بحوث في علم الأصول - ج ٧

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٧

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٢٧

يضاف عليها احتمال وجود المانع عن إبراز أهمية الحكم الثاني. وأيا ما كان فالمقياس هو ازدياد قيمة احتمال الأهمية زيادة عرفية بحيث لا يكون خلافه بالغاً درجة الاطمئنان.

هذا كله فيما إذا كنا نحسب الاحتمالات ونحن نواجه النصوص الصادرة عن المعصوم عليه‌السلام واقعاً ، فنجد أنها في أحد الحكمين أكثر من الآخر ، وأما إذا كنا نواجه الروايات التي تنقل إلينا تلك النصوص فنجد أن ما تنقل أحد الحكمين أكثر مما تنقل الحكم الآخر ، أي الكثرة في النصوص في مرحلة الوصول ، فلا بدّ من إجراء حساب الاحتمالات أخرى في النقل والرواية لنفي احتمال أن تكون قلة الرواية للحكم الثاني ناشئة عن خصوصية فيها من قبيل توافر الدواعي لنقل الحكم الأول دون الثاني ، أو وجود موانع تقتضي عدم نقل الحكم الثاني ، بنفس البيان المتقدم أيضا.

٤ ـ ترجيح الأسبق زماناً :

إذا كان أحد الواجبين المتزاحمين أسبق زماناً من الآخر ، فقد ذكروا لزوم تقديم الأسبق زماناً وترجيحه على المتأخر زماناً. وذلك باعتبار : أن الأسبق يصير خطابه فعلياً قبل فعلية مزاحمه فيكون تركه غير معذور فيه بخلاف ما إذا امتثل الأسبق فإنه لا يبقى معه مجال لفعلية الخطاب المتأخر ، حيث ترتفع القدرة عليه.

والصحيح ، عدم مرجحية الأسبقية ، وتوضيح ذلك :

إن الواجبين المتزاحمين تارة : يفترض أن القدرة مأخوذة فيهما عقلاً ، وأخرى : يفرض أنها مأخوذة شرعاً ، أي أنهما مشروطان بالقدرة الشرعية ، فعلى الأول يكون من الواضح عدم الترجيح بالأسبقية ، لأن كلا من الخطابين مقيد لباً بقيد واحد ، وهو عدم الاشتغال بضد واجب فعلي ملاكه ، مساو أو أهم ، وبرهان هذا التقييد الّذي تقدم شرحه مفصلاً لا يفرق فيه بين حالة

١٠١

كون الضد الواجب مقارنا أو متقدماً زماناً ، فكما يكون الإتيان بالأسبق زماناً رافعاً لفعلية الخطاب المتأخر كذلك يكون الإتيان بالمتأخر في زمانه رافعاً لفعلية الخطاب المتقدم ، وهو معنى عدم الترجيح. وأما على الفرض الثاني ، فقد يتوهم الترجيح بتقريب : أن القدرة الشرعية بمعنى دخلها في الملاك فعلية في حق الأسبق بخلاف المتأخر لأن الإتيان بالأسبق يرفع القدرة على الواجب المتأخّر في ظرفه ، دون الإتيان بالواجب المتأخر فإنه لا يرفع القدرة على الأسبق في الزمان المتقدم وجداناً.

إلاّ أن هذا التقريب غير تام ، لأن الواجب المتأخر إن فرض أن ملاكه مشروط بالقدرة على الواجب في ظرف امتثاله بالخصوص ، فما ذكر من ارتفاع فعلية الخطاب المتأخر بامتثال المتقدم وإن كان ثابتاً إلاّ أنه ليس من جهة ترجيح أحد المتزاحمين بما هما واجبان على الآخر وإنما باعتبار أخذ قيد خاص في أحد الخطابين بنحو يرتفع بإتيان الفعل المتقدم ولو لم يكن واجباً أصلا ، وهذا خارج عن محل الكلام. وإن فرض أنه مشروط بمطلق القدرة المحفوظ مع الاشتغال بالضد ـ كما هو المفروض في موارد التزاحم ـ فهذه القدرة كما هي فعلية في حق الواجب الأسبق زماناً كذلك هي فعلية في حق المتأخر زماناً ، إذ يمكن للمكلف أن يحفظ قدرته للواجب المتأخر بترك المتقدم.

ويمكن تصوير الترجيح بالأسبقية الزمانية في إحدى حالتين أخريين.

الأولى ـ أن تكون القدرة الشرعية بمعنى دخل عدم الاشتغال بواجب مقارن أو متقدم في الملاك دون الواجب المتأخر.

فإنه في هذه الحالة سوف يكون الإتيان بالواجب الأسبق زماناً رافعاً بمقتضى هذا التقييد لإطلاق الخطاب المتأخر دون العكس. إلاّ أن هذا مجرد افتراض وتقييد زائد في دليل الخطاب ، وهو كما يمكن أن يفترض بهذا النحو يمكن ثبوتاً أن يفترض بنحو ينتج العكس بأن يقيد الخطاب بعدم الاشتغال

١٠٢

بواجب متأخر. وإن كان ظاهر إطلاق القيد لعله يناسب مع الافتراض المذكور في جملة من الموارد.

الثانية : أن تكون القدرة الشرعية بمعنى عدم المنافي المولوي الحاصل بنفس الأمر بالخلاف ، فإنه حينئذ سوف يكون الواجب المتقدم فعلي الملاك لعدم المنافي المولوي في زمانه إذا كان الآخر متأخراً وجوباً وامتثالاً كالواجب المعلق ، فيكون امتثاله رافعاً لموضوع الخطاب المتأخر.

وهذا أيضا تقييد زائد في الخطاب يُتّبع فيه لسان الدليل ، فإذا كان مقيداً بعدم الأمر الفعلي المقارن أو المتقدم بالخلاف دون المتأخر تمّ الترجيح وأما إذا كان مقيداً بعدم تكليف مولوي آخر منجز على المكلف من هذه الناحية ولو لم يكن خطابه فعلياً ، وقيل بوجوب حفظ المقدمات المفوتة فالمنافي المولوي موجود لا محالة ويكون التوارد من الطرفين.

وهكذا يتبرهن : أن هذا الترجيح لا يمكن تخرجه على أساس قوانين التزاحم العامة وإنما لا بد فيه من دليل خاص يثبت به تقييد أحد المتزاحمين بعدم وجود مزاحم أسبق زماناً عليه فيتقدم الأسبق بالورود.

نعم ، لا يبعد دعوى ترجيح الواجب الأسبق زماناً فيما إذا كان يحتمل فوات الواجب المتأخر زماناً في ظرفه بموت أو عجز أو غير ذلك فإنه مع وجود هذا الاحتمال يمكن أن يقال بلزوم تقديم الأسبق والمبادرة إليه ، وذلك تمسكاً بإطلاق خطابه لإثبات فعليته وتنجزه ، لأن المقيد اللبّي الّذي أبرزناه سابقاً لا يقتضي التقييد بأكثر من الاشتغال بواجب مساو أو أهم ، عرضي أو طولي ، يقطع بانحفاظ القدرة عليه في ظرفه ، نظير ما يقال في الترجيح بالأهمية الاحتمالية. إذ لا يكون الإطلاق في الخطاب الأسبق لغواً حينئذ بل من أجل الاحتياط والتحفظ على أحد الملاكين على كل حال.

هذه هي مرجحات باب التزاحم ، وقد عرفت رجوعها جميعاً إلى باب الورود ، فإن تمّ شيء منها تعين تقديم ذي المزية بقانون الورود وإلاّ فالمتعين بناء على إمكان الترتب الالتزام بالتخيير وتساوي الواجبين في مقام الامتثال.

١٠٣

حُكم التَزاحُم في حَالةِ عَدَم الترجيح

إذا فرض تساوي المتزاحمين وعدم ترجيح في أحدهما وقع البحث حينئذ عن ثبوت التخيير بينهما وكونه عقلياً أو شرعياً. ونقصد بالتخيير العقلي ، وجود خطابين شرعيين تعيينيين كل منهما مشروط بعدم امتثال الآخر وإنما يتخير بينهما في مقام الامتثال بحكم العقل ، ونقصد بالتخيير الشرعي وجود خطاب واحد تخييري بدلاً من خطابين مشروطين.

ومهم الثمرة الملحوظة من وراء هذا البحث مسألة وحدة العقاب وتعدده ، حيث يدعى أنه بناء على كون التخيير عقلياً يتعدد العقاب على العاصي إذا تركهما معاً ، لأنه يكون قد عصى خطابين شرعيين. وأما إذا كان التخيير شرعياً فلا يكون عاصياً إلاّ لخطاب واحد.

وقد أفاد المحقق النائيني ـ قده ـ تفصيلاً في المقام بين ما إذا كان التكليفان مشروطين بالقدرة الشرعية أو بالقدرة العقلية ، فحكم بالتخيير العقلي في الأول والشرعي في الثاني ، بتقريب. « انه لا وجه لسقوط أصل الخطاب في المشروط بالقدرة العقلية وإنما الساقط إطلاقه لحال الاشتغال بالآخر فيثبت خطابان مشروطان يتخير بينهما عقلاً ، وأما المشروط بالقدرة الشرعية فالتخيير الثابت فيه شرعي كشف عنه العقل فإن كلاً من الواجبين إذا كان واجداً لملاك إلزامي في ظرف القدرة عليه ـ كما هو المفروض ـ ففي فرض التزاحم

١٠٤

يكون أحدهما لا بعينه ذا ملاك إلزامي لا محالة فلا بد للمولى من إيجابه ، ضرورة أنه لا يجوز للحكيم أن يرفع يده عن تكليفه بالواحد لا بعينه مع فرض وجدانه للملاك الإلزاميّ بمجرد عجز المكلف عن الإتيان بكلا الفعلين. وعليه فلا مناص للمولى الحكيم في المقام من إيجاب أحد الفعلين لا بعينه » (١).

والتحقيق ، أن يقال : تارة : يكون البحث علي مستوى عالم الإثبات وما يستفاد من دليل الخطابين المتزاحمين ، وأخرى : يكون البحث على مستوى عالم الثبوت وما يترتب على كون التخيير عقلياً أو شرعياً.

أما البحث الإثباتي ، فالصحيح هو أن التخيير عقلي على كل حال سواء كان الخطاب مشروطاً بالقدرة الشرعية ، أي كان الاشتغال بالضد الواجب رافعاً للملاك والخطاب معاً أم كانت القدرة عقلية. وذلك لأن ظاهر دليل كل من المتزاحمين هو الخطاب التعييني به غاية الأمر قد فرض تقييده بالمقيد اللبي عقلاً أو بأخذ القدرة فيه شرعاً ، ومن الواضح أن كل واحد منهما في فرض عدم الاشتغال بالآخر يكون مقدوراً فيكون إطلاقه لفرض عدم الاشتغال بالآخر ثابتاً ومقتضياً لكونه تعيينياً ملاكاً وخطاباً فلا موجب لرفع اليد عنه وافتراض وجود ملاك واحد بالجامع بينهما كما ذكره المحقق النائيني ـ قده ـ. وعليه فلو ترك المكلف امتثال الخطابين معاً يكون بذلك مخالفاً لتكليفين فعليين في حقه ومفوتاً لملاكين ثابتين للمولى وأما إذا امتثل أحدهما فيكون ممتثلاً لتكليف ورافعاً لموضوع تكليف آخر كما هو واضح.

نعم ، بناء على إنكار الترتب والقول باستحالته يقع التعارض بين الخطابين الظاهرين في التعيينية بلحاظ مورد التزاحم ، فإذا فرض العلم بثبوت التكليف في الجملة في مورد التزاحم وعدم سقوطه رأساً اندرج المقام في الشبهة الحكمية التي يحتمل فيها وجود تكليف بالجامع أو بهذا تعييناً أو بذاك تعييناً

__________________

(١) نقل بتصرف من أجود التقريرات الجزء الأول ، ص ٢٧٧ ـ ٢٧٩.

١٠٥

فيحكم فيها بما تقتضيه الأصول العملية المنقحة في محلها.

واما البحث الثبوتي ، فإذا فرضنا القدرة عقلية بمعنى أنها غير دخيلة في الملاك ، أو أن الدخيل في الملاك هو القدرة التكوينية المصححة لأصل التكليف بشيء ـ القدرة الشرعية بالمعنى الأول على المصطلح المتقدم ـ فسوف يكون ملاك التكليفين معاً فعلياً إلاّ أن المكلف عاجز عن استيفائهما. وفي مثل ذلك كما يمكن للمولى أن يجعل خطابين تعيينيين لكل منهما مشروطاً بترك الآخر ـ التخيير العقلي ـ كذلك يمكنه أن يجعل خطاباً واحداً بالجامع بينهما ـ التخيير الشرعي ـ إذ يكون الفرق بينهما حينئذ في مجرد كيفية صياغة التشريع لا أكثر ، وما قيل من تعدد العقاب على التارك لهما معاً فيما إذا كان التخيير عقلياً ووحدته إذا كان شرعياً ، غير تام على هذا التقدير لأن كون التخيير عقلياً وإن كان يستلزم فعلية الخطابين معاً على التارك لهما إلاّ أنه لا يستلزم تعدد العقاب عليه والوجه في ذلك : أن هناك عدة مسالك في تشخيص ما هو الميزان في تحقق العصيان وصحة العقوبة ، ذكرناها في أبحاث الترتب.

المسلك الأول ـ أن يكون الميزان في العقوبة القدرة علي الامتثال. فكلما لم يكن الامتثال مقدوراً لم يصح العقاب. وهذا هو المسلك الّذي جعله القائلون باستحالة الترتب منطلقاً للنقض على نظرية الترتب وأنها تستلزم العقوبة على أمر غير اختياري ، وبناء عليه لا يكون في موارد التزاحم إلاّ خطاب واحد وعقوبة واحدة.

المسلك الثاني ـ أن يكون الميزان في صحة العقوبة القدرة على التخلص من المخالفة سواء كان ذلك بالامتثال أو برفع الموضوع. وبهذا تصح العقوبة في موارد التزاحم إذا كان التخيير عقلياً ، لأن الفرار والتخلص من مخالفة كلا الوجوبين الترتيبين مقدور للمكلف.

المسلك الثالث ـ أن يكون الميزان في صحة العقوبة أن لا يفوّت على

١٠٦

المولى ملاكاً لزومياً يهتم به ، إذ لا موضوعية للخطاب بما هو جعل وتشريع في نظر العقل الّذي هو الحاكم المطلق في باب الإطاعة والعصيان ، وإنما هو مجرد طريق لإبراز اهتمام المولى بالملاك. ولهذا يتحقق العصيان أيضا بتفويت ملاك لزومي للمولى إذا استكشفه العبد عن غير طريق الخطاب.

والصحيح من هذه المسالك هو الأخير ، وبناء عليه لا يتعدد العقاب على العاصي في موارد القدرة العقلية سواء كان هناك خطاب واحد بالجامع أو خطابين مشروطين ، فإن أحد الملاكين في المقام فواته قهري على كل حال وليس بتفويت من المكلف.

وأما إذا كانت القدرة شرعية ودخيلة في الملاك. فإن كانت بمعنى وجود الملاك بمقدار وجود القدرة لا أكثر فكما لا يوجد إلاّ قدرة واحدة على أحدهما كذلك لا يوجد ملاك إلاّ في أحدهما ، فأيضاً لا يكون إلاّ عقوبة واحدة سواء جعل الخطاب بنحو التخيير العقلي أو الشرعي. وإن كانت القدرة الشرعية بمعنى دخل عدم الاشتغال بواجب آخر في الملاك فهناك ملاكان فعليان على تقدير تركهما معاً ، وهذا يعني أن المكلف كان يمكنه أن لا يفوت على المولى شيئاً من ملاكاته بالإتيان بأحدهما ، فيتعدد العقاب لا محالة ويكون التخيير عقلياً.

وهكذا يتضح : أن المقياس في تعدد العقوبة ووحدتها لا يرتبط بكون التخيير عقلياً أو شرعياً ، وإنما يرتبط بدخل عدم الاشتغال بالمزاحم في الملاك.

هذا كله فيما إذا لم يكن المتزاحمان مشروطين بالقدرة الشرعية بالمعنى الثالث ، وأما إذا كانت القدرة شرعية بهذا المعنى ـ عدم الأمر بالخلاف ـ فإن أريد به عدم المنافي اللولائي ـ لو لا الحكم الأول ـ ففي فرض تساوي الخطابين لا يمكن التمسك بإطلاق شيء من الدليلين لعدم تحقق الشرط المذكور ، فلا يثبت شيء من الحكمين ما لم يضم العلم من الخارج بانحفاظ حكم في الجملة ،

١٠٧

فتكون شبهة حكمية دائرة بين التخيير والتعيين. وإن أريد عدم المنافي الفعلي ففي هذه الحالة يحصل التعارض بين الدليلين ، لأن جعل وجوبين من هذا القبيل غير معقول في نفسه باعتبار استلزامه للدور المستحيل ، إذ يكون كل من الخطابين بجعله رافعاً لموضوع الآخر ـ على ما تقدم شرحه سابقاً ـ فيعلم بكذب أحد الإطلاقين لا محالة ، وهو معنى التعارض. ولو فرض التساقط وعدم الترجيح ، وضم إليه علم من الخارج بثبوت حكم في الجملة كانت شبهة حكمية دائرة بين التعيين والتخيير.

١٠٨

تنبيهاتُ بابِ التزاحُم

بقي التنبيه على أمور.

التنبيه الأول ـ هل يشترط في التزاحم بين الخطابين أن يكون التضاد بين متعلقيهما اتفاقياً لا دائمياً أو لا يشترط ذلك؟

الصحيح هو ذلك ، فإن موارد التضاد الدائمي تكون من موارد التعارض بين الخطابين. وتوضيح ذلك : انه في موارد التضاد الدائمي بين المتعلقين تارة : يفترض عدم وجود ضد ثالث لهما وأخرى : يفترض وجوده ، فإذا كان المتعلقان ضدين لا ثالث لهما كان وقوع التعارض بين دليلي الحكمين واضحاً ، لأنه لا يعقل التكليف بهما معاً لا جمعاً ، لاستلزامه الجمع بين الضدين ، ولا بدلاً بأن يشرط أحدهما أو كلاهما بعدم الأخر ، لأنه من تحصيل الحاصل إذ أن وجود أحدهما على تقدير ترك الآخر ضروري فيكون أحد التكليفين أو كلاهما لغواً.

وأما إذا كانا من الضدين الذين لهما ثالث ، كما إذا ورد : تجب الصلاة عند طلوع الفجر. وورد في دليل آخر : يجب التمشي عند طلوع الفجر مثلاً. وهما ضدان لهما ثالث ، فهل يعامل معهما معاملة الخطابات المتزاحمة اتفاقاً فيقال بعدم التعارض بينهما لأن كل واحد منهما مقيد لباً بعدم الاشتغال بالمساوي أو الأهم ولا يعقل أهمية كل منهما من الآخر فاما متساويان في الملاك

١٠٩

فيكون الترتب من الجانبين ، وإما أحدهما أهم فيكون الترتب من جانب واحد ، أو يقع بينهما تعارض؟ ذهبت مدرسة المحقق النائيني ـ قده ـ إلى الثاني.

والصحيح ، وقوع التعارض بين إطلاق الخطابين لا بين أصلهما. أما عدم التعارض بين أصل الخطابين فلأن ثبوت كل منهما مشروطاً بعدم الاشتغال بالآخر لا محذور فيه بعد البناء على إمكان الترتب ، وأما وقوع التعارض بين إطلاقيهما فلأن المتفاهم عرفاً ثبوت الإطلاق في كل منهما لحال الاشتغال بالآخر فيكون معارضاً مع إطلاق الخطاب الآخر كما يشهد بذلك الوجدان العرفي.

والتخريج الفني لهذا الوجدان العرفي : أن ما ذكر في ما سبق للمنع عن التمسك بمثل هذا الإطلاق في أدلة الأحكام باعتباره تمسكاً بالعامّ في الشبهة المصداقية لمخصصه اللبي المتصل ، غير جار في المقام لأن خصوصية كون التضاد بينهما دائمياً بنفسها قرينة عرفية على أن المولى ينفي مانعية الاشتغال بالآخر عن الأمر بهذا ، وعليه فلا بد من تطبيق قواعد باب التعارض بين إطلاقي كل من الخطابين لحال الاشتغال بالآخر فإن ثبت ترجيح لأحدهما كان مطلقاً والآخر مشروطاً بعدم الإتيان به. وإلاّ فيتساقطان ويثبت بهما حكمان مشروطان بنحو الترتب من الطرفين لما قلناه من عدم التعارض بين أصل الخطابين فإن إطلاق كل منهما لحال ترك الاشتغال بالآخر لا معارض له ، كما هو واضح.

التنبيه الثاني ـ قد اتضح مما تقدم في تعريف التزاحم أنه يستبطن وجود جعلين مترتبين من جانب واحد أو من جانبين ، ولذلك قلنا أن خروج التزاحم من باب التعارض الحقيقي موقوف على القول بإمكان الترتب. والمقصود في هذا التنبيه الإشارة إلى الموارد التي لا يمكن فيها الترتب فلا يكون من باب التزاحم ، حيث استعرض المحقق النائيني ـ قده ـ عدة موارد ادعى فيها عدم معقولية الترتب ، فيكون خارجاً عن باب التزاحم. ولا بد قبل التعرض

١١٠

لهذه الموارد من أن نشير إلى الضابط العام لإمكان الترتب فنقول :

هناك شرطان أساسيان لإمكان الترتب.

الشرط الأول ـ أن لا يكون أحد الخطابين مشروطاً بالقدرة الشرعية بالمعنى الثالث وهو عدم الأمر بالخلاف ، إذ لو كان كذلك فسوف يستحيل ثبوته ولو بنحو الترتب ومشروطاً بعدم الاشتغال بالمنافي ، لأن الشرط عدم نفس الأمر الآخر وهو غير محفوظ حتى لو لم يشتغل بالمنافي.

الشرط الثاني ـ أن لا يكون ترك أحدهما مساوقاً مع تحقق الآخر ، كما في الضدين الذين لا ثالث لهما وإلاّ كان الأمر به ولو مشروطاً بعدم الآخر مستحيلاً لأنه من طلب الحاصل.

فإذا اتضح ما هو الضابط العام لإمكان الترتب نرجع إلى استعراض الموارد التي ادعي فيها استحالة الترتب وبالتالي خروجها عن باب التزاحم.

المورد الأول ـ ما إذا كان أحد التكليفين مشروطاً بالقدرة الشرعية إذ لا يكون حينئذ ملاك فيه لكي يعقل الأمر به ولو مترتباً.

ولا أدري ما ذا فهم السيد الأستاذ ـ دام ظله ـ من هذا البيان فأورد عليه بإشكال الدور ، وان الملاك إنما يستكشف بالخطاب دائماً فهو موقوف عليه في مقام الإثبات فلو كان الخطاب الترتبي يستكشف بالملاك وموقوفاً على إحرازه لزم الدور ولزم بطلان الترتب في جميع الموارد إذ لا علم لنا فيها جميعاً بالملاك إلاّ من ناحية الخطاب.

والصحيح ما أوضحناه آنفاً من أن القدرة الشرعية الدخيلة في الملاك إن أريد بها دخل عدم وجود المانع الشرعي والأمر بالخلاف في الملاك فلا يعقل الترتب ، لا لعدم إحراز الملاك في المرتبة السابقة كي يلزم الدور ، بل لانتفاء التكليف ملاكاً وخطاباً بانتفاء شرطه وهو القدرة بالمعنى المذكور.

١١١

وان أريد بها دخل عدم الاشتغال بالواجب الآخر في الملاك كان الترتب معقولاً لتحقق الشرط بترك الاشتغال بالواجب الآخر.

وقد ذكر في المقام بعض الأمثلة الفقهية كتطبيقات لهذا المورد من موارد عدم إمكان الترتب وبالتالي خروجها عن باب التزاحم.

( منها ) ما إذا كان الوضوء مزاحماً بواجب آخر أهم يقتضي صرف الماء فيه كما إذا توقف إنجاء نفس محترمة عليه ، وقد حكم المحقق النائيني ـ قده ـ بسقوط وجوب الوضوء والانتقال إلى التيمم بحيث لو توضأ به كان باطلاً لكونه مشروطاً بالقدرة الشرعية وهي منتفية.

والتحقيق ، هو الحكم بالصحّة لأن ما يمكن أن يذكر لإثبات كون القدرة شرعية في الوضوء أحد تقريبين.

التقريب الأول ـ كونه مما له بدل وهو التيمم ، وتقدم في البحث عن المرجحات أن ما يكون له بدل يكون مشروطاً بالقدرة الشرعية دائماً ولذلك يرجح عليه ما ليس له بدل.

وفيه : ما تقدم هناك مفصلاً من عدم إمكان استفادة ذلك من مجرد وجود البدل للواجب.

التقريب الثاني ـ ويتركب من مقدمتين :

أولاهما ، أن قوله تعالى ( فَلَم تَجِدُوا مَاءً فتيمّمُوا صَعِيداً .. ) (١). قد دل على التفصيل بين الوضوء والتيمم وان الثاني إنما يجب في فرض عدم وجدان الماء فيفهم منه بمقتضى كون التفصيل قاطعاً للشركة أن موضوع وجوب الوضوء هو الواجد للماء.

الثانية ، ان المراد من وجدان الماء ليس هو وجوده الخارجي بل

__________________

(١) ٤٣ النساء.

١١٢

القدرة على استعماله وتيسر الوضوء به ولو بقرينة ذكر المرض مع السفر في الآية المباركة الدال على أن الميزان هو القدرة وعدم المشقة وهو معنى كون القدرة الشرعية في دليل وجوب الوضوء.

والتحقيق : انه تارة : يراد جعل إحراز أخذ القدرة الشرعية بالقرينة الداخلية أو الخارجية مانعاً عن إمكان الترتب في الأمر بالوضوء ، وأخرى يراد أن احتمال كون القدرة المأخوذة فيه شرعية أيضا مانع عن الترتب بحيث لا بد من إحراز عدم أخذها في إثبات الأمر الترتبي.

والأول باطل مبنى وبناء ، أما بطلان المبنى فلأن القدرة الشرعية لو كانت بمعنى يمنع عن الترتب ـ كما لو أريد منه عدم المنافي المولوي ـ فاحتمالها أيضا يكون مانعاً عن إمكان الترتب فلو كان الخطاب مشروطاً بما يحتمل أن يكون المراد منه القدرة الشرعية بالمعنى المذكور ـ كقيد الوجدان في الآية الكريمة ـ لم يجز التمسك به لإثبات الأمر ولو مشروطاً لأنه مقيد بقيد يحتمل ارتفاعه بنفس ثبوت الخطاب الآخر ، بل لا بد من إحراز عدم أخذ القدرة الشرعية بالمعنى المذكور ولو بإطلاق ونحوه. نعم ، لو أريد بالقدرة الشرعية دخل عدم الاشتغال بالأهم في الملاك أمكن إثبات الأمر الترتبي حتى لو علم بأخذها فيه ، وهذا يعنى أن الصحيح هو التفصيل بين المعنيين للقدرة الشرعية لا بين إحراز أخذ القدرة الشرعية وعدم إحرازه. وأما بطلان البناء فلأنه :

أولا ـ يكفي الأمر الاستحبابي بالوضوء لتصحيح الوضوء فإنه غير مقيد بحسب لسان دليله بالقدرة الشرعية.

وثانياً ـ إن الخطاب الوجوبيّ أيضا لم تقم قرينة فيه على أخذ القدرة الشرعية في موضوعه فإنه وإن كان مقيداً بفرض القدرة باعتبار أخذ عنوان عدم وجدان الماء الّذي هو كناية عن العجز وعدم القدرة على الوضوء ولو بقرينة عطف المرض على السفر في موضوع آية التيمم فتكون القدرة عليه مأخوذة في موضوع وجوب الوضوء ولكن عنوان القدرة والاستطاعة لم يؤخذ بصورة مباشرة

١١٣

في لسان دليل وجوب الوضوء. وما تقدم من إمكان استظهار دخل القدرة في الملاك بنكتة أن الأصل في قيود الخطاب أن تكون للتأسيس إنما يتم فيما إذا أنيط الحكم صريحاً بالقدرة في لسان دليله لا في مثل المقام الّذي ورد فيه العجز في دليل البدل لتأسيس حكم آخر عليه ثم علم منه بقرينة أن التفصيل قاطع للشركة أن نقيضه مأخوذ في الحكم المبدل إذ لا يلزم من عدم دخل القدرة في ملاك المبدل أن يكون دليل البدل تأكيداً كما هو واضح.

وأما الاتجاه الآخر الّذي ينطلق من افتراض أن الأمر الترتبي بالوضوء مبني على إحراز عدم دخل القدرة في الملاك ولو بإطلاق الخطاب ، فإن أريد من القدرة فيه ما يقابل العجز التكويني فيقال : إن القدرة بهذا المعنى إذا ثبت عدم دخلها في الملاك صح الأمر الترتبي وفي المقام لا يمكن إثبات ذلك لأن المثبت له اما هو إطلاق المادة أو المدلول الالتزامي للخطاب ـ على ما تقدم شرحهما مفصلاً ـ وكلاهما غير جار فيما نحن فيه لأن المقيد لدليل الوضوء متصل به فلا ينعقد إطلاق في المادة ولا دلالة التزامية في الأمر لإثبات الملاك في فرض العجز التكويني. فيرد عليه :

أولا ـ كفاية إطلاق الخطاب الاستحبابي في إثبات الأمر الترتبي بالوضوء كما تقدم آنفاً.

وثانياً ـ إن دخل القدرة التكوينية المقابلة للعجز التكويني في الملاك لا يضر بإمكان الترتب لانحفاظها في المقام وعدم ارتفاعها بمجرد ثبوت الأمر الأهم.

وثالثاً ـ تمامية إطلاق المادة والدلالة الالتزامية في المقام لو سلم بهما كبرويا.

أما الأول ـ فلان ما يصلح لرفعه هو أن يرد القيد في المادة ابتداء وقبل جعلها موضوعاً للحكم والملاك ولا يكفي مجرد كون التفصيل قاطعاً للشركة بعد ورود قيد عدم وجدان الماء في آية التيمم لثلم هذا الإطلاق.

١١٤

وأما الثاني ـ فلأن الآية ليست ظاهرة في التفصيل من حيث الحكم والخطاب بل من حيث الوظيفة فلا يستفاد منها إلاّ التفصيل في الامتثال وأما اختصاص التكليف بالقادر عقلاً فهو مقيد عام منفصل بحسب الفرض وإلاّ لم يتم شيء من الطريقين كبروياً.

وإن أريد القدرة الشرعية المقابلة لعدم الاشتغال بواجب آخر ، فيرد عليه : مضافاً إلى الاعتراضات المتوجهة على المعنى المتقدم للقدرة. أنه لا يمكن استفادة هذا المعنى من عنوان عدم وجدان الماء الوارد في الآية الكريمة فإن غاية ما يمكن أن يذكر لتبرير هذه الاستفادة ذكر المرض مع السفر في آية التيمم والمريض يجد الماء عادة فلا بدّ وأن يراد من عدم الوجدان معني أوسع. ولكن هذه القرينة لا تقتضي أكثر من كفاية القدرة العرفية على الوضوء وهي محفوظة كما هو واضح.

وإن أريد القدرة الشرعية بمعنى عدم المنافي المولوي اتجهت الاعتراضات الأربعة باستثناء الاعتراض الثاني منها ، فإن القدرة الشرعية بمعنى عدم المنافي المولوي يمنع عن إمكان الترتب حيث يرتفع موضوع الأمر بنفس ثبوت الخطاب الآخر سواء امتثله أم لا فلا يعقل الأمر الترتبي كما أشرنا إلى ذلك فيما سبق.

وهكذا يتضح أن الأمر الترتبي بالوضوء محفوظ في موارد المزاحمة مع تكليف آخر أهم.

( ومنها ) ما إذا كان الوضوء حراماً لكونه تصرفاً في مال الغير بدون إذنه مثلاً فإنه بناء على الامتناع يدخل في باب التعارض وأما بناء على الجواز فمع عدم المندوحة يكون من التزاحم بين التكليفين الا إذا قيل بكون القدرة شرعية في الأمر بالوضوء فيكون باطلاً لعدم إمكان الأمر به ولو بنحو الترتب. وأما إذا كانت هناك مندوحة فالأمر بالوضوء فعلي على كل حال لأن ملاكه المشروط بالقدرة

١١٥

الشرعية فعلي ، فإن قيل بمقالة المحقق ـ قده ـ من عدم التزاحم بين الواجب الموسع والمضيق بحيث يمكن الأمر بالجامع المنطبق على الفرد المزاحم لتكليف أهم ـ كما هو الصحيح ـ صح الوضوء بالأمر العرضي وإلاّ ـ كما عليه المحقق النائيني ـ صح الوضوء بالأمر الترتبي بذلك الفرد لكون الملاك فعلياً على كل حال.

والصحيح ما تقدم من عدم اشتراط الوضوء بالقدرة الشرعية بالمعنى الّذي يستحيل معه الأمر بنحو الترتب.

( ومنها ) ما إذا توقف الوضوء على مقدمة محرمة كما إذا توضأ بماء مباح ولكنه موضوع في إناء مغصوب. والتحقيق في هذه الصورة أن يقال : تارة : يفرض الوضوء من الإناء المغصوب بنحو الارتماس الّذي يعد بنفسه تصرفاً في المغصوب وفي مثل ذلك يدخل هذا المثال في الصورة السابقة. وأخرى : يفرض الوضوء منه بنحو الاغتراف ، فإن اغترف الماء لوضوئه كله دفعة واحدة ووضعه في إناء آخر ثم توضأ منه لم يكن إشكال في صحة الوضوء لوجود أمر مطلق به بعد سقوط الحرمة بالعصيان في الزمن الأول إذ لا يبقى مزاحم للوضوء حين القيام به. وإن اغترف الماء شيئاً فشيئاً في مقام التوضؤ فإن عد هذا بنفسه تصرفاً في المغصوب عرفاً أيضا اندرج في الصورة السابقة حيث يجتمع فيه عنوان الوضوء مع الغصب ، وإن لم يعد بنفسه تصرفاً في المغصوب وإنما التصرف بالاغتراف الّذي يكون مقدمة للوضوء بالماء فقد ذهب المحقق النائيني ـ قده ـ إلى التفصيل بين صورتي الانحصار وعدمه فحكم بالبطلان في الأولى لعدم الأمر بالوضوء بعد أن كان مشروطاً بالقدرة الشرعية وبالصحّة في الثانية لفعلية الملاك بفعلية القدرة الشرعية على الوضوء فيمكن الأمر به ولو بنحو الترتب ، غاية الأمر يكون تطبيقه على هذا الفرد مستلزماً لارتكابه محرماً بسوء اختياره.

وقد خالف في ذلك السيد الأستاذ ـ دام ظله ـ فحكم بصحة الوضوء

١١٦

حتى في صورة الانحصار بدعوى : « أن القدرة تتجدد عند كل جزء من أجزائه بالعصيان وبارتكاب المحرم حيث إن المكلف بعد ارتكابه واغترافه الماء من الأواني المغصوبة أو الذهب والفضة يقدر على الوضوء ـ مثلاً ـ بمقدار غسل الوجه ، وبما أنه يعلم بارتكابه المحرم ثانياً وثالثاً إلى أن يتم الوضوء أو الغسل يعلم بطرو التمكن عليه من غسل سائر الأعضاء فعندئذ لا مانع من الالتزام بثبوت الأمر به مترتباً على عصيانه بناء على ما ذكرنا من صحة الترتب وجوازه وإن وجود القدرة في ظرف الإتيان بالأجزاء اللاحقة شرط لوجوب الأجزاء السابقة على نحو الشرط المتأخر. ومن المعلوم أنه لا فرق في ذلك بين أن القدرة تبقى من الابتداء أو تحدث في ظرف الإتيان بها وقد عرفت أنه لا دليل على اعتبار القدرة بأزيد من ذلك » (١).

والصحيح أن القدرة الشرعية المأخوذة في خطاب الوضوء إن أريد منها دخل القدرة التكوينية أو عدم الاشتغال بالضد الأهم في الملاك فالوضوء صحيح في المقام بالخطاب الترتبي وإن أريد منها دخل عدم المنافي المولوي بأن كان مشروطاً بعدم وجود حكم شرعي على خلافه فلا يمكن تصحيح الوضوء لأن القدرة الشرعية بهذا المعنى قد عرفت أنها قيد شرعي محض لا بد في إثباته من تقييد الخطاب به بحسب لسان دليله ولا يخفى أن ظاهر الأمر بشيء مشروطاً بعدم المنافي المولوي أن لا يوجد مناف مولوي حين الإتيان به حدوثاً وبقاء ولا يكفي عدمه بقاء فقط ، أي أن لا يكون مناف مولوي منذ حدوث الأمر لا عدم المنافي حين الامتثال فقط لأنه مقتضى إشراط الحكم بعدم المنافي الظاهر في ترتبه عليه. وإن شئت قلت : إن المستفاد من دليل شرطية القدرة بهذا المعنى أن الأمر بالوضوء لا يجتمع مع فعلية الحكم المنافي لأنه يكون معلقاً على عدمه وفي المقام وإن كان كل جزء من أجزاء الواجب في ظرف الإتيان به لا يوجد مناف مولوي عنه بالخصوص إلاّ أنه باعتبار ارتباطية هذه الأجزاء وعدم إمكان

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه الجزء ٣ ، ص ١٨٩ ـ ١٩٠.

١١٧

فعلية الوجوب الضمني لكل منها مستقلاً عن وجوب الآخر لا يمكن فعلية الأمر بها لاستلزامها فعلية الأمر بالوضوء والمنافي المولوي معاً.

هذا ولكنك قد عرفت عدم الدليل على اشتراط القدرة الشرعية بالمعنى المذكور في خطاب الوضوء. كما أنه لو فرض استفادة ذلك من دليل الأمر الوجوبيّ المتمثل في الآية الكريمة كفانا الأمر الندبي المطلق في تصحيح الوضوء كما هو واضح.

المورد الثاني ـ إذا كان المتزاحمان طوليين في عمود الزمان مع كون المتأخر هو الأهم والقدرة فيهما عقلية فقد ذهب المحقق النائيني ـ قده ـ إلى استحالة الأمر بالمتقدم منهما ولو بنحو الترتب ـ وإنما قيدنا هما بكون القدرة فيهما معاً عقلية لأنها لو كانت فيهما معاً شرعية فقد تقدم منه ـ قده ـ أنه لا يجري حينئذ الترجيح بالأهمية ولا الترجيحات الأخرى الراجعة إليه أو إلى الترجيح بالقدرة العقلية غير الموجود في شيء منهما ويكون التخيير حينئذ شرعياً عنده لوجود قدرة واحدة على الجامع وملاك واحد ، ولو كانت في أحدهما عقلية وفي الآخر شرعية فقدم تقدم أيضا عدم إمكان الترتب عنده في المشروط بالقدرة الشرعية فلا يوجد إلاّ تكليف مطلق بالمشروط بالقدرة العقلية فقط ـ وقد أفاد في وجه ذلك أن الأمر بالمتقدم على نحو الترتب إنما يتصور على أحد وجوه أربعة ، كلها مستحيلة.

الأول ـ أن يكون مشروطاً بعدم الإتيان بالخطاب المتأخر وهو مستحيل لأنه يستلزم الشرط المتأخر وهو غير معقول عنده ، مضافاً إلى أنه لا يكفي هذا التقييد لدفع المنافاة بينه وبين خطاب وجوب حفظ القدرة المتولد بلحاظ الواجب المتأخر الأهم.

الثاني ـ أن يكون مشروطاً بعدم تعقب امتثال الأهم والتعقب شرط مقارن عنده ـ قده ـ وبه حاول تصحيح ما ثبت في الفقه مما ظاهره الإناطة

١١٨

بالشرط المتأخر ، وهذا مستحيل أيضا لأنه لا يدفع المحذور الثاني في الوجه الأول ، مضافاً إلى أن التقييد بمثل هذا القيد بحاجة إلى دليل ولا دليل عليه إثباتاً.

الثالث ـ أن يكون مشروطاً بعصيان خطاب وجوب حفظ القدرة وهو شرط مقارن ، وهذا مستحيل أيضا لأن عصيان وجوب حفظ القدرة إما يكون بنفس الواجب المتقدم أو بفعل آخر مضاد لهما ـ لو فرض وجوده ـ والتقييد بكليهما غير معقول إذ يلزم على الأول طلب الحاصل وعلى الثاني طلب الضدين.

الرابع ـ أن يكون مشروطاً بالعزم على عصيان الواجب المتأخر الّذي يكون شرطاً مقارناً وهو أيضا مستحيل باعتبار ما تقدم في محله من عدم إمكان الأمر الترتبي مشروطاً بالعزم على العصيان.

وهذا الّذي أفاده مما لا يمكن المساعدة عليه. إذ يرد على ما أفاده في إبطال الوجه الأول من استحالة الشرط المتأخر : أنه لا استحالة فيه على ما حققناه في محله ، خصوصاً في أمثال المقام الّذي يكون فيه الشرط المتأخر شرطاً في الخطاب فقط مع فعلية الملاك إذ المفروض كون القدرة في الواجبين عقلية وليس شرطاً في الاتصاف كي يتوهم استلزامه تأثير المتأخر في أمر تكويني متقدم.

ويرد على ما أبطل به هذا الوجه أيضا من بقاء المضادة بين الأمر الترتبي وبين خطاب وجوب حفظ القدرة للواجب المتأخر.

أولا ـ أنه مبني على أن يكون وجوب حفظ القدرة خطاباً شرعياً لا مجرد حكم العقل باستحقاق العقاب على تفويت الواجب الأهم بتفويت القدرة عليه إذ على هذا لا يكون هناك إلاّ حكم العقل بلزوم إطاعة التكليف الأهم وهو ليس حكماً آخر وراء التكليف الأهم كي تكون له محركية زائدة على

١١٩

محركية ذلك التكليف وقد فرض الفراغ عن عدم المنافاة بين محركية الخطاب الأهم المطلق مع محركية الأمر الترتبي في مبحث الضد.

وثانياً ـ لو فرض أن وجوب حفظ القدرة خطاب شرعي أيضا وليس حكماً عقلياً بلزوم الطاعة فلا ريب أنه حكم طريقي محض للحفاظ على الواجب الأهم فليس لها محركية كي تكون منافية مع محركية الأمر الترتبي بالضد.

ويرد على ما أبطل به الوجه الثاني من بقاء محذور الثاني وهو المطاردة بين الأمر الترتبي ووجوب حفظ القدرة ما عرفته الآن. وعلى ما أبطل به هذا الوجه من عدم الدليل عليه إثباتاً ، أن الدليل موجود وهو إطلاق الأمر بالواجب المتقدم لحالة تعقبه بعصيان الواجب المتأخر إذ لا وجه لرفع اليد عن هذا الإطلاق وبه يثبت الأمر الترتبي المشروط بتعقب عصيان الأهم.

ويرد على ما أبطل به الوجه الثالث أمران :

الأول ـ ان حفظ القدرة أمر وجودي فيكون عصيانه بعدم حفظ القدرة وهو ملازم مع الواجب المتقدم ملازمة عدم الضد لضده فيكون التقييد به كالتقييد في سائر موارد الترتب من حيث كون الشرط في الأمر الترتبي ترك الضد الآخر.

الثاني ـ إن عدم حفظ القدرة ولو فرض كونه بنفس الواجب المتقدم ومنطبقاً عليه أو على الضد الآخر مع ذلك لا محذور من تقييد الأمر به لأن القيد هو جامع عدم الحفظ الأعم من الإتيان بالواجب المتقدم أو بضد آخر بنحو صرف الوجود ، وواضح أن التقييد بالجامع بنحو صرف الوجود لا يسري إلى الأفراد كي يلزم مجموع المحذورين بل يبقى على الجامع بحده ومعه لا يكون الأمر بأحد فردي ذلك الجامع مشروطاً بتحقيق ذلك الجامع من طلب الحاصل أو طلب الضدين. نعم ربما يحصل هناك مانع آخر من الأمر الترتبي في المقام وذلك فيما إذا كان الجامع محرماً وقيل إنه عين الواجب

١٢٠