بحوث في علم الأصول - ج ٧

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٧

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٢٧

الجدي به من قبل الإنسان العاقل الملتفت ، لا ما يقابل الأمر بالخلاف أو الاشتغال بضد واجب ، إذ لعله يلتزم الإتيان بالفعل على كل حال ولو بقصد التخلص عن الأضداد الواجبة في مقام المزاحمة ، فهذا البيان لا يبرهن على أكثر من دخل القدرة التكوينية في وجوب الوفاء وقد تقدم أنه لا يكفي لترجيح الواجب الآخر عليه.

الثاني : ترجيح وجوب الحج على وجوب الوفاء بالأسبقية زماناً ، بناء على أن وجوب الوفاء بالنذر وشبهة لا يصبح فعلياً من حين انعقاد النذر ، ولا من حين تحقق ما علق عليه النذر خارجاً لئلا يلزم منهما التعليق في الإيجاب المستحيل مثلاً ، وإنما يصبح فعلياً حين أداء الفعل المنذور ـ وهو يوم عرفة في المثال ـ وأما الحج فلا إشكال في فعلية وجوب الخروج إليه وتهيئة الزاد والراحلة له من زمان خروج الرفقة فيكون أسبق زماناً.

وفيه : إن فرض أن القدرة في الواجبين عقلية فقد تقدم عدم تمامية الترجيح فيه بالأسبقية الزمانية ، وإن فرض أنها شرعية فإن أريد من تقدم الحج زماناً ـ لوجوب الخروج إليه من زمان خروج الرفقة ـ تقدم الوجوب الغيري المقدمي فهو يستلزم تقدم الوجوب النفسيّ للحج أيضا ، وهذا خلف الالتزام باستحالة الواجب المعلق المفترض في هذا الوجه ، وإن أريد به تقدم وجوب الخروج الثابت بحكم العقل من باب وجوب المقدمات المفوتة قبل وقت الواجب ، فهذا لا يصح إلاّ في واجب يكون ملاكه فعلياً في الوقت وهو متوقف على أن تكون القدرة فيه عقلية وأما إذا كانت شرعية كما هو المفروض فلا تجب مقدماته المفوتة قبل الوقت على ما حقق في محله.

لا يقال ـ قد يفرض أن شرط فعلية الملاك ثبوت القدرة على الواجب ولو قبل الوقت بالقدرة على مقدماته المفوتة.

فإنه يقال ـ لو استظهر ذلك من دليل شرطية القدرة أيضا بطل الترجيح بالأسقية لأن المتأخر زماناً سوف

١٤١

يكون ملاكه فعلياً ويكون الاشتغال بالمتقدم تفويتاً له لا رافعاً لموضوعه كما هو واضح.

هذا مضافاً إلى ما تقدم في بحث الترجيح بالأسبقية بحسب الزمان من احتياجه إلى استظهار تقييد زائد في دليل الخطاب فلا يمكن تخريجه على القاعدة.

التنبيه السابع ـ كان البحث حتى الآن في التزاحم الحقيقي الّذي يكون خارجاً عن باب التعارض الحقيقي ، إلاّ أن هناك قسماً آخر من التزاحم يكون من باب التعارض قد اصطلح عليه المحقق الخراسانيّ ـ قده ـ بالتزاحم بين مقتضيات الأحكام وملاكاتها في مقام التأثير ، وفيما يلي نتحدث عن هذا النحو من التزاحم وأحكامه.

التزاحم الملاكي :

التزاحم الملاكي ـ كما عرفه صاحب الكفاية ـ هو أن يقع تناف بين مقتضيات الأحكام وملاكاتها في مقام التأثير ، وذلك في الموارد التي لا يمكن فيها فعلية الحكمين معاً ولو بنحو الترتب ، كموارد اجتماع الأمر والنهي بناء على الامتناع ، وموارد التضاد بين الواجبين بنحو يكون ترك أحدهما مساوقاً مع فعل الآخر التي تقدم عدم إمكان الأمر الترتبي فيها ، وموارد التضاد الدائمي بين الخطابين بناء على مسلك المشهور من وقوع التعارض فيها بين أصل الدليلين ، ففي هذه الموارد إذا فرض إحراز ملاكي الحكمين سوف يقع التزاحم الملاكي بينهما.

والفرق بين التزاحم الملاكي والتزاحم الحقيقي يتلخص في النقاط التالية :

١ ـ إن موارد التزاحم الحقيقي لم تكن فيها منافاة بين الحكمين المتزاحمين بحسب عالم الجعل بل كل منهما كان ثابتاً على موضوعه المقدر الوجود ـ وهو القادر ـ من دون محذور. وإنما التنافي في مرحلة فعليتهما ، بمعنى أن امتثال

١٤٢

أحدهما كان يرفع موضوع الآخر فلا يكون فعلياً. وأما في التزاحم الملاكي فالتنافي يكون بين الجعلين على كل حال اما من جهة وحدة موضوعهما المستلزم لاجتماع الضدين واما من جهة كون عصيان أحدهما مساوقاً مع حصول متعلق الآخر المستلزم لطلب الحاصل ، وكلاهما مستحيل.

وإن شئت قلت : إن تقييد موضوع كل جعل بالقادر عقلاً وشرعاً مع افتراض إمكان الترتب كان يكفي لارتفاع التنافي بين الجعلين في موارد التزاحم الحقيقي ـ على ما تقدم مفصلاً ـ ولكنه لا يكفي لرفع التنافي بينهما في موارد التزاحم الملاكي لبقاء محذور استحالة اجتماع الحكمين المتضادين على شيء واحد أو محذور استحالة طلب الحاصل على حاله حتى لو فرض إشراط أحدهما بعصيان الآخر ، كما هو واضح.

٢ ـ ويتفرع على ما سبق أنه ما دام لا يوجد تناف بين الجعلين في موارد التزاحم الحقيقي فلا تعارض بين الدليلين المتكفلين لهما لأن الدليل مفاده الجعل لا فعلية المجعول ، وأما في موارد التزاحم الملاكي فيوجد تعارض بين الدليلين ما دام لا يعقل ثبوت الجعلين معاً.

٣ ـ ويتفرع على ما سبق أيضا ، أن لا حاجة في موارد التزاحم الحقيقي إلى بذل عناية من قبل المولى في ترجيح أحد الحكمين على الآخر أو التخيير بينهما ، لأن المولى ليس من وظيفته تحديد موضوع الجعل وما هو مرتفع منه أو ثابت ، وإنما العقل هو الّذي يشخص ذلك. وأما في التزاحم الملاكي فلا مناص عن تصرف من قبل المولى نفسه إذا أريد ترجيح أحد الحكمين على الآخر ، لأن هذا التزاحم يواجهه المولى في مرحلة الجعل فيكون من وظيفته تحديده إطلاقاً أو تقييداً ، فمن دون ترجيح لأحدهما على الآخر في مقام الجعل لا يكون للعقل شأن فيهما كما هو واضح. وعلى ضوء هذه الفروق سوف ندرس التزاحم الملاكي من ناحيتين.

١٤٣

أولا ـ في تنقيح الموضوع وكيفية إحراز الملاكين في المورد.

وثانياً ـ في أحكام التزاحم الملاكي من الترجيح بمرجحات باب التزاحم أو مرجحات باب التعارض.

١ ـ طرق إثبات الملاكين في باب التزاحم :

قد اتضح فيما سبق أن موارد التزاحم الملاكي مندرجة في باب التعارض بين الأدلة ، فإذا كان مقتضى الأصل عند التعارض هو التساقط فكيف يمكن إحراز انحفاظ الملاك في مورد التعارض ، إذا لم يفرض دليل خارجي يدلنا عليه كما هو الغالب؟

وفيما يلي عدة محاولات لإثبات الملاك في موارد التزاحم الملاكي نستعرضها مع مناقشة كل منها.

المحاولة الأولى ـ ما أفاده المحقق الأصفهاني ـ قده ـ في حاشيته على الكفاية في بحث اجتماع الأمر والنهي وحاصله : التمسك بالدلالة الالتزامية للخطاب بعد سقوط الدلالة المطابقة على الحكم فإن خطاب ( صلّ ) كما يدل على وجوب الصلاة كذلك يدل على وجود مقتضي الوجوب وملاكه فيها ، وكذلك الحال في خطاب ( لا تغصب ) وغاية ما يقتضيه محذور الامتناع عدم إمكان ثبوت الحكمين المتضادين في المجمع ، وأما المقتضي لكل منهما فلا برهان على استحالة اجتماعهما في مورد واحد والدلالة الالتزامية تابعة للمطابقة وجوداً وذاتاً لا حجية واعتباراً (١).

وهذه المحاولة غير تامة ، وذلك :

أولا ـ لما سوف يأتي في موضعه من أن الصحيح هو التبعية بين الدلالتين المطابقية والالتزامية ذاتاً وحجية.

__________________

(١) راجع نهاية الدراية ، الجزء الثاني من المجلد الأول ، ص ٩١.

١٤٤

وثانياً ـ النقض بسائر موارد التعارض بين الأدلة ـ كما في التعارض بنحو التباين بين وجوب شيء وحرمته ـ فإنه لا يقال فيها بالتزاحم الملاكي ، مع أن البيان المذكور جار فيها أيضا.

وكأن المحقق العراقي ـ قده ـ الّذي حاول أيضا إحراز الملاك في المجمع بنفس البيان المتقدم ، قد تفطن إلى ورود هذا النقض فصاغ مرامه بنحو آخر وحاصله : أن الخطاب كما يتكفل طلب الفعل أو الترك كذلك يدل بالالتزام على الردع من نقيضه ، وكما أن المدلول الأول يكشف إنا عن وجود الملاك ومبادئ الطلب فيما تعلق به كذلك المدلول الثاني يكشف عن سلب جميع مباديه عنه ، فتتشكل لكل خطاب مداليل أربعة بحسب النتيجة فإذا ورد الخطابان المتعارضان على مادة واحدة كما في أكثر موارد التعارض البحث مثل ( صلّ ولا تصلّ ) وقع التعارض بين المداليل الأربعة جميعاً ، لأن كلا منهما كما ينفي المدلول المطابقي للآخر كذلك ينفي المدلول الالتزامي له من اشتماله على الملاك ومبادئ الحكم ، ولذلك لا يبقى ما نحرز به الملاك. وأما إذا ورد الخطابان على عنوانين مختلفين ، كما في موارد الاجتماع من قبيل ( صل ولا تغصب ) فإن فرض أن الغصب والصلاة عنوانان متباينان لا يوجد بينهما جزء مشترك لم يكن تعارض بين المدلول الالتزامي للخطابين ، إذ غاية ما يقتضيه كل منهما سلب مبادئ الحكم عن نقيض عنوانه وهو غير العنوان الآخر ، وإن فرض وجود جزء مشترك بينهما فيكون طلب أحدهما مقتضياً سلب المبادئ عن نقيض ذلك المجموع لا نقيض كل جزء ، فلا ينافي ثبوتها في المجموع الآخر (١). وبهذا فصل بين صورة تعلق الخطابين بموضوعين مستقلين يكون أحدهما بحسب العنوان غير الآخر فيجري في مثله التزاحم الملاكي ، وبين صورة تعلق الخطابين بعنوان واحد فلا محيص من إجراء حكم

__________________

(١) نقل بتصرف من المقالات ، الجزء الأول ، ص ١٣١.

١٤٥

التعارض البحت عليه (١).

وهذا البيان أيضا غير تام ، إذ يرد عليه بالإضافة إلى ما ذكرناه من أن الصحيح هو التبعية بين الدلالتين في الحجية ، أن الخطاب لا يدل على انسلاخ نقيضه عن الملاك لا بمدلوله المطابقي ولا بدلالته على الردع من النقيض ، وإنما غاية ما يقتضيه الدلالة على أن مبادئ الطلب فيما تعلق به أقوى مما في نقيضه وأنه لا يوجد في ذلك النقيض مصلحة غالبة ولا مساوية وأما أصل وجود الملاك فيه فلا نافي له. مع أنه لو سلم ذلك بقي النقض في بعض موارد التعارض البحت على حاله ، كما إذا فرض تعلق لأمر بالمطلق وتعلق النهي بالمقيد ولو كان من نفس عنوان المطلق ـ من قبيل ( صل ولا تصل في المغصوب ) فإن الأمر سوف لا دليل إلاّ على انسلاخ نقيض الصلاة عن مبادئ الحكم ، وهو لا ينافي ثبوتها في ترك المقيد بما هو ترك للمقيد ، كما هو واضح.

المحاولة الثانية ـ التمسك بإطلاق المادة بالتقريب المتقدم عن المحقق النائيني ـ قده ـ لإثبات الملاك في موارد العجز لإثبات كون القدرة عقلية في الخطاب ، حيث يدعى أن للمادة محمولين عرضيين ، أحدهما الحكم ، والآخر الملاك ، وما لا يعقل ثبوته في موارد الاجتماع إنما هو إطلاق المادة بلحاظ المحمول الأول دون الثاني ، فلا موجب لرفع اليد عنه.

وهذه المحاولة قد تقدم فيما سبق عدم تماميتها ، فراجع.

المحاولة الثالثة ـ التمسك بإطلاق المادة بتقريب آخر أفاده المحقق الأصفهاني ـ قده ـ حيث قال : « وهنا طريق آخر لإحراز المصلحة المقتضية ، وهو إطلاق المادة ، فإنه لا ريب في أن المولى الّذي هو في مقام الحكم الحقيقي الفعلي يكون في مقام بيان تمام موضوع حكمه والمفروض عدم تقيد موضوع حكمه بعدم الاتحاد مع الغصب مثلاً لفظاً ، وأما تقيده من حيث أنه موضوع الحكم الفعلي بعدم الاتحاد مع الموضوع المحكوم بحكم مضاد لحكمه عقلا فهو لا يكاد يكون قرينة حافة باللفظ ليصح الاتكال عليه عرفاً في مقام التقييد

__________________

(١) نهاية الدراية الجزء الثاني من المجلد الأول ، ص ٩١.

١٤٦

المولوي ، فتقييد مفاد الهيئة عقلاً لا يوجب تقييد المادة مولوياً. فتمام موضوع الحكم نفس طبيعة الصلاة المطلقة وإن لم يكن لها حكم عقلاً لمكان حكم مضاد أو لمانع آخر من جهل أو نسيان ، فتكون المصلحة قائمة بذات الصلاة المطلقة فالمولى وإن كان في مقام بيان موضوع حكمه حال فعلية الحكم لكنه إذا ثبت أن طبيعة الصلاة المطلقة لفظاً هي تمام الموضوع في هذه الحالة فهي ذات المصلحة في جميع الأحوال ، لما عرفت من عدم إمكان الاتكال في تقييد الموضوع على القرينة العقلية البرهانية » (١).

وبهذا الطريق حاول ـ قده ـ إحراز الملاك في موارد التزاحم الملاكي بين إطلاق الخطابين لا أصلهما كما في موارد اجتماع الأمر والنهي. وكأنه اتجاه عام لديه يثبت به الملاك في تمام موارد المانع العقلي عن فعلية مدلول الهيئة.

إلاّ أن هذه المحاولة أيضا لا يمكن المساعدة عليها ، وذلك لأنه إن أراد أن التقييد العقلي البرهاني لا يوجب انثلام إطلاق المادة بل يحتاج في رفع اليد عن إطلاق المادة إلى أن يكون القيد مبرزاً في عالم اللفظ ، فمن الواضح أن إطلاقها كما ينثلم بالمقيدات اللفظية فلا يمكن التمسك به ، كذلك ينثلم بالمقيد العقلي لأنه يكشف عن أن متعلق الحكم ثبوتاً ليس هو الطبيعة المطلقة بل المقيدة.

وإن أراد أن المقيد العقلي إنما يقيد مدلول الهيئة وهو الحكم لا المادة ، لأن البرهان العقلي قام على عدم إمكان اجتماع الحكمين المتضادين لا أكثر ، فالحكم وإن لم يكن ثابتاً في مورد المانع العقلي إلاّ أنه في مورد ثبوته يكون متعلقاً بذات المادة من غير قيد ، ففيه :

أولا ـ ان المقيد العقلي في موارد الاجتماع منصب على المادة ابتداء إذا فرض وجود المندوحة ، لأن مفاد الهيئة وهو الوجوب فعلى على كل حال ،

__________________

(١) نهاية الدراية الجزء الثاني من المجلد الأول ، ص ٩١.

١٤٧

وإنما الممتنع إطلاق المادة للفرد المحرم فلا بدّ وأن يكون مقيداً بغيره.

وثانياً ـ لو فرض أن المقيد يقيد الهيئة ابتداء ، كما في موارد العجز أو موارد اجتماع الأمر والنهي مع عدم المندوحة ، مع ذلك لا يجدي التمسك بإطلاق المادة في حال فعلية الحكم لنفي دخل القيد في الملاك. والوجه في ذلك ما ذكرناه في بحث الواجب المشروط من أن قيود الواجب على قسمين شرائط الاتصاف بالملاك وشرائط وجود الملاك وتحققه خارجاً ، والتمسك بإطلاق المادة غاية ما يقتضيه نفي دخل القيد في الواجب بالنحو الثاني وأما دخله فيه بالنحو الأول فالنافي له هو إطلاق الهيئة دائماً لأن شرائط الاتصاف تكون من شرائط الحكم ، فالذي يجدي في نفي شرطية قيد كذلك إنما هو التمسك بإطلاق الهيئة والمفروض تقيدها وعدم إمكان التمسك بإطلاقها لحال وجود المانع العقلي ، فلا يمكن إثبات فعلية الملاك في موارد سقوط الحكم.

وإن أراد أن البرهان العقلي إنما قام على عدم إمكان شمول الأمر وإطلاقه للفرد المتحد مع الحرام ـ وكأن هذا مقصوده من تقييد مفاد الهيئة لا كون الوجوب مشروطاً ـ وهذا غاية ما يقتضيه ضيق دائرة الأمر وعدم إمكان شموله الفرد المتحد مع الحرام لا تقييد متعلقه بقيد عدم الاتحاد معه ـ بحيث يكون هذا التقيد مطلوباً أيضا كما هو لازم التقييد اللفظي ـ بل يبقى المطلوب في غير الفرد المحرم ذات الطبيعة لا غير ، فيثبت أن ما فيه الملاك ذات الطبيعة أيضا.

ففيه : إن البرهان العقلي بعد أن كشف عن أن متعلق الأمر ثبوتاً ليس هو ذات الطبيعة بلا قيد وإنما الطبيعة المقيدة بغير الحرام ـ إذ لا واسطة بينهما ـ فلا يبقى إطلاق ليمكن أن يستكشف به عدم مطلوبية التقيد بعدم الحرام ، فإن النافي لذلك إنما هو إطلاق المتعلق والمفروض استحالته ثبوتاً. وإن شئت قلت : أن غاية ما يقتضيه هذا البيان أن لا يستكشف من تقيد متعلق الأمر ثبوتاً بالحصة غير المحرمة مطلوبية التقيد لأنه ضروري عقلاً حيث يستحيل الإطلاق ،

١٤٨

نظير ما يقال في باب التعبدي والتوصلي من عدم إمكان استكشاف الإطلاق من عدم التقييد بقصد الأمر لاستحالة التقييد ، لا أن يستكشف منه عدم المطلوبية وعدم دخله في الملاك.

ثم أنه لو تم شيء من هذه المحاولات الثلاث لإثبات الملاك ففي خصوص موارد التزاحم الملاكي بين إطلاقي الخطابين ـ كموارد اجتماع الأمر والنهي ـ يكون له معارض نافي للملاك ، وهو ما حقق في بحث التعبدي والتوصلي من أن مقتضى إطلاق الهيئة لما بعد الإتيان بالحصة غير الاختيارية ـ بناء على القول باختصاص الخطابات بالحصة الاختيارية ـ وكذلك بعد الإتيان بالحصة المحرمة ـ بناء على الامتناع ـ هو عدم الأجزاء ولزوم الإتيان بحصة اختيارية وغير محرمة.

فإن هذا الإطلاق كما يثبت عدم الأجزاء هناك كذلك يثبت عدم وفاء الحصة المحرمة بالملاك هنا ، إذ لو كان وافياً به لكان مسقطاً للأمر فيكون عدمه قيداً فيه لا محالة.

لا يقال ـ إن إطلاق الهيئة هذا ساقط على كل حال لأن البرهان العقلي على التقييد ـ بناء على القول بالامتناع ـ يدور أمره بين أن يقيد المادة بغير الحصة المحرمة ، أو يقيد الهيئة بما إذا لم يأت بالمجمع ، وقد ذكر في محله : أنه لا معين لأحدهما في قبال الآخر ، فلا يمكن جعله معارضاً مع الدلالة الالتزامية المثبتة للملاك.

فإنه يقال ـ أولا : أن غايته حصول معارض آخر لإطلاق الهيئة إضافة إلى الدلالة الالتزامية المثبتة للملاك.

وثانياً : قد حققنا في محله أن الصحيح عند الدوران بين رفع اليد عن إطلاق المادة أو إطلاق الهيئة رفع اليد عن إطلاق المادة والتمسك بإطلاق الهيئة ، لسقوط إطلاق المادة على كل حال.

لا يقال ـ إن هيئة الأمر التي يراد التمسك بإطلاقها في المقام لها مقيد لبي متصل ، وهو حكم العقل البديهي باستحالة بقاء الأمر بعد امتثاله ، فيكون

١٤٩

المتعلق مقيداً بفرض عدم الإتيان به فلا يشمل حالات وجود المتعلق خارجاً ، وطرو مخصص منفصل على المتعلق لا يوجب توسعة دائرة الإطلاق في الهيئة ، لأن ظهورها الإطلاقي سقط ذاتاً بالمقيد المتصل وإنما يعود الإطلاق إلى الحجية بسقوط مقيدة عن الحجية إذا كان منفصلاً ومزاحماً مع الحجية لا الظهور.

فإنه يقال ـ أولا : النقض بموارد تقييد إطلاق المتعلق بالمقيدات المنفصلة ، فإن لازم هذا البيان عدم إمكان التمسك بإطلاق الهيئة فيما إذا جيء بفرد فاقد للقيد من أفراد الطبيعة ، لجريان نفس النكتة المتقدمة فيه ، مع أنه لا إشكال عند أحد في عدم الاجتزاء به ولزوم الإتيان بالمقيد.

وثانياً ـ إن الصحيح عدم سقوط الخطاب بالامتثال عن الفعلية ، وإنما الساقط فاعليته فقط ، فإن المحبوب لا يخرج عن كونه محبوباً بوجوده في الخارج ، كما أن العلة لا تخرج عن كونها علة بتحقق المعلول ، على شرح وتفصيل موكول إلى محله ، وبناء عليه يرتفع الإشكال موضوعاً حيث يكون مفاد الهيئة فعلياً على كل حال فإذا فرض تقيد المادة بقيد زائد ـ ولو بدليل منفصل ـ كان اللازم الإتيان بالمقيد لا محالة.

وثالثاً ـ لو سلمنا التقييد المذكور ، فإنما نسلم تقييد مدلول الهيئة بعدم الامتثال ، أي عدم الإتيان بما يكون متعلقاً له ثبوتاً لا عدم المادة المأخوذة في ظاهر اللفظ إثباتاً ، فإن البرهان لا يقتضي أكثر من ذلك. وإطلاق المادة إنما يحرز صغرى هذا القيد وأن هذا الفرد امتثال ، فإذا ورد التقييد ولو في دليل منفصل كان نافياً لصغرى القيد المذكور فيصح التمسك بإطلاق الهيئة. فاتصال مدلول المادة بالهيئة لا يؤثر شيئاً بعد أن لم يكن هو المقيد على كل حال.

نعم فيما إذا لم يثبت تقييد المادة وإنما وجد معارض له ـ كما في المقام بناء على تساقط الإطلاقين المتزاحمين ملاكاً في المجمع ـ لا يمكن التمسك بإطلاق الهيئة سواء قيل بتقييده بعدم الامتثال أم لا إذ على الأول يكون من التمسك

١٥٠

بالعامّ في الشبهة المصداقية بعد عدم إمكان إحراز صغراه ، وعلى الثاني لا يثبت كون الأمر متعلقاً بالمقيد.

إلاّ أن هذا لا يضر في المقام لأن المقصود إبراز معارض في قبال الدال على وجود الملاك في المجمع من إطلاق المادة أو الدلالة الالتزامية ، وواضح أن نتيجة الجمع بين إطلاق الهيئة لما بعد الإتيان بالمجمع وإطلاق خطاب النهي للمجمع أن الأمر متعلق بغير المتحد مع الحرام وأنه غير واجد للملاك ، ومعارضة إطلاق النهي مع إطلاق الأمر غاية ما يلزم منه أن تكون المعارضة بينهما من جهة محذورين. أحدهما ، التضاد بين الحكمين. والآخر ، التكاذب في إثبات الملاك ونفيه.

وهكذا يتضح ، أن الصحيح عدم وجود ما يثبت الملاك في موارد التزاحم الملاكي بعد سقوط الخطاب إلاّ ما قد يفرض من الأدلة الخاصة في بعض الحالات.

٢ ـ أحكام التزاحم الملاكي :

ذهبت مدرسة المحقق النائيني ـ قده ـ إلى أن موارد التزاحم الملاكي ملحقة بباب التعارض البحث بين الدليلين فلا بد من تطبيق قواعد التعارض عليها ولم تلاحظ مدى تأثير مرجحات باب التزاحم الحقيقي عليه.

وفيما يلي نتحدث أولا عن مدى تأثير مرجحات التزاحم الحقيقي على هذا القسم من التزاحم ثم نتحدث عن تطبيق قواعد التزاحم عليه.

١ ـ تطبيق مرجحات باب التزاحم :

إذا فرض وجود شيء من مرجحات باب التزاحم الحقيقي في موارد التزاحم الملاكي من قبيل ما إذا كان أحدهما أهم من الآخر أو مشروطاً بالقدرة العقلية في حين أن الآخر مشروط بالقدرة الشرعية أو غير ذلك من المرجحات ، فهل يمكن أن يثبت به الترجيح بنحو يرتفع التعارض من البين كما هو الحال في موارد التزاحم الحقيقي أم لا؟

١٥١

الصحيح هو التفصيل. ولأجل توضيحه لا بد من استعراض صور وجود كل واحد من تلك المرجحات.

١ ـ الترجيح بالأهمية. وهذا المرجح كان يحتوي على ثلاثة شقوق : الترجيح بالأهمية المعلومة ، والترجيح باحتمال الأهمية ، والترجيح بقوة احتمال الأهمية.

أما الشقان الأولان فيمكن تطبيقهما في المقام على التفصيل التالي :

أ ـ إذا كان إحراز وجود الملاك الأهم في مورد التزاحم بدليل خارجي فسوف يتقدم الحكم الأهم لا محالة ، إذ يعلم حينئذ بكذب الخطاب الآخر تفصيلاً. لأن جعله في ذلك المورد خلف فعلية الملاك الأهم فلا يكون إطلاق دليله حجة ، فيتمسك بإطلاق دليل الخطاب الأهم لا محالة.

ب ـ إذا كان إحراز وجود الملاك الأهم في مورد التزاحم من نفس الخطاب ـ بناء على إمكان ذلك ـ فسوف يقع التعارض بين دليل الحكمين لا بحسب المدلول المطابقي لهما فحسب ، بل تسري المعارضة إلى الدال على فعلية الملاك الأهم أيضا لأن المدلول المطابقي للخطاب غير الأهم يكذب فعلية الآخر ملاكاً أيضاً فلا يمكن إثبات ملاكه حتى على مقالة المشهور القائل بإمكان إثبات الملاك مع سقوط الخطاب. ويترتب على هذا القول في هذه الصورة نتيجة غريبة هي لزوم الإتيان بالخطاب غير الأهم بحكم العقل رغم تعارض دليليهما وذلك لأن ملاكه محرز الوجود علي كل حال بخلاف الأهم فيشك في أنه هل يتدارك ملاكه فيما إذا تركه إلى الأهم فيكون تفويته مرخصاً فيه من قبل المولى ، أم لا؟ وقد تقدم في بحث الترجيح بالقدرة العقلية منجزية الملاك المحرز كلما شك في رضاء المولى بتفويته. إلاّ أن هذه النتيجة إنما تترتب في موارد التزاحم الملاكي بين خطابي الضدين اللذين لا ثالث لهما أو الضدين الدائمين أو موارد الاجتماع بناء على الجواز وتعدد المعنون وعدم المندوحة إذا قلنا بمسلك المحقق النائيني

١٥٢

ـ قده ـ من عدم إمكان الترتب فيها ـ على ما تقدمت الإشارة إليه في بعض التنبيهات المتقدمة ـ لا ما إذا كان التزاحم الملاكي بين دليلي الإلزام بالنقيضين من قبيل ( صل ولا تصلّ ) أو موارد الاجتماع بناء على الامتناع ، لأن الملاك غير الأهم المحرز فيهما إنما يكون بمعنى المصلحة والمفسدة لا الحب والبغض والإرادة والكراهة ، لاستحالة اجتماعهما في موضوع واحد ، وما يكون منجزاً ولا يجوز تفويته عقلاً إنما هو الملاك الفعلي بمعنى الإرادة والكراهة لا ذات المصلحة والمفسدة.

وأما الشق الثالث أعني قوة احتمال الأهمية ، فغير مجد في المقام ولو أحرز وجود الملاك الّذي يكون احتمال أهميته أقوى بالعلم الخارجي ، إذ لا يتولد منه العلم بكذب أحد الخطابين ما دامت الأهمية محتملة في الطرفين فيكون من التعارض بين المدلولين المطابقيين فحسب.

٢ ـ الترجيح بالقدرة العقلية : وهذا المرجح تارة : يراد منه ما يقابل القدرة الشرعية بمعنى عدم المنافي المولوي ، وأخرى : يراد منه ما يقابل القدرة الشرعية بمعنى عدم الاشتغال بالآخر.

أما المعنى الأول ـ فهو يوجب الترجيح في مورد التزاحم الملاكي بين إطلاقي الخطابين لا أصلهما إذ يكون إطلاق الخطاب المشروط بالقدرة العقلية رافعاً لموضوع إطلاق الآخر. وأما إذا كان التزاحم الملاكي بين أصل الخطابين كما في مورد التضاد الدائمي أو التعارض بنحو التباين ، فسوف يقع التعارض بين الدليلين ولا يمكن فيه الترجيح إذ يلزم منه إلغاء الخطاب المشروط رأساً ، فيكون دليله مكذباً لأصل الخطاب الآخر ويسري التعارض منه إلى ما يثبت الملاك أيضا لاستحالة اجتماع الأمر المشروط مع ملاك الآخر ، لأن فرض ثبوت الملاك يستلزم تأثيره في جعل الحكم الاخر المساوق لارتفاع موضوع الأمر المشروط.

نعم ، إذا فرض ثبوت الملاك غير المشروط بالعلم الخارجي تم الترجيح ،

١٥٣

باعتبار ما ذكرناه في فرض أهمية أحد الملاكين المحرز بدليل خارجي من حصول العلم بكذب الخطاب الآخر المستلزم لسقوطه عن الحجية.

وأما المعنى الثاني للقدرة الشرعية ، فهو إنما يتعقل في باب التضاد بين الخطابين لا التناقض ،

إذ لا يعقل أن يكون الملاك في الأمر بشيء مشروطاً بعدم الإتيان بنقيضه الّذي يساوق الإتيان به ، فإنه لا معنى لأن يكون الإتيان بفعل سبباً في اتصافه بالملاك ، إلاّ بأن يرجع إلى التضاد بين متعلق الحكمين.

والصحيح في هذا المرجح حينئذٍ هو التفصيل بالنحو المتقدم في الترجيح بالأهمية بين ما إذا أحرز الملاك غير المشروط من الخارج فيعلم بكذب الخطاب المشروط وسقوطه عن الحجية ، لأن جعله مطلقاً خلف كونه مشروطاً ملاكاً ، وجعله مشروطاً بترك الآخر تحصيل للحاصل ، وبين ما إذا أحرز الملاك غير المشروط من دليل الخطاب نفسه فيقع التعارض بينهما ويسري إلى الدال على الملاك غير المشروط.

٣ ـ ترجيح ما لا بدل له : وهذا المرجح إن أريد منه عدم البدل العرضي كما في الصلاة في المغصوب مع وجود المندوحة حيث يكون للصلاة بدل عرضي فحاله حال المرجحين السابقين فيصح التفصيل بين ما إذا كان الملاك فيما لا بدل له محرزاً من الخارج فيعلم بسقوط الآخر وتعين ما لا بدل له ملاكاً وخطاباً ، لأن ماله مندوحة لا يمكن أن يزاحم في مقام الجعل ما لا مندوحة له من الملاكات وبين ما إذا كان الملاك محرزاً من نفس دليل الحكم فتقع المعارضة بين إطلاق ما له بدل عرضي لمورد التزاحم المقتضى لفعلية ملاكه ، وبين دليل الحكم الآخر ، لأنه يكون نافياً له ملاكاً وخطاباً. وإن أريد من البدلية الطولية فقد تقدم في أبحاث التزاحم الحقيقي أنه راجع إلى أحد المرجحين السابقين وليس مرجحاً مستقلاً ، وعرفت مدى انطباقهما في موارد التزاحم الملاكي. وأما الترجيح بأسبقية الواجب زماناً فقد تقدم عدم تماميته هناك. ولو فرض صحة الترجيح بها هنالك في المشروطين بالقدرة

١٥٤

الشرعية لفعلية القدرة على الأسبق عقلاً وشرعاً قبل مجيء الواجب المتأخر ، فلا مجال لتوهم صحته في هذا المقام ، لوضوح أن التعارض لا يرتفع لمجرد أن يكون مفاد أحد الدليلين المتعارضين متقدماً على الآخر زماناً. وهكذا يتضح أن مرجحات باب التزاحم الحقيقي يمكن تطبيقها على التزاحم الملاكي في الجملة لا بوصفها ترجيحاً لأحد الحكمين في مقام الفعلية ، بل باعتبار ارتفاع التعارض بين الجعلين على أساسها إذا حصل العلم بسقوط أحدهما تعييناً فيكون الآخر حجة بلا معارض ، فإن موارد التزاحم الملاكي تكون من باب التعارض بين الخطابين المتزاحمين فلا يمكن فيها ترجيح أحد المتزاحمين إلاّ بعد سقوط الآخر عن الحجية. ومنه يعرف أنه لا يختلف الحال في موارد التزاحم الملاكي بين أن يكون الحكمان منجزين معاً أو لا يكون أحدهما منجزاً ، خلافاً للتزاحم الحقيقي الّذي كان مشروطاً بوصول الحكمين المتزاحمين ، فإن التزاحم الملاكي بعد أن عرفت أنه من باب التعارض فلا يفرق فيه بين فرض تنجزهما وعدمه شأن تمام موارد التعارض بين الأدلة. والنكتة في ذلك ما أشرنا إليه سابقاً من أن التنافي بين الجعلين في موارد التعارض ليس ناشئاً من ضيق القدرة في عالم الامتثال لكي يرتفع بعدم تنجز أحدهما.

٢ ـ تطبيق قواعد باب التعارض :

بعد أن عرفت أن باب التزاحم الملاكي مندرج في باب التعارض ولو فرض إحراز ملاكيهما ، يقع البحث عن مدى تأثير إحراز الملاكين على جريان قواعد باب التعارض فيه من الترجيح بحسب الدلالة أو السند أو التساقط عند فقد المرجحات.

والكلام عن المرجحات الدلالية تارة ، والسندية أخرى ، والتساقط ثالثة.

١ ـ المرجحات الدلالية :

أما الترجيح بحسب الدلالة فلا إشكال في انطباقه كما في موارد التعارض البحث ، فيما إذا فرض وجود أحد موجبات الترجيح الدلالي. وإنما الكلام

١٥٥

في أن مجرد إحراز أقوائية أحد الخطابين ملاكاً من الآخر هل يكون موجباً لترجيح دلالي جديد يجمع علي أساسه بين الخطابين أم لا.

ذهب صاحب الكفاية ـ قده ـ إلى الأول حيث قال : « فلا بد من ملاحظة مرجحات باب المعارضة لو لم يوفق بينهما بحمل أحدهما على الحكم الاقتضائي بملاحظة مرجحات باب المزاحمة فتفطن » (١).

وكأن مقصوده : إن أقوائية أحد الخطابين ملاكاً تقتضي عرفاً أن يحمل الخطاب الأضعف ملاكاً على الحكم الفعلي إذ لا يحتمل العكس ، فيكون من حمل الظاهر علي النص. والصحيح أن هذا الجمع مما لا يمكن المساعدة عليه إذ لو أريد أعماله فيما إذا أحرز وجود الملاك الأقوى في مورد التعارض بالعلم الخارجي فقد عرفت مما سبق أنه في هذه الحالة يعلم بسقوط الخطاب الأضعف ملاكاً عن الحجية فترتفع المعارضة من البين. وإن أريد أعماله فيما إذا كان إحراز وجود الملاك الأقوى بنفس الخطاب ففي هذه الحالة وإن لم يكن يعلم بسقوط أحدهما إلاّ أن إعمال هذا الجمع مما لا يساعد عليه العرف سواء أريد من الحكم الاقتضائي مجرد ثبوت مقتضي الحكم ، بمعنى ثبوته الاقتضائي في مرتبة ثبوت مقتضية ، أو أريد ما هو أقرب إلى مفاد الهيئة وهو الحكم الحيثي الطبعي بمعنى أنه لو خلي وطبعه لكان فعلياً.

إذ لو أريد تطبيقه في موارد التزاحم الملاكي بين أصل الخطابين ـ كما في الضدين الذين لا ثالث لهما أو التعارض بنحو التباين ـ فمن الواضح أن حمل أحد الدليلين على الحكم الاقتضائي يكون طرحاً لذلك الدليل وإلغاء لمفاده عرفاً ، إذ ظاهر الدليل أنه يتكفل حكماً ينتهي إلى مقام العمل ولو في الجملة.

وإن أريد تطبيقه على مورد يكون التزاحم الملاكي فيه بين إطلاق الخطابين ـ كما في صل ولا تغصب ـ فيرد عليه : أن الدليل الأقوى ملاكاً وإن كان نصاً في الحكم الفعلي إلاّ أن شموله لمورد التزاحم يكون بالإطلاق ، وعلاج التعارض بين الإطلاقين كما يمكن أن يكون بحمل الحكم على بالاقتضائي كذلك

__________________

(١) كفاية الأصول ج ١ ، ص ٢٤٢ ( ط ـ مشكيني ).

١٥٦

يمكن أن يكون بتقيد أحد الإطلاقيين. هذا كله ، مضافاً إلى ما سوف يأتي الحديث عنه من أن قواعد الجمع بين الدليلين المتعارضين ترجع كلها إلى ملاك القرينية أو الأظهرية وكلاهما مخصوص بما إذا كانت هناك نكتة في الدلالة تقتضي القرينية أو الأقوائية فلا يكفي فيها مجرد انتفاء احتمال في أحد الدليلين موجود في الآخر صدفة.

٢ ـ المرجحات السندية :

وأما المرجحات السندية المستفادة من الأخبار العلاجية فلا إشكال في عدم انطباقها في موارد التزام الملاكي بين إطلاقي الخطابين ، بناء على ما سوف يأتي إن شاء الله تعالى من اختصاصها بموارد سريان التعارض إلى السند ، وفي مورد التعارض بين إطلاقي الدليلين لا تسري المعارضة إلى السند.

وأما مورد التزاحم الملاكي بين أصل الخطابين الّذي يكون التعارض فيه مستوعباً لتمام مدلول الدليلين ، فقد يتوهم التفصيل في تطبيق المرجحات السندية بين ما إذا كان إحراز وجود الملاكين بدليل خارجي وبين ما إذا أحرز من نفس الخطاب ، فعلى الأول يتم تطبيق المرجحات السندية لكون التعارض فيه يسري إلى ، السندين وعلى التقدير الثاني لا يمكن تطبيقها لبقاء السند على الحجية في إثبات الملاك لكل من الخطابين.

غير أن الصحيح عدم الفرق بين التقديرين ، لأن الموضوع في الأخبار العلاجية التي هي مهم الدليل على الترجيح السندي هو الخبران المختلفان وهو منطبق في المقام على كلا التقديرين. بل لا يبعد دعوى أن هذا داخل في القدر المتيقن من مورد تلك الأخبار ، حيث لا يمكن تخصيصها بموارد التعارض البحت النادرة بناء على إمكان إثبات الملاك بنفس الخطاب.

هذا ، مضافاً إلى أن استكشاف الملاك إذا كان على أساس بقاء الدلالة

١٥٧

الالتزامية على الحجية بعد سقوط المطابقية ، وكان الملاك لازماً لصدور الخطاب لا لظهوره وإطلاقه ، وقيل في بحث حجية لوازم الأمارات بأن حجيتها من جهة أنها في عرض المدلول المطابقي مما قامت عليه الأمارة لوجود حكاية تقديرية ومستترة عنها ، فسوف يكون لدينا في المقام شهادتان من الراوي ، شهادة بصدور أصل الخطاب ، وشهادة أخرى بلازمه وهو ثبوت الملاك ، والتعارض السندي لا بد وأن يلحظ في كل منهما مستقلاً عن الآخر ومن الواضح أن التعارض يكون سارياً إلى الشهادة الأولى في كل من الدليلين فتنطبق عليهما المرجحات السندية.

٣ ـ التساقط :

وأما تساقط الدليلين في موارد التزاحم الملاكي عند فقد المرجحات الدلالية والسندية بنحو يمكن الرجوع فيها إلى الأصول العملية ، كما هو الحال في سائر موارد التعارض البحث ، فالصحيح هو التفصيل بين القول بالتساقط الجزئي في موارد التعارض أو التساقط المطلق ، ونقصد بالتساقط الجزئي سقوط كل من الدليلين في إثبات مفاده تعييناً مع بقائهما على الحجية في نفي الثالث. فإنه إذا قلنا بذلك فسوف لن يختلف الحال في موارد التزاحم الملاكي عنه في موارد التعارض الأخرى ، وأما إذا قلنا بالتساقط الكلي وإمكان الرجوع إلى الأصول العملية ولو كانت منافية مع مدلول الدليلين ففي مورد إحراز الملاكين ـ التزاحم الملاكي ـ لا يمكن المصير إلى الأصول العملية أحيانا ، إذ قد يحصل من الرجوع إليها الترخيص في المخالفة العملية. ونذكر له مثالين.

١ ـ أن يقع التزاحم الملاكي بين أمرين متعلقين بضدين دائميين ولهما ثالث ، بناء على مسلك المشهور من وقوع التعارض بين أصل الخطابين في هذه الموارد ، فإنه وإن فرض سقوط كل منهما لإثبات وجوب متعلقة إلاّ أنه مع ذلك لا يمكن إجراء أصالة البراءة عن الوجوبين لأنه يؤدي إلى جواز

١٥٨

تركهما إلى ثالث وهو تفويت لملاك فعلى كل حال ، لما أشرنا إليه سابقاً من أن الملاك التام ـ وهو المحبوبية ـ لا مانع من وجوده في الضدين معاً. وإن شئت قلت : أنه ترخيص في المخالفة القطعية لتكليف معلوم إذ يعلم في المقام إجمالاً اما بوجوب أحدهما تعينياً لو كان ملاكه أقوى ، أو وجوب الجامع بينهما ، فيكون من موارد الدوران بين التعيين والتخيير. نعم يمكن إجراء البراءة عن التعيين في كل منهما.

٢ ـ ما إذا فرض إحراز الملاكين في المتعارضين بنحو التباين مع كون أحدهما أعم مورداً ولكنه بنحو لا يمكن تخصيصه بالأخص ، كما إذا ورد ( تصدق على كل فقير ولا يجوز التصدق على الفقير القادر على العمل ) ، وفرض ندرة الفقير غير القادر على العمل. فإنه بناء على التعارض البحث بينهما يمكن الرجوع إلى أصالة البراءة عن كل من الوجوب والحرمة ، إذ لا يلزم منه مخالفة عملية ، وأما بناء على إحراز الملاكين ووقوع التزاحم بينهما فلا يمكن إجراء الأصل المؤمن عن الحكمين معاً إذ يلزم منه تفويت ملاك فعلى لإيجاب التصدق على الفقير غير القادر من العمل الثابت بمقتضى إطلاق الخطاب بحسب الفرض.

التنبيه الثامن ـ في التزاحم بين المستحبات.

ربما يتصور اختصاص التزاحم وأحكامه بالواجبات وعدم جريانه في الخطابات الاستحبابية ، كما التزم السيد الأستاذ ـ دام ظله ـ بذلك خارج بحثه. بدعوى : أن الأوامر الاستحبابية لا يلزم من إطلاق أدلتها لحال التزاحم بين متعلقاتها محذور التكليف بغير المقدور ، لجواز ترك المستحب على كل حال فلا تعارض بين إطلاقاتها ليفتش عن مقيد لبي يرفع به التنافي فيما بينها ، كما هو الحال في أدلة الواجبات.

والتحقيق أن يقال : إن هذا يختلف باختلاف الوجه الّذي يستند إليه في المنع عن شمول الأمر للضدين في عرض واحد.

١٥٩

فإن كان الوجه في ذلك استلزمه إحراج المكلف على الوقوع في العصيان. فهذا المحذور مخصوص بالأوامر الوجوبية ولا يجري في الأوامر الاستحبابية لعدم تحقق العصيان بمخالفتها.

وإن كان الوجه في ذلك استلزمه طلب الجمع بين الضدين ـ كما زعمه القائلون باستحالة الترتب ـ أو كان الوجه فيه ما هو الصحيح من أن الخطابات ظاهرة في داعي الباعثية والمحركية فلا تشمل موارد عدم إمكان التحرك والانبعاث فلا بد من افتراض تقيدها لباً بحال عدم الاشتغال بضد واجب مساو أو أهم كما برهنا عليه فيما سبق ، فهذان الوجهان لا يفرق فيهما بين الأوامر الوجوبية والأوامر الاستحبابية إذ كما لا يعقل طلب الجمع بين الضدين وجوباً كذلك استحباباً ، وكما أن الأمر الوجوبيّ ظاهر في داعي الباعثية والمحركية كذلك الأمر الاستحبابي فإنه لا فرق بينهما إلاّ من حيث شدة الطلب وضعفه. فلو كان للأمر الاستحبابي بأحد الضدين إطلاق حتى لحال الاشتغال بضده المستحب الأهم أو المساوي ، فإن كان الغرض منه الإتيان به مع الإتيان بالآخر جمعاً فهو مما لا يمكن التحريك نحوه ، وإن كان الغرض منه صرف المكلف عن الضد المساوي أو الأهم إليه فهو جزاف ، كما تقدم في شرح البرهان على المقيد اللبي.

نعم ، لو فرض أن دليل الاستحباب كان بلسان المحبوبية والرجحان لا الطلب أمكن إطلاقه حتى لحال الاشتغال بغيره لأن المستحيل إطلاق الطلب للضدين في عرض واحد لا إطلاق مباديه كما أشرنا إليه فيما سبق.

ثم إنه إذا ضممنا إلى هذا الكلام من السيد الأستاذ ـ دام ظله ـ مبناه في دلالة الأمر على الوجوب القائل بأن مفاد الأمر ليس إلاّ الطلب وأما الوجوب فيثبت بحكم العقل إذا لم يقترن الأمر بترخيص من المولى في الترك فسوف تترتب على ذلك نتائج في باب التزاحم لا يلتزم بها السيد الأستاذ نفسه. إذ ينتج من ذلك.

أولا : إن إخراج باب التزاحم عن باب التعارض لن يحتاج فيه إلى القول

١٦٠