بحوث في علم الأصول - ج ٦

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٦

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٨

بقاء الكريّة إلى حينها فعدم إيقاع المعارضة بين الاستصحابين في مورد الصحيحة لعله بلحاظ انَّ أحد الحادثين معلوم التاريخ والآخر مجهوله فيجري الاستصحاب في طرف المجهول خاصة على ما هو الصحيح (١).

وامَّا فيما يتعلق بالوجه الحلي فتوضيح الحال فيه : ان المستصحب عدمه من الجزء الآخر ليس هو وجوده في نفسه إلى الزمان الحاضر ليقال انَّ وجوده معلوم فكيف يستصحب عدمه ـ ولا وجوده المقيد بوجود الجزء الأول ليقال انَّ الوجود المقيد بما هو مقيد ليس موضوعاً للحكم لينفى بنفيه ، بل المستصحب عدم وجود الجزء الآخر في زمان وجود الجزء الأول بنحو يكون المقصود الإشارة إلى واقع زمان وجود الجزء الأول وأخذ هذا العنوان معرفاً إلى واقع ذلك الزمان وبهذا يكون المنفي بنفسه جزء موضوع الحكم فينفي الحكم بنفيه ـ مع قطع النّظر عمّا ذكرناه من إشكال المثبتية ـ وهذا البيان بنفسه هو المصحح لإجراء استصحاب بقاء الجزء الأول إلى زمان وجود الجزء الآخر ، فانَّ المراد بذلك ليس إثبات وجود للجزء الأول مقيد بأَن يكون في زمان وجود الجزء الآخر لأنَّ من الواضح انَّ هذا الوجود المقيد ليس له حالة سابقة لتستصحب بل المراد إثبات وجود للجزء الأول في واقع زمان وجود الجزء الآخر بنحو نجعل عنوان زمان الاخر معرفاً صرفاً إلى واقع الزمان الّذي نريد جر الجزء الأول إليه بالاستصحاب فكما انَّ استصحاب بقاء الجزء الأول إلى زمان الجزء الآخر يحرز جزء الموضوع دون أَن يثبت الوجود المقيد بما هو مقيد كذلك استصحاب عدم الجزء الآخر في زمان وجود الجزء الأول ينفي جزء الموضوع دون أَن ينفي المقيد بما هو مقيد.

وهكذا يتضح عدم تمامية هذا الاتجاه الّذي سار عليه السيد الأستاذ في المنع عن الاستصحاب النافي.

نعم هناك نكتة فقهية خاصة لو تمت منعت أيضاً عن جريان استصحاب عدم

__________________

(١) بل لو فرض جريان الاستصحاب في معلوم التاريخ أيضاً ورد على النقض المذكور بأنَّ استصحاب عدم وقوع الصلاة في زمان وجود الطهارة لا يجري لأنه لم يفرض وقوع الحدث أصلاً ، نعم لو أحدث بعد الصلاة أمكنه أَن ينتزع عنواناً إجمالياً كعنوان آخر حدث فيجري استصحاب عدم وقوع الصلاة إلى حين تحقق آخر حدث منه إلاّ انه قد تقدم بطلان مثل هذا الاستصحاب في بحث سابق.

٣٢١

الملاقاة إلى حين الكريّة وحاصلها : انَّ موضوع انفعال الماء بملاقاة النجاسة بعد فرض خروج الماء الكرّ منه يمكن أَن يتصور بأحد وجهين :

الأول ـ أَن يقيد الماء في موضوع دليل الانفعال بعدم الكرية فيكون مركباً من امرين أحدهما ملاقاة النجس للماء والآخر عدم كريّة الماء.

الثاني ـ أَن تقيد الملاقاة بأَن لا تكون ملاقاة للكر فيكون موضوع الانفعال مركباً من امرين ملاقاة النجس للماء وعدم كون الملاقاة ملاقاةً للكر.

فإذا بنينا على التصور الثاني لم يمكن إجراء استصحاب عدم الملاقاة إلى حين الكريّة ، لأنَّ المراد نفي موضوع الانفعال ، وموضوع الانفعال بناءً على هذا الوجه لا يمكن نفيه بهذا الاستصحاب لأنَّ أحد جزئيه ملاقاة الماء للنجس وهي وجدانية والجزء الآخر عدم كون الملاقاة ملاقاة للكر ، ونفي هذا الجزء انما يكون بإثبات نقيضه أي انَّ الملاقاة ملاقاة للكر وهذا لا حالة سابقة له ولا يمكن إثباته باستصحاب عدم وقوع الملاقاة ما دام الماء قليلاً إلاّ بنحو مثبت ، بل بناءً على جريان الاستصحاب في الاعدام الأزلية يجري استصحاب عدم كون هذه الملاقاة ملاقاة للكر فيكون مثبتاً للنجاسة أيضاً.

الا انَّ مبنى هذا الكلام غير تام فقهياً ، إذ الظاهر من مثل رواية أبي بصير الواردة في سؤر الكلب ( ولا يُشرب سؤر الكلب إلاّ أَن يكون حوضاً كبيراً يستقى منه ) (١) تركب موضوع الانفعال من ملاقاة للماء وعدم الكريّة.

فالصحيح جريان استصحاب عدم الكرية ـ أو القلة ـ إلى حين الملاقاة لإثبات النجاسة ـ إذا كان زمان الملاقاة معلوماً أو أضيق من زمان تردد الكرية ـ ولا يعارض باستصحاب عدم الملاقاة إلى حين الكريّة أو في حال القلة ـ حتى لو قيل بجريانه في معلوم التاريخ ـ لأنَّه لا ينفي ما هو موضوع الحكم الشرعي وهو صرف وجود الموضوع القابل للانطباق على قطعات طولية من الزمان إذ لا يكفي لنفي الحكم نفي حصة من وجود الموضوع وهي وجوده في واحدة من تلك القطعات.

وتوهم ـ انَّ الاستصحاب وان كان ينفي حصة من صرف الوجود لموضوع الحكم

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١ ، ص ١٦٣ الطبعة الحديثة

٣٢٢

بالنجاسة إلاّ انَّ الحصة الأخرى من وجود الموضوع منتفية وجداناً فبضم الوجدان إلى التعبد ننفي الحكم.

مدفوع : بأنَّ الحكم بالنجاسة ليس أحكاماً متعددة مجعولة على الحصص بحيث يكون للملاقاة مع عدم الكريّة في الزمان الأول حكم وللملاقاة مع عدم الكريّة في الزمان الثاني حكم آخر وهكذا بل هناك حكم واحد مجعول على جامع الملاقاة مع عدم الكريّة بحيث يلحظ الجامع بنحو صرف الوجود ويجعل الحكم عليه فلا بد في نفي هذا الحكم من نفي صرف الوجود ، وقد عرفت انَّ نفيه بنفي حصة وفرد منه بالتعبد مع ضمه إلى انتفاء سائر افراده بالوجدان ، وقد عرفت انَّ نفيه بنفي حصة وفرد منه بالتعبد مع ضمه إلى انتفاء سائر افراده بالوجدان من أوضح أنحاء الأصل المثبت ، ومن هنا لم يلتزم أحد بجريان استصحاب عدم الفرد الطويل بعد وجدانية انتفاء الفرد القصير للجامع بقاءً لإثبات انتفاء الجامع.

وهكذا يثبت انَّ استصحاب عدم الملاقاة متى ما كان جارياً بنحو ينفي بنفسه صرف وجود الملاقاة جرى كما هو الحال في موارد الشك في أصل الملاقاة ، ومتى ما أُريد إجراؤه لنفي حصة من الملاقاة ويضم إليه إحراز انتفاء الحصة الأخرى وجداناً فلا يجري ولا يصلح لنفي الحكم المترتب على صرف الوجود الجامع بين الحصتين.

نعم لو فرض ثبوت حكمين شرعيين أحدهما نجاسة الماء المركب من جزءين الملاقاة وعدم الكريّة والآخر الطهارة المطلقة أي حتى بعد الملاقاة المعبر عنه بالاعتصام للماء المركب من جزءين الكرية وعدم الملاقاة مع النجاسة قبل الكريّة بدعوى انَّه المستفاد من دليل اعتصام الكرّ وانَّ الماء إذا بلغ قدر كر لا ينجسه شيء يدل على الطهارة المطلقة ، وموضوعه وإن كان هو الماء الكرّ إلاّ انَّا حيث نعلم من الخارج بنجاسة الماء النجس المتمم كرّاً فنعلم انَّ موضوع الطهارة المطلقة مركب من جزءين أحدهما الماء الكرّ والثاني أَن لا يكون ملاقياً مع النجاسة قبل الكرية فحينئذ يجري استصحاب عدم الملاقاة قبل الكريّة لإحراز موضوع الطهارة المطلقة فيكون معارضاً مع استصحاب عدم الكريّة إلى حين الملاقاة لكونهما معاً حينئذ من استصحاب جزء الموضوع إلى حين تحقق الجزء الآخر لا الاستصحاب النافي للحكم ليكون مثبتاً.

وفيه : بطلان المبنى الفقهي المذكور ، فانه لا توجد لدينا أحكام ثلاثة ، النجاسة في الماء القليل الملاقي مع النجس والطهارة غير المطلقة في الماء القليل غير الملاقي والطهارة

٣٢٣

المطلقة في الماء الكرّ غير الملاقي قبل الكريّة ، بل هنا حكم واحد هو النجاسة وموضوعها مركب من جزءين الماء الملاقي مع النجس وعدم الكريّة حين الملاقاة ، فانَّ دليل عدم انفعال الكر بالملاقاة مع النجاسة مخصص بحسب الحقيقة لأدلة الانفعال فيكون موضوع الانفعال مركباً من نقيض العنوان الخارج بالتخصيص ولا بد في نفيه من نفي صرف وجود هذا الموضوع المركب ، وقد عرفت انه لا يثبت باستصحاب عدم الملاقاة في زمان القلة إلاّ بنحو الأصل المثبت.

ثم انه في الصور التي لا يتم فيها جريان الاستصحاب المثبت للانفعال ربما تطبق قاعدة تقدمت عن المحقق النائيني ( قده ) من انه إذا ثبت حكم إلزامي بعام وخرج منه عنوان وجودي كعنوان الكرّ في المقام فشك في مورد في تحقق ذلك القيد وعدمه ولم يمكن إحرازه أو إحراز عدمه بالاستصحاب يحكم بالاحتياط ظاهراً ففي المقام إذا لم يمكن إثبات موضوع الانفعال لكون الكرية معلوم التاريخ مثلاً ولا نفيه لأنَّ استصحاب عدم الملاقاة في زمان القلّة على القول بجريانه مثبت يحكم بالنجاسة احتياطاً ولا يجوز الرجوع إلى أصالة الطهارة التي هي أصل حكمي طولي.

إلاّ انه قد نقحنا في بعض البحوث السابقة عدم تمامية هذه القاعدة الميرزائية ، فالصحيح هو الحكم بالطهارة فيما إذا كان تاريخ الكرية معلوماً أو مجهولاً ولكنه أضيق دائرة من دائرة التردد للملاقاة.

وامَّا المسألة الثانية ـ أعني الماء القليل المسبوق بالكرية والملاقاة مع الشك في تاريخهما ، فقد يقال بجريان استصحاب بقاء الكرية إلى حين الملاقاة لنفي الانفعال وقد يعارض باستصحاب عدم الملاقاة إلى حين القلة المثبت للانفعال.

والصحيح : عدم جريان شيء من الاستصحابين على كل حال ، امَّا استصحاب الكرية إلى حين الملاقاة فلما تقدم من انَّ الأصل النافي في المقام مثبت لأنه لا يثبت انتفاء صرف الوجود إلاّ بالملازمة العقلية ؛ وامَّا استصحاب عدم الملاقاة إلى حين القلة فلأنه لا يثبت وقوع الملاقاة بعد القلة إلاّ بالملازمة العقلية الواضحة حيث انَّ اللازم. العقلي لثبوت أصل الملاقاة وعدم كونها في حال الكريّة وقوعها في حال القلة.

ثم انَّ صاحب الكفاية قد حشر في هذا التنبيه أبحاثاً لا ترتبط بصلب البحث عن جريان الاستصحاب في الموضوعات المركبة من قبيل تشقيق البحث إلى ما إذا أخذ

٣٢٤

حيثية التقارن بين الجزءين أو التقدم أو التأخر في الموضوع وبنحو مفاد كان التامة تارة والناقصة أخرى وبنحو مفاد ليس التامة ثالثة أو بنحو مفاد ليس الناقصة رابعة وانه هل يمكن إثبات ذلك بالأصل أو تكون من الأصل المثبت والتي هي أبحاث يرتبط بعضها بمبحث الأصل المثبت وبعضها بمبحث الاستصحاب في العدم الأزلي ، ولهذا لا مناسبة فنية للتعرض إليها بعد أَن كانت ترجع إلى تطبيق نكات تقدمت برمتها.

٩ ـ الاستصحاب في حالات توارد الحالتين :

قد يشك في بقاء حكم وعدمه مع ثبوت حالة سابقة واحدة لذلك الحكم سابقاً إثباتاً أو نفيا فيجري الاستصحاب وهذا لا إشكال فيه. وأخرى يشك في حكم وعدمه نتيجة انَّ الحالة السابقة متعددة بأَن يعلم بثبوته في فترة سابقة كما يعلم بعدمه أو ثبوت خلافه سابقاً أيضاً ولكن لا يعلم بالوارد والمورود من الحالتين فيشك تبعا لذلك في الحكم إثباتاً ونفياً ، وهذا ما يسمّى بتوارد الحالتين كما إذا علم بأنه توضأ كما يعلم بأنه قد أحدث ولكنه لا يدري المتقدم منهما والمتأخر فيشك في كونه متطهراً الآن أو محدثاً ، فهل يجري هنا استصحاب كل من الحالتين ويتعارضان أو لا يجري في شيء منهما أو يجري في معلوم التاريخ منهما دون مجهوله ، وجوه :

لا ينبغي الإشكال في جريان استصحاب الحالة المعلوم تاريخها في نفسه كما إذا علمنا بالطهارة عند الفجر وعلمنا إجمالاً بالحدث امّا قبل الفجر أو بعده ، فانَّ هذا لا يمنع عن جريان استصحاب الطهارة لعدم ورود شيء من الاعتراضات والمناقشات المتصورة فيه عدا توهم انَّ العلم الإجمالي يتعلق بالواقع وعلى تقدير كون معلومه بعد الفجر تكون الطهارة منتقضة باليقين ، إلاّ انَّ هذا التوهم باطل مبنى وبناءً على ما تقدم.

وامّا الاستصحاب في الحالة المجهول تاريخها سواء كان الآخر مجهول التاريخ أم معلومه ، فالصحيح أيضاً جريان الاستصحاب فيه من دون محذور ، وما ذكر أو يمكن أَن يذكر من الاعتراضات لا يتم شيء منها كما نستعرضه فيما يلي :

الاعتراض الأول ـ ما ذكرناه في التطبيق السابق من انه إذا كانت إحدى الحالتين ـ كالطهارة مثلاً ـ معلوم التاريخ وأُريد استصحاب الحدث المجهول تاريخه كان من

٣٢٥

استصحاب الفرد المردد ، لاحتمال أَن يكون الحدث واقعا قبل الطهارة المتيقنة عند الفجر فسحبه بالاستصحاب لعلّه جر للحدث إلى زمان يقطع فيه تفصيلاً بالانتقاض وتحقق الطهارة ، نعم هذا المحذور غير وارد فيما إذا كانا معاً مجهولي التاريخ ، والحاصل : كما كنّا نقول هناك انَّ استصحاب عدم الكرية إلى حين الملاقاة لا يجري إذا كان تاريخه معلوماً لأنه لو أُريد إجراؤه بلحاظ الزمان النسبي وهو زمان الملاقاة فليس موضوعاً للأثر ، وان أُريد إجراؤه بلحاظ زمان الملاقاة الواقعي فيحتمل أَن يكون زمان الملاقاة الواقعي هو الزمان الّذي يقطع فيه تفصيلاً بانتقاض عدم الكرية ، كذلك نقول هنا لو أُريد إجراء استصحاب الحدث في عمود الزمان الواقعي فيحتمل كونه في الزمن الّذي يقطع فيه بالطهارة تفصيلاً وهو الفجر ، وان أُريد إجراؤه في الزمان النسبي أعني الزمن الإجمالي فليس هو موضوع الأثر ، نعم يوجد فرق بين المقامين من ناحية انَّ الإشكال والتردد هناك كان بلحاظ مرحلة الشك والانتهاء وهنا بلحاظ مرحلة اليقين والابتداء.

وفيه : انَّ المفروض في المقام العلم إجمالاً بتحقق الحالة المجهول تاريخها وهو الحدث في المثال سابقاً واحتمال بقائها حقيقة في هذا الزمان الواقعي والّذي يكون هو موضوع الأثر ، فأركان الاستصحاب من اليقين بالحدوث والشك في البقاء تامة ، ولا وجه لتوهم شبهة الفرد المردد بلحاظ المستصحب إذ لا يعلم بانتقاض هذه الحالة في هذا الآن حتى بعنوان آخر إجمالي فضلاً عن تفصيلي كما هو في موارد الفرد المردد وفي استصحاب عدم الكرية إلى زمان الملاقاة الواقعي. نعم هنا شبهة أخرى هي احتمال انتقاض الحالة السابقة من الحدث المعلومة إجمالاً باليقين التفصيليّ بالطهارة عند الفجر على تقدير كون الحدث قبل الفجر واقعاً ، إلاّ انَّ هذا هو شبهة صاحب الكفاية المعبر عنها بانفصال زمان اليقين عن الشك وهذه الشبهة تجري حينئذ في استصحاب مجهول التاريخ سواءً كان الآخر معلوم التاريخ أو مجهوله.

وجوابه : أولا ـ ما تقدم من انَّ العلم الإجمالي يقف على الجامع ولا يسري إلى الواقع ، وعلى تقدير السريان لا ينافي الشك في الفرد والحصة الّذي هو موضوع الاستصحاب. وهذا الجواب ينفع في استصحاب مجهول التاريخ إذا كانت الحالة الأخرى مجهولة التاريخ أيضاً لا معلومة وإلاّ كان العلم متعلقاً بالواقع لا الجامع.

٣٢٦

وثانياً ـ لا يكفي في انتقاض اليقين باليقين مجرد تعلق اليقين بنقيض المتيقن السابق واقعاً وانَّما ينتقض إذا علم بتعلقه بنقيضه أي علم بالانتقاض وذلك لا يكون إلاّ إذا تعلق اليقين الثاني بنفس العنوان الّذي تعلق به اليقين الأول أو علم بأنَّ مطابقهما الخارجي واحد ، وإلاّ فقد يجتمع يقينان متعاكسان بالرغم من تناقض متعلقهما واقعاً من دون أَن ينتقض أحدهما بالآخر عند القاطع كما إذا كان أحدهما بعنوان والآخر بعنوان آخر فعلم بنجاسة ثوبه عند الغروب وعلم بطهارته عند نزول المطر وكان في واقع الأمر نزول المطر عند الغروب أيضاً ولكنه لا يدري بذلك.

فالحاصل : لا إشكال في عدم صدق نقض اليقين باليقين لمجرد احتمال انطباق المعلوم بأحد اليقينين على معلوم اليقين الآخر سواءً كان أحدهما تفصيليا أم كلاهما إجمالياً ، فلا شبهة من هذه الناحية أيضاً ، وأركان الاستصحاب تامة في الحالتين المتواردين مطلقاً.

الاعتراض الثاني ـ ما أثاره المحقق العراقي ( قده ) من انه لا شك في البقاء ، لأنه لو أُريد طهارة الساعة الأولى مثلاً فنحن نعلم بارتفاعها على تقدير حدوثها ، وان أُريد طهارة الساعة الثانية فنعلم ببقائها على تقدير حدوثها فأي الطهارتين تستصحب؟ (١).

والجواب : أولا ـ انَّ المستصحب هو الجامع بين الحصتين للطهارة وهو يشك في بقائها كما هو الحال في موارد استصحاب الجامع بين الفرد القصير والطويل فانَّ هذا منه بحسب الحقيقة.

وثانياً ـ انَّ الصحيح عدم اشتراط كون الشك في عنوان البقاء بل يكفي في صدق نقض اليقين بالشك الشك بعد الفراغ عن اليقين بحدوث الشيء سواءً صدق الشك في البقاء أم لا على ما تقدم سابقاً.

الاعتراض الثالث ـ ما أثاره المحقق العراقي ( قده ) أيضاً من عدم وجود اليقين بالحدوث ، فانه لا يوجد زمان سابق يمكن أَن نصعد إليه قهقرائياً على حد تعبيره ونكون على يقين فيه بالطهارة ، ويشترط في الاستصحاب اليقين السابق أي وجود زمن سابق تفصيلي يتيقن فيه بالحدوث (٢).

__________________

(١) نهاية الأفكار ، القسم الأول من الجزء الرابع ، ص ٢١٥

(٢) نهاية الأفكار ، القسم الأول من الجزء الرابع ، ص ٢١٦

٣٢٧

والجواب : لا وجه لاشتراط أَن يكون اليقين السابق أو اليقين بالحدوث مشخصاً من حيث الزمان ، وانما اللازم أصل اليقين بالحدوث سواءً كان تفصيلياً من حيث الزمان والفرد أم كان إجمالياً ، فان دليل الاستصحاب مطلق لفظاً ولا نكتة تقتضي الانصراف إلى ذلك.

هذا مضافاً إلى ورود نقض حينئذ أورده بنفسه وأجاب عنه بما لا يكون صحيحاً (١).

امَّا النقض ، فبما إذا كان يعلم إجمالاً بالطهارة في إحدى الساعتين من دون علم بالانتقاض في الأخرى بل مع احتمال الانتقاض إذا كانت في الساعة الأولى فلا يكون من موارد توارد الحالتين ، بل من موارد الحالة الواحدة الجاري فيها الاستصحاب مع انه يرد فيه ما ذكر من عدم وجود زمن سابق يمكن أَن يشار إليه ليقال كنّا على يقين بالطهارة فيه.

واما جوابه : فبأنا نستصحب الطهارة على تقدير ثبوتها في الساعة الأولى بناء على كلام تقدم عنه من انَّ العلم بالقضية الشرطية يستلزم ثبوت العلم المنوط بالجزاء فإذا كانت الطهارة ثابتة في الساعة الأولى فهي تثبت الآن بالاستصحاب ، وان كانت ثابتة في الساعة الثانية فهي ثابتة الآن وجداناً فيعلم إجمالاً بطهارة الآن امَّا واقعية أو استصحابية ، وهذا الجواب غير وارد في موارد توارد الحالتين كما هو واضح.

وهذا الجواب غير تام ، لما تقدم من بطلان العلم المنوط نعم بناءً على كفاية نفس الحدوث في الاستصحاب من دون دخالة اليقين به في موضوع الاستصحاب تم هذا الجواب عن النقض إلاّ انه حينئذ يندفع أصل الاعتراض أيضاً لأنَّ الحدوث ثابت في زمن سابق معين عند الله.

الاعتراض الرابع ـ انَّ التعبد الاستصحابي تعبد بالمستصحب بمقدار المعلوم فإذا كان المعلوم الطهارة في زمان إجمالي لا تفصيلي فالذي يثبت بالاستصحاب الطهارة المضافة إلى الزمان الإجمالي النسبي لا الزمان التفصيليّ الواقعي ، والمفروض ان الأثر مترتب على الطهارة في واقع الزمان لا في الزمان النسبي الإجمالي (٢).

__________________

(١) نفس المصدر ، ص ٢١٧

(٢) ولعل هذا الاعتراض يستفاد أيضاً من ذيل كلام المحقق العراقي ( قده ) على ما في تقريرات بحثه ، فراجع نهاية الأفكار ، القسم الأول من الجزء الرابع ، ص ٢١٧.

٣٢٨

وفيه : مضافاً إلى ما تقدم من كفاية نفس الحدوث في الاستصحاب ان هذا خلط بين العنوان الثانوي النسبي وبين الجامع بين فردي الزمان فانَّ الطهارة تارة نضيفها إلى واقع الزمان ولكن بقدر الجامع بين فردين وحصتين في أحد الزمانين وبغض النّظر عن خصوصية الفردين ، وهذا يترتب عليه كل آثار الطهارة المطلوبة ، لأنها طهارة ثابتة في واقع الزمان الحاضر ، وأخرى نضيف الطهارة إلى عنوان نسبي كعنوان وقت نزول المطر ، وهذا هو الّذي يقال انه لا أثر له لكون الأثر مترتباً على الطهارة في الزمان الواقعي لا النسبي.

وهكذا يتضح تمامية أركان الاستصحاب في حالات توارد الحالتين في مجهول التاريخ ومعلومة ، فيجري الاستصحاب فيهما معاً ، غاية الأمر انهما يتعارضان ويتساقطان.

١٠ ـ عموم العام أو استصحاب حكم المخصص :

عقد الشيخ الأعظم ( قده ) وتابعه عليه المحققون تنبيهاً تحت عنوان ما إذا ورد دليل له عموم أو إطلاق أزماني وخرج منه بالتخصيص فرد في قطعة زمنية معينة فبعد انقضاء تلك القطعة هل يرجع إلى العموم الأزماني لذلك الدليل الاجتهادي أو إلى استصحاب حكم المخصص.

والبحث في هذا التطبيق عن مدى تمامية أركان الاستصحاب في مثل هذه الموارد ، وسيتضح انه لا نكتة جديدة تستدعى عقد بحث مستقل غير ما تقدم فيما سبق ويأتي من نكات الاستصحاب.

وأيّا ما كان فقد ذكر الشيخ الأعظم ( قده ) انه إذا كان الزمان مأخوذاً في العام بنحو المفرِّدية بأَن لوحظ الموضوع في كل آن فرداً مستقلاً في قبال الآخر ، فلا مجال لاستصحاب حكم المخصص ، بل يتعين الرجوع إلى العموم الأزماني للعام ، لأنَّ الموضوع في الزمان الثاني فرد آخر غيره في الزمان الأول ويشترط في جريان الاستصحاب وحدة الموضوع فلا يجري الاستصحاب ويجري العموم لتمامية موضوعه.

وان لوحظ الزمان في الموضوع بما هو ظرف مستمر ، فلا مجال للتمسّك بالعامّ حينئذ ، لأنَّ الموضوع كان فرداً واحداً للعام وقد خرج منه بالتخصيص فلو شمله مرة

٣٢٩

أخرى كان خلف لحاظه فرداً واحداً بينما يصحّ التمسك حينئذ باستصحاب بقاء حكم المخصص لتمامية أركانه.

وعلق على ذلك المحقق الخراسانيّ ( قده ) بأَن لحاظ الزمان بنحو المفرِّدية والقيدية وعدمها لا بدَّ وأَن يلحظ في جانب الخاصّ أيضا ، فان لوحظ بنحو القيدية في العام والخاصّ معاً فلا مقتضي للاستصحاب لتعدد الموضوع ويمكن التمسك بالعامّ ، وان لم يلحظ كذلك في شيء منهما فلا مقتضي للتمسك بالعامّ ويجري الاستصحاب ، وان لوحظ مفرِّداً للعام دون الخاصّ فالعموم تام في نفسه واستصحاب حكم الخاصّ تام أيضاً لعدم تعدد الموضوع بالنسبة إلى حكم الخاصّ ويقدم العام على الاستصحاب بالحكومة ، وان لوحظ بالعكس فلا مقتضي للتمسك بالعامّ ولا الاستصحاب.

وقد وقع البحث في المقصود من أخذ الزمان مفرِّداً وقيداً للحكم في العام وعدمه بحيث يصح التمسك بالعموم الأزماني بناءً على أخذه كذلك ولا يصح فيما إذا لم يؤخذ ، فبرزت تفسيرات عديدة.

التفسير الأول ـ ما ذكره السيد الأستاذ من انَّ المراد بأخذ الزمان مفرِّداً استغراقية العام بحيث ينحل إلى أحكام عديدة بعدد الآنات واللحظات يكون لكل منها امتثال وعصيان مستقل ، والمراد بأخذه غير مفرِّد مجموعية العام بحيث يكون مفاده حكماً واحداً له امتثال واحد وعصيان واحد بحيث لو عصى في زمان التعذر الامتثال ولم يمكن الرجوع إلى دلالة العام بل يرجع إلى استصحاب حكم المخصص.

ثم اعترض على هذا التفصيل بأنّا أثبتنا في مبحث العام والخاصّ حجية العام في الباقي بعد التخصيص مطلقاً سواءً كان استغراقياً أم مجموعياً.

وما ذكره من عدم الفرق في حجية العام في الباقي بين كونه استغراقياً أو مجموعياً. وان كان صحيحا على ما تقدم في بحوث العام والخاصّ ، وتقدم الوجه الفني له. إلاّ انه من المستبعد جداً أَن يكون المقصود من التفصيل المذكور في المقام هذا التفصيل ، فانهم ينظرون إلى خصوصية تختص بالعموم الأزماني للعام لا بأصل العموم بعد التخصيص والّذي لا يفرق فيه بين التخصيص الا زماني والأفرادي ، وإلاّ لم يكن وجه لذكره في المقام بل كان يناسب بحث العام والخاصّ مع انَّ ظاهرهم الفراغ عن حجية العام في الفرد الباقي ، بل ظاهرهم المفروغية عن حجية العام في الفرد المخصص بلحاظ قطعة

٣٣٠

من الزمان بالنسبة إلى ما قبل زمان التخصيص ، فهذا التفسير لا يمكن أَن يكون هو مبنى التفصيل المذكور.

التفسير الثاني ـ ما أفاده المحقق الأصفهاني ( قده ) من انَّ المراد التفصيل بين ما إذا كان الزمان ملحوظاً بنحو العموم فالموضوع في كل آن ملحوظ كفرد للعام أو ملحوظاً بنحو الإطلاق ، والفرق بين العموم والإطلاق ليس من ناحية انحلال الحكم إلى أحكام عديدة وعدمه ، فانَّ المطلق أيضاً ينحل إلى أحكام عديدة ، وانما الفرق بينهما في مقام الإثبات وكيفية لحاظ موضوع الحكم ، ففي المطلق لا يلحظ إلاّ طبيعي الحكم الطبيعي الموضوع في طبيعي الزمان من دون قيد بخلاف العام فانَّ الملحوظ فيه كل فرد فرد من الطبيعي أو زمان زمان ، وعليه فإذا كان الدليل العام بلحاظ عموم الزمان ملحوظاً بنحو العموم صحّ الرجوع إليه بالنسبة إلى الزمان الّذي لم يشمله المخصص لأنه فرد وموضوع جديد كان مشمولاً له من أول الأمر ، وامَّا إذا كان ملحوظاً بنحو المطلق فلا يمكن التمسك بالعامّ بعد انتهاء أمد التخصيص لأنَّ زمان التخصيص يصبح فاصلاً بين ما قبله وما بعده من الحكم ونحن نعلم انَّ تخلل العدم يساوق التعدد فيلزم أَن يكون الموضوع الواحد ملحوظاً فيه مرتين وكفردين في عمود الزمان وهو خلف الإطلاق.

وعلى هذا التفسير يكون ما جاء في كلمات أستاذه صاحب الكفاية ( قده ) من التفصيل بين ما إذا كان التخصيص من المبدأ أو المنتهى أو من الوسط واضحاً ، فانه على الأول والثاني يصح التمسك بالعامّ على كل حال لعدم لزوم لحاظ الفرد الواحد مرتين وكفردين في عمود الزمان بخلاف الثالث.

كما ان مناسبة هذا التفسير للمقام دون بحث العام والخاصّ واضحة ، فانَّ هذه النكتة مخصوصة بالإطلاق الأزماني حيث انه إذا خصص من الوسط يلزم أَن يكون الفرد الواحد فردين ولا يرد في التخصيص الأفرادي ، لأنَّ الافراد العرضية متعددة من أول الأمر وتخصيص واحد منها لا يلزم تخلل العدم المستلزم لتعدد الحكم وكونهما فردين بلحاظ عمود الزمان.

نعم قد يقال انَّ لازم ذلك عدم حجية العام في القطعة السابقة على زمن التخصيص أيضاً ، إذ أي ترجيح لشموله له دون القطعة اللاحقة لزمن التخصيص

٣٣١

بدلاً فانه لو شمل كل منهما بدلاً عن الآخر كان فرداً واحداً من الحكم لا فردين ولا مرجح لأحدهما على الآخر.

إلاّ انه يمكن للمحقق الأصفهاني ( قده ) أَن يقول انَّ أسبقية القطعة الأولى توجب نحو انصراف للعام وشموله لها بخلاف العكس فانه مستبعد ومستهجن عرفاً.

وهذا التفسير أيضاً غير صحيح ، فانه خلط بحسب الحقيقة بين عالم الوجود الخارجي والفعلية وعالم اللحاظ والجعل ، فانَّ ما يلزم من تخصيص الحكم الواحد في القطعة الوسطى من الزمان وتخلل العدم فيه هو تعدد الحكم في مرحلة الفعلية والانحلال لا تعدده في مرحلة اللحاظ والجعل بل ما عدا المطلق ما خرج بدليل التخصيص سواءً في التخصيص الأفرادي أم الأزماني يبقى تحت المطلق بلحاظ واحد وعنوان واحد فلو كان المخرج عن وجوب إكرام العلماء مثلاً يوم الجمعة بالخصوص يكون مفاد الدليل وجوب إكرام العالم في غير يوم الجمعة وهو يشمل ما بعد التخصيص وما قبله بلحاظ واحد وامّا التعدد والانحلال في مرحلة الفعلية فالمفروض انه مشترك بين العام والمطلق كما تقدم.

التفسير الثالث ـ أَن نفترض انَّ إسراء الحكم إلى الحصص والافراد يكون من خلال ملاحظتها حتى في المطلق أي انَّ الإطلاق يكون جمعاً للقيود لا رفضاً لها ونفترض انَّ الزمان كما يمكن تقطيعه إلى حصص وآنات متعددة متكثرة كذلك يمكن أخذه بتمامه قيداً واحداً في موضوع الحكم باعتباره امراً واحداً متصلاً ومستمراً فيتسع الحكم الواحد الشخصي وينبسط تبعاً لاتساع موضوعه ، هنالك يقال بأنه إذا خرج فرد في زمان عن عموم الحكم فان كان الزمان ملحوظاً بنحو متكثر أمكن الرجوع في القطعتين السابقة واللاحقة لزمن التخصيص إلى العام لأنهما من افراده ، وان كان الزمان ملحوظاً كقيد واحد يتسع معه الحكم الواحد فلا يمكن الرجوع إلى العام في الزمن السابق فضلاً عن اللاحق لزمن التخصيص لإثبات الحكم فيهما ، إذ هل يكون إثباته لهما بنحو رفض القيود فهذا خلف ما افترضناه من انَّ إسراء الحكم لا يكون إلاّ بجمع القيود ولحاظها ، أو يكون بنحو جمع القيود مع لحاظ الزمان متكثراً فهذا خلف ما افترضناه من أخذ الزمان كله قيداً واحداً متسعاً ، أو يكون بأخذ الزمان كله قيداً واحداً فهذا خلف إخراج القطعة المتوسطة من الزمان ، ولا يمكن لحاظ الزمنين

٣٣٢

المنفصلين زمناً واحداً كما هو واضح ، وهذا بخلاف ما إذا استثنى قطعة من آخر الزمن أو أوله فيمكن أَن يكون قرينة على لحاظ الزمن الباقي المتصل قيداً واحداً. والحاصل لا يمكن شمول الحكم للقطعتين المنفصلتين في هذه الفرضية ، نعم يمكن شمول العام لأحدهما بدلاً كقيد واحد فيمكن أَن يرجح الأول بالتقريب المتقدم في تفسير سابق.

ويلاحظ على هذا التفسير أيضاً ما تقدم في محله من انَّ إسراء الحكم إلى الحصص كما يمكن أَن يكون بنحو جمع القيود فيسمى بالعموم عند الأصوليين كذلك يمكن أن يكون بنحو رفض القيود ويسمى بالإطلاق الحكمي فإذا استثنيت قطعة من الوسط سرى الحكم إلى القطعة السابقة واللاحقة عليها سواء فرضت المفردية في الزمان أم لا ، فانه ان لوحظت القيود وجمعت صار الزمان مفرداً وسرى الحكم إلى القطعتين بالعموم ، وان رفضت القيود في عالم اللحاظ سرى الحكم أيضاً إلى القطعتين بالإطلاق فلا مأخذ لهذا التفصيل.

هذا مضافاً إلى انَّ شمول الحكم واستمراره في الزمان ـ الّذي هو المقصود في المقام ـ لا يكون إلاّ بأحد النحوين المشار إليهما أي لحاظ كل آن آن فيكون من العموم ، أو رفض ذلك ولحاظ الطبيعي بلا قيد زمان معين فيكون من السريان بملاك رفض القيود ، فافتراض سريان ثالث لا يكون من باب الجمع للقيود ولا رفضه غير معقول في نفسه كما يفترض في هذا التفسير سواء فرض الحكم الساري أحكاماً عديدة انحلالية أم حكماً واحداً.

التفسير الرابع ـ انَّ الحكم إذا ثبت في حصص الزمان سواء كان بالعموم أم بالإطلاق فتارة يثبت بنحو دال واحد ومدلول واحد وفي مثله يرجع إلى العموم الأزماني بعد التخصيص ، وأخرى يثبت بنحو تعدد الدال والمدلول بأَن يكون مفاد العام أو المطلق ثبوت الحكم في الزمن الأول فقط أو في الزمن في الجملة بلا ملاحظة الاستمرار غاية الأمر يدلّ دليل آخر على استمرار الحكم الّذي يثبت في الآن الأول وعدم انقطاعه ، وحينئذ إذا لم يثبت مخصص في الوسط أثبتنا الحكم في الزمن الأول بالدليل الأول وفي الزمن الثاني بدليل الاستمرار ، وامَّا إذا فرض مخصص في الوسط فلا يمكن إثبات الحكم فيما بعد زمن التخصيص لا بالدليل الأول لعدم شموله لغير الزمن الأول بحسب الفرض ولا بالدليل الثاني لأنه يدل على عنوان الاستمرار وعدم الانقطاع وقد

٣٣٣

حصل ذلك على كل حال ، نعم يبقى انه يلزم منه عدم إمكان إثبات الحكم فيما عدا زمن التخصيص إذا كان التخصيص في القطعة الأولى من الزمان أيضاً ، لأنَّ المفروض ان الدليل الأول يدلّ على الحكم في الزمن الأول فقط ، اللهم إلاّ أَن يدعى ولو بالمناسبات إرادة أول الوجود أي الوجود الحدوثي فيتم تفصيل صاحب الكفاية ( قده ) حينئذ.

وهذا التفسير وان كان معقولاً ثبوتاً إلاّ انه غير واقع إثباتاً عادة ، فانه حتى إذا أخذ عنوان الاستمرار في الدال الثاني فانه لا يفهم منه عرفاً المعنى الاسمي للاستمرار بل واقع الاستمرار والامتداد فيرجع القسم الثاني عرفاً إلى القسم الأول الّذي يرجع فيه إلى العام بعد انتهاء أمد التخصيص. نعم لو فرض ورود ما يدلّ على لزوم عنوان الاتصال والاستمرار بنحو المعنى الاسمي تمَّ عندئذ هذا التفصيل إلاّ انَّه فرضية ليس إلاّ فلا يناسب عقد تنبيه في المقام لمثل هذه الفرضية الخيالية.

التفسير الخامس ـ ما ينسب إلى المحقق النائيني ( قده ) في تفسير كلام الشيخ ( قده ) من انَّ العموم الأزماني تارة يكون في متعلق الحكم وتحته بأن يعرض الحكم على المتعلق المستمر وأخرى يكون في نفس الحكم وفوقه بان يعرض عليه ويكون قيداً له فيكون الحكم الثابت لمتعلقه مستمراً ، وهذا امر معقول فان الحكم ربما يعقل فيه الإطلاق والاستمرار بقطع النّظر عن متعلقه كما في الأحكام الوضعيّة نظير لزوم العقد وجوازه. ففي القسم الأول يجوز التمسك بالعامّ بعد انتهاء أمد التخصيص الأزماني ، لأنَّ دليل الحكم بنفسه يثبت العموم والاستمرار لمتعلقه ، وقد تقدم في محله حجية العام فيما عدا مقدار التخصيص من غير فرق بين العام الاستغراقي أو المجموعي وبين العام الأصولي والمطلق وبين أخذ الزمان قيداً أو ظرفاً ، وامَّا في القسم الثاني فلا يجوز التمسك بالعامّ بعد انتهاء أمد التخصيص بل يتعين الرجوع فيه إلى الاستصحاب ان تمت أركانه ، والوجه في ذلك ان الاستمرار الطارئ على الحكم ليس مفاداً لنفس دليل الحكم بل هو في طول ثبوته يثبت بدال آخر يقتضي استمرار ما ثبت ولو كان هو قرينة اللغوية كما يقال مثلاً في مثل دليل لزوم العقد بأنَّ لزومه آناً ما لغو ، ويقال في دليل التحريم انَّ تحريم شيء آناً ما لغو ، فلا محالة يثبت بذلك الاستمرار في نفس الحكم الا انَّ هذا الاستمرار والعموم عارض على الحكم ويكون الحكم بمثابة موضوعه.

٣٣٤

ويترتب على ذلك امران :

أحدهما ـ انَّ دليل الحكم لا يكون دليلاً على هذا الاستمرار لما تقدم من انه فوق الحكم وعارض عليه بل لا بد من دال آخر.

ثانيهما ـ انَّ الدال على الاستمرار حيث انه قد أخذ في موضوعه ثبوت أصل الحكم فلا يمكن التمسك به لإثبات الاستمرار والعموم إلاّ إذا ثبت أصل الحكم ، ونتيجة ذلك انه لو خصص الحكم في قطعة من الزمان فلا يمكن الرجوع إلى العموم في الزمن الباقي ، إذ لو أُريد الرجوع إلى دليل الحكم نفسه فقد عرفت انه لا يدل على الاستمرار ولو أُريد الرجوع إلى الدليل الدال على استمرار الحكم فالمفروض انه يثبت الاستمرار فيما إذا ثبت أصل الحكم لكونه مأخوذاً في موضوعه والدليل لا ثبت موضوعه. ثم تعرض لبيان ضابط كون العموم والاستمرار مأخوذاً في المتعلق وتحت الحكم أو في الحكم وفوقه (١).

واعترض السيد الأستاذ على هذا الكلام بأنه خلط بين مرحلتي الجعل والمجعول ، فانَّ الّذي لا يتكفله دليل الحكم استمرار الجعل وعدم نسخه وهو خارج عن محل الكلام ، واما إطلاق الحكم واستمراره بمعنى سعة المجعول فيتكفله دليل الحكم لأنه بهذا المعنى من قيود المجعول المدلول لدليل الحكم كسائر قيوده فلا مانع من إثباته بنفس الدليل (٢).

والمظنون انَّ مقصود المحقق النائيني ( قده ) ملاحظة الحكم بمعنى المجعول لا الجعل غاية الأمر يفترض انَّ الاستمرار والعموم الطارئ على الحكم انَّما يعرض عليه بنحو المعنى الاسمي وهذا لا يمكن استفادته من دليل الحكم نفسه.

والأولى أَن يقال في مناقشة هذا التفصيل :

أولا ـ انه هل يقصد من العموم والاستمرار الطارئ على الحكم الاستمرار بنحو المعنى الاسمي أو الاستمرار بنحو المعنى الحرفي ، فان كان المقصود الاستمرار بنحو المعنى الحرفي فهذا من شئون نفس الحكم كسائر حالاته وكيفياته فلا يحتاج إلى دال

__________________

(١) راجع أجود التقريرات ، ج ٢ ، ص ٤٤٠. فوائد الأصول ، ج ٤ ، ص ٢٠٢. مصباح الأصول ، ج ٣ ، ص ٢٢٠

(٢) مصباح الأصول ، ج ٣ ، ص ٢٢٢

٣٣٥

آخر بل يكون الدال عليه نفس الدال على الحكم ، فكما انَّ حدوث الحكم لا يحتاج إلى دال آخر ، إذ هو نفس الحكم كذلك استمراره بهذا المعنى ، فإذا فرض دلالة الخطاب على الحكم المستمر وثبت تخصيص له في قطعة من الزمان كان ظهور الخطاب في ثبوت الحكم المستمر حجة في ما عدا مقدار التخصيص حاله في ذلك حال العموم في متعلق الحكم.

وان كان المقصود الاستمرار بنحو المعنى الاسمي فهذا كما ذكر لا يمكن استفادته من دليل الحكم إلاّ أنَّ هذا النحو من الاستمرار كما لا يمكن استفادته من دليل الحكم إذا كان قيداً للحكم وطارئاً عليه كذلك لا يمكن استفادته من دليل الحكم إذا كان قيداً للمتعلق وتحت الحكم ، فلا وجه للتفصيل بين الحكم ومتعلقه هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى لا حاجة إلى الاستمرار بهذا المعنى بل يكفي الاستمرار بالمعنى الحرفي والّذي تقدم استفادته من دليل الحكم نفسه (١).

وثانياً ـ لو فرض انَّ العموم والاستمرار كان بدال آخر وقد أخذ في موضوعه ثبوت الحكم مع ذلك أمكن الرجوع إليه بعد التخصيص ، إذ لا يكون الموضوع هو ثبوت الحكم المستمر فانه لا معنى للحكم باستمرار الحكم المستمر وانما المقصود لا بدَّ وَان يكون أخذ ثبوت الحكم بنحو القضية المهملة في موضوع الدلالة على الاستمرار ، والقضية المهملة ثابتة بحسب الفرض فيمكن التمسك بدليل الاستمرار على كل حال فيما عدا المقدار الخارج بالتخصيص (٢).

__________________

(١) يمكن أَن يقال : بأنه قد تقدم في بعض الأبحاث السابقة أنَّ مقدمات الحكمة والإطلاق الحكمة والإطلاق لا يجري في المحمول بمعنى انَّ الخطاب لو كان متكفلاً لإثبات حكم على موضوع كإثبات اللزوم أو الخيار في العقد فما هو مدلول الخطاب ليس أكثر من ثبوت صرف وجود اللزوم أو الخيار في الجملة فكما لا يدل على الإطلاق والشمول بلحاظ الافراد العرضية كما إذا فرضنا انَّ هناك نوعين من اللزوم والخيار لزوم حكمي ولزوم حقي فلا يمكن التمسك بإطلاقه لإثبات كلا النوعين من اللزوم أو الخيار ، كذلك لا يمكن التمسك بإطلاقه للافراد أو الأحوال الطولية أي إثبات الاستمرار فيكون استفادة ذلك في طرف الحكم بحاجة دائماً إلى دال آخر ولو قرينة الحكمة ودفع اللغوية ، والّذي يكون بحسب الحقيقة من لوازم المدلول الأول وهو ثبوت الحكم بنحو صرف الوجود وليست دلالة إطلاقية أو عمومية لتندرج تحت كبرى حجية العام في الباقي بعد التخصيص ، فإذا ثبت في مورد التخصيص وانتفاء المدلول الأول فلا يمكن إثبات استمرار الحكم بعد ذلك بالخطاب من دون فرق بين كون الاستمرار ملحوظاً بنحو المعنى الاسمي أو الحرفي لأنَّ الميزان في حجية العموم والإطلاق كونها دلالة مستقلة عرضية لا طولية كما تقدم في محله ، وبهذا يرجع هذا التفصيل إلى معنى صحيح ولكنه يختص بالاحكام التي لا يكون إطلاقها وعمومها بلحاظ إطلاق متعلقاتها بل بلحاظ نفسها كما في المثال المتقدم.

(٢) اتضح على ضوء التقرير المتقدم لكلام الميرزا عدم وجاهة هذه المناقشة أيضاً ، فانه ليس المقصود ثبوت القضية المهملة بمعنى الحكم في زمان ما بل المقصود انَّ الدال الثاني ليس دالاً مستقلاً وانما هو من لوازم ثبوت الحكم في مورد أو زمان فمع التخصيص وعدم الدليل على ثبوت أصل الحكم في الزمن الثاني لا يمكن الرجوع إلى الخطاب لإثبات استمرار الحكم فيه.

٣٣٦

وثالثاً ـ انَّ إطلاق الحكم واستمراره يستحيل أَن ينفك عن إطلاق متعلقه ، لأنه إذا ثبت الاستمرار وعموم الحكم ولو بقرينة الحكمة ودال آخر ثبت انَّ المولى كان في مقام البيان من ناحيته ولا يعقل عرفاً كون المولى في مقام البيان من ناحية الحكم مع كونه مهملاً من ناحية المتعلق فانَّ المتحصل من الحكم ومتعلقه شيء واحد ، فإذا فرض كونه في مقام البيان ثبت الإطلاق في المتعلق والّذي يصح التمسك به فيما بعد التخصيص بحسب الفرض ، نعم لو بني على انَّ الإطلاق في المتعلق كالتقييد في المقام فيه مئونة زائدة وانه أخف في قبال التقييد لا في قبال الإهمال فليبقى المتعلق مهملاً في المقام للاستغناء عنه بعموم الحكم ، إلاّ انَّ هذا المبنى غير صحيح لأنَّ التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة عنده وتقابل السلب والإيجاب عندنا فإذا لم يكن تقييد في المتعلق ـ لعدم إمكانه مع عموم الحكم ـ تعين الإطلاق في المتعلق لا محالة (١).

وهكذا يتضح انه لا يبقى تفسير معقول للتفصيل في الرجوع إلى العموم الأزماني أو استصحاب حكم المخصص إذا فرض تمامية أركانه في نفسه ، نعم لو فرض عدم تمامية العموم ولا مقدمات الإطلاق في العموم الأزماني وصلت النوبة إلى الأصول العملية والتي منها الاستصحاب وليس في ذلك نكتة جديدة ، وقد تقدم البحث عن ذلك مفصلاً في بحوث التخصيص من مباحث الألفاظ.

كما انَّ ما أضافه المحقق الخراسانيّ ( قده ) في المقام من انَّ الزمان إن كان مأخوذاً في موضوع الحكم الخارج بالتخصيص بنحو التقييد فلا يجري الاستصحاب ، وان كان

__________________

(١) يمكن أَن يناقش في ذلك : أولا ـ بأنَّ مورد العموم والاستمرار الطارئ على الحكم هو الأحكام الوضعيّة ونحوها مما لا يكون للحكم متعلق وانما يكون له موضوع كالعقد مثلاً فيكون العموم والاستمرار في نفس ثبوت الحكم لموضوعه.

وثانياً ـ لو فرض إمكان الإطلاق والاستمرار بلحاظ عمود الزمان للمتعلق فهذا الإطلاق في المقام تابع لإطلاق الحكم واستمراره فانا إذا ميزنا بين عموم الحكم وعموم المتعلق فلو أريد استفادة الإطلاق في المتعلق من باب استحالة إطلاق الحكم وتقييد المتعلق ، فالجواب انَّ هذا الإطلاق تبعي يسقط بسقوط عموم الحكم بالتخصيص ، وان أُريد استفادة إطلاق المتعلق مستقلاً ومن باب انَّ تمامية ملاك العموم في الحكم ملازم عرفاً مع تمامية ملاكه في المتعلق فهو ممنوع لأنَّ أحد العمومين مباين مع الآخر ومختلف دلالة ومدلولاً فلا وجه لدعوى تمامية العموم في المتعلق.

وثالثاً ـ قد عرفت انَّ الدال على عموم الحكم ليس هو أدوات العموم أو مقدمات الإطلاق وانما الدلالة دلالة التزامية ولو عرفية بحيث يكون بابه باب دلالة المدلول على المدلول ، ومن الواضح انَّ تمامية ذلك في الحكم لا يستلزم تمامية ملاك العموم أو الإطلاق في المتعلق بوجه من الوجوه.

٣٣٧

ملحوظاً بما هو ظرف جرى الاستصحاب فهو تطبيق لكبرى متقدمة في بحث استصحاب الزمان أو في بحث اشتراط وحدة الموضوع في القضية المشكوكة والمتيقنة.

وهكذا يتضح وجه ما أشرنا إليه في مستهل هذا البحث من انه لا جديد للبحث تحت هذا التنبيه الّذي عقده الشيخ الأعظم ( قده ) وتابعه عليه المحققون.

٣٣٨

الاستصحاب

النسبة بين الأمارات والأصول العملية

١ ـ تقدم الأمارات على الأصول العملية.

٢ ـ العلاقة فيما بين الأصول العملية.

٣٣٩
٣٤٠