بحوث في علم الأصول - ج ٦

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٦

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٨

الصحيحة وذلك بالبحث ضمن جهتين :

الجهة الأولى ـ في إمكان تصحيح الصلاة التي بيده مع قطع النّظر عن استصحاب عدم الإتيان بالركعة المشكوكة وعن الاخبار الواردة في صلاة الاحتياط وذلك بدعوى : ان المصلي كانت ذمته مشغولة بأربع ركعات وهو يحرز إتيانه ثلاثا منها فيقوم ويضم إليها ركعة أخرى ويتم صلاته فيقطع بإتيان أربع ركعات فالنقيصة مقطوعة العدم ويشك في مانعية الركعة التي أضافها بنحو الشبهة المصداقية الا ان هذا الخلل المحتمل يمكن علاجه بأحد تقريبين :

التقريب الأول ـ إجراء البراءة عن المانعية المحتملة بناء على ما هو الصحيح من ان المانعية انحلالية تجري عنها البراءة.

وقد يناقش في ذلك بأحد وجهين :

١ ـ اننا نعلم إجمالا اما بمانعية الركعة الزائدة أو جزئيتها فتكون البراءة عن مانعيتها معارضة بالبراءة عن وجوب الإتيان بها وبعد التساقط يجب الاحتياط فيه لأن الوجوب والحرمة هنا ضمنيان وليسا استقلاليين ليكون من الدوران بين المحذورين فلا بد من الاحتياط بإعادة العمل تحصيلا لليقين بالفراغ.

ويرد عليه : ان البراءة لا تجري عن الجزئية في نفسها لأن الشك في الجزئية والشرطية شك في الامتثال لا في أصل التكليف بخلاف الشك في المانعية على ما حقق في محله.

٢ ـ ان لنا علما إجماليا اخر بمانعية الركعة الزائدة أو مانعية التشهد والتسليم قبل الإتيان بها إذ لو كان قد صلى ثلاث ركعات كان التشهد والتسليم الآن زيادة مبطلة والا كانت الركعة المضافة زيادة مبطلة فالبراءة عن مانعية الركعة تعارض البراءة عن مانعية التشهد والتسليم قبلها فيجب الاحتياط بالإعادة.

وهذا الاعتراض لا جواب عليه بناء على مبانينا في منجزية العلم الإجمالي (١). نعم بناء على القول بان المنجزية فرع تساقط الأصول من جهة لزوم الترخيص في المخالفة القطعية الممكنة ففي المقام لا يمكن ذلك لأن المكلف على كل حال يحتمل الموافقة

__________________

(١) بناء على عدم مبطلية التشهد والتسليم الزائدين من غير علم وعمد ـ كما قد يستفاد ذلك من نفس اخبار ركعة الاحتياط المفصولة ـ لا يتم هذا الوجه للمنجزية أيضا كما لا يخفى وعهدة إثبات ذلك على علم الفقه.

٨١

اللهم الا ان يقطع صلاته وتلك مخالفة قطعية تفصيلية.

التقريب الثاني ـ التمسك باستصحاب عدم الزيادة الّذي يجري بعد العمل وإحراز الإتيان بكامل الاجزاء والشرائط وبذلك يحرز عدم المانع (١) وهذا غير استصحاب عدم إتيان الركعة الرابعة فانه لا يثبت عدم الزيادة الا بنحو الأصل المثبت أو دعوى ان المبطل فقيها ليس عنوان الزيادة بل الإتيان بما لم يتعلق به الأمر ويدعى ان استصحاب عدم الإتيان بالركعة الرابعة يثبت تعلق الأمر بالركعة المضافة وكلا المطلبين غير تام لأن الثابت في الفقه مبطلية الزيادة بعنوانها كما ان استصحاب عدم الإتيان بالرابعة لا يثبت الأمر بالركعة الزائدة.

الجهة الثانية ـ في جريان استصحاب عدم إتيان الركعة الرابعة بداعي تنجيز الركعة الزائدة وإيجاب الإتيان بها تأكيدا لقاعدة الاشتغال العقلية وهذا الاستصحاب بحسب الحقيقة من الاستصحاب في مرحلة الامتثال حيث يتعبد على أساسه بعدم تحقق الامتثال ولزوم التحرك نحوه سواء أريد التحريك نحو ركعة متصلة أو منفصلة.

وقد يتوهم انه بناء على وجوب الركعة المنفصلة يكون من الاستصحاب الموضوعي حيث يحرز باستصحاب عدم الإتيان بالرابعة موضوع وجوب الركعة المنفصلة كما تقدم عن المحقق النائيني ( قده ).

وفيه : ان هذا معناه التوسعة في الجعل من أول الأمر وانه الأعم من الركعات الثلاث مع ركعة متصلة أو ركعة مفصولة على تقدير الشك لا أمر جديد بالركعة المفصولة فيكون الواجب هو الجامع المذكور ويكون استصحاب عدم الإتيان بالرابعة من استصحاب عدم الامتثال.

ان قلت : يمكن افتراض ان هناك ملاكا اخر في الركعة المنفصلة أو بتعبير أدق في الجامع بين الركعة المفصولة أو إعادة العمل على تقدير قطع الصلاة وهو ملاك مستقل عن ملاك الركعة المتصلة والتي يفترض فواته بالشك واجزاء الحكم الظاهري.

__________________

(١) باعتبار ان المانعية انحلالية لا بد من نفي احتمال مانعية الموجود أعني نفي احتمال مانعية الركعة الزائدة وهذا لا يثبت باستصحاب عدم الزيادة الا على القول بالأصل المثبت كما ان استصحاب عدم زيادية هذه الركعة بنحو العدم الأزلي أو استصحاب عدم الزيادة بناء على إثباته عدم زيادتها معارض من أول الأمر بالبراءة أو استصحاب عدم مانعية التشهد والتسليم قبل الإتيان بالركعة فتأمل جيدا.

٨٢

قلنا ـ مضافا إلى كونه خلاف صريح الروايات الواردة بشأن ركعة الاحتياط المفصولة وانها امتثال لنفس الفريضة الواقعية وخلاف ما لعله المسلم فقهيا من وجود ملاك واحد وفريضة واحدة على الجميع. ان هذه الفرضية لو فرض تعلقها ثبوتا فهي غير مربوطة باجزاء الحكم الظاهري بملاك التفويت لأن المفروض جريان استصحاب عدم الامتثال لا استصحاب الامتثال فالتفويت ليس بسبب الحكم الظاهري كما هو واضح.

فالصحيح : ان استصحاب عدم الإتيان بالركعة المشكوكة من استصحاب عدم الامتثال سواء أريد إثبات وجوب الركعة المتصلة به أو الركعة المنفصلة.

وعندئذ قد يناقش جريانه من وجوه :

الوجه الأول ـ دعوى عدم جريان استصحاب عدم الامتثال في نفسه باعتبار لغويته على ما سوف يأتي في بحث قادم.

وهذا الوجه لا بد من افتراض عدم صحته أصلا موضوعيا في المقام وان استصحاب عدم الامتثال يجري وينجز وجوب الإتيان بالواجب وسوف يأتي تحقيق المطلب في صحة التعبد بعدم الامتثال في ذلك البحث إن شاء الله.

الوجه الثاني ـ ان استصحاب عدم الامتثال وان كان جاريا في سائر المقامات لإثبات بقاء الوجوب مثلا وعدم سقوطه ولكن في خصوص المقام حيث ان وجوب الركعة الرابعة وجوب ضمني ارتباطي لا استقلالي فلا شك في عدم سقوطه لكي نجري استصحاب عدم إتيان الركعة فأركان الاستصحاب غير تامة هنا في نفسه وبهذا يظهر محذور اخر يمكن إضافته على المحاذير الثلاثة السابقة في تطبيق الصحيحة للاستصحاب على الركعة المشكوكة.

وهذا الوجه غير تام لأنه مبتن على امرين كلاهما باطل :

أحدهما ـ ان الامتثال مسقط للأمر ورافع لفعليته.

الثاني ـ ان الاستصحاب لا بد وان يجري دائما في حكم شرعي أو موضوع ذي حكم.

وقد تقدم بطلان الأمر الأول في بحوث سابقة حيث قلنا بان التكليف لا تسقط فعليته بالامتثال وليس عدم الإتيان به قيدا فيه وانما الساقط فاعليته فحسب.

٨٣

كما انه سوف يأتي عدم تمامية الأمر الثاني إذ لا يشترط في جريان الاستصحاب أكثر من ترتب الأثر العملي عليه تنجيزا أو تعذيرا ولا إشكال في معقولية التنجيز أو التعذير في مرحلة الامتثال كما في قاعدة الفراغ المؤمنة في مرحلة الامتثال فيعقل جريان استصحاب عدم الامتثال لإثبات التنجيز وتأكيد الاشتغال العقلي ، وان في انه مأخوذ في تنجزه وهو يكفي في صحة التعبد الاستصحابي وجعله.

هذا مضافا إلى انا لو سلمنا كلا الأمرين المذكورين مع ذلك قلنا بان استصحاب عدم الجزء أو الشرط في الواجب الارتباطي وان لم يكن جاريا بلحاظ الوجوب الضمني المتعلق به بالخصوص ولكنه يجري بلحاظ الوجوب الاستقلالي المتعلق بالكل بعد الفراغ عن العمل وعدم الإتيان بذلك الجزء فالمكلف يجب عليه الإتيان به تفريغا لذمته عن تنجيز وجوب المركب الّذي يثبته هذا الاستصحاب بعد الفراغ من عمله إذا لم يأت به في أثناء العمل.

كما ان هذا الإشكال انما يتوجه بناء على ما هو الصحيح من وحدة الوجوب الارتباطي جعلا وفعلية وسقوطا واما إذا قيل بالسقوط التدريجي للوجوب الارتباطي مطلقا أو مشروطا بشرط متأخر هو إكمال العمل والإتيان بجزئه الأخير فلا موضوع لهذا الإشكال عندئذ ، الا ان هذه المباني فاسدة وغير محتملة في نفسها لا من جهة عدم إمكان الإعادة في صورة أداء العمل باطلا لكي يقال بتحدد الأمر أو تعلقه بالجامع بين الإتيان بباقي الاجزاء فيما بدأ به أو الإعادة بل لما تقدم في بحث الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين من وحدة الواجب الارتباطي جعلا وفعلية وسقوطا وعدم تكثره بلحاظ إجزاءه الا في مرحلة التحليل الدهني.

الوجه الثالث ـ ان استصحاب عدم الإتيان بالركعة الرابعة لا يمكن ان يثبت وجوب الإتيان بها لأن هذا التكليف ككل تكليف اخر لا بد وان يكون منوطا بالقدرة عليه وفي المقام لا قدرة على الإتيان بالركعة الرابعة في هذه الصلاة الا إذا كان الاستصحاب مصيبا للواقع أي إذا كان واقعا لم يأت بالرابعة والا فلا تقع ركعته رابعة حتى إذا جاء بها وهذا يعني ان ترتب الأثر على الاستصحاب منوط بمطابقته للواقع ومن الواضح ان جعل حكم ظاهري مشروط بمطابقته مع الواقع غير معقول في نفسه

٨٤

لاستحالة وصوله حينئذ.

ويرده أولا ـ عدم تماميته بناء على ما أشرنا إليه في رد الوجه السابق من جريان الاستصحاب في مطلق ما يترتب عليه تنجيز وتعذير فان معنى استصحاب عدم الركعة حينئذ تأكيد الاشتغال العقلي شرعا أي تنجيز احتمال التفويت من ناحية عدم الإتيان بالركعة واهتمام الشارع بذلك ، فليس المستصحب حكما أو موضوعا لحكم شرعي ليقال باشتراط القدرة في موضوعه.

وثانيا ـ بناء على ضرورة إثبات الوجوب بالاستصحاب أيضا لا محذور في المقام باعتبار ان متعلق الوجوب الضمني طبيعي الركعة الجامع بين إتيانه في هذه الصلاة أو في غيرها وهو قادر على هذا الجامع على كل حال.

ودعوى : انها على تقدير زيادتها تكون مبطلة لهذا الفرد فيكون الوجوب متعلقا بالرابعة في هذه الصلاة ويشك في قدرته عليها.

مدفوعة : بان عدم الإتيان بالركعة موضوع لوجوبها وهو متعلق بالجامع والطبيعي لا محالة إذ يستحيل ان لا يكون متعلق الوجوب كليا على ما حقق في محله ، واما مبطلية الزيادة فهي تعني وجود تكليف ضمني آخر بعدم المانع له موضوعه ولا يراد باستصحاب عدم الرابعة تنجيزه أو التأمين عنه.

وثالثا ـ لو فرضنا تعلق الوجوب الضمني برابعة هذه الصلاة مع ذلك قلنا بجريان استصحاب عدم الامتثال لإثبات وجوبها من ناحية هذا القيد ـ كما هو المفروض ـ غاية الأمر يبقى الشك في فعلية الوجوب من ناحية احتمال عدم القدرة على المستصحب وهو قيد اخر بحسب الفرض ولكنه منجز اما باستصحاب بقاء القدرة ـ فان الحكم الظاهري يمكن جعله في موارد الشك في القدرة رغم ان الحكم الواقعي منوط بالقدرة واقعا على ما تقدم في بحث الخروج عن محل الابتلاء ـ أو بأصالة الاشتغال العقلية الثابتة في موارد الشك في القدرة ، وعلى كل حال لا محذور في جريان استصحاب عدم الإتيان بالركعة الرابعة لإثبات فعلية وجوبها من ناحية عدم الامتثال دون ان يلزم من ذلك إناطة جعل الحكم الظاهري بمطابقته للواقع كما هو واضح.

وهكذا يتلخص من مجموع ما تقدم : ان استصحاب عدم الإتيان بالركعة المشكوكة

٨٥

لتنجيز وجوب الإتيان بها يجري في نفسه لو بني على جريان استصحاب عدم الامتثال كبرويا.

الرواية الرابعة ـ رواية إسحاق بن عمار عن أبي الحسن عليه‌السلام ( قال عليه‌السلام : إذا شككت فابن علي اليقين ، قلت هذا أصل؟ قال نعم ) (١).

وقد عبر عنها بالمعتبرة لأن الصدوق ينقلها في الفقيه عن إسحاق بن عمار وطريقه إليه معتبر.

الا ان المذكور في الفقيه ( روي عن إسحاق بن عمار ) فتندرج في البحث المعروف ان مشيخة الفقيه هل تشمل ذلك أيضا أو تختص بمن يبدأ به الشيخ الصدوق في الفقيه ويسند الرواية عنه مباشرة.

والشيخ ( قده ) فرغ عن دلالة هذه الرواية على قاعدة البناء على الأكثر وتحصيل اليقين بالفراغ لا الاستصحاب بل جعل ذلك دليلا على إرادة القاعدة من صحيحة زرارة المتقدمة أيضا.

وناقش في ذلك الأستاذ مدعيا ظهورها في الاستصحاب ، وإذا أضفنا إلى هذين الاحتمالين احتمال إرادة القاعدة المصطلحة لدى الأصوليين بقاعدة اليقين أصبحت محتملات الرواية ثلاثة ويمكن ان يجعل ظهور الأمر بالبناء على اليقين لا بتحصيله قرينة على نفي احتمال الشيخ ( قده ) إذ لو كان المقصود ذلك كان ينبغي ان يأمر بتحصيله لا البناء على يقين مفروغ عنه ـ كما يقتضيه سياق الأمر بفعل متعلق بموضوع خارجي ـ كما انه لم يرد في لسانها أي إشارة إلى كون الشك في الفراغ عن الصلاة ومجرد ذكر الشيخ الصدوق لها في باب الخلل في الصلاة لا يصلح ان يكون شاهدا على ذلك إذ لعله كان من أجل التطبيق على الصلاة.

فيدور الأمر بين إرادة الاستصحاب أو قاعدة اليقين ولكن لا إشكال في تعين احتمال إرادة الاستصحاب على القاعدة لظهور السياق كما قلنا في فعلية اليقين حين الشك والأمر وهو يناسب اليقين في الاستصحاب لا القاعدة لأن اليقين فيها ليس

__________________

(١) وسائل الشيعة ، الباب ٨ من أبواب الخلل ، ج ٥ ، ص ٣١٨

٨٦

فعليا بل كان فعليا قبل الشك (١).

كما ان ارتكازية الاستصحاب وكثرة وتوفر ركنيه بخلاف اليقين والشك الساري إليه في قاعدة اليقين وكذلك ارتكازية حجية الاستصحاب وثبوته في الجملة في الفقه ولو بالروايات السابقة كل ذلك يصلح ان تكون مؤيدات على إرادة الاستصحاب. وتمتاز هذه الرواية على سابقتها بظهورها بل صراحتها في العموم والكبروية وقد التفت إلى ذلك السائل فسأل الإمام عليه‌السلام أن هذا أصل فأجابه انه أصل وقاعدة.

الرواية الخامسة ـ رواية الخصال في حديث الأربعمائة عن محمد بن مسلم وأبي بصير عن الصادق عليه‌السلام ( من كان على يقين ثم شك فليمض على يقينه فان الشك لا ينقض اليقين ) (٢). وفي رواية أخرى ( فان اليقين لا يدفع بالشك ) (٣).

وسندها ضعيف بقاسم بن يحيى الّذي لا طريق لإثبات وثاقته بل ضعفه العلامة.

واما الدلالة فقد اختلفوا أيضا في استفادة الاستصحاب منها أو قاعدة اليقين ، وقد أبرز في الرواية ظهورات ثلاثة تختلف في كونها بصالح قاعدة اليقين أو الاستصحاب.

الظهور الأول ـ ظهورها في كون زمان اليقين قبل زمان الشك لأن التعبير جاء بسياق الماضي ( من كان على يقين فشك ) وقد استند الشيخ إلى هذا الظهور لمنع دلالتها على الاستصحاب لأن اليقين فيه لا يشترط أن يكون متقدما على زمان الشك وانما هذه الخصوصية تناسب قاعدة اليقين وهذا الظهور قد يراد به مجرد الدلالة على لزوم ولادة اليقين قبل الشك ، وأخرى يراد به ان الشك تولد بعد اليقين وفي محله بحيث انتهى به اليقين وزال. واستفادة قاعدة

__________________

(١) ما ذكر لا يقتضي أكثر من ظهور كل قضية في ان موضوعها ملحوظ بنحو مفروغ عنه اما كونه اليقين المأخوذ في القاعدة أو في الاستصحاب أي كونه اليقين الّذي كان ثم زال ويكون الإطلاق بلحاظ ما قبل الانقضاء أو اليقين الّذي لا يزال باقيا فهذا ما لا يعينه الظهور المذكور ، ولعل الأولى استبعاد احتمال إرادة قاعدة اليقين بان مجرد ذكر اليقين والشك لا يكفي لإفادة ركنيها بل لا بد من أخذ عناية تعلق الشك فيها بنفس ما تعلق به اليقين أي لا بد من ملاحظة خصوصية الزمان والحدوث والبقاء وأن الشك قد تعلق بالمتيقن في زمان حدوثه لا بذات المتيقن كما في الاستصحاب فان اليقين والشك فيه يضافان إلى ذات الشيء مع تجريده عن الزمان ومن هنا كان التعبير بأني كنت على يقين بشيء فشككت فيه في موارد الاستصحاب صحيحا واضحا لا مجملا مرددا بينه وبين القاعدة فتأمل جيدا.

(٢) وسائل الشيعة ، الباب ـ ١ ـ من أبواب نواقض الوضوء ، حديث ـ ٥ ـ

(٣) البحار ، الباب ـ ٣٣ ـ من أبواب ما يستنبط من الآيات والاخبار

٨٧

اليقين على التقدير الثاني واضح واما التقدير الأول فهو ينسجم في نفسه مع الاستصحاب إذ يمكن ان يكون اليقين الاستصحابي متولدا أيضا قبل الشك بل هذا هو الغالب في موارد الاستصحاب ، فالاستناد إلى هذا الظهور لنفي إرادة الاستصحاب مبني على ضم دعوى ان وضوح عدم لزوم تقدم حصول اليقين على الشك في الاستصحاب بخلاف القاعدة يكون قرينة على إرادتها ، أو يكون المقصود مجرد النقض على من يرى حجية الاستصحاب مطلقا حتى مع تقدم الشك على اليقين أو تقارنه معه فيقال انه لو دار الأمر بين إرادة الاستصحاب بهذا الوجه والقاعدة تعينت القاعدة.

وقد أجاب المحققون عن هذا الاستظهار بوجوه :

الأول ـ ان ورود هذه الخصوصية ليس بملاك التقييد بل بملاك الغلبة نظير قوله تعالى ( وربائبكم اللاتي في حجوركم ) الّذي أخذ فيه الكون في الحجر من جهة الغلبة لا الشرطية.

وهذا الجواب انما يتم إذا كان منظور الشيخ ( قده ) استظهار التقدير الأول لا الثاني فانه لو جعل الترتيب قرينة على إرادة موت اليقين وحل الشك محله فهذا لا ينسجم إلا مع القاعدة لا الاستصحاب كما لا يخفى.

الثاني ـ ما جاء في كلمات المحقق العراقي ( قده ) من عدم دلالة التعبير على أكثر من لزوم التقدم الأعم من الزماني أو الرتبي كقولك ادخل البلد فمن كان عالما فأكرمه ومن كان عاصيا فاضربه (١).

وفيه : ان أريد فرض الترتب الرتبي بين اليقين والشك وبين لزوم المضي على اليقين وعدم نقضه ـ الّذي هو الحكم الاستصحابي ـ فهذا صحيح الا انه لا ربط له بالاستظهار إذ المفروض دلالة الرواية على الترتب بين اليقين والشك وتأخر الشك عن اليقين وليس الكلام في الترتب بين الاستصحاب وموضوعه. هذا مضافا إلى ظهور قوله ( من كان على يقين فشك ) في ان حدوث الشك كان بعد حدوث اليقين وهو يساوق مع التقدم الزماني.

__________________

(١) نهاية الأفكار ، القسم الأول من الجزء الرابع ، ص ٦٣

٨٨

الثالث ـ ما ذكره المحقق الخراسانيّ ( قده ) من ان اليقين والشك حيث انهما من الصفات الإضافية المرآتية فيكتسبان في مورد الاستصحاب صفة متعلقهما وهي تقدم المتيقن على المشكوك فأسند ذلك إليهما بهذا الاعتبار.

وفيه : ان المرآتية والفناء انما هو لليقين والشك الحقيقيّين أي لواقع اليقين والشك لا لمفهوميهما والمفروض اسناد الترتب إلى مفهومهما كما لا يخفى.

الرابع ـ ان خصوصية الترتب وتقدم اليقين على الشك محفوظ في موارد الاستصحاب أيضا بعد إعمال عناية لا بد من إعمالها في أدلة الاستصحاب جميعا وهي تجريد متعلق اليقين والشك عن خصوصيتي الحدوث والبقاء وإضافتها إلى ذات الشيء فانه بهذه العناية المصححة لإسناد النقض إليهما يكون اليقين كأنه زال وحل محله الشك ولهذا نجد ان من كان يعلم بعدالة زيد ثم احتمل زوالها يقول كنت على يقين بعدالته فشككت دون اية عناية وبهذا يظهر انسجام هذا الظهور مع الاستصحاب حتى لو أريد به التقدير الثاني أي زوال اليقين بالشك والّذي لعله الظاهر من التعبير ولو من جهة ارتكازية التضاد والتنافر بين صفتي اليقين والشك.

ان قلت : على هذا لا بد من تخصيص حجية الاستصحاب بموارد سبق اليقين.

قلنا ـ بل يستفاد التعميم اما بدعوى صدق التقدم بالاعتبار العرفي المذكور ولو فرض تعاصر حصول نفس اليقين والشك أو ـ لو فرض عدم وضوحه ـ باعتبار ارتكاز التعميم وعدم الفرق لأن هذه الخصوصية انما نحتاجها لمجرد تصحيح اسناد مفهوم النقض واستعماله في الدلالة الاستصحاب وهي خصوصية ترتبط بمرحلة الاستعمال ونكتة تعبيرية لا بمرحلة الثبوت والمراد الجدي المستفاد مع قطع النّظر عن الخصائص التعبيرية.

الظهور الثاني ـ ما ذكرته مدرسة المحقق النائيني ( قده ) من ظهور الجملة في فعلية اليقين ومعاصرته مع زمان الشك ووجوب المضي على اليقين وهذا لا يكون الا في الاستصحاب لا القاعدة ، والطريف انه ذكر في وجه هذا الاستظهار ان العناوين الاشتقاقية وان وقع خلاف في صدقها بعد الانقضاء إلا ان عناوين المبادئ كاليقين والشك لا يشك أحد في عدم صدقها بعد الانقضاء الا بنحو من المجاز غير العرفي.

وفيه : ان استفادة قاعدة اليقين منها لا تعني إطلاق اليقين بلحاظ ما بعد الانقضاء

٨٩

بل بلحاظ زمان فعليته وهو الزمان السابق وهذا واضح ، واما دعوى ظهورها في تعاصر زمان الحكم وهو المضي مع زمان اليقين فهذا لا موجب له فان غاية ما يقتضيه الأمر بالمضي على اليقين السابق لزوم افتراض وجود يقين سابق والفراغ عنه لأن كل حكم يجعل في فرض الفراغ عن موضوعه الا ان هذا لا يعين ان يكون الموضوع هو اليقين الاستصحابي لا اليقين في القاعدة فان كلا من اليقينين صالح لأن يكون موضوعا للحكم بالمضي الظاهري غاية الأمر في الاستصحاب يكون موضوع هذا الجعل الظاهري اليقين المتعلق بالمتيقن السابق وفي القاعدة يكون موضوع الجعل الظاهري نفس اليقين السابق والّذي حل محله الشك ، نعم في مثل أكرم العالم لا بد من ان يكون المكرم عالما حين وجوب الكرامة الا ان ذلك من جهة عدم صدق عنوان إكرام العالم على إكرامه ـ بناء على ظهور المشتق في المتلبس ـ ولهذا لو كان العنوان أكرم من كان عالما نجد صدقه على إكرام المنقضي علمه لصدق الاتصاف بما أخذ موضوعا مفروغا عنه في الجعل.

الظهور الثالث ـ ظهور الرواية في وحدة متعلقي اليقين والشك والوحدة من تمام الجهات حتى الزمان تناسب قاعدة اليقين لا الاستصحاب.

وفيه : ان هذه الوحدة لم يدل عليها لفظ خاص إذ لم يقل ( من شك في نفس ما تيقن به ) وانما استفيد ذلك من حذف المتعلق لليقين والشك وهو كما يناسب مع وحدة المتعلق من جميع الجهات يناسب مع وحدته من غير ناحية الزمان وإضافة اليقين والشك إلى ذات الشيء كما أشرنا.

ومن هنا قد يعكس الأمر فيتمسك بإطلاق اليقين والشك إذا لم يكن زمان متعلقهما واحدا وبذلك يعين الاستصحاب دون القاعدة.

وفيه : ان الإطلاق فرع تحديد المدلول الاستعمالي في مرحلة الإثبات وانه هل لوحظ في اسناد النقض إلى اليقين والشك وحدتهما من جميع الجهات أو من غير جهة الزمان ولا يمكن إحراز أحد التقديرين بالإطلاق كما لا يخفى (١).

__________________

(١) هذا المقدار لا يكفي لدفع شبهة الإطلاق في ألسنة الروايات الظاهرة في سبق اليقين على الشك كما في الصحيحة الثانية لزرارة أيضا بل كل الروايات التي ليست صريحة في فعلية اليقين ـ كما لعله كذلك في الصحيحة الأولى ـ وهذه نقطة كان المناسب طرحها مستقلا للبحث عن أنه هل يمكن ان يستفاد من مثل هذه الألسنة عدم نقض اليقين بالشك سواء كان متعلق

٩٠

وقد يقال بالإجمال وتردد الرواية بين الاستصحاب والقاعدة لعدم تعين ما أريد من حذف المتعلق في المقام ، ولعله من أجل ذلك ذهب المحقق العراقي ( قده ) إلى إجمالها.

ولكن الصحيح تعين إرادة الاستصحاب منها باعتبار دعوى ان العرف يتعامل مع زمان اليقين والشك بلحاظ زمان متعلقهما فمن يقول كنت على يقين من عدالة زيد في يوم الجمعة يفهم من كلامه انه على يقين بعدالته في يوم الجمعة لا قبله أو بعده فيكون ظاهر قوله من كان على يقين فشك تقدم المتيقن على المشكوك وهذا يناسب الاستصحاب لا القاعدة خصوصا مع ملاحظة ارتكازية الاستصحاب ودلالة الروايات الأخرى عليه بخلاف القاعدة.

الرواية السادسة : مكاتبة علي بن محمد القاساني قال : كتبت إليه وانا بالمدينة عن اليوم الّذي يشك فيه من رمضان هل يصام أم لا؟ فكتب عليه‌السلام ( اليقين لا يدخل فيه الشك صم للرؤية وأفطر للرؤية ) (١).

وقد فضلها الشيخ على الروايات السابقة في الدلالة على الاستصحاب ولعله من

__________________

الشك ذات المتيقن مع تجريده عن خصوصيتي الحدوث والبقاء أو متعلقة المتيقن بخصوصيته الحدوثية فتكون النتيجة حجية الاستصحاب والقاعدة معا وتقريب استفادة ذلك : أن المنهي عنه في هذه الروايات هو نقض اليقين بالشك وهو اما ان يحمل على النقض الحقيقي فيكون كناية عن التعبد بعدم انتقاض اليقين وبقائه واما أن يحمل على النقض العملي باعتبار انه من مقتضيات اليقين وكلام المعنيين يصدقان في مورد القاعدة حقيقة وفي مورد الاستصحاب بعد فرض ان العرف يلغي خصوصية الحدوث والبقاء ويضيف الشك إلى ذات المتيقن ، الا أن هذا الإلغاء ليس بمعنى أخذ بقاء اليقين بلحاظ الحدوث شرطا في صدق هذا العنوان ليكون هنا لك معنيان استعماليان بل بمعنى التوسعة في مجال صدق عنوان النقض والاكتفاء بوحدة المتعلقين من حيث الذات سواء كانا متحدين من حيث خصوصية الزمان أم لا فتكون النتيجة حجية الاستصحاب والقاعدة معا بمقتضى هذا الإطلاق العرفي.

ولا يحضرني جواب على هذه الشبهة سوى دعوى ظهور الروايات المذكورة جميعا في أنها بصدد علاج الموقف العملي لزمان الشك وتحديد الوظيفة العملية فيه على ضوء ما كان في زمان اليقين وكما إذا كان متيقنا في زمان الشك وهذا يناسب مع الاستصحاب لا القاعدة فان الأثر العملي الّذي يسري إليه الشك في موردها إنما هو الوظيفة الصادرة في زمن اليقين السابق ولعل التعبير بالنقض أو المضي على اليقين أيضا يناسب هذا المعنى لا الشك الساري إلى عمل صادر سابقا.

هذا مضافا : إلى إمكان دعوى أن كبرى حجية الاستصحاب ملاكا وجعلا مباين مع كبرى حجية القاعدة ثبوتا فيكون الجمع بينهما جدا في خطاب واحد ـ وان كان مدلوله الاستعمالي واحدا ـ غير عرفي فانه يشبه استعمال اللفظ في أكثر من معنى بلحاظ مرحلة المدلول الجدي وهو على حد تعدد المعنى المستعمل فيه من حيث كونه على الأقل خلاف الظاهر وأساليب المحاورة العرفية. وحيث ان إرادة الاستصحاب من هذه الروايات معلومة إجمالا لمجموع القرائن الداخلية والخارجية المتقدمة فلا محالة يكون مفادها حجية الاستصحاب دون القاعدة.

(١) وسائل الشيعة الباب ـ ٣ ـ من أبواب أحكام شهر رمضان ج ٧ ص ١٨٤

٩١

جهة عدم تطرق احتمال إرادة قاعدة اليقين أو عدم احتمال عهدية اللام في اليقين والشك.

وأيا ما كان فقد نوقش الاستدلال بها بوجهين :

الأول ـ ما ذكره المحقق النائيني ( قده ) من احتمال إرادة المشكوك والمتيقن من الشك واليقين والمعنى لا تدخل اليوم المشكوك في شهر رمضان المبارك ولا تجعله مع أيام هذا الشهر المتيقنة لأن إرادة الاستصحاب منها تتوقف على ان يراد النقض من قوله اليقين لا يدخله الشك وهو خلاف ظاهر هذه المادة.

وفيه : ان المعنى الّذي ذكره وان كان واردا في جملة من الروايات الا ان حمل هذه الرواية عليه خلاف الظاهر وذلك :

أولا ـ حمل اليقين والشك على المتيقن والمشكوك خلاف الظاهر خصوصا مع كون السياق سياق بيان قاعدة عامة وإرادة تطبيقها في المقام ولهذا قلنا بعدم تطرق احتمال العهد فيها واما إرادة النقض من مادة الدخول فهو ليس بأبعد من إرادة إدخال المشكوك في المتيقن خصوصا مع ورود استعمال نفس المادة في النقض في الصحيحة الثالثة لزرارة.

وثانيا ـ ما ذكره السيد الأستاذ من أن هذا المعنى خلاف ظاهر التفريع ( صم للرؤية وأفطر للرؤية ) فان هذا التفريع انما ينسجم مع الاستصحاب الّذي يجري في أول الشهر وآخره واما لو أريد منها ما ذكر لزم عدم إدخال يوم الشك من آخر رمضان في شهر رمضان أيضا لأنه مشكوك (١).

الثاني ـ ما ذكره المحقق الخراسانيّ ( قده ) من ان من يلاحظ روايات الباب يشرف على القطع بإرادة معنى آخر في المقام وهو ان اليقين بدخول الشهر هو الموضوع لترتيب حكم ذلك الشهر فاليقين بدخول رمضان هو موضوع وجوب الصوم واليقين بهلال شهر شوال هو موضوع وجوب الإفطار وعدم الاعتماد على الظنون والاحتمالات وعدم الأخذ بالشك وعدم إدخاله في اليقين بمعنى عدم إلحاقه به في حكمه ، وهذا التفسير لا يرد عليه ما تقدم بالنسبة للتفريع بل هذا التفريع أنسب مع ما ذكر من ان المناط هو

__________________

(١) مصباح الأصول ، ج ٣ ، ص ٦٧

٩٢

اليقين بدخول الشهر ورؤية الهلال كما لا يخفى.

ويرده أولا ـ ما ذكرناه من ظهور السياق في ان الإمام عليه‌السلام يريد تطبيق كبرى كلية على المقام بينما هذا التفسير يجعل المراد باليقين والشك خصوص اليقين والشك بدخول الشهر من دون ما يدل على إرادة ذلك الخصوص.

وثانيا ـ حمل الدخول في قوله ( اليقين لا يدخله الشك ) على مجرد المغايرة بين الشك واليقين في الحكم غير عرفي بخلاف ما إذا أريد به النقض الّذي هو نحو إفساد لشيء بإدخال ما ليس من جنسه واستحكامه فيه. واما ما ذكره من ان الملاحظ للروايات يشرف على القطع بإرادة معنى اخر ، فان أريد أخذ اليقين موضوعا للحكم فهذا الأثر له في شيء من الروايات بل لا إشكال في كون اليقين هنا طريق أيضا إلى موضوع وجوب الصوم والإفطار وان أريد نفي حجية الظنون والتخمينات في قبال اليقين الطريقي فهذا وان كان ثابتا في نفسه ولكنه لا يصلح حمل الرواية عليها لأنها تعطي زائدا على ذلك قاعدة عدم وجوب الصوم يوم الشك في آخر شعبان ووجوبه يوم الشك اخر شهر رمضان وهذا لا يكون الا من جهة الاستصحاب.

ثم ان المحقق العراقي ( قده ) أفاد في المقام بان استصحاب عدم دخول شهر رمضان أو شهر شوال لا ينفي موضوع وجوب الصوم أو الإفطار لأن موضوعهما ليس دخول الشهر بنحو مفاد كان التامة بل اتصاف هذا اليوم بأنه من رمضان أو شوال بنحو مفاد كان الناقصة وهو لا يثبت الا بالملازمة ومن هنا وافق على حمل الرواية على ما ذكره المحقق الخراسانيّ ( قده ) (١).

ويلاحظ على ما أفاده : أولا ـ ان هذا لا ينبغي ان يكون مانعا عن الأخذ بظهور الرواية على الاستصحاب لو تم في نفسه لما تقدم منه أيضا من ان عدم حجية الأصل المثبت لقصور دليل الحجية لا لمحذور ثبوتي أو إثباتي بل يؤخذ بالظهور ويحكم بحجيته في خصوص المورد.

وثانيا ـ ما سوف يأتي في محله من إمكان نفي مفاد كان الناقصة في الزمان والزمانيات باستصحاب عدم مفاد كان التامة.

__________________

(١) نهاية الأفكار القسم الأول من الجزء الرابع ، ص ٦٥

٩٣

وثالثا ـ المنع عن أخذ مفاد كان الناقصة قيدا في الوجوب بل في الواجب فقط ، واما شرط فعلية الوجوب فهو نفس دخول الشهر ـ كما لعله ظاهر الآية المباركة ـ فيكفي نفي دخوله بنحو مفاد كان التامة لنفي وجوب الصوم وكذلك نفي وجوب الإفطار ، نعم إثبات كون الصوم في يوم الشك من شوال امتثالا للواجب لا يثبت باستصحاب بقاء شهر رمضان بنحو مفاد كان التامة.

وهكذا يثبت تمامية هذه الرواية دلالة لإثبات الاستصحاب ، نعم هي ضعيفة سندا بعلي بن محمد القاساني.

الرواية السابعة : صحيحة عبد الله بن سنان قال : ( سأل أبي عبد الله عليه‌السلام وانا حاضرا اني أعير الذمي ثوبي وأنا أعلم انه يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير فيرده علي فاغسله قبل ان أصلي فيه؟ فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : صل فيه ولا تغسله من أجل ذلك فانك أعرته إياه وهو طاهر ولم تستيقن انه نجسه ) (١) وربما توجد هناك روايات أخرى بهذا المضمون (٢) الا ان هذه أحسنها. وهي تدل على الاستصحاب لأنه قد علل الحكم فيها بعدم غسل الثوب الّذي أعاره للكافر باليقين بالطهارة السابقة وعدم اليقين بالانتقاض لا بمجرد عدم العلم بالنجاسة لتحمل على قاعدة الطهارة وهي وان كانت واردة في خصوص الطهارة الخبثية الا انه يمكن استفادة الكلية والتعميم منها بدعوى ظهور سياقها في التعليل وإلقاء القاعدة الكلية خصوصا إذا فرضنا ارتكازية الاستصحاب.

والإنصاف ان هذه الصحيحة من خيرة أحاديث هذه القاعدة الشريفة وهي تمتاز على ما سبق من الروايات بعدة امتيازات :

منها ـ عدم ورود التعبير باليقين فيها ليتطرق إليها احتمال إرادة قاعدة اليقين وانما ظاهرها أخذ الحالة السابقة نفسها موضوعا للحكم الظاهري بالبقاء وهو صريح في الاستصحاب.

ومنها ـ ما يتفرع على ذلك من كون موضوع التعبد الاستصحابي فيها نفس الحالة السابقة لا اليقين بها وهذا قد يتفرع عليه بعض النتائج والثمرات من قبيل جريان الاستصحاب

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ٢ ، ص ١٠٩٥ ، النجاسات ، ب ٧٤ ، ح ١

(٢) من قبيل موثق بكير ( إذا استيقنت انك توضأت فإياك ان تحدث وضوء حتى تستيقن انك لحدثت ).

٩٤

في موارد ثبوت الحالة السابقة بإحدى الأمارات لا باليقين فان دليل حجية تلك الأمارة بنفسها تنقح موضوع التعبد الاستصحابي بلا حاجة إلى التكلفات التي ارتكبها الأصحاب على ما سوف يظهر.

ومنها ـ عدم اشتمالها على كلمة النقض فنستريح من شبهة اختصاص الاستصحاب بموارد الشك في المانع لا المقتضي فلو فرض عدم استفادة الإطلاق من تلك الروايات لموارد الشك في المقتضي باعتبار عدم صدق النقض فيها مثلا كفانا إطلاق هذه الصحيحة لإثبات التعميم.

٩٥
٩٦

الاستدلال على الاستصحاب بروايات أصالة الحل والطهارة :

ومن جملة ما استدل به على حجية الاستصحاب روايات حلية وطهارة ما لم تعلم حرمته أو نجاسته ، كرواية عمار ( كل شيء نظيف حتى تعلم انه قذر ) ( وكل شيء حلال حتى تعرف انه حرام )

والحديث عن سند رواية عمار وغيرها من روايات القاعدة ذكرناه مفصلا في بحوثنا من الفقه كما ان البحث عن سند روايات الحلية قد تقدم مفصلا في بحوث البراءة الشرعية من الجزء السابق ، وانما البحث هنا عن دلالة هذه الروايات ، وقد اختلف المحققون في مقدار ما يستفاد منها وانه قاعدة واحدة أو أكثر إلى اتجاهات ثلاثة :

الاتجاه الأول ـ ما ذهب إليه المحقق الخراسانيّ ( قده ) في حاشيته على الرسائل من استفادة قواعد ثلاث منها ، الحكم بالطهارة والحلية الواقعيتين والظاهرتين واستصحابهما.

الاتجاه الثاني ـ استفادة قاعدتين منها وقد ذهب إلى ذلك المحقق الخراسانيّ ( قده ) أيضا في كفايته فاختار استفادة الحكم الواقعي مع الاستصحاب منها. ونسب الشيخ إلى صاحب الفصول القول باستفادة الطهارة والحلية الظاهريتين والاستصحاب منها.

الاتجاه الثالث ـ استفادة قاعدة واحدة منها لا أكثر وقد ذهب إلى ذلك جمهور الفقهاء وان اختلفوا في تشخيص القاعدة المستفادة فالمشهور انه قاعدة الطهارة والحلية

٩٧

الظاهرتين ، وذهب صاحب الحدائق ( قده ) في حديث الطهارة إلى استفادة الطهارة الواقعية لكل ما لا يعلم نجاسته ، ومال الشيخ إلى استفادة الاستصحاب من مثل قوله عليه‌السلام ( الماء كله طاهر حتى تعلم انه نجس ) الوارد في خصوص المياه.

اما الاتجاه الأول ـ فقد ذكر المحقق الخراسانيّ في حاشيته على الرسائل انه بالإمكان استفادة الحكم الواقعي والظاهري من إطلاق الصدر ـ المغيا ـ في هذه الأحاديث واستفادة الاستصحاب من ذيلها وهو قوله عليه‌السلام ( حتى تعلم انه قذر أو حرام ) ومن هنا ينبغي البحث في جهتين :

الجهة الأولى ـ في إمكان استفادة الحكم الواقعي والظاهري من إطلاق المغيا ويمكن ان يقرب هذا المدعى بأحد تقريبين.

التقريب الأول ـ التمسك بعموم ( كل شيء ) الأفرادي في هذه الأحاديث للشيء الملازم مع الشك في نجاسته أو حليته كما إذا شك في النجاسة الذاتيّة للحديد مثلا وبإثبات الطهارة أو الحلية فيه ـ وهي حلية ظاهرية لا محالة ـ نثبت ذلك في ما لا يكون ملازما مع الشك دائما كموارد النجاسة العرضية المحتملة بالملازمة وعدم احتمال الفرق.

وهذا التقريب واضح الضعف فان شمول العموم لما يلازم الشك في نجاسته الذاتيّة أو حرمته كالكبريت مثلا يثبت طهارته أو حليته واقعا بعنوان كونه كبريتا أي يكون دليلا على الحكم الواقعي ولو فرض الشك فيه مع قطع النّظر عن هذا الإطلاق ومجرد ثبوت هذا الشك فيه أولا لا يجعل الحكم الثابت فيه بعنوان كونه شيئا حكما ظاهريا منوطا بالشك كما لا يخفى.

التقريب الثاني ـ التمسك بالإطلاق الأحوالي في هذه الأحاديث لحال طرو الشك في نجاسة أو حرمة الشيء وحيث ان هذا الإطلاق الأحوالي يثبت الحكم في هذه الحالة بما هي حالة الشك فيكون ظاهريا لا محالة.

وقد نوقش هذا الكلام من قبل المحققين بمناقشات عديدة :

المناقشة الأولى ـ ما أفاده جملة من الاعلام من ان الإطلاق رفض للقيود وليس جمع لها فشمول الإطلاق الأحوالي لحال الشك في نجاسة شيء أو حليته لا يعني ثبوت؟ الحكم فيه بعنوان كونه مشكوكا ليكون الشك مأخوذا في موضوع الحكم فيكون

٩٨

ظاهريا بل هو ثابت لعنوان الشيء بلا أخذ أي قيد من القيود فيه فلا مأخذ لاستفادة الحكم الظاهري من هذا الإطلاق (١).

وهذا الاعتراض صحيح بالمقدار المبين في التقريب ولكنه يمكن ان يطور التقريب بنحو يسلم عن هذا الاعتراض وذلك بان يقال : ان قضية كل شيء طاهر أو حلال بعد ان كان صالحا في نفسه لشمول حالات الشك في نجاسة شيء أو حرمته فلا موجب لرفع اليد عن إطلاقه لحال الشك في الحكم بالنجاسة أو الحرمة الواقعيين الثابتين بدليلهما فدليل حرمة الخمر أو نجاسته مثلا يخرج عن العموم خصوص حالة العلم بالنجاسة أو الحرمة ويتقيد الجعل في العام بالشيء غير المعلوم نجاسته أو حرمته لأن العام لا بد وان يتقيد بنقيض الخاصّ لا محالة ومن هنا يكون قيد الشك وعدم العلم مأخوذا في الحكم بالطهارة والحلية فيستفاد منه الحكم الظاهري في مورد الشك.

الا ان هذا التقريب غير تام أيضا لأن العام بعد ان لم يكن قد أخذ فيه الشك بحسب الفرض يكون ظاهرا في الجعل الواقعي كالخاص فيقع المنافاة بينهما ويجمع بالتخصيص الّذي يعني الكشف عن أخذ نقيض العنوان الخاصّ قيدا في العام فيكون حكما واقعيا أيضا وهذا يعني انه لا بد في المرحلة السابقة من إعمال تقييد في الجعل المنكشف بالعامّ بأخذ نقيض العنوان الخاصّ قيدا فيه لكونه حكما واقعيا مرتبا على واقع الخاصّ فلو كان العام كاشفا عن الجعل الواقعي أيضا كان القيد المأخوذ فيه لا محالة عدم واقع الخاصّ لا عدم العلم به ، وان شئت قلت : ان ظهور الخطاب العام في الواقعية لم يكن في طول إطلاقه لمورد العلم بالعنوان المخصص بل كان في عرضه ولعدم أخذ الشك في لسان دليله ومعه لا محالة يتقيد الجعل بعدم واقع المخصص ومن هنا لم يستشكل أحد في ذلك فقهيا في مورد من الموارد ولم يتوهم فقيه ان يكون أكرم كل عالم مثلا بعد ورود لا تكرم الفاسق مقيدا بالعالم الّذي لا يعلم حرمة إكرامه أو فسقه ليكون حكما ظاهريا في مورد الشك وهذا واضح.

المناقشة الثانية ـ ما نقله المحقق الأصفهاني ( قده ) من كتاب الدرر للشيخ

__________________

(١) بل حتى إذا افترضنا الإطلاق كالعموم يلحظ فيه كل حال حال مع ذلك لم يستفد من ذلك الحكم الظاهري لأن استفادة ذلك انما تكون من جهة أخذ الشك في موضوع الجعل لا المجعول فما لم يرد عنوان الشك في لسان الدليل المتكفل لبيان الجعل لا يمكن استكشاف كونه ظاهريا وهذا الجواب يدفع هذا التقريب حتى بعد تطويره بما في المتن.

٩٩

الحائري ( قده ) من لزوم لغوية جعل الطهارة أو الحلية الظاهرية بعد فرض استفادة جعل الطهارة الواقعية لكل شيء إذ لا يبقى مورد يشك في نجاسته أو حرمته.

ويلاحظ عليه : أولا ـ ان الّذي يوجب لغوية الطهارة أو الحلية الظاهرية وصول الجعل الواقعي المطلق لا ثبوته والعام انما يدل على جعله لا وصوله فقد لا يصل إطلاق الجعل الواقعي في مورد لمعارض أو مخصص أو غير ذلك.

وثانيا ـ ان أريد إبراز محذور ثبوتي حاصله : ان جعل الحكم الظاهري الترخيصي مع ثبوت الترخيص الواقعي لكل شيء لغو ثبوتا فجوابه : ان الشارع لعله يعلم بان جعله الواقعي ليس مطلقا فالخمر الواقعي المشكوك نجاسته أو حرمته لا ترخيص واقعي فيه فيجعل الترخيص الظاهري من أجل هذه الموارد ، وان أريد إبراز محذور إثباتي حاصله : ان الترخيص الواقعي المطلق وان كان غير مقصود واقعا في تمام الموارد الا ان العموم دال عليه إثباتا ومعه لا يمكن استفادة الترخيص الظاهري من نفس هذا الدليل للتنافي بينهما. فجوابه : ان هناك قرينة متصلة على عدم ثبوت الترخيص الواقعي المطلق متمثلة في ذيل الحديث وهو قوله ( حتى تعلم انه قذر ) بل وفي الارتكاز المتشرعي القائم على ثبوت النجاسة والحرمة في الجملة.

المناقشة الثالثة ـ ما أفيد من قبل جملة من الاعلام من ان الحكم الظاهري باعتباره في طول الحكم الواقعي فلا يعقل استفادتهما من دليل واحد وجعل واحد ، وقد اختلفت كلماتهم في كيفية تقرير هذه الطولية ووجه استحالة الجمع بينهما في خطاب واحد وبالإمكان تلخيصها ضمن بيانات ثلاثة.

البيان الأول ـ ما يظهر من عبارات تقرير بحث المحقق النائيني ( قده ) من ان الحكم الظاهري لكونه منوطا بالشك في الحكم الواقعي فيكون موضوعه متأخرا عن الحكم الواقعي بمرتبتين فلو اتحدا في جعل واحد لزم كون المتأخر متقدما وهو خلف.

وعلق عليه السيد الأستاذ بأنه انما يتم بناء على مسلك صاحب الكفاية ( قده ) الّذي يرى إيجادية المعاني الإنشائية حيث يقال عندئذ يستحيل إيجاد شيئين طوليين بجعل واحد واما على ما هو الصحيح من ان الإنشاء ليس الا عبارة عن إبراز الاعتبار

١٠٠