بحوث في علم الأصول - ج ٦

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٦

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٨

« خاتمة »

النسبة بين الأمارات والأصول العملية

لا إشكال في تقدم الأمارات على الأصول العملية كما لا إشكال في تقدم الأصول العملية بعضها على البعض الآخر على ما سوف يأتي تفصيل ذلك. والمقصود بالبحث هنا توضيح وجه هذا التقديم وتخريجه الفني على ضوء الكبريات المنقحة في بحث التعارض من نظريات الورود والحكومة والتخصيص والجمع العرفي ، وقبل الشروع في ذلك تجدر الإشارة إلى مجمل ملاكات تقديم أحد الدليلين على الآخر ونكاته الأساسية تاركين تفصيل ذلك إلى بحوث تعارض الأدلة ، فنقول :

انَّ تقدم أحد الدليلين على الآخر يكون له أحد ملاكين رئيسين :

الملاك الأول ـ الورود ، ويعني رفع أحد الدليلين لموضوع الدليل الآخر حقيقة ، وقد قسمنا ذلك في موضوعه إلى خمسة أقسام لأن الدليل الوارد تارة يرفع موضوع الآخر بجعله ، وأخرى بفعلية مجعوله ، وثالثة بوصوله ، ورابعة بتنجيزه ، وخامسة بامتثاله ، وذكرنا هناك أحكام كل قسم وخصوصياته تفصيلا بما لا ربط له بالمقام ، وانما المنظور هنا تقسيم آخر للورود من حيث انَّ رفع الموضوع تارة يكون بلسان الاخبار كما لو قال أكرم العلماء ثم أخبر بأنَّ زيداً ليس بعالم وهذا ما يسمى بالتخصص اصطلاحا ، وأخرى يكون بلسان الإنشاء والتعبد كما لو قال متى ما لم تقم حجة على الإلزام فأنت في سعة ـ

٣٤١

البراءة ـ ثم حكم بوجوب شيء أو حرمته أو أقام حجة عليه ، وهذا هو الورود بالمعنى الأخص ، وهذا أيضاً تارة يكون وروداً بحسب الطبع اللغوي العام بنحو تتضيق دائرة الدليل المورود بالوارد حقيقة كما في المثال المذكور ، وأخرى يكون بالادعاء السكاكي بأَن يجري المتكلم في كلامه على ادعاءات سكاكية مختصة به كما إذا قال أكرم العالم ثم قال الفاسق ليس بعالم ، وهذا النوع من الورود قد ادعتها مدرسة المحقق النائيني ( قده ) في باب الأمارات والأصول وان عبرت عنها بالحكومة إلاّ انه لا مشاحة في الاصطلاح وانما المهم انَّ نكتة التقدم هنا هو الورود ورفع الموضوع حقيقة ولكن في طول ادعاء سكاكي يجري عليه الشارع في مجال مداليل الألفاظ.

الملاك الثاني ـ القرينية وتعني كشف المراد من أحد الدليلين وتفسيره بالدليل الآخر ، فانَّ هذا يوجب تقدم المفسر والقرينة على المفسر لا محالة ، وكبرى هذه النكتة أعني كبرى التفسير والأخذ بالمفسر من القضايا التي تكون قياساتها معها ، وقد شرحنا ذلك في موضعه ، وانَّما البحث في صغرى القرينية والتفسير فانها على قسمين :

الأول ـ القرينية الشخصية وذلك بأَن يكون الكلام معداً من قبل المتكلم شخصه لتفسير كلامه الآخر وشرح المراد منه ، وهذا هو الحكومة ويكون بأحد الإشكال التالية :

١ ـ أَن يكون بلسان التفسير كما إذا قال أعني من ذلك الكلام هذا المعنى ، وكما في قوله تعالى بشأن المحكمات ( هنّ أم الكتاب ) أي انها المرجع في تفسير المتشابهات ، وهذه حكومة تفسيرية.

٢ ـ أَن يكون بلسان التنزيل بأَن يقول الطواف بالبيت صلاة أي انه منزل عندي منزلة الصلاة فيكون ناظراً إلى مفاد الدليل المحكوم من خلال التنزيل ، وهذه حكومة تنزيلية.

٣ ـ أَن يكون مضمون أحد الدليلين بحسب مناسبات الحكم والموضوع المكتنفة به ناظراً إلى مفاد الدليل الحاكم وبحكم الاستثناء والتحديد له وقد اصطلحنا عليه بالحكومة المضمونية كما في أدلة نفي العسر والجرح ولا ضرر بالنسبة لأدلة سائر الأحكام. وبهذا يعرف انَّ الدليل الحاكم مناف ومعارض حقيقة مع الدليل المحكوم بخلاف الورود ، فما عن السيد الأستاذ من انَّ الدليل الحاكم حيث انه ينظر إلى عقد

٣٤٢

موضوع دليل المحكوم لنفيه أو إثباته تعبداً لا يكون منافياً مع الدليل المحكوم لأنَّ الدليل لا ينظر إلى عقد موضوعه بل ينظر إلى إثبات الحكم على تقدير تحقق الموضوع (١) غير سديد ، فان الدليل المحكوم وان كان يثبت الحكم على تقدير تحقق الموضوع إلاّ انَّ الموضوع هو الفرد الحقيقي لا التعبدي فيكون محفوظا في مورد الدليل الحاكم ، وقد شرحنا ذلك مفصلاً في بحوث التعارض.

الثاني ـ القرينية النوعية ـ بأَن لا يكون تفسير أحد الدليلين للآخر على أساس أعداد شخصي من قبل المتكلم نفسه بل على أساس جعل وأسلوب عرفي عام كتخصيص العام بالخاص ، ومقتضى عرفية المتكلم متابعته للعرف في ذلك فيثبت بأصالة المتابعة كون المتكلم قد أعد القرينية لتفسير ذي القرينة غير انَّ إعداده لذلك منكشف بكاشف نوعي لا شخصي كما هو الحال في الحكومة ، وبهذا يتبين انَّ ملاك تقدم القرينة على ذي القرينة والجمع العرفي نفس ملاك تقدم الحاكم على المحكوم حقيقة ، لأنَّ مجرد كون الكاشف عن نكتة التقدم شخصياً أو نوعيا لا يغير من جوهرها ، نعم حيث انَّ التفسير المباشر من قبل شخص المتكلم يكون اقرب إلى الواقع وأضمن كانت الحكومة أقوى من التخصيص وسائر وجوه الجمع العرفي ومقدمة عليها ، ثمَّ انَّ القرينية النوعية قد تكون في مرحلة المدلول التصوري للكلام ، وقد تكون في مرحلة المدلول الاستعمالي ، وقد تكون في مرحلة المدلول التصديقي الجدي ، وتفاصيل هذه الشقوق وأحكامها متروكة إلى محلها من بحوث التعارض.

وعلى ضوء هذه النكات الأساسية لتقديم أحد الدليلين على الآخر نورد البحث في مقامين :

المقام الأول ـ في تقدم الأمارات على الأصول العملية.

المقام الثاني ـ في النسبة بين الأصول العملية بعضها إلى بعض.

١ ـ تقدم الأمارات على الأصول :

هناك اتجاهان رئيسيان في تقديم الأمارات على الأصول العملية ، اتجاه يقول

__________________

(١) مصباح الأصول ، ج ٣ ، ص ٢٥٤

٣٤٣

بالتقديم بالملاك الأول من الملاكين المتقدمين ـ أي الورود ـ وان عبر عنه بالحكومة واتجاه يقول بالتقديم على أساس الملاك الثاني أي القرينية.

تقديم الأمارة بالورود :

امَّا الاتجاه الأول أعني التقديم بملاك الورود ورفع الموضوع فيمكن ان يقرب ذلك تارة على أساس الورود الحقيقي وأخرى على أساس الورود الادعائي.

امَّا الأول فيمكن تقريبه بأحد وجهين :

أولهما ـ أن يقال بأن المتفاهم عرفاً من العلم المأخوذ غاية في أدلة الأصول العملية مطلق الحجة لا خصوص القطع الوجداني والأمارة حجة حقيقية.

ثانيهما ـ أن يقال بأنَّ المراد بالعلم وان كان خصوص العلم الوجداني إلاّ انَّ المراد بالحكم كالحرمة مثلاً في قوله ( حتى تعلم انه حرام ) الأعم من الحرمة الواقعية أو الثابتة بالحجة ، وهذا حاصل حقيقة في مورد الأمارة.

وكلا الوجهين غير تام ، لأن حمل العلم على الأعم من الحقيقي والتعبدي مئونة زائدة على خلاف الظاهر الأولى كما ان حمل الحكم والحرام على الأعم من الحكم الواقعي وما أدّت إليه الأمارة خلاف الظاهر فلا يمكن المصير إلى شيء منهما من دون قرينة ، وكأنه نشأ ذلك عن مجرد التشابه والاصطلاح وتسمية ذلك باليقين التعبدي أو بالحكم المماثل وإلاّ فلا ربط بين المعنيين ولا شبه بينهما ، وامَّا الثاني أعني دعوى الورود الادعائي فيمكن تقريبه بأحد وجهين أيضاً.

أولهما ـ أن يقال بأن الشارع له اعتبارات خاصة في باب العلم ومراده من العلم المجعول غاية للأصول العملية ما يكون علماً حسب اعتباره ونظره ويستفاد من كلمات مدرسة المحقق النائيني ( قده ) ان هذا نوع من الحكومة وقد عرفت انَّ هذه التسمية غير دقيقة فانه إذا كان مراده من العلم ما يعتبره هو علماً في مصطلحه الخاصّ كان التقديم بملاك الورود وارتفاع الموضوع حقيقة في طول ذلك الاعتبار فهو ورود لبّا وروحاً لا حكومة وإلاّ فمجرد اعتبار غير العلم علماً من دون أَن يكون مراده من العلم اعتباراته الخاصة لا قيمة له أصلاً ولا يوجب تقدم أحد الدليلين على الآخر.

ثانيهما ـ أَن يقال ان الشارع له اعتبارات خاصة في الحكم ومتعلق العلم فهو يريد

٣٤٤

بالعلم بالحرمة العلم بما حكم عليه بالحرمة سواءً كان واقعياً أو ظاهرياً ويقال بجعل الحكم المماثل في مورد الأمارات ، فيكون العلم بها علماً بالحكم بهذا المعنى حقيقة فيكون وروداً ، ولا نحتاج إلى تنزيل العلم بهذا المؤدى منزلة العلم بالواقع على هذا التقدير كما لا يخفى.

والتحقيق : انَّ تمامية الورود موقوفة على افتراض ثلاثة أمور :

١ ـ انَّ الشارع حينما يطلق كلمة العلم يقصد بها ما يراه علماً بحسب اصطلاحه واعتباره ؛ وهذا شيء تقدم في بحوث سابقة حيث قلنا هناك انه لا دليل على ذلك بل لا يحتمل ذلك.

٢ ـ افتراض انَّ جعل الحجية في الأمارات يكون بمعنى جعل العلم ، وهذا شيء مضى تحقيقه في بحث الأحكام الظاهرية أيضاً ، وقد اتضح انَّ هذا مجرد لسان وتعبير ليس إلاّ.

٣ ـ افتراض الفرق بين الأمارات وبين الأصول التي يمكن فيها دعوى جعل العلم واليقين كما في الاستصحاب ، وهذا ما ينبغي التحدث عنه هنا ، فانه لما ذا افترض انَّ دليل حجية خبر الثقة يجعله علماً وغاية للاستصحاب دون العكس فيكون التوارد من الطرفين ويتعارضان.

وهذا الإشكال يمكن الجواب عليه بوجهين :

الأول ـ انَّ دليل الأمارة وارد في مورد الأصول العملية ، لأنَّ مهم المدرك على حجية خبر الثقة والظهور هو السيرة وهي ثابتة في موارد الأصول فيجب أَن يكون موضوعهما بنحو لا ينتفي بالأصول.

ويلاحظ على هذا الوجه انه يثبت التقديم بملاك القرينية لا الورود ورفع الموضوع الّذي هو المبحوث عنه ، نعم في طول فرض التقديم يمكن البحث النظريّ عن انَّ الأمارة هل ترفع موضوع الأصل أم لا إلاّ انه لا قيمة له.

الثاني ـ انَّ دليل حجية الأصل قد أخذ في موضوعه الشك وعدم العلم بخلاف دليل حجية الأمارة ، وهذا الوجه قد يقرب كوجه ثبوتي فيقال بأنَّ موضوع الأمارة غير مقيدة بالشك وعدم العلم حتى لبّا وثبوتاً وانَّما تكون الأمارة في مورد الشك بخلاف الأصل ، وقد يقرب كوجه إثباتي وبحسب مفاد دليل الحجية.

٣٤٥

امَّا الوجه الثبوتي والّذي كان رائجاً قبل الميرزا وقد يستفاد من بعض عبائره فيرد عليه : انه إن أُريد عدم أخذ الشك قيداً مقدر الوجود للحكم بالحجية في مورد الأمارة فهذا مستحيل ، إذ لازمه حجية الأمارة حتى مع العلم بالخلاف ، وقد تقدم في بحوث القطع استحالته.

وان أُريد انه لم يؤخذ قيداً في موضوع الأمارة الحجة وان كان قيداً في الحكم بالحجية فهو حيثية تعليلية لا تقييدية ، فهذا لا أثر له في المقام ، فانه على كل حال إذا أنيط الحكم به كان دليل الأصل صالحاً لرفعه وبالتالي رفع الحكم المنوط به حقيقة.

وامَّا الوجه الإثباتي فيمكن تقريبه بنحوين :

الأول ـ انَّ دليل الأصل حيث جاء في لسانه الشك وعدم العلم والمفروض إرادة العلم بحسب اعتبارات الشارع الخاصة كان دليل جعل العلمية للأمارة رافعاً لموضوع دليل الأصل حقيقة فيكون وارداً عليه ، وامَّا دليل الأمارة فحيث لم يؤخذ في لسانه الشك وعدم العلم فلا دليل على أخذ العلم بهذا المصطلح الخاصّ في موضوعه فيتمسك بإطلاق الحجية حتى لمورد العلم الخاصّ الثابت بالأصل حيث يمكن جعل الحجية للأمارة فيه وانما المحال جعلها في مورد العلم الوجداني ، وبهذا يكون إطلاق دليل حجية الأمارة رافعاً حقيقة لموضوع دليل حجية الأصل دون العكس فيكون وارداً عليه لا محالة.

وهذا التقريب انَّما يتم لو لم ندع أخذ عدم العلم قيداً في أدلة الحجية ارتكازاً أو عقلاً بحيث يعد مخصصاً متصلاً في مرحلة المدلول الاستعمالي للكلام ، فكأنَّه أخذ مفهوم عدم العلم فيه لا مجرد إخراج صورة الاستحالة والعلم الوجداني جداً.

الثاني ـ انَّ دليل الأصل يقترن بقرينة متصلة تمنعه عن إفادة جعل العلمية فلا يكون رافعاً لموضوع الأمارة بخلاف العكس ، وتلك القرينة المتصلة هي أخذ عدم العلم والشك في موضوع الأصل فانَّ هذا لا يناسب مع إرادة إلغاء الشك وجعل العلمية وإلاّ وقع تهافت بين الموضوع والمحمول.

ونلاحظ على هذا التقريب : انَّ الموضوع انما هو عدم العلم من غير ناحية هذا الجعل لا مطلقاً فلا تهافت حتى في اللحاظ ، هذا الا انَّ أصل افتراض انَّ أدلة حجية الأمارات لم يؤخذ في شيء منها عدم العلم وأدلة حجية الأصول أخذ فيها جميعاً عدم

٣٤٦

العلم غير تام ، فإنَّا بمراجعة أدلة الأمارات نجد انَّ بعضها قد أخذ في موضوعها عدم العلم كقوله تعالى ( فاسئلوا أهل الذّكر إن كنتم لا تعلمون ) (١) وأدلة الأصول العملية فيها ما لم يرد في لسانها الشك وعدم العلم كما في قاعدة اليد والسوق ، وهذا بنفسه يكشف انَّ وجه التقديم لا يمكن أَن يرجع إلى مثل هذه الخصوصية الصورية الإثباتية.

على انَّ هناك اعتراضاً لنا على أصل نظرية ورود الأمارات على الأصول يأتي في ذيل البحث عن اتجاه القرينية لأنه مشترك يرد على دعوى التقديم بملاك الورود أو الحكومة. وهكذا يتلخص انَّ تقدم الأمارات على الأصول بملاك الورود غير تام.

وامَّا الاتجاه الثاني أعني تقديم الأمارة بملاك القرينية فقد عرفت : انَّ القرينة إذا كانت شخصية فهي حكومة ، وإذا كانت نوعية فهي جمع عرفي ، فلا بدَّ من تطبيق كل منهما في المقام ليرى هل يتم شيء منهما أم لا.

تقديم الأمارة بالحكومة :

امَّا التقديم بالحكومة فقد عرفت انه بحاجة إلى إثبات نظر الدليل الحاكم إلى الدليل المحكوم في مقام تفسيره امَّا نظراً تفسيراً صريحاً أو تنزيلياً أو مضمونياً ، وهذه هي الأقسام الثلاثة المتقدمة للحكومة. وبعد وضوح انه لا صراحة في أدلة الأمارة لتفسير أدلة الأصول فينحصر منشأ دعوى الحكومة بأحد القسمين الثاني أو الثالث أي الحكومة التنزيلية أو المضمونية ، وحيث انَّ القسم الثالث وهو الحكومة المضمونية يكون لها تقريب يتوقف على فهم نكات تأتي في القرينيّة النوعية فنقتصر هنا في تقريب حكومة الأمارات على القسم الثاني أعني الحكومة التنزيلية ، وسوف نعود على الحكومة المضمونية في خاتمة البحث عن القرينيّة النوعية فنقول :

يمكن ان يدعى حكومة دليل الأمارات على الأصول العملية من باب التنزيل لأنه ينزل الأمارة منزلة العلم في الأحكام والتي من جملتها ارتفاع حكم الأصل العملي ، والفروق بين هذا الوجه للتقديم والتقديم بالورود الّذي قد تعبّر عنه مدرسة المحقق النائيني ( قده ) بالحكومة أيضاً عديدة ومهمة وقد تلتبس في تعبيرات هذه المدرسة ، وفيما

__________________

(١) سورة الأنبياء الآية (٧)

٣٤٧

يلي نشير إلى ثلاثة فروق تميز التقديم بملاك الورود عن التقديم بملاك الحكومة.

١ ـ انَّ حكومة الأمارة على الأصل بنحو التنزيل يعني بحسب الحقيقة قيامها مقام القطع المأخوذ عدمه في موضوع الأصل ، فيكون هذا النحو من التقديم صغرى بحسب الحقيقة لمسألة قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي بنفس دليل الحجية ، فيرد عليه ما أشكل به المحقق الخراسانيّ ( قده ) هناك من استحالة ذلك للزوم التهافت والجمع بين النّظر الآلي والاستقلالي في كيفية ملاحظة الأمارة والقطع.

وهذا الإشكال وان عالجناه في محله الا انَّ المقصود إبراز امتياز تقديم الأمارة على الأصل بالورود. على تقديمها عليه بالحكومة التنزيلية ، فانَّ الورود لا يبتلى بمثل هذا الإشكال لأنه ليس تنزيلاً ليحتاج إلى ملاحظة حكم المنزل عليه أصلاً.

٢ ـ انَّ إثبات الأثر في مورد الورود يكون بالتمسك بالدليل المورود حقيقة لتحقق موضوعه واقعاً على حد سائر افراده ، وامَّا في مورد الحكومة التنزيلية فإثبات أثر المنزل عليه يتوقف على التمسك بإطلاق دليل التنزيل وشموله لذلك الأثر في مقام التنزيل لأنه ليس فرداً حقيقياً من موضوع ذلك الحكم ليمكن التمسك بدليله مباشرة ، ويتفرع على ذلك انه في موارد الحكومة لا بد في مقام ترتيب أي أثر من تمامية إطلاق التنزيل في دليله ليمكن إثبات ذلك الحكم فإذا كان دليل الحجة مثلا لبّياً لا لسان له ليمكن إجراء الإطلاق فيه ـ كما هو كذلك في أكثر الأمارات ـ فلا يمكن إثبات الحكم المشكوك بالتنزيل وهذا بخلاف الورود.

٣ ـ انَّ الورود كما يتم بتقريب إرادة العلم بحسب اعتبارات الشارع في موضوع الأصل كذلك يتم بإرادة الحكم المتيقن الأعم بحسب اعتبارات الشارع من الواقعي والظاهري كما تقدم ، وامَّا الحكومة فلا تتم الا بتنزيل الأمارة منزلة العلم بالواقع لا تنزيل المؤدى منزلة الواقع لأنَّ تنزيل المؤدى منزلة الواقع كما ذكر صاحب الكفاية ( قده ) لا يلازم تنزيل العلم بالمؤدى منزلة العلم بالواقع ، اللهم إلاّ أَن يرجع ذلك إلى نحو من التركيب بأَن تكون الغاية العلم بعنوان الحرمة وأَن تكون تلك الحرمة واقعية والجزء الأول ثابت بالوجدان والجزء الثاني يثبت بالتنزيل.

وسوف يأتي مزيد شرح وتفصيل للفروق بين نظريتي الورود والحكومة في بحوث التعارض. وعلى كل حال لا وجه لدعوى حكومة دليل الأمارة على الأصل بالتنزيل ،

٣٤٨

لأنه يرد على ذلك ـ كما يرد على دعوى الورود أيضاً ـ انَّ دليل حجية الأمارة لو سلمت دلالتها على جعل العلمية والطريقية وانَّ لسانها لسان تنزيل ما ليس بعلم منزلة العلم فسوف يكون لسان أدلة الأصول العملية الترخيصية أيضا لسان نفي العلمية والتنزيل ، وهذا نظير ما ذكرناه في بحث حجية خبر الثقة وراد عليه أدلة النهي عن العمل بغير العلم في قبال من كان يدعي حكومة دليل جعل الخبر علما على ذلك بأنَّ دليل النهي أيضاً ينفي العلمية والحجية فلا حكومة لأحدهما على الآخر فقوله ( كل شيء حلال حتى تعرف انه حرام ) يكون بصدد نفي كل أنحاء التسجيل والتنجيز ونفي الحجية والطريقية فيما إذا لم يكن عالماً بالحرمة فيكون في عرض دليل تنزيل الأمارة منزلة العلم (١).

لا يقال : هذا الاعتراض في البابين انما يتم على الحكومة لا الورود لأن معنى رفع ما لا يعلمون على الورود رفع ما لا يراه علماً بحسب اصطلاحه ودليل حجية الخبر يجعله علماً بحسب اصطلاحه.

فانه يقال : المفروض ان الحجية معناها عند هذه المدرسة جعل العلم والطريقية ورفع ما لا يعلمون يعني عدم جعل الحجية أي عدم جعل العلمية والطريقية فلا بد وأن يكون المقصود من رفع ما لا يعلمون رفع ما لا يكون علماً حقيقياً أي عدم علمية ما لا يكون علماً حقيقياً لا علماً بحسب اعتباره وإلاّ لأصبح لغواً وان ما لا يراه علماً لا يراه علماً. ومعه يكون المدلولان في دليل الأمارة والأصل في عرض واحد ، فلا حكومة لأحدهما على الآخر.

تقديم الأمارة بالقرينية النوعية :

وامَّا تقديم الأمارة على الأصول بملاك القرينية العامة كالتخصيص والتقييد

__________________

(١) يمكن دعوى الفرق بين المقام وبين أدلة النهي عن العمل بالظن من حيث ان المنظور فيها نفي اعتبار الظن فيكون مناسباً مع إرادة نفي العلمية والحجية والتنزيل فيكون في عرض مفاد دليل الحجية فيتعارضان وهذا بخلاف ألسنة أدلة الأصول فان ظاهرها نفي التبعة وإطلاق العنان وهو أعم من نفي العلمية والطريقية ، هذا مضافاً إلى ما سوف يأتي في بحث قادم من انَّ مركوزية وجود طرق وكاشفيات أخرى للشارع إجمالاً غير العلم الوجداني يمنع عن انعقاد ظهور في مثل أدلة الأصول العملية المرخصة على انها بصدد نفي أية كاشفية معتبرة أخرى. نعم هنا كلام آخر نظير ما تقدم في فرضية الورود من ان مثل الاستصحاب من الأصول العملية لما ذا لا يكون المجعول فيها تنزيل الشك منزلة العلم في الآثار فتكون الحكومة التنزيلية من الطرفين بحسب ظاهر الدليلين فيتعارضان.

٣٤٩

والأظهرية ونحوها فتصل النوبة إليه بعد عدم تمامية الورود ولا الحكومة ، والبحث عن نكات هذا الملاك يقتضي بسط البحث بلحاظ الأمارة مع دليل كل أصل أصل فيقع الكلام في جهات :

الجهة الأولى ـ تقديم الأمارة على أصالة البراءة والوجه فيه أخصية دليل حجية الأمارة عن البراءة ، ولا يتوهم ان النسبة بينهما عموم من وجه لحجية الأمارة في مورد الترخيص أيضاً وجريان البراءة في مورد فقدان الأمارة أيضاً لأنه ليس المقصود التخصيص الحرفي وانما المقصود ملاك التخصيص فان دليل حجية الأمارة لو ألغينا إطلاقه للأمارة الملزمة لزم إلغاء مفادها رأساً إذ ثبوت الترخيص في مورد الأمارة الترخيصية ليس بملاك الأمارة لكفاية الشك وعدم ثبوت الإلزام في التأمين فتكون حجية الأمارة أشبه باللغو عرفاً.

هذا مضافا إلى ان أكثر أدلة حجية الأمارة واردة في مورد الأمارة الإلزامية الّذي هو مورد البراءة لو لا الأمارة كما في الإنذار الوارد في آية النفر والإصابة في آية النبأ وروايات الأمر بإطاعة الثقات من أصحابهم فيكون أخص أو تكون الأمارة على الإلزام هو القدر المتيقن منه على أقل تقدير.

هذا إذا لاحظنا الأدلة اللفظية وامَّا الأدلة اللبية أعني السيرة العقلائية أو المتشرعية فمن الواضح ان المتيقن منها الأمارات الإلزامية ومنه ظهر حال حجية الظهور أيضاً.

الجهة الثانية ـ تقديم الأمارة على الاستصحاب وهنا أيضاً تتم الأخصية بالمعنى المتقدم لأن تخصيص دليل حجية الأمارة بموارد عدم الحالة السابقة أو تواردهما أو تساقط الاستصحابات بعلم إجمالي ونحوه أمر غير عرفي لندرته بخلاف العكس فيكون دليل حجية الظهور والخبر بمثابة الأخص.

لا يقال : بعد سقوط الأصول ومنها الاستصحاب في الشبهات الحكمية بالعلم الإجمالي الكبير تبقى موارد كثيرة للأمارة الإلزامية.

فانه يقال : هذا العلم الإجمالي كان منحلاً أو غير موجود في زمن المعصومين الّذي هو زمن صدور دليل الحجية فالأخصية محفوظة في زمان الصدور على الأقل فيخصص دليل الاستصحاب بدليل الأمارة.

٣٥٠

الجهة الثالثة ـ تقديم الأمارة على أصالة الطهارة وهنا لا تتم الأخصية المتقدمة لكثرة موارد افتراق الأمارة حتى الإلزامية عن مورد قاعدة الطهارة ولكنه مع ذلك يمكن إثبات التقديم بنكات تأتي جملة منها في سائر القواعد والأصول العملية أيضاً.

منها ـ ان يدعى عدم احتمال الفرق بين باب النجاسة وسائر الأبواب في حجية الأمارة فلو فرض حجيتها في غيرها كان حجية فيها أيضاً فتكون حجية الخبر الدال على النجاسة مثلاً مدلولاً لأصل دليل الحجية فيكون بحكم الأخص.

ومنها ـ انَّ من جملة أدلة حجية الخبر والظهور السيرة العقلائية وهي لا يحتمل فيها الفرق بين باب النجاسة وغيرها فلا يبقى وجه لرفع اليد عن هذه السيرة في باب النجاسة إلاّ إطلاق قاعدة الطهارة وهو لا يصلح للردع على ما تقدم في بحث السيرة.

ومنها ـ ان من جملة الأدلة على الحجية السيرة المتشرعية وهي قطعية لا تحتاج إلى عدم الردع لأنها متلقاة من الشارع وكاشفة عن نظره والمتشرعة أيضاً لا يفرقون بين باب النجاسة وغيرها وهذا يعني انا نقطع بحجية الأمارة في قبال القاعدة.

ومنها ـ لو فرضنا التعارض بنحو العموم من وجه قدم دليل حجية الأمارة لكونه قطعي السند على دليل قاعدة الطهارة اما لكونه قرآنا أو سنة قطعية متواترة ولو إجمالاً بخلاف دليل القاعدة وهذا يثبت حجية الأمارة في الشبهة الحكمية لأنه القدر المتيقن منها ، نعم الخبر في الشبهة الموضوعية قد لا يكون داخلاً في المتيقن.

ومنها ـ لو فرض التعارض والتساقط في مورد الاجتماع رجعنا إلى استصحاب حكم الحجية للأمارة الثابت في أول الشريعة ولو بالإمضاء وعدم الردع قبل تشريع قاعدة الطهارة.

ونكتفي بهذا المقدار من البحث عن الأصول والقواعد العملية الأخرى لأن ما ذكرناه من النكات والخصوصيات تتم فيها أيضاً على سبيل مانعة الخلو.

وينبغي أن نشير في ختام بحث تقدم الأمارات على الأصول إلى أمور ثلاثة :

الأول ـ ذهب المشهور إلى انَّ الأمارة تتقدم على الأصل حتى إذا كان موافقاً معه لأنها ترفع موضوع الأصل.

وهذا الكلام لا يتم مبنى ولا بناء اما من حيث المبنى فلما عرفت من انَّ تقدم الأمارة على الأصول لم يكن بملاك رفع الموضوع بل بملاك القرينية وهي فرع التنافي

٣٥١

بين الدليلين ولا تنافي بين المدلولين المتوافقين.

وامَّا من حيث البناء فلانا لو سلمنا الورود أو الحكومة فغاية ما يفترض أخذه في موضوع حجية الأصل العلم بالخلاف للحرمة في البراءة والنجاسة في القاعدة ونقيض الحالة السابقة في الاستصحاب وهكذا ، وفي مورد الأمارة الموافقة لا علم بالخلاف ، وامَّا العلم بنفس الحكم الّذي يؤديه الأصل فلم يكن عدمه مأخوذاً في لسان الدليل ، نعم صورة العلم الوجداني بذلك يكون خارجاً بالمخصص اللبي إلاّ انه قد تقدم منهم في وجه تقديم الأمارة على الأصل انه يقيد الإطلاق بمقدار الاستحالة وهو مورد العلم الوجداني الموافق لا العلم التعبدي.

وبهذا البيان نفسه نمنع عن تقدم الأصول بعضها على بعض إذا كانت متوافقة أيضاً فينهار ما بناه المشهور ورتبوه على ذلك من الآثار والنتائج في بحث الأصول الطولية وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك في مواضعها أيضاً.

الثاني ـ انَّ حكومة الأمارة على الأصل بالحكومة المضمونية ـ القسم الثالث للحكومة ـ قد تقرب على ضوء ما تقدم من ورود دليل الأمارة في مورد الإلزام ان المستفاد من ذلك ان الشارع يفترض عدم الإلزام وثبوت التأمين لو لا جعل الحجية للأمارة في ذلك المورد وإلاّ لم تكن حاجة إلى جعلها وهذا يعني انَّ دليل حجية الأمارة الإلزامية فرضت مضمون الأصل الترخيص في المرتبة السابقة لتخصصه أو تحدده فتكون حاكمة عليه.

ونلاحظ على ذلك : انه يكفي في إشباع الحاجة إلى افتراض التأمين المسبق ان يكون النّظر إلى قاعدة قبح العقاب ـ على القول بها ـ أو البراءة الشرعية المحكومة التي هي في رتبة القاعدة ـ على ما استفدناها في مبحث البراءة من بعض الأدلة ـ فلا يتوقف ذلك على افتراض ثبوت مضمون الأصول الشرعية.

الثالث ـ انَّ تقديم الأمارات على الأصول العملية العقلية انَّما يكون بالورود لأنَّ حكم العقل العملي في باب الإطاعة والعصيان سواء بالبراءة أم الاشتغال انما يكون معلقاً على عدم تصدّي المولى بنفسه لإبراز شدة اهتمامه بملاكاته الواقعية الإلزامية أو الترخيصية من دون ارتباط ذلك بلسان الجعل الظاهري من كونه بصيغة جعل العلمية أو الحجية أو المنجزية أو الكلفة أو أي لسان آخر ، وقد تقدم تفصيل ذلك في محله من

٣٥٢

بحوث أصالة البراءة ، ويلحق بالأصل العقلي الأصل الشرعي الّذي هو في مرتبة الأصل العقلي أي ما أخذ عدم الحجة على الخلاف في موضوعه كما قد يدعى ذلك في مثل رواية مسعدة بن صدقة الدالة على أصالة الحلّ ، لما ورد في ذيلها من التعبير بان الأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير هذا أو تقوم به البينة بناءً على انَّ المقصود بها مطلق الحجة أو شهادة العدلين.

وبهذا ينتهي البحث عن المقام الأول وهو تقديم الأمارات على الأصول ويتضح بالتأمل في النكات الأساسية التي شرحناها هنا وسيأتي مزيد تعرض لها أيضاً في بحوث التعارض مدى التشويش والخلط الواقع في كلمات الأصحاب في أمثال المقام فراجع وتأمل.

٢ ـ العلاقة فيما بين الأصول العملية :

الأصلان العمليان تارة يكونان متوافقين وأخرى يكونان متنافيين. والمتنافيان تارة يكون التنافي بينهما في مرحلة الجعل وبالذات وأخرى يكون في مرحلة الجعل ولكن بالعرض أي الطرو العلم الإجمالي بكذب أحدهما ، وثالثة يكون تنافيهما في مرحلة الامتثال والتزاحم كما إذا استصحب وجوب الصلاة مع وجوب الإزالة في وقت لا قدرة للمكلف على الجمع بينهما ، وفيما يلي نتحدث عن هذه الأقسام في ثلاثة مقامات :

١ ـ تقدم الأصل المحرز والسببي على غير المحرز والمسببي :

المقام الأول ـ في الأصلين المتوافقين أو المتنافيين ذاتاً وقد اختارت مدرسة المحقق النائيني ( قده ) في هذين القسمين حكومة أحد الأصلين على الآخر إذا توفر فيه أحد شرطين :

١ ـ ان يكون ملغياً بحسب لسان دليله للشك المأخوذ في موضوع الآخر كما في تقدم استصحاب الطاهرة أو النجاسة على أصالة الطهارة أو الحل ، ويسمى ذلك بالأصول المحرزة وانه في مثل ذلك يكون الأصل المحرز حاكماً على غير المحرز لأنه يرفع موضوعه تعبداً وهو معنى الحكومة.

٣٥٣

٢ ـ ان يكون سببياً والآخر مسببياً أي جارياً في موضوعه الشرعي فيقدم الأصل الجاري في السبب على الجاري في المسبب بالحكومة ولو كان الأصل السببي لا يلغي الشك والأصل المسببي يلغيه ، ومن هنا تكون أصالة الطهارة في الماء المغسول به الثوب فضلاً من استصحابها مقدماً على استصحاب النجاسة في الثوب بعد الغسل ، والوجه فيه انَّ الأصل الجاري في السبب يعبدنا بحكمه وهو المسبب فيلغي الشك المأخوذ في موضوع الأصل المسبب بخلاف العكس.

ولنا حول هذا الّذي تبنته هذه المدرسة الأصولية كلمات ثلاث.

الكلمة الأولى ـ تتعلق بالأصلين المتوافقين ، فانه قد تقدم انه لا صحة لما صورته هذه المدرسة من إلغاء الأصل المحرز أو الأمارة لموضوع الأصل غير المحرز الموافق معه في المؤدى فان أصل مبنى الحكومة ورفع الموضوع لم يكن تاماً ، كما انه على تقرير تماميته فلا يتم ذلك في المتوافقين لأن الغاية هو العلم بالخلاف لا مطلق العلم كما عرفت ذلك مفصلاً في البحث السابق.

ونضيف هنا ان الالتزام بتقديم أحد المتوافقين على الآخر يترتب عليه محاذير عديدة لا يمكن الالتزام بها :

منها ـ ما يلزم من تقدم استصحاب الطهارة على قاعدة الطهارة حيث يلزم اختصاص القاعدة بفرض نادر كموارد توارد الحالتين مثلاً إذ في غير ذلك يجري امَّا استصحاب الطهارة أو النجاسة فلا تجري القاعدة.

ومنها ـ ما يلزم من تقدم استصحاب الحل والترخيص على البراءة وأصالة الحل الظاهرين بحسب مفاد دليلهما في الامتنان على الأمة فانه لا يبقى لدليل البراءة مورد إلا مثل توارد الحالتين فكأن هذه الأصول العملية الامتنانية على الناس وردت لعلاج مشكلة توارد الحالتين.

ومنها ـ ما يلزم من تقدم الاستصحاب السببي على المسببي المتوافقين فان هذا على خلاف مورد أدلة الاستصحاب ورواياته فانها أجرت الاستصحاب المسببي وهو الطهارة من الحدث أو من الخبث رغم وجود الاستصحاب السببي في المورد وهو استصحاب عدم النوم أو عدم إصابة الدم.

ولا يتوهم ان الحدث والطهارة أو النجاسة والطهارة متضادان فاستصحاب عدم

٣٥٤

أحدهما لا يثبت الآخر لما ثبت في الفقه من ان الطهارة والنجاسة أحكام شرعية مرتبة على موضوعاتها من عدم النوم والبول والغائط وعدم الملاقاة مع الدم وهكذا ، فيكون الاستصحاب الموضوعي سببياً في مورد صحيحتي زرارة فلو كان حاكماً على استصحاب الطهارة المسببي فكيف أجرى الإمام الأصل المسببي وترك السببي؟ فهذا بنفسه دليل على بطلان مبنى الحكومة في الأصلين المتوافقين ولعل اختيار الإمام عليه‌السلام للأصل المسببي في مورد الصحيحتين لكونه ألصق بالمراد وأوضح في افهام السائل وتقريب ذهنه إلى مقصوده مما إذا كان يذكر الأصل السببي.

الكلمة الثانية ـ وتتعلق بحكومة الأصل السببي على المسببي فانا وان كنا لا نستشكل في أصل تقدم الأصل السببي على المسببي ولذلك ترى الفقهاء منذ مئات السنين يقدمون بحسب ارتكازهم في الفقه الأصل السببي ، على المسببي ، إلاّ ان الكلام حول التكييف الّذي ذكروه للتقديم وهو الحكومة باعتبار انَّ الأصل السببي يلغي الشك في مورد الأصل المسببي دون العكس ، فان هذا المبنى مضافاً إلى عدم صحته كما تقدم ، لا يصلح لتفسير حكومة الأصل السببي إذا لم يكن محرزا ، وملغياً للشك كما في تقديم أصالة الطهارة في الماء المغسول به الثوب على استصحاب نجاسة الثوب.

وقد عدل السيد الأستاذ عن الأخذ بهذا التخريج إلى بيان آخر للحكومة وهو ان أصالة الطهارة في الماء تنقح موضوع الدليل الدال على كبرى المطهرية فان موضوعها الغسل بماء ويكون طاهراً والجزء الأول محرز بالوجدان والجزء الثاني تحرزه أصالة الطهارة فيتحقق موضوع دليل المطهرية فيتمسك به لإثبات الطهارة وهو باعتباره أمارة يحكم على استصحاب النجاسة (١).

ونلاحظ على ذلك : ما تقدم في البحث السابق من ان الآثار والأحكام في باب الحكومة لا تثبت بإطلاق الدليل المحكوم بل بالتمسك بإطلاق الدليل الحاكم نفسه ، بل قد تقدم في غير موضع ان حكومة الأصول والأمارات المنقحة لموضوع حكم شرعي على دليل كبرى ذلك الحكم حكومة ظاهرية وليست واقعية فلا يعقل ان يكون التمسك بدليل المطهرية في المقام بل المثبت لطهارة الثوب المغسول نفس أصالة الطهارة

__________________

(١) مصباح الأصول ، ج ٢ ، ص ٢٥٦

٣٥٥

ولذا تكون طهارة ظاهرية وهي منافية مع النجاسة الظاهرية التي يثبتها الاستصحاب.

وقد عدل السيد الأستاذ عن هذا التخريج أيضاً إلى بيان ثالث حاصله : ان أصالة الطهارة في الماء بقرينة لغوية جعل ذات الطهارة في الماء دون آثارها تكون ناظرة إلى آثارها لترتيبها في كل مورد تجري فيه قاعدة الطهارة ومن جملة هذه الآثار طهارة الثوب المغسول بذلك الماء فانه من آثار طهارة الماء فيكون دليل أصالة الطهارة حاكماً بملاك النّظر على استصحاب النجاسة في الثوب دون العكس.

ونلاحظ على ذلك : انَّ دليل أصالة الطهارة ناظر إلى الأحكام الواقعية المترتبة على الطهارة ولهذا تلغو أصالة الطهارة إذا فرض انتفاء تلك الآثار فتكون حاكمة على دليل الآثار الواقعية حكومة ظاهرية وليست ناظرة إلى الأحكام والآثار الظاهرية والتعبدية المترتبة في المسبب لتكون حاكمة على الاستصحاب الجاري فيه وهذا واضح جداً.

والصحيح في تكييف تقدم الأصل السببي على المسببي عدة أمور :

منها ـ ما يختص بتقدم الاستصحاب المسببي على المسببي وحاصله : انه قد تقدم ارتكازية كبرى الاستصحاب بمرتبة من المراتب كما تشير إليه تعبيرات الإمام في صحاح زرارة ، سواءً كان ذلك لوجود كاشفية في الحالة السابقة أم اليقين بها للبقاء أو لأجل الأنس والميل الفطري لدى الإنسان إلى ذلك ، وهذا الارتكاز لا إشكال في انه يقتضي الجري على طبق الاستصحاب الجاري في السبب دون المسبب فلو شك في مجيء زيد من جهة الشك في حياته لا يستصحب عدم مجيئه المسبب بل يستصحب العرف الّذي يعيش ارتكازية الاستصحاب حياته ويميل إلى افتراض مجيئه ، وهذا الفهم الارتكازي بعد تحكيمه على دليل الاستصحاب يقتضي إطلاقه في مورد السبب والمسبب على السبب وانصرافه عن المسبب عرفاً.

ومنها ـ ما يختص بتقدم أصالة الطهارة السببي بالنسبة إلى الأصل المسببي من وجود نوع أخصية لدليلها على دليله لأن نفس عدول الإمام في رواية كل شيء طاهر أو الماء كله طاهر حتى تعلم انه قذر من التامين بلحاظ أثر من آثاره كجواز شربه إلى التعبد بطهارته الموضوع لكل تلك الآثار يعني النّظر إلى تلك الآثار بقصد ترتيبها فلو فرض ان

٣٥٦

تلك الآثار لم تكن تترتب لكونها فيما عدى مثل موارد توارد الحالتين تكون مسبوقة باستصحاب العدم الثابت قبل استعمال ذلك الماء لزم لغوية القاعدة عرفاً وهذا بخلاف العكس.

ومنها ـ ما يتم في كل أصل سببي مع المسببي وحاصله : انَّ العرف بسذاجته ومسامحته العرفية يسرِّي الناقضية من مرحلة الثبوت إلى مرحلة الإثبات فكما تكون طهارة الماء المغسول به الثوب ناقضاً ثبوتاً لنجاسة الثوب ورافعاً له دون العكس كذلك يرى العرف ان الدال على طهارة الماء إثباتاً مقدم وناقض لإثبات النجاسة في الثوب باستصحاب النجاسة.

لا يقال : على هذا يجب تقديم الأمارة الجارية في السبب على معارضها الجاري في المسبب مع وضوح عدم إمكان المصير إلى ذلك.

فانه يقال : ان الأمارة باعتبار حجية مثبتاتها تدل لا محالة على حكم السبب والمسبب معاً فتتعارضان ولا ملاك لتقديم إحداهما على الأخرى.

الكلمة الثالثة ـ وتتعلق بالأصلين العرضيين والمتنافيين وقد ذهبت مدرسة المحقق النائيني ( قده ) إلى تقديم ما كان منهما ملغياً للشك على الآخر كالاستصحاب وأصالة الطهارة بالحكومة وان لم يكن شيء منهما كذلك أو كانا معاً يلغيان الشك تعارضاً وتساقطاً.

وقد تقدم عدم تمامية الحكومة أو الورود بملاك إلغاء الشك وجعل الطريقية وان تقدم الاستصحاب على البراءة أو قاعدة الطهارة يكون بنكتة أخرى من نكات الجمع العرفي التي تقتضي تقدم دليله على دليلها.

وقد ذكر المحقق العراقي ( قده ) في المقام وجهاً آخر لتخريج حكومة الاستصحاب حاصله : ان مفاد دليل الاستصحاب هو الأمر بالجري العملي على طبق آثار اليقين والنهي عن نقض آثاره ، وبتعبير آخر : تنزيل الشك منزلة اليقين في الجري العملي وهذا مطلق يشمل الأثر العملي لليقين الطريقي المقتضي للجري نحو الواقع المنكشف به والأثر العملي لليقين الموضوعي المقتضي لترك العمل بالأصول المغياة بالعلم ، وبهذا يكون دليل الاستصحاب ناظراً إلى كل تلك الآثار الواقعية الطريقية والظاهرية الموضوعية فيكون حاكماً على أدلتها حكومة مضمونية ، نعم هذه الحكومة بالنسبة

٣٥٧

للآثار الواقعية تكون ظاهرية وبالنسبة للأحكام الظاهرية تكون واقعية ولا بأس بذلك.

ونلاحظ على ذلك : انَّا لو استظهرنا من أدلة الاستصحاب التعبُّد ببقاء اليقين ولو بلحاظ الجري العملي فهذا لا يعني إلاّ النّظر إلى الجري العملي الّذي يقتضيه اليقين الطريقي وامَّا أثر القطع الموضوعي فليس جرياً عملياً لليقين على ما تقدم ذلك مفصلاً في بحث سابق.

وهكذا يتضح انه لا يتم شيء ممّا ذكره المحققون في وجه تقديم الاستصحاب على غيره من الأصول العملية المتنافية معه بالورود والحكومة التنزيلية أو المضمونية.

وانَّما الصحيح ان يقال : إذا كان الأصلان العرضيان المتنافيان ثابتين بدليل الواحد كالاستصحاب في موارد توارد الحالتين بناءً على جريانهما حصل التعارض الداخليّ والإجمالي في دليل الحجية فلا يشمل شيئاً منهما ، وإذا كانا بدليلين فان وجدت نكتة تقتضي الأخصية وما بحكمها لأحدهما بالنسبة إلى الآخر قدم عليه وإلاّ تعارضا وتساقطا.

وعلى هذا الضوء يقال : امّا الاستصحاب مع قاعدة الطهارة فقد أثبتنا في الفقه ان دليل القاعدة لا يعلم إطلاقه لمورد العلم بالنجاسة سابقاً في نفسه ، لأنها إذا استفيدت من الروايات الخاصة في الموارد المتفرقة فمن الواضح عدم الإطلاق فيها لفرض اليقين بالنجاسة سابقاً ، وان استفيدت من رواية كل شيء نظيف حتى تعلم انه قذر فهي مجملة يحتمل أن تكون الغاية فيها فعلاً لا وصفاً فلا يشمل أيضاً مورد حصول العلم بالقذارة سابقاً.

واما الاستصحاب مع قاعدة اليد والفراغ والتجاوز فهذه القواعد مقدمة عليه بالأخصية عرفا لثبوت الاستصحاب المخالف لها في مواردها عادة بحيث لا يمكن تخصيصها بغير ذلك ، بل قد وردت جملة منها في مورد الاستصحاب المخالف فيكون دليلها كالنص في تخصيص حكم الاستصحاب.

وامَّا الاستصحاب مع البراءة الشرعية فقد يقال بعدم وجود نكتة تقتضي تقديم دليله على دليلها لأنَّ النسبة بينهما العموم من وجه ، ولكن الصحيح انه في الشبهات

٣٥٨

الموضوعية يكون الاستصحاب الموضوعي مقدماً على البراءة لكونه سببياً ، وفي الشبهات الحكمية يتقدم الاستصحاب على دليل البراءة الشرعية امَّا إذا كانت البراءة على مستوى حكم العقل فلما تقدم من الورود ، واما البراءة الشرعية التي هي في مستوى الاحتياط الشرعي فيقدم دليل الاستصحاب على دليلها بالأظهرية لأنه كالصريح في العموم والتأكيد بأنه لا ينقض اليقين بالشك أبداً وهذا بخلاف الإطلاق في أدلة البراءة والعام أو الأظهر مقدم على المطلق أو الظاهر.

هذا مضافاً : إلى ان العرف لا يحتمل التفكيك بين الاستصحاب في مورد الإباحة مع الاستصحاب في مورد التحريم بحيث يكون الأول جارياً دون الثاني بخلاف البراءة حيث يحتمل عدم حجيتها في مورد اليقين السابق بالحرمة لاحتمال دخالة ذلك في الإلزام وهذا يجعل مدلول دليل الاستصحاب أخص لا محالة من دليل البراءة.

ثم انه لو سلم ان المجعول في الاستصحاب هو الطريقية وإثبات الواقع أمكن ان يقال فيه وفي كل ما يكون المجعول فيه الطريقية والعلمية في قبال ما لم يجعل فيه ذلك بالتقديم بتقريب حاصله : انه قد ارتكز في ذهن المتشرعة انَّ الشارع لا تنحصر وسيلة الإثبات عنده بالعلم الوجداني لوضوح ثبوت طرق معتبرة إلى الواقع لدى الشارع إجمالاً غير العلم ، لا أقل من الظهورات والأمارات العقلائية التي أمضاها الشارع منذ البداية ولم يكن ديدنه وذوقه على إلغائها مطلقاً ، وهذا الارتكاز على إجماله وإجمال حدوده يجعل مثل دليل البراءة منصرفاً عن كونه بصدد نفي جعل الطريقية وإلغاء أية وسيلة أخرى للكشف عن الحرمة عدا العلم الوجداني فيكون كل دليل مثبت للطريقية وارداً بحسب الحقيقية على مثل دليل البراءة لأن مفاده سيكون التأمين عن الحرمة المحتملة عند عدم ثبوته بطريق شرعي معتبر ، بل هذا يؤدي إلى عدم إمكان التمسك بإطلاق دليل البراءة في كل مورد احتمل طريقية شيء فيه ولو لم يحرز ذلك كما إذا احتملنا حجية الشهرة مثلا لأنه يكون من التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية ، نعم يمكن التمسك باستصحاب عدم جعل الطريقية لها المنقِّح لموضوع البراءة أو التمسك بالبراءة الطولية الجارية عن الواقع في مرحلة الشك في الحجية المحتملة وهي ليست محكومة على ما تقدم تفصيله في بحوث البراءة.

٣٥٩

٢ ـ التعارض بالعرض بين الأصول العملية :

المقام الثاني ـ فيما إذا كان التنافي بين الأصلين بالعرض وعلى أساس العلم الإجمالي ، وقد مضى في بحوث العلم الإجمالي انه إذا كان علماً إجماليا بالتكليف فهو يوجب التعارض والتساقط بين الأصول في الأطراف لأنه لا يمكن جريانها فيها جميعاً للزوم الترخيص في المخالفة القطعية ولا في بعضها تعييناً لأنه ترجيح بلا مرجح ولا تخييراً لأنه لا يمكن استفادته من أدلتها وقد مضى تحقيق ذلك كله في محله.

والّذي يجدر بحثه هنا انه إذا كانت الأصول في أطراف العلم الإجمالي لا تستلزم المخالفة القطعية كما إذا كان العلم الإجمالي علماً بالترخيص والطهارة وجري استصحاب النجاسة في الأطراف فقد يقال بالتعارض فيما بينها إذا كانت محرزة كالاستصحاب رغم عدم لزوم محذور الترخيص في المخالفة القطعية.

ومأخذ هذا الكلام ما ذكره الشيخ الأعظم ( قده ) من ان الاستصحابين يسقطان في المثال لمحذور إثباتي حاصله : أن أدلة الاستصحاب بحسب صدرها تدلّ على النهي عن نقض اليقين بالشك مطلقاً وهي سالبة كلية ولكنها بحسب ذيلها تدلّ على لزوم نقضه بيقين آخر ، فلو كنَّا نحن والصدر كنَّا نحكم بأنَّ اليقين بالنجاسة في كل طرف لا ينقض بالشك فيه ولكن الذيل دلّ على انه إذا كان هناك يقين آخر لزم نقض اليقين الأول به وهذه موجبة جزئية تناقض تلك السالبة الكلية إذ يتعين حينئذ جعل اليقين بالطهارة إجمالاً ناقضاً لأحد اليقينين في الطرفين فيقع التعارض بين الصدر والذيل.

وأورد على ذلك المحققون بأنا لو سلمنا التعارض بين الصدر والذيل حصل الإجمال في هذه الرواية ورجعنا إلى الروايات التي لا تشتمل على مثل هذا الذيل فتكون سليمة عن هذا الإشكال ، وان فرض عدم الإجمال وان المراد باليقين الناقض هو اليقين التفصيليّ المتعلق بنفس ما تعلق به اليقين المنقوض ـ كما هو الظاهر ـ فلا موضوع لأصل الإشكال.

ومن هنا عدل المحقق النائيني ( قده ) عن هذا البيان إلى تقريب آخر يبرز به بحسب الحقيقة محذورا ثبوتياً يمنع عن جريان الأصول التنزيلية على خلاف العلم الإجمالي

٣٦٠