بحوث في علم الأصول - ج ٧

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٧

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٢٧

المتقدم أو معلول له فتسري الحرمة الغيرية إليه مثلاً فيلزم غائلة الاجتماع إلاّ أن هذا محذور آخر.

وأما إبطاله للوجه الرابع فهو غير تام أيضا لما أثبتناه في أبحاث الترتب من إمكان جعل الأمر الترتبي مشروطاً بالعزم على عصيان الأهم وتفصيله موكول إلى محله. وهكذا يتضح أن الترتب في المقام معقول فيكون مندرجاً في باب التزاحم.

المورد الثالث ـ ما إذا وقع التزاحم بين الواجب والحرام كما لو توقف الواجب على فعل ذلك الحرام وكان الواجب هو الأهم ملاكاً ، فإنه في مثل ذلك لا يعقل جعل الخطاب التحريمي على المقدمة المحرمة ولو بنحو الترتب.

وتحقيق الكلام في ذلك ، أنه تارة : يبنى على عدم وجوب مقدمة الواجب وأخرى : يبنى على وجوب الحصة الموصلة منها أو إمكان اختصاص الوجوب بها ، وثالثة : يبنى على وجوب مطلق المقدمة واستحالة تخصيص الوجوب بالموصلة فقط ـ كما عليه صاحب الكفاية ـ قده ـ فعلى المسلك الأول والثاني قد يتصور إمكان جعل الخطاب التحريمي على المقدمة بنحو الترتب بأن تحرم على تقدير عدم الإتيان بالواجب الأهم.

إلاّ أن الصحيح هو حرمة الحصة غير الموصلة من المقدمة حرمة مطلقة لا مشروطة ، إذ لا مانع من حرمتها كذلك ولا تزاحم بينها وبين فعل الواجب بل يمكن امتثالهما معاً ومعه يكون إطلاق الهيئة في دليل الحرمة على حاله. نعم المقدمة الموصلة لا يعقل حرمتها لأنها تستلزم التكليف بغير المقدور بعد فرض إيجاب ذيها بل ومحذور اجتماع الحرمة والوجوب في واحد مع وحدة العنوان لو قيل بوجوبها لأن الواجب واقع المقدمة لا عنوانها.

لا يقال ـ الأمر دائر بين تقييد مدلول هيئة النهي عن المقدمة بما إذا لم يشتغل بذي المقدمة الأهم أو تقييد المادة بالحصة غير الموصلة منها ولا تَعَيّنَ

١٢١

لأحدهما في قبال الآخر.

فإنه يقال ـ إطلاق المادة ساقط على كل حال ، لما قرر في محله من رجوع شرائط الهيئة طرّاً إليها في أمثال المقام. إذ لا يعقل إطلاق المادة وصدقها في مورد لا يثبت فيه مفاد الهيئة ، فتقيدها بالحصة غير الموصلة معلوم على كل حال ، ومعه لا موجب لرفع اليد عن إطلاق الهيئة لإثبات حرمة مطلقة للمقدمة غير الموصلة.

وأما على المسلك الثالث ، فيستحيل جعل الحرمة للمقدمة على كل حال ، لأن جعلها ولو مشروطاً منافٍ مع عدم إمكان تخصيص وجوبها بالموصلة فلا محالة يقع التعارض بين دليل حرمة المقدمة ودليل وجوب ذيها ، فيكون من باب التعارض لا التزاحم.

وما قد يدعى من أن الأمر الغيري بالمقدمة باعتباره مترشحاً من الأمر النفسيّ بذي المقدمة فيكونان في رتبة واحدة ـ أو على الأقل في رتبتين متصلتين ـ والتحريم الترتبي متأخر عن الأمر النفسيّ برتبتين لأنه متأخر عن ترك الواجب النفسيّ المتأخر عن الأمر به ، ومعه لا مانع من تعلقه بالمقدمة لعدم اجتماعه مع الوجوب الغيري في رتبة واحدة فاسد ، صغرى وكبرى. أما صغرى : فلأن المتأخر عن أحد المتلازمين ليس متأخراً عن الآخر. مضافاً إلى المناقشة في أصل تأخر الخطاب الترتبي بالمهم عن خطاب الأهم ، على ما تقدم في محله من أبحاث الترتب. وأما كبرى : فلما تقدم في تلك الأبحاث أيضا من أن غائلة اجتماع الضدين في واحد لا ترتفع بتعدد الرتبة. وهكذا يتضح أنه لا مجال للخطاب الترتبي التحريمي بالمقدمة المحرمة على تمام المسالك في بحث وجوب المقدمة ، بل إما خطاب تحريمي مطلق فلا تزاحم ولا تعارض ، أو خطاب تحريمي معارض مع الأمر بذي المقدمة.

ومنه يتضح الحال في تمام موارد التزاحم بين الواجب والحرام مع كون

١٢٢

الواجب أهم ولو لم يكن الحرام مقدمة للواجب ، أو بين الحرامين فإنه لا حاجة فيها إلى الترتب ، إذ لو كان عصيان الواجب مساوقاً مع امتثال الحرمة دائماً فجعل الخطاب التحريمي له ولو بنحو الترتب يكون لغواً. وإن كان عصيانه غير مساوق مع امتثال الحرمة بأن أمكنه فعل الحرام أيضا ، فلا مانع لجعل التحريم المطلق للحصة المقيدة بترك الواجب من ذلك الحرام من دون حاجة إلى الترتب ودفع إشكالات المطاردة بين التكليفين فيه ، إذ لا مانع من فعلية مثل هذا الخطاب التحريمي مع الأمر بالواجب الأهم ، لأن المكلف قادر على امتثالها معاً من دون أن يلزم طلب الجمع بين الضدين أصلاً. نعم إذا كان ترك الاشتغال بالواجب من شرائط الاتصاف بالنسبة للحرام ـ أي من شرائط حصول الملاك التحريمي فيه ـ كانت الحرمة مقيّدة بعدم الاشتغال به بنحو الترتب ، إلاّ أن هذا خلاف إطلاق الهيئة فيكون منفياً به. ودعوى ، دوران الأمر بين تقييد المادة أو الهيئة قد عرفت جوابها ، وهذا بخلاف التزاحم في باب الواجبات فإن الأمر المطلق بالمهم غير ممكن ولو قيدنا الواجب بالحصة الخاصة المقارنة لترك الأهم فإنه يستلزم الأمر بالقيد وهو ترك الأهم فيكون منافياً مع الأمر بالأهم ، ولذلك حاول المحقق العراقي ـ قده ـ إرجاع الأمر بالمهم في موارد الترتب إلى حرمة تركه المقرون بترك الأهم ، وقد سماه بوجوب سد باب عدمه المقرون بعدم الأهم ، دفعاً لمناقشات صاحب الكفاية ـ قده ـ على الترتب. وهذا وإن كان معقولاً ثبوتاً إلاّ أنه خلاف ظاهر الأوامر إثباتاً.

المورد الخامس ـ موارد اجتماع الأمر والنهي ، بناء على الجواز وعدم المندوحة ، فإنه يقع حينئذ التزاحم بينهما. فإذا كان النهي أهم ملاكاً. لم يعقل إطلاق الأمر في مورد النهي لاستلزامه التكليف بغير المقدور. فهل يمكن بقاؤه بنحو الترتب ، بأن يقول مثلاً إذا غصبت فصلّ ، أم لا يمكن ذلك؟ ـ ذهب المحقق النائيني ـ قده ـ إلى الثاني ، والصحيح هو الأول وتفصيل ذلك ، إنه إذا قيل بالجواز على أساس أن تعدد العنوان يستوجب

١٢٣

تعدد المعنون خارجاً دخل المقام في مورد تزاحم واجب ملازم مع الحرام خارجاً ، ولا إشكال في إمكان الأمر الترتبي فيه إذا لم يكن ارتكاب الحرام مساوقاً مع تحقق الواجب. وإذا قيل بالجواز على أساس المسلك القائل بأن تعدد العنوان يكفي لدفع غائلة الاستحالة ولو كان المعنون واحداً أو نحو ذلك من المسالك التي لا تلتزم بتعدد المعنون خارجاً فما يمكن أن يذكر للمنع عن إمكان الأمر الترتبي في المقام أحد وجهين ، كلاهما غير تام.

الوجه الأول ـ أن عصيان الحرام سوف يكون بنفس الصلاة فيها أو المشي مثلاً لأن المعنون واحد بحسب الفرض فيستحيل أن يؤمر بالصلاة مشروطاً بالغصب على نحو الترتب ، إذ لو رتب على الغصب الصلاتي كان طلباً للحاصل ، ولو رتب على الغضب المشي كان طلباً للضدين ، وكلاهما غير معقول.

وفيه : أن ما يتقيد به الأمر الترتبي إنما هو عصيان الخطاب الآخر الّذي هو الجامع بين الحركة الصلاتية في الغصب أو الحركة غير الصلاتية فيه وواضح أن التقيد بالجامع بنحو صرف الوجود لا يستلزم التقييد بكل فرد من أفراده ولا يسري إلى مصاديقه ، كما تقدمت الإشارة إليه سابقاً. نعم إذا فرض أن الأمر كان عبادياً فقد ينشأ محذور عدم إمكان التقرب بالفعل الحرام ولو كان مصداقاً لعنوان واجب إلاّ أن هذا محذور آخر لا ربط له بما هو المهم في المقام كما هو واضح.

الوجه الثاني ـ أن الصلاة مركب من جامع الحركة وكونها صلاةً ، وعصيان الخطاب التحريمي إنما يكون بالحركة في المغصوب التي هي التصرف فيه ، فيرجع الأمر الترتبي بالصلاة مشروطاً بالغصب إلى الأمر بالحركة الصلاتية في المغصوب على تقدير الحركة فيه ، وهذا معناه الأمر بضم الجزء الثاني على تقرير تحقق الجزء الأول ، أي الأمر بالحركة الصلاتية على تقدير

١٢٤

أصل الحركة لا الأمر بالصلاة التي هي عبارة عن مجموع الجزءين. وهذا وإن كان معقولاً ثبوتاً إلاّ أنه خلاف ظاهر الدليل إثباتاً فلا يمكن التمسك به لإثبات الأمر الترتبي.

وفيه : أولا ـ أن الأمر بأصل الحركة في ضمن الصلاة أمر ضمني ، والأمر الضمني محركيته وتحصيله ضمني أيضا ، أي في ضمن تحصيل الكل ، وما هو الشرط المفروض حصوله إنما هو الحركة الاستقلالية أعني ذات الحركة ، فلا يلزم من طلب الحركة الضمنية على تقدير أصل الحركة ، تحصيل الحاصل.

وثانياً ـ أن البرهان على اعتبار القدرة في التكليف المقيد لإطلاقه في موارد العجز عندنا إنما هو استظهار كون التكليف بداعي الباعثية والتحريك ، وداعي الباعثية نحو غير المقدور أو نحو الأمر الحاصل غير معقول ، فلا يبقى في دليل الحكم إطلاق عرفاً لموارد عدم معقولية التحريك والبعث. وهذا البرهان لا يقتضي أكثر من تقييد إطلاق التكليف في مورد يكون فيه الواجب ممتنع الوجود أو ممتنع العدم ، إذ يكفي لإشباع ظهور الأمر بالمركب في كونه بداعي المحركية والباعثية أن يكون المركب بما هو مركب غير حاصل خارجاً.

ومن مجموع ما تقدم اتضح أن اللازم في صحة الترتب ودخول المورد في باب التزاحم توفر الشرطين المذكورين في مستهل البحث ، وهما أن لا تكون القدرة المقيد بها التكليف بمعنى عدم الأمر بالخلاف. وأن لا يكون عصيان الخطاب الآخر مساوقاً مع تحقق متعلق هذا التكليف.

كما أنه اتضح أن موارد التزاحم بين الواجب والحرام أو بين محرمين لا يحتاج فيها للتحفظ على الخطاب التحريمي إلى مبنى إمكان الترتب ، بل مقتضى القاعدة فيها ثبوت الحرمة مطلقاً مع تقييد الحرام بالحصة الخاصة المقرونة بترك مزاحمه.

التنبيه الثالث ـ في التزاحم بين الواجبات الضمنية. فقد ذهب المحقق

١٢٥

النائيني ـ قده ـ إلى عدم الفرق في تطبيق قواعد باب التزاحم بين الواجبات الاستقلالية المتزاحمة والواجبات الضمنية كما إذا وقع التضاد بين جزءين من مركب ارتباطي.

واستشكل فيه السيد الأستاذ ـ دام ظله ـ مدعياً أن التزاحم فيما بين الواجبات الضمنية الارتباطية توجب وقوع التعارض بين أدلتها.

والحق ما أفاده السيد الأستاذ. وفيما يلي نبرهن عليه بصيغ وتقريبات مختلفة.

الصيغة الأولى ـ أن الواجبات الارتباطية وجوباتها ارتباطية أيضا فتكون مجعولة بجعل واحد متعلق بالمركب لا بجعول متعددة. وهذا الجعل الواحد يشترط فيه ما يشترط في كل تكليف من القدرة على مجموع متعلقه ، فإذا وقع التضاد بين جزءين من هذا المجموع لم يعد مقدوراً للمكلف فيسقط الأمر به ، فإذا لم يقم دليل يدل على وجوب سائر الأجزاء في فرض العجز عن بعضها ، فلا يمكن إثبات وجوبها بدليل الأمر الأول. وإن قام دليل على عدم سقوط الواجب كلياً ـ كما جاء في باب الصلاة من أنها لا تترك بحال ـ دار الأمر بين التكليف بسائر الأجزاء مع الجامع بين الجزءين المتزاحمين أو بها مع أحدهما تعييناً ، وهذه شبهة حكمية في أصل التكليف وليس من باب التزاحم ، فلا بد فيها من الرجوع إلى الأصول والقواعد العامة.

الصيغة الثانية ـ أن الجزءين المتزاحمين إما أن يكونا معاً مؤثرين في الملاك المطلوب للمولى من الواجب الارتباطي مطلقاً ، أو تكون دخالتها فيه مخصوصاً بحال القدرة فقط ، أو يكون أحدهما المعين مؤثراً مطلقاً دون الآخر ، أو يكون الجامع بينهما مؤثراً. وليس شيء من هذه التقادير بالتزاحم. إذ على الأول يلزم سقوط التكليف رأساً للعجز عن إمكان تحصيل الملاك منه. وعلى الثاني يلزم ثبوت التكليف بسائر الأجزاء فقط. وعلى الثالث يلزم التكليف

١٢٦

بسائر الأجزاء مع ذلك الجزء المؤثر في الملاك ، وعلى الرابع يلزم التكليف بسائر الأجزاء مع الجامع بين الجزءين.

الصيغة الثالثة ـ إن الوجوب الضمني باعتباره غير مستقل في الجعل فأي شرط يفرض فيه لا بد وأن يكون شرطاً للجعل الاستقلالي فإذا أريد المعاملة مع الواجبين الضمنيين معاملة الواجبين الاستقلاليين المتزاحمين من حيث كون كل منهما مجعولاً على موضوعه ، وهو القادر عقلاً وشرعاً ، كان لازم ذلك أخذ هذا الموضوع في الخطاب الاستقلالي أيضا. ومن الواضح أن القدرة على كل منهما لا تكون إلاّ بترك الآخر فاشتراط إيجابهما بالقدرة معناه اشتراط ذاك الوجوب الاستقلالي بترك الاشتغال بالجزءين معاً فيئول الأمر الاستقلالي إلى الأمر بالمركب مشروطاً بعدم الاشتغال بشيء من أجزائه وهذا واضح الفساد.

الصيغة الرابعة ـ إن لازم إجراء التزاحم بين الواجبين الاستقلاليين فعلية إيجابهما عند تركهما معاً لفعلية شرط كلا الوجوبين. وفي المقام يستحيل هذا اللازم فيستحيل ملزومه. وهو الأمر المشروط بنحو الترتب. والوجه في استحالة اللازم ان الوجوبين في المقام جزءان تحليليان من وجوب واحد فإذا فرض ان المكلف ترك كليهما كان شرط كلا الأمرين الضمنيين فعلياً ، وبالتالي يصبح الأمر بالمركب كله فعلياً. وهذا معناه ثبوت أمر استقلالي واحد يطلب فيه الجمع بين المتضادين وهو محال ، لأنه من طلب الجمع بين الضدين لا الجمع في الطلب كما كان في الطلبين الاستقلاليين المتزاحمين. وهذه الصياغات الأربع ربما تذكر في قبالها شبهة حاصلها : أنه يمكن افتراض تعلق الأمر من أول الأمر بعنوان ما هو المقدور من أجزاء المركب ، وهذا عنوان جامع ينطبق على مجموع الأجزاء إذا كانت كلها مقدورة ، وعلى المقدور منها إذا كان بعضها تعييناً غير مقدور ، وحينما يقع تزاحم بين اثنين منها يكون ترك كل منهما محققاً للقدرة على الآخر فيكون مقدوراً ويكون

١٢٧

هو الواجب ، وهو معنى الأمر بكل منهما منوطاً بترك الآخر كما في الواجبين الاستقلاليين المتزاحمين.

وهذه الشبهة إن تمت بطلت كل الصياغات المتقدمة على أساسها. أما بطلان الصيغة الأولى فلأن الواجب ليس الأجزاء العشرة بعنوانها كي يسقط الوجوب بالعجز عن البعض ، وإنما الواجب هو المقدور منها وكل من الجزءين المتزاحمين مقدور على تقدير ترك الآخر. وأما بطلان الصيغة الثانية ، فلأن الدخيل في الملاك على هذا إنما هو المقدور من الأجزاء ، وكل من الجزءين على تقدير ترك الاشتغال بالآخر مقدور فيكون مأموراً به على هذا التقدير وهو معنى الترتب. وأما بطلان الصيغة الثالثة ، فلأنها كانت مبنية على أن يكون الأمر بالأجزاء بعنوانها مع أخذ عدم كل من الجزءين بعنوانه في موضوع الأمر بالآخر ، وأما إذا كان الأمر متعلقاً بعنوان المقدور من الأجزاء فكأنه قال ، إذا كنت قادراً على شيء من الأجزاء فجيء به ، ولا محذور منه أصلاً ، إذ يكون كل من الجزءين على تقدير ترك الجزء الآخر مقدوراً فيكون كل منهما على تقدير ترك الآخر واجباً. وإن شئت قلت : إن المقدور في حقه هو أحد الجزءين فلا يجب أكثر من أحدهما عليه مع سائر الأجزاء. وأما بطلان الصيغة الرابعة ، فلأن الأمر إذا كان متعلقاً بالمقدور من الأجزاء فلا ينطبق إلاّ على سائر الأجزاء والجامع بين الجزءين المتزاحمين لا أكثر لأنه المقدور للمكلف ، فلا يلزم طلب الجمع. إلاّ أن هذه الشبهة على فرض تماميتها لا تجدي في تطبيق أحكام التزاحم بالنهج المتقدم في المقام ، إذ لو كانت القدرة شرعية في أحدهما عقلية في الآخر تعين الأمر بما تكون القدرة فيه عقلية دائماً واستحال الترتب ، وإن كانت القدرة شرعية فيهما معاً ثبت التخيير دائماً ولم يتم شيء من المرجحات المتقدمة ، أما الترجيح بالقدرة العقلية فواضح ، وأما الترجيح بالأهمية فلما تقدم من عدم جريانه في المشروطين بالقدرة الشرعية ، وأما الترجيح بما ليس له بدل فلما

١٢٨

عرفت من رجوعه إلى الترجيح بالأهمية الّذي لا مجال له في المشروطين بالقدرة الشرعية ، وأما الترجيح بالأسبقية زماناً فقد عرفت عدم تماميته ، مع أنه لو أريد به سبق الوجوب فلا موضوع له هنا حتى لو قيل به في الواجبين الاستقلاليين لتعاصر الوجوبين الضمنيين زماناً ، ولو أريد به سبق الواجب فالأمر بالمتقدم يكون متعيناً دائماً ولا يمكن الأمر بالتأخر ولو ترك المتقدم لفوات الملاك بذلك لأنه واحد بحسب الفرض.

والتحقيق أن هذه الشبهة غير تامة ، وذلك.

أولا : لأن القدرة ان افترضت قيداً للوجوب تمت الصياغات الأربع للاستحالة لأن معناه الأمر بالأجزاء العشرة بعنوانها ولكن مشروطاً بالقدرة عليها. وان فرضت قيداً للواجب كما هو المقصود من الشبهة. كان من الأمر بالجامع بين المتزاحمين وهو يختلف عن باب التزاحم الّذي يوجد فيه أمران تعيينيان ولا يتأتى فيه البيان الّذي استطعنا أن نخرج به باب التزاحم على القاعدة عن باب التعارض الحقيقي ببركة المقيد اللبي المستلزم لدخوله في باب الورود. فإن جعل القدرة قيداً للواجب تصرف في ظهور الدليلين الدالين على وجوب كل من الجزءين بعنوانه فلا يكون جائزاً على القاعدة. بل مقتضى القاعدة أنه لو علم بعدم سقوط الواجب الاستقلالي في مورد التزاحم وقع التعارض بين دليلي الجزءين ، وإلاّ كان مقتضى القاعدة هو السقوط المطلق للواجب باعتبار العجز عنه.

وثانياً ـ إن أدلة الأجزاء والشرائط ظاهرة في الإرشاد إلى الجزئية والشرطية ولو كانت بلسان الأمر أو النهي. وهذا المفاد لا يجري فيه التزاحم أصلاً ، إذ ليس مفادها حكماً تكليفياً يستحيل ثبوته للمتزاحمين معاً كي نفتش عن المقيد اللبي له ، بل مقتضى إطلاقاتها لحال العجز ثبوت الجزئية أو الشرطية فيه أيضا ، فيلزم سقوط التكليف الاستقلالي بالمجموع رأساً. ولو فرض العلم من الخارج بعدم سقوطه وقع التعارض بين إطلاق دليلي الجزءين المتزاحمين

١٢٩

على أساس العلم بانتفاء إحدى الجزئيتين.

التنبيه الرابع : في جريان أحكام التزاحم فيما إذا وقع التزاحم بين الواجب الموسع والمضيّق. وقد نسب إلى المحقق الثاني ـ قده ـ القول بعدم جريانه فيهما لإمكان الأمر بالواجب الموسع المزاحم مع الواجب المضيق في عرض واحد وبلا حاجة إلى تقييد أحدهما بعدم الإتيان بالآخر باعتبار أن الواجب الموسع يرجع إلى إيجاب الجامع بين الأفراد الطولية والإتيان بهذا الجامع مع الواجب المضيّق جمعاً مقدور فلا يلزم من الأمر بهما في عرض واحد المحال.

ونوقش في ذلك من قبل المحققين بوجوه لا يتم شيء منها.

الوجه الأول ـ ما أفاده المحقق النائيني ـ قده ـ من ابتنائه على كون القدرة شرطاً في التكليف من باب حكم العقل بقبح تكليف العاجز ، وأما لو كان الخطاب بنفسه يتطلب اختصاص متعلقه بالحصة المقدورة لأن مفاده البعث والتحريك وهو لا يعقل نحو غير المقدور حتى لو أنكرنا التحسين والتقبيح العقليين وكان الممتنع الشرعي كالممتنع العقلي ، فلا بد من أن يكون متعلق الأمر حينئذ مقيداً بالحصة المقدورة عقلاً وشرعا من أفراده. وهذا يعني أنه لا إطلاق في الواجب الموسع للفرد المزاحم لعدم القدرة عليه شرعاً ، وهو معنى عدم إمكان الأمر به في عرض الأمر بالواجب المضيق نعم يمكن الأمر به بنحو الترتب.

وقد اعترض عليه السيد الأستاذ ـ دام ظله ـ بما حاصله : ( أن ما هو المشهور من أن الإنشاء إيجاد للمعنى باللفظ مما لا أساس له أصلاً وإنما حقيقة التكليف عبارة عن اعتبار المولى كون الفعل على ذمة المكلف وإبرازه بمبرز ما ، فلا نتصور للتكليف معنى غير ذلك كما أنا لا نتصور للإنشاء معنى ما عدا إبراز ذلك الأمر الاعتباري ، واعتبار المولى الفعل على عهدة المكلف لا يقتضي

١٣٠

الاختصاص بالحصة المقدورة ، فلا مقتضى من قبل نفس التكليف لاعتبار القدرة في متعلقه أبداً وإنما العقل يعتبرها شرطاً في لزوم الامتثال والإطاعة (١).

وهذا البيان مما لا يمكن المساعدة عليه ، وذلك :

لأن المدعى في هذا الوجه ليس هو أخذ عنوان الباعثية والتحريك في المدلول التصوري لصيغة الأمر كي يربط بينه وبين ما هو الصحيح في تشخيص معنى صيغة الأمر أو الصياغة العقلانية للأحكام ، وإنما المدعى أن الخطاب المشتمل على التكليف مهما كان مدلوله اللفظي التصوري يكشف كشفاً تصديقياً عن أن داعي المولى من ورائه هو بعث المكلف وتحريكه نحو الفعل وليس المراد من الخطاب مجرد إخطار معناه أو لقلقة اعتبار ، ومثل هذا الظهور التصديقي لأدلة الأحكام مما لا ينبغي الإشكال فيه. ومبنياً عليه لا يعقل أن يتعلق الخطاب بغير المقدور.

والصحيح في الجواب : أن داعي الباعثية والتحريك لا يتطلب أكثر من مقدورية ما تعلق به الحكم ، والمتعلق في الواجب الموسع هو الجامع بين الأفراد لا كل فرد فرد والجامع بين الفرد المقدور وغير المقدور يكون مقدوراً لا محالة ، فلا موجب لتقييده بالفرد غير المقدور ، بل يبقى المتعلق هو الطبيعة الكلية ، فإذا ما حققه المكلف في ضمن أي فرد كان امتثالا للتكليف لا محالة.

نعم ، لو أرجعنا التخيير العقلي في باب الواجبات الموسعة إلى التخيير الشرعي الّذي يعني تعلق أمر بكل فرد مشروطاً بترك الأفراد الأخرى ، لم يكن الخطاب شاملاً للحصة غير المقدورة ـ كالفرد المزاحم ـ إلاّ بنحو الترتب. غير أن المحقق في محله عدم رجوع التخيير العقلي إلى الشرعي ، بل العكس هو الصحيح.

الوجه الثاني ـ ما أفاده السيد الأستاذ ـ دام ظله ـ من أن إطلاق الواجب

__________________

(١) نقل باختصار من محاضرات الجزء الثالث ، ص ٦٦ ـ ٦٨.

١٣١

الموسع للفرد المزاحم غير معقول ، بناء على المسلك القائل بأن التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة. لأن تقييده بالفرد المزاحم غير معقول وكلما استحال التقييد استحال الإطلاق (١).

وفيه : أن الإطلاق المقابل للتقييد بتقابل العدم والملكة إنما هو الإطلاق بمعنى عدم التقييد الّذي هو معنى سلبي يستلزم سريان الحكم إلى فاقد القيد ، وليس المراد منه الإطلاق بمعنى شمول الحكم للمقيد ، فإن هذا معنى إيجابي لا يكون مقابلاً مع التقييد تقابل العدم والملكة عند صاحب هذا المبني ، وهذا يعني أن التقييد الّذي تستوجب استحالته استحالة الإطلاق في المقام هو التقييد بالفرد غير المزاحم ، وهو غير مستحيل. وأما التقييد بالفرد المزاحم المستحيل فيقابله الإطلاق للفرد غير المزاحم فلا بد وأن يقال باستحالته كنتيجة طبيعية لهذا المبنى.

الوجه الثالث ـ إنه مبني على القول بالواجب المعلق وإمكان تقدم زمان الوجوب على زمان الواجب إذ سوف يكون الأمر بالواجب الموسع فعلياً حتى في زمان المزاحمة ـ الّذي هو زمان الواجب المضيّق ـ مع كون متعلقه استقبالياً لأنه غير مقدور شرعاً بالفعل وإنما يصبح مقدوراً في الزمن الثاني.

والجواب : ان القول باستحالة الواجب المعلق له أحد تخريجين.

الأول : ان الحكم يستبطن المحركية والباعثية ، وهي بحكم تضايفها مع الانبعاث والتحرك تكون ملازمة في الإمكان والامتناع لإمكان الانبعاث وامتناعه ، وليس المقصود استلزام التكليف للانبعاث خارجاً ، بداهة أن الخطاب يشمل العاصين أيضا ولا انبعاث لهم خارجاً. وإنما المقصود كشفه عن داعي البعث بمعنى إيجاد ما يمكن أن يكون باعثاً ، وإمكانية البعث تلازم

__________________

(١) محاضرات الجزء الثالث ، ص ٩٤.

١٣٢

إمكانية الانبعاث وفي مورد الواجب المعلق لا إمكانية للانبعاث خارجاً فلا يكون البعث ممكناً.

وهذا التخريج لو تمّ ثبتت استحالة تعلق الوجوب بالجامع بين الأفراد الطولية من أول الأمر في عرض الأمر بالواجب المضيّق ، بل لا بد من تأخره وتخصيصه بالزمان الثاني ، ومعه لا أمر يعم الفرد المزاحم إلاّ الأمر الترتبي. إلاّ أن هذا الوجه في نفسه غير تام ، فإن الخطاب وإن كان بداعي البعث والتحريك ولكنه لا يتطلب أزيد من إمكانية الانبعاث في مجموع عمود الزمان من الواجب الموسع ولا يلزم إمكانية الانبعاث في تمام آنات ذلك الزمان ، لأن الخطاب بطبعه الأولي وبلحاظ عالم اللغة لا يدل على أكثر من الجعل الّذي لا يتوقف ثبوته على إمكانية الانبعاث ، وإنما قيدناه بذلك بمقتضى الظهور السياقي الكاشف عن أن المدلول التصديقي من ورائه هو داعي البعث والتحريك ، وهذا يتحدد وفقاً لما يفهمه العرف من سياق الخطاب وهو لا يفهم من التكليف بواجب يطلب صرف وجوده في عمود الزمان أزيد من داعي البعث والتحريك في مجموع ذلك الزمان ، لا في كل آن آن منه.

الثاني ـ ان الواجب المعلق يستلزم أن يكون الحكم مشروطاً بشرط متأخر ، فإنه باعتبار تأخر زمان الواجب عن زمان الوجوب في الواجب المعلق لا محالة يكون مجيء ذلك الزمان شرطاً في صحة جعل الوجوب المتقدم فيكون مستحيلاً ، بناء على استحالة الشرط المتأخر ، نعم لو كان الشرط هو التعقب بالأمر المتأخر الّذي هو شرط مقارن لا متأخر أمكن جعله ثبوتاً ، لكنه خلاف ظاهر الدليل على شرطية نفس الزمان المتأخر في الواجب إثباتاً.

وهذا التخريج أيضا غير تام. فإنه مضافاً إلى ما حققناه في محله من معقولية الشرط المتأخر ، يرد عليه : أن شرطية القدرة وتقييد الخطاب به في المقام لم تكن بدليل خاص وإنما المقيّد حكم العقل بقبح تكليف العاجز أو الظهور

١٣٣

السياقي المتقدم ، ومن الواضح أن الضرورات تقدر بقدرها دائماً ، ولا قبح في التكليف بالجامع من أول الأمر بعد ثبوت القدرة عليه ولو في الزمن المتأخر كما أنه لا ينافي الظهور السياقي المتقدم ، وهذا يعني أنا نتمسك بإطلاق الخطاب لإثبات الوجوب في المقام من أول الأمر ونستكشف منه بالملازمة أن الشرط هو تعقب القدرة الّذي يكون شرطاً مقارناً. فإن كل إطلاق كان مفاده ممكن الثبوت بوجه يكون مقتضى القاعدة التمسك به.

وهكذا يتبين أن الصحيح هو ما ذهب إليه المحقق ـ قده ـ من عدم التزاحم بين الواجب الموسع والمضيّق.

التنبيه الخامس ـ ربما يتصور وقوع التعارض بين الخطابين في موارد التزاحم فيما إذا فرض الجهل بأحدهما. سواء قيل باستحالة الترتب في نفسه أو بإمكانه.

أما على الأول ، فلأن المفروض وقوع التعارض بين الخطابين لاستحالة ثبوتهما معاً واقعاً ، فلا بدّ من انتفاء أحدهما ، من دون فرق بين علم المكلف أو جهله ، فيكون نظير موارد اجتماع الأمر والنهي بناء على الامتناع وتغليب جانب الأمر من عدم الفرق في ارتفاع الأمر وبطلان العبادة فيها بين العلم بالحرمة أو الجهل بها.

وأما على الثاني ، فلما جاء في تقريرات المحقق النائيني ـ قده ـ من أن الترتب إنما يعقل فيما إذا كان الخطاب المترتب عليه وأصلاً للمكلف ومنجزاً عليه فلو لم يكن منجزاً لم يكن موقع للخطاب الترتبي لأحد وجهين.

الأول ـ انه لا يتحقق العصيان للخطاب المترتب عليه الّذي هو شرط للخطاب المترتب لأن المفروض عدم تنجزه.

الثاني ـ انه لا يمكن تحقق العلم بالخطاب المترتب لمكان عدم العلم بما هو موضوعه من كونه عاصياً للخطاب المترتب عليه ، لأن العلم بالعصيان فرع

١٣٤

العلم بالتكليف ، والمفروض أنه جاهل به (١).

والصحيح ، عدم التعارض بين الخطابين في موارد التزاحم مع الجهل بأحدهما ، وعدم صحة قياسه بموارد اجتماع الأمر والنهي بناء على الامتناع بل يمكن التمسك فيها بالخطاب الواصل منهما حتى لو قيل باستحالة الترتب فضلاً عما إذا قيل بإمكانه. والوجه في ذلك : ان محذور الامتناع المستوجب للتنافي بين الحكمين يختلف سنخاً في كل من البابين عنه في الباب الآخر ، فالامتناع في باب الاجتماع إنما يكون في مركز سابق على الحكم ، أي في مرحلة مبادئ الحكم من الحب والبغض والإرادة والكراهة ، حيث يدعى ـ بناء على الامتناع ـ استحالة اجتماع الكراهة والإرادة على موضوع واحد ، وهذا لا ربط له بمرحلة الامتثال وتحرك المكلف خارجاً في مقام الطاعة كي يتأثر بتنجز التكليف عليه وعدم تنجزه ، بل تكون الاستحالة على تقدير صحتها ثابتة سواء وصل الحكم إلى المكلف أم لا. وأما الامتناع في المقام فيكون بلحاظ عالم الحكم وما يستتبعه من اقتضاء التحريك نحو الامتثال ، والتحريك نحو امتثال الضدين معاً غير معقول ، وأما مع قطع النّظر عن ذلك فلا يلزم من إرادتهما محذور اجتماع الضدين أو المثلين. كما أن مبادئ الحكم من الحب والبغض أمور تكوينية فلا ضير في تعلقهما بالضدين فتمام النكتة في المحذور ينحصر في هذا الباب بمرحلة الجعل وما يستتبعه من التحريك نحو الامتثال الّذي هو فعل اختياري مباشر للمولى ، فلا بدّ وأن يلحظ هذا المحذور وحدوده ليرى أنه يجري في موارد الجهل بأحد الحكمين أم لا؟ والصحيح ان هذا المحذور غير جار في موارد الجهل بأحد الحكمين المتزاحمين وعدم تنجزه. أما على المسلك القائل بأن الحكم مجرد اعتبار وهو شامل حتى لموارد العجز ، غاية الأمر لا يحكم العقل بلزوم الطاعة فيها ، فلوضوح أنه على هذا المسلك يعقل الأمر بالضدين مطلقاً إذ لا محذور فيه غير أن العقل

__________________

(١) فوائد الأصول الجزء الأول ، ص ٢٢٢.

١٣٥

لا يحكم بلزوم الطاعة لأكثر من واحد منهما ، فإذا كان التكليف الأهم غير منجز حكم العقل بتنجز التكليف المهم ولزوم امتثاله.

وأما على المسلك القائل باختصاص التكليف بموارد القدرة وعدم ثبوته في موارد العجز ، فإن كان هذا التقييد بملاك قبح تكليف العاجز لكونه إحراجاً له على العصيان ، فواضح أيضا أنه لا يقتضي أكثر من تقييد التكليف وإخراج موارد تنجز التكليفين معاً ، وأما إذا كان أحدهما غير منجز فلا يلزم من إطلاق الآخر أي إحراج على العصيان. وإن كان التقييد باعتبار ما تقدم من استظهار كون التكليف بداعي التحريك والبعث فلا يشمل الا موارد إمكان الانبعاث خارجاً ، والضدان لا يمكن الانبعاث إليهما. فلأن المقصود من داعي البعث والتحريك ليس هو البعث الفعلي للمكلف ، أو إذا انقاد وكان مطيعاً. والا يلزم عدم ثبوت التكليف في موارد الجهل به وعدم وصوله إلى المكلف خصوصاً إذا كان قاطعاً بالعدم ، إذ لو أراد أن يكون منقاداً لم يعقل منه الانبعاث أيضا ، بل يلزم على الأول عدم التفات المولى إلى وجود العاصين ، وإنما المقصود استظهار كون الداعي من التكليف هو الانبعاث على تقدير الانقياد ووصول التكليف ـ بنحو قيد المراد لا الإرادة ـ.

وان شئت قلت : ان الداعي من التكليف هو الانبعاث الاقتضائي وحيث لا مانع عقلاً وشرعاً ، ومن الواضح أن هذا المعنى يعقل ثبوته بلحاظ كلا الضدين في موارد عدم تنجز أحدهما ، إذ لا يلزم من إطلاق الأمر في كل منهما مشروطاً بعدم تنجز الآخر محذور التنافي بين الداعويتين لا ذاتاً ، ولا عرضاً بلحاظ اقتضاء كل منهما لاستحقاق الامتثال ، أما الأول فواضح ، وأما الثاني فلأنه لو فرض تنجز التكليف المجهول ارتفع التكليف المعلوم فلا يكون مقتضياً للامتثال ، وهذا يعني عدم اجتماعهما في اقتضاء الامتثال معاً فلا موجب لرفع اليد عن إطلاق الخطاب الواصل في فرض عدم تنجز الخطاب الآخر.

١٣٦

وبهذا اتضح الوجه الفني لتصحيح الضد العبادي عند القائلين باستحالة الترتب فيما إذا كان التكليف الأهم مجهولاً بينما يحكم بالبطلان في موارد الاجتماع بناء على الامتناع ولو كانت الحرمة مجهولة ، رغم أن الموردين على أساس ذينك المبنيين يكون كلاهما من باب التعارض بين دليلي الحكمين ، حيث اتضح أن الخطاب لا بد أن يتقيد بناء على الامتناع بعدم النهي واقعاً وأما في باب التزاحم فيكفي تقييده بعدم تنجز الأهم ولو قيل باستحالة الترتب.

ومنه يعرف ما في كلام المحقق النائيني ـ قده ـ فإنه على القول بإمكان الترتب أيضا يكون الخطاب الترتبي مشروطاً بعدم تنجز الآخر لا بعصيانه الّذي هو تقييد زائد في دليله ، فإن الضرورات تقدر بقدرها دائماً ، وعدم تنجز الآخر شرط محرز لدى المكلف.

هذا ، مضافاً إلى أنه على القول بلزوم تقييد الأمر الترتبي بعصيان الآخر فلا موجب لفرض تقييده بعنوان العصيان بل يكفي لدفع غائلة المطاردة بين الحكمين أن يقيد بترك الضد الآخر الّذي هو أمر محرز أيضا. كما أنه عرف من هذا البيان : أن المقيد اللبي للخطابات الّذي به أخرجنا باب التزاحم عن التعارض ليس هو عدم الاشتغال بضد واجب واقعاً ، بل عدم الاشتغال بضد واجب منجز فإذا فرض عدم تنجز وجوب الضد الأهم كان الأمر بالمهم فعلياً حتى لو اشتغل بالضد ، وهذا يعني أن ما تقدم من أحكام التزاحم من التخيير عند التساوي والترجيح بالأهمية ونحوها من المرجحات المستلزمة لورود أحد الخطابين على الآخر مخصوصة بما إذا كان الحكمان المتزاحمان وأصلين منجزين.

التنبيه السادس ـ في تطبيق فكرة التزاحم على مسألة فقهية معروفة ، وهي ما إذا وقع التزاحم بين وجوب الحج على المستطيع ووجوب الوفاء بالنذر ونحوه ، كما إذا نذر زيارة أبي عبد الله الحسين عليه‌السلام في يوم عرفة. والصحيح

١٣٧

تقديم خطاب وجوب الحج على خطاب وجوب الوفاء في مقام التزاحم ، وذلك بأحد التقريبات التالية :

التقريب الأول ـ ترجيحه بالأهمية ، فانا حتى إذا فرضنا ان القدرة في وجوب الوفاء عقلية وان ملاكه مطلق ثابت على تقدير الاشتغال بالحج ، مع ذلك رجحنا وجوب الحج ، لأن القدرة فيه عقلية أيضا ، فيكون ملاكه مطلقاً. وهو أهم إما جزماً أو احتمالاً. وقد تقدم صحة الترجيح بالأهمية.

أما كونه مشروطاً بالقدرة العقلية ، فبمقتضى إطلاق دليله فإنه وإن قيد بالاستطاعة بحسب لسانه إلاّ أن المراد من الاستطاعة ـ بلحاظ نفس الآية ـ ما يقابل العجز التكويني وما يلحق به عرفاً من المشقة والحرج ـ وبلحاظ الروايات ـ ما فسرت به من الزاد والراحلة. وعلى أي حال لا تكون بمعنى عدم الاشتغال بواجب آخر ، فلو كان أخذ عنوان الاستطاعة في لسان دليل ظاهراً في دخلها في الملاك فغاية ما يثبت في المقام دخل القدرة التكوينية في وجوب الحج وهي محفوظة ، ودعوى : أن الخطاب مقيد لباً بعدم الاشتغال بالضد الواجب المساوي أو الأهم ومعه لا يمكن التمسك بإطلاق الدليل لحال الاشتغال بالضد لإثبات فعلية ملاكه ، إلاّ على مسالك غير تامة.

مدفوعة : بما تقدم من تمامية الإطلاق في الخطاب لحال الاشتغال بالضد الواجب الّذي علم أنه ليس بأهم بل اما مساو أو مرجوح ، فضلاً عما إذا كان يعلم بمرجوحيته.

وقياس المقام على دليل وجوب الوضوء الّذي كان مشروطاً بالقدرة بحسب لسان دليله فاستظهر منه كون القدرة شرعية فيه غير تام ، إذ مضافاً إلى عدم تمامية الاستظهار المذكور في المقيس عليه ـ كما تقدم ـ أن نكتة تلك الاستفادة عطف المريض في الآية الكريمة على المسافر مع تمكنه من الماء خارجاً ، مما قد يجعل قرينة على إرادة معنى أوسع للقدرة. ومثل هذه النكتة غير موجودة في المقام.

١٣٨

وأما أهمية ملاك الحج ، فإن لم نقطع بها على ضوء ما ورد في الأحاديث الكثيرة من التأكيد على الحج واهتمام الشريعة به وجعله أحد أركان الدين حتى عبر عن تركه بالكفر في الآية الكريمة وجاء في وصف تاركه بأنه يموت نصرانياً أو يهودياً على ما في بعض الروايات ، فلا أقل من أن هذه المجموعة الضخمة من التأكيدات تستوجب انتفاء احتمال أهمية وجوب الوفاء في قبال احتمال أهمية وجوب الحج أو ضعفه على أسوأ التقادير ، وهو كاف في الترجيح بالأهمية كما تقدم.

التقريب الثاني : ترجيح وجوب الحج باعتبار كون القدرة فيه عقلية وفي وجوب الوفاء شرعية. أما الأول فلما تقدم في التقريب السابق. وأما الثاني فباعتبار ما ورد في لسان أدلة وجوب الوفاء بالشرط ونحوه من ( أنّ شَرطَ اللهِ قَبلَ شَرطِكُم ) (١) الظاهر في أن هذا الوجوب لا يزاحم وجوباً شرطه الله تعالى.

التقريب الثالث : إنه لو سلمنا وافترضنا أن القدرة في وجوب الحج شرعية أيضا ، بمعنى اشتراطه ملاكاً وخطاباً بعدم الاشتغال بواجب آخر مع ذلك نرجحه على وجوب الوفاء باعتبار كون القدرة الشرعية في وجوب الوفاء أخس من ذلك ، لأنها بمعنى عدم الأمر بالخلاف ، إذ الظاهر من اشتراط عدم مخالفة النذر لشرط الله تعالى أن لا يكون على خلافه إلزام من الشارع سواء اشتغل به أم لا ، ولذلك لا يكون النذر وأشباهه منعقداً ولو لم يشتغل المكلف بالحج ، وهذا بخلاف الاستطاعة المأخوذة في وجوب الحج فإنها لا ترتفع بمجرد الأمر بالخلاف :

التقريب الرابع : لو افترضنا أن القدرة في وجوب الحج شرعية بالمعنى المذكور عن عدم الأمر بالخلاف مع ذلك لا بد من تقديم وجوب الحج على

__________________

(١) وسائل الشيعة باب ١٣ من أبواب مقدمات الطلاق.

١٣٩

وجوب الوفاء بالنذر وشبهه باعتبار أن المستظهر عرفاً من أدلة وجوب الوفاء اشتراط القدرة الشرعية اللولائية فيه لا مجرد القدرة الشرعية بالفعل ، أي أن المستفاد منها اشتراط عدم أمر شرعي بالخلاف في نفسه وبقطع النّظر عن وجوب الوفاء لأن الظاهر من القبلية في قوله شرط الله قبل شرطكم أن التكاليف والالتزامات الشرعية المفروضة من قبل الله تعالى لا بد وأن تلحظ في المرتبة السابقة على شروطكم وبقطع النّظر عنها ، فإذا كانت ثابتة كذلك فلا يصل الدور إلى شروطكم ، وهو معنى القدرة الشرعية اللولائية. بينما دليل وجوب الحج حتى لو دل على اعتبار القدرة الشرعية فيه لا يستفاد منه أكثر من اعتبار القدرة الشرعية بالفعل ، وقد تقدم أيضا أن المشروط بالقدرة الشرعية الفعلية يتقدم على المشروط بالقدرة الشرعية اللولائية.

هذه هي التقريبات الصحيحة في تخريج الحكم بتقديم وجوب الحج على وجوب الوفاء بالنذر وشبهه في موارد التزاحم. ولا يخفى أن طرف المزاحمة مع وجوب الوفاء تارة يكون أصل وجوب : الحج وأخرى : يكون فوريته بناء على وجوبها ، فعلى الأول تتم الوجوه الأربعة جميعاً لترجيح وجوب الحج. وعلى الثاني قد لا تتم إلاّ الثلاثة الأخيرة منها. ثم إنه ربما يحاول تقديم وجوب الحج على وجوب الوفاء بالنذر بوجهين آخرين.

أولهما : إن القدرة في وجوب الوفاء شرعية ، باعتبار أن موضوعه هو الوفاء بالالتزام والتعهد الصادر من المكلف وهو لا يتعهد إلاّ في حدود العمل المقدور له ، فما التزم به المكلف هو الفعل المقدور وخطاب وجوب الوفاء موضوعه ما التزم به المكلف فيكون الفعل المقدور أيضا. فإذا ضممنا إلى هذا أن القدرة في وجوب الحج عقلية كما تقدم ، تم ترجيحه على وجوب الوفاء.

وفيه : أن الالتزام والتعهد وإن كان مقيداً بالمقدور لباً إلاّ أنه ينبغي أن يراد بالمقدور فيه ما يقابل العجز التكويني الّذي لا يتأتى الالتزام

١٤٠