينة لظهور ذي القرينة. وإنما نحتاج إلى مصادرة إضافية في تقديم ظهور القرينة على ظهور ذي القرينة في مرحلة المدلول التصديقي بقسميه. والمصادرة هي نكتة تقدم الحاكم على المحكوم ، أي أن ما يعد من قبل المتكلم لتفسير كلامه يكون ظهوره هو المعوّل عليه في فهم مراده النهائيّ ، مضافاً إلى دعوى كون القرينة معداً إعداداً عرفياً لذلك الأمر الّذي يحقق بضم أصالة المتابعة صغرى تلك الكبرى. وهذه المصادرة وإن كانت تشترك مع المصادرة التي نحتاج إليها في القرائن المنفصلة والتي سنوضّحها الآن ، باعتبارهما معاً بملاكات عقلائية عامة ، إلاّ أنها تختلف عنها في أن هذه المصادرة ترجع إلى كيفية تطبيق كبرى حجية الظهور على الدليل لأنها تجري في مرحلة تشخيص أصل الظهور التصديقي في الدليل فلا تتضمن تصرفاً أو تقييداً في كبرى حجية الظهور ، وأما مصادرات القرائن المنفصلة فهي بحسب الحقيقة تضييقات على كبرى حجية الظهور باعتبار انحفاظ صغراها وعدم انثلامها بالقرينة المنفصلة. وأما الفرق بين ما تحتاجه القرينة المنفصلة من مصادرات وما تحتاجه القرينة المتصلة في مرحلة المدلول التصديقي فهو أن الأولى بحاجة إلى توسيع نطاق المصادرة التي تحتاجها الثانية ، وهي أن يقال : أن إعداد البيان الأخص لكي يكون مفسراً لا يختص بفرض الاتصال بل يجري في فرض الانفصال أيضا ، وهذه التوسعة هي التي عبر عنها المحقق النائيني ـ قدس‌سره ـ بالقاعدة القائلة : « أن كل ما كان قرينة وهادماً للظهور التصديقي على فرض اتصاله فهو قرينة هادم للحجية على فرض انفصاله » وهذه التوسعة لا تتنافى مع بقاء

١٧٨

أصل الظهور التصديقي إذا كانت القرينة منفصلة ، إذ يوجد في الحقيقة بناء نوعي من العقلاء على عدم الاعتماد في توضيح مرامهم بالكلام على ما ينفصل عنه ، وهذا البناء هو ميزان الظهور التصديقي المحفوظ مع احتمال القرينة المتصلة بل مع الجزم بها أيضا. والتوسعة التي ذكرناها مرجعها إلى بناء طولي من قبل العقلاء حاصله : أنه في حالة الخروج عن مقتضى البناء الأول المشار إليه والاعتماد على المنفصلات فلا بد وأن يكون ذلك بنحو تحكيم القرينة على ذي القرينة.

وفي ضوء هذا التحليل للقرينية ينبغي أن ندرس فيما يلي أنواع الجمع العرفي المعروفة من التقييد والتخصيص والأظهرية.

١٧٩

التقييد

التقييد هو رفع اليد عن الإطلاق الثابت بمقدمات الحكمة باعتبار وجود دال على التقييد. وهذا الدال تارة : نفرضه متصلاً ، كما إذا قال ( أكرم الشعراء ولا تكرم فساقهم ) وأخرى : نفرضه منفصلاً ، ففي الصورة الأولى لا يوجد أي تعارض حقيقي بين الدالين لأن معارضة الإطلاق للدال على التقييد فرع تمامية مقدمات الحكمة ووجود دال متصل على التقييد رافع لمقدمات الحكمة فهو وارد على دليلية الدال الآخر على الإطلاق لا على مفاده ، وهو نحو من الورود يغاير الورود المتقدم ، فإن ما تقدم من الورود كان يعني ارتفاع الموضوع لمفاد أحد الدليلين بسبب مفاد الآخر وأما هذا فيعني ارتفاع دليلية أحد الدليلين بسبب دليلية الدليل الآخر. وهذا هو ملاك عدم استحكام التعارض وسرايته إلى دليل الحجية ، إذ لم يبق بعد الورود المذكور دليلان ، بل دليل واحد.

وأما في الصورة الثانية ، فالملاك المتقدم للتقييد في الصورة الأولى لا يجري فيها إلاّ إذا قلنا أن مقدمات الحكمة التي هي منشأ الدلالة الإطلاقية تتوقف على عدم الدليل على التقييد ولو منفصلاً فيكون الدال المنفصل على التقييد وارداً على مقدمات الحكمة وبالتالي على دليلية معارضه. فلا بد من الكلام أو لا في تحقيق ذلك ، ثم الكلام ثانياً على فرض عدم تماميته في نوع المصادرة

١٨٠