بحوث في علم الأصول - ج ٦

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٦

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٨

حصل الشك في بقاء تلك القضية الشرطية لاحتمال دخل الخصوصية الثالثة في الحكم ، وهذا هو موضوع البحث في الاستصحاب التعليقي ، ومثاله المعروف حرمة العصير العنبي المنوطة بالعنب وبالغليان ويحتمل دخل الرطوبة وعدم الجفاف فيها فإذا جف العنب ثم غلى كان مورداً لاستصحاب الحرمة المعلقة على تقدير الغليان.

وقد كان المشهور قبل المحقق النائيني ( قده ) جريان هذا الاستصحاب إلاّ انَّ هذا المحقق الكبير برهن على عدم جريانه فأصبح المشهور بعده عدم الجريان.

والبحث عن جريان هذا الاستصحاب وعدمه نورده في مقامين :

المقام الأول ـ في تمامية أركان الاستصحاب ومقومات جريانه في هذا الاستصحاب في نفسه.

المقام الثاني ـ في وجود معارض له وعدم وجوده.

امّا المقام الأول ـ فهناك اعتراضان رئيسان يوجهان إلى هذا الاستصحاب يستهدفان فان المنع عن جريان هذا الاستصحاب في نفسه.

الاعتراض الأول ـ ما أفاده المحقق النائيني ( قده ) من عدم تمامية ركني الاستصحاب من اليقين بالحدوث والشك في البقاء في مورد الاستصحاب التعليقي أو الحكم المعلق ، وقد اختلف فهم الأصحاب لمقالة هذا المحقق نتيجة التأثر ببعض العبائر الواردة في بيانه وبرهانه على هذا المدعى.

فتصور المحقق العراقي انَّ مقصود الميرزا اشتراط أَن يكون المستصحب امراً خارجياً أي محمولاً ثابتاً لموضوع خارجي حتى يمكن استصحابه ، والحكم المعلق ليس له وجود في الخارج بعد لكي يستصحب ، فنقض عليه بأنّا نجري استصحاب عدم النسخ وبقاء الجعل مع انه ليس امراً في عالم الخارج.

وفيه : ان الميرزا ( قده ) لا يشترط في المستصحب أَن يكون امراً في الخارج ، كيف وهو يرى جريان الاستصحاب في الاعدام أيضاً ، وانما يقصد ـ على ما سوف نشرح ـ انَّ الحكم المستصحب في المقام إن أُريد به الجعل فلا شك فيه ، وان أُريد به المجعول فلا فعلية له قبل تحقق الغليان ويشترط في استصحاب الحكم بمعنى المجعول العلم بفعليته خارجاً لكي يستصحب.

وكذلك تصور في المستمسك معنى آخر لمقالة الميرزا ( قده ) بعد أَن اختار تبعاً

٢٨١

لصاحب العروة التفصيل بين ما لو قال المولى ( العنب المغلي يحرم ) أو قال ( العنب إذا على يحرم ) مدعياً ان القيد إذا كان راجعاً إلى الموضوع كما في الأول لم يجر الاستصحاب ، وإذا كان راجعاً إلى الحكم كما في الثاني جرى ، لأنه في الأول لا يحصل اليقين بالحكم لعدم تحقق موضوعه بخلاف الثاني ، ولا يقال انَّ الشيء الثابت انما هو الجعل ولم يتحقق للحكم ثبوت في مرحلة الوجود الخارجي بلون من الألوان ، فانَّ هذا تفكيك بين الجعل والمجعول وهو مستحيل ، بل أوضح استحالة من التفكيك بين العلة والمعلول ، لأنَّ الجعل عين المجعول حقيقة ، وأردف ذلك بأنَّ المحقق النائيني ( قده ) قال بعدم جريان الاستصحاب التعليقي رأساً من باب انَّ القيد دائماً يرجع إلى الموضوع وإن كان بحسب الظاهر قيداً للحكم فالقضية الشرطية مرجعها إلى الحملية والشرط يرجع إلى الموضوع حيث برهن على انَّ انفكاك الحكم عن الموضوع وتأخره عنه محال. ثم اعترض عليه : بأنه لو كان المراد إرجاع القضية الشرطية ـ قيد الحكم ـ إلى الحملية ـ قيد الموضوع ـ بحسب مرحلة الإثبات ومعنى القضية فذلك خلاف الظاهر ، وإن كان المدعى انَّ مفاد القضية الشرطية مطابق لبّا لمفاد القضية الحملية فالمدار في جريان الاستصحاب على مفاد القضية الشرعية لا إلى ما تؤول إليها ومرجعها بحسب اللب ، ولهذا نجد جريان استصحاب الزمان إذا قال ( إن كان شهر رمضان فصم ) وعدم جريانه إذا قال ( صم في شهر رمضان ) لأنه لا يثبت كون الصوم في شهر رمضان بنحو مفاد كان الناقصة في حين انَّ مفاد القضيتين لبّا واحد (١).

وفيه : أولا ـ انَّ ما بنى عليه من انَّ الجعل عين المجعول ويستحيل التفكيك بينهما يقتضي عدم التفصيل في جريان الاستصحاب بين كون القضية مجعولة بنحو القضية الحملية أو الشرطية أي كون القيد من قيود الموضوع أو الحكم ـ كما ذهب إلى ذلك أصحاب هذا المبنى كالمحقق الخراسانيّ والعراقي ( قدهما ) ـ لأنَّ الجعل والمجعول ثابتين في كلا الموردين حيث يستحيل الانفكاك بينهما فالجمع بين المبنى الأصولي المذكور والتفصيل الّذي ذهب إليه صاحب العروة في الفقه غير سديد.

وثانياً ـ لو سلم ما نسبه إلى الميرزا من وجود برهان على رجوع قيود الحكم إلى

__________________

(١) راجع المستمسك ، ج ١ ، ص ٤١٦ ـ ٤١٩

٢٨٢

الموضوع لبّا وروحاً وسلم عدم جريان الاستصحاب التعليقي إذا كان الغليان قيداً للموضوع لا للحكم كان لا بدَّ من القول بعدم جريان الاستصحاب التعليقي مطلقاً ولا معنى لما ذكر من ملاحظة ظاهر القضية الشرعية ، لأن الاستصحاب انما يجري بلحاظ ما يستفاد من ظاهر اللفظ لبّا وواقعاً بعد تحكيم كل المناسبات والقرائن اللفظية والعرفية والعقلية على الخطاب الشرعي والمفروض انها تقتضي قيدية الغليان لموضوع الحكم ، وقياس المقام بمثال الصوم في شهر رمضان بنحو مفاد كان الناقصة مع الفارق لتعدد المفاد وروح القضيتين في هذا المثال حتى بحسب عالم اللب والثبوت.

اللهم إلاّ أَن يقصد من اتحاد القضية الحملية والشرطية بحسب عالم اللب عالم الملاكات والمبادئ لا عالم الثبوت والمدلول الجدي إلاّ انه من الواضح حينئذ كون ذلك أجنبياً عن مقالة الميرزا ( قده ).

وثالثاً ـ بطلان أصل النسبة فانَّ الميرزا ( قده ) لم يذكر في مقام فضلاً من أَن يقيم برهاناً عليه ، أَنَّ قيود الحكم لا بدَّ وأَن ترجع إلى قيود الموضوع ، كيف وقد فصل بنفسه في بحث المفاهيم بين ما إذا كان القيد راجعاً للحكم فيثبت المفهوم والانتفاء عند انتفائه وما إذا كان راجعاً إلى الموضوع فلا مفهوم ، وجعل هذا ضابطة المفهوم فلو ارجع كل قيود الحكم إلى الموضوع لأنسد باب المفهوم عليه.

نعم هو يسمى كل القيود بقيود الموضوع في مقام آخر إلاّ انه لا يقصد هذا المعنى من الموضوع الّذي فهمه في المستمسك أعني ما هو معروض الحكم بحسب لسان الدليل وانما يقصد انَّ كل القيود المأخوذة في الحكم ومنها الموضوع بمعنى معروض الحكم لا بدَّ من أخذه مقدر الوجود في مقام جعل الحكم إذ المولى لا يجعل السببية حقيقة بين هذه الأسباب وبين الحكم وانَّما يجعل بنفسه الحكم عليها فالحكم مجعول ومخلوق للمولى ، كما انَّ هذا الجعل ليس بمعنى انه كلّما تحقق موضوع وسبب للحكم جعل المولى وأنشأ حكماً عليه بل الجعل يكون بنحو القضية الحقيقية التي ترجع إلى قضية شرطية موضوعها مقدار الوجود ، ومن هنا ادعى رجوع القضايا الحملية المجعولة إلى قضايا شرطية لكونها قضايا حقيقية.

وامّا ما جاء في تعبير الميرزا في مقام المنع عن الاستصحاب التعليقي هنا من انَّ قيود الحكم ترجع إلى الموضوع فهو يرمي من ذلك إلى توضيح انه لا فرق بين كون القيد

٢٨٣

راجعاً إلى الحكم بحسب ظاهر القضية أو إلى الموضوع من حيث انَّ الحكم بمعنى المجعول الفعلي لا تحقق له قبل تمامية موضوع الحكم وقيوده في الخارج لكي يمكن استصحابه ، فليس المقصود ما فهمه في المستمسك من كلامه ، كما انه ليس المقصود ما جاء في فوائد الأصول من انَّ مراده بذلك التحرز عن مبنى كون الأحكام مجعولة للأسباب الشرعية لا للمولى بنحو القضايا الحقيقية للموضوعات المقدرة فأشكل عليه في الحاشية بأنه لا فرق بين ما إذا قلنا بأنَّ الحكم مجعول للمولى بنحو القضية الحقيقية على الموضوعات المقدرة الوجود أو قلنا بأنه مجعول للأسباب الشرعية فانه على الثاني أيضا ليس للحكم وجود قبل وجود السبب حتى يستصحب (١).

فانه مضافاً إلى ما ذكرنا في وجه هذا التقييد الوارد في كلام الميرزا ( قده ) لو فرض انَّ ما جاء في التقرير هو مقصوده لم يرد عليه إشكال الحاشية إذ السببية سوف تكون شرعية فيصح استصحابها.

والصحيح في توضيح مقالة الميرزا ( قده ) أَن يقال : انَّ المراد من استصحاب الحكم التعليقي إن كان استصحاب الجعل فالمفروض انه لا شك في ارتفاع الجعل وبقائه لكي يراد استصحابه ، وان كان المراد استصحاب المجعول الفعلي فلا يقين بحدوثه لأنَّ الحكم الفعلي كالحرمة لا يثبت إلاّ بعد تحقق تمام قيود الحكم وفعليتها في الخارج والمفروض في المقام عدم تحقق بعضها في مورد الاستصحاب التعليقي ، وان كان المراد استصحاب الحرمة الثابتة على نهج القضية الشرطية فهذا امر منتزع عن جعل الحرمة على موضوعها المقدر الوجود ولا أثر للتعبد به وانما الأثر والتنجيز يترتب على منشأ انتزاعه وهو الحكم الشرعي من الجعل أو المجعول.

ثم انَّ هذه المقالة قد أثير في قبالها مجموعة شبهات لا بأس بالتعرض إلى أهمها :

١ ـ انّا نستصحب سببية الغليان للحرمة وهي حكم وضعي فعلي امرها بيد الشارع إثباتاً ونفياً كالشرطية والمانعية وهي معلومة حدوثاً مشكوكة بقاءً فتستصحب.

وفيه : انَّ الاستصحاب لا يكفي فيه أَن يكون المستصحب امراً شرعيا تحت سلطان الشارع ، بل لا يشترط ذلك على ما تقدم مراراً ، وانَّما يشترط أَن يكون منتهياً إلى أثر

__________________

(١) فوائد الأصول ، ج ٤ ، ص ١٧١

٢٨٤

عملي من تنجيز أو تعذير ، وفي المقام لو أُريد باستصحاب السببية إثبات الحرمة فعلاً فهو غير ممكن لأنَّ الحرمة ليست من الآثار الشرعية للسببية بل من الآثار الشرعية لذات السبب الّذي رتب الشارع عليه الحرمة ، وان أُريد بذلك الاقتصار على التعبد بالسببية فهو لغو لأنها بعنوانها لا تصلح للمنجزية والمعذرية.

وقد حاول المحقق العراقي تصحيح استصحاب السببية بناء على بعض المسالك في الحكم الظاهري وهو مسلك جعل الحكم المماثل بأَن يقال انَّ المجعول عندئذ هو السببية الظاهرية المماثلة للواقع المشكوك ، وبما انَّ السببية يستحيل جعلها ابتداءً فيستكشف لا محالة جعل منشئها بالملازمة لنفس الحكم الظاهري لا للمؤدى ليكون من الأصل المثبت ، ومنشئها هو الحكم

الشرعي الظاهري بحرمة الزبيب إذا غلى فيكون منجزاً لا محالة.

ويلاحظ عليه : أولا ـ بعد أَن كان المدلول المطابقي لدليل الاستصحاب النهي عن النقض العملي ولهذا كان مختصاً بما يترتب عليه أثر عملي ، والسببية لا يترتب عليها أثر عملي فهذا لازمه عدم شمول إطلاق دليل الاستصحاب للسببية لا شموله لها واستكشاف مطلب آخر بالملازمة لتصحيح هذا الشمول لأنَّ الإطلاق بحسب الفرض مقيد بأَن يكون المورد ممّا يترتب عليه أثر عملي والمفروض ان السببية لا منجزية لها فلا ينعقد الإطلاق في هذا المورد.

وثانياً ـ انَّ ثبوت منشأ السببية ظاهراً لا يحقق سببية ظاهرية مماثلة للسببية الواقعية المحتملة بل سوف تتحقق سببية واقعية بين الغليان والحرمة الظاهرية ، وهذا مطلب آخر غير جعل الحكم المماثل الظاهري. اللهم إلاّ أَن يقال بكفاية المماثلة بين منشأ السببية الظاهري ومنشأ السببية الواقعي وان كانت السببيتان واقعيتين.

٢ ـ ما ذكرته مدرسة المحقق العراقي ( قده ) من أنَّ الاعتراض المذكور من قبل الميرزا ( قده ) على الاستصحاب التعليقي يقوم على أساس انَّ المجعول لا يكون فعلياً إلاّ بوجود تمام اجزاء الموضوع خارجاً قياساً لباب الأحكام والقضايا التكليفية بالقضايا الحقيقية والتي لها مرحلة الإنشاء والجعل ومرحلة الفعلية ، فانه حينئذ يتعذر استصحاب المجعول في المقام إذ لم يصبح فعلياً ليستصحب ، ولكن الصحيح انَّ المجعول ثابت بنفس ثبوت الجعل لأنه منوط بالوجود اللحاظي للموضوع لا بوجوده الخارجي ـ

٢٨٥

على ما حقق ذلك في محله من بحث الواجب المشروط والإرادة المشروطة ـ فهو فعلي قبل تحقق الموضوع خارجاً.

وقد أردف المحقق العراقي ( قده ) ناقضاً على المحقق النائيني ( قده ) بأنه أليس المجتهد يجري الاستصحاب في المجعول الكلي قبل أَن يتحقق الموضوع خارجا؟ (١).

ويلاحظ عليه : انَّ المجعول ـ سواء أُريد به الأمر الاعتباري أو الإرادة ـ إذا لوحظ بما هو أمر ذهني وبالحمل الشائع والحقيقي فهو نفس الجعل المنوط بالوجود اللحاظي للشرط وللموضوع على ما تقدم شرحه في الواجب المشروط إلاّ انَّ المجعول بهذا اللحاظ لا يجري فيه استصحاب الحكم ، إذ لا شك في البقاء حينئذ وانما الشك في حدوث الجعل الزائد على ما عرفت في بحث سابق. وإذا لوحظ المجعول بما هو صفة للموضوع الخارجي وبالحمل الأولي والوهمي فهو منوط في هذا اللحاظ بالخارج فما لم يوجد الموضوع بالكامل ولو تقديراً وافتراضاً لا يرى للمجعول فعلية وثبوتاً لكي يستصحب ، وقد تقدم تفصيل ذلك في دفع شبهة المعارضة بين استصحاب المجعول وعدم الجعل الزائد ، ومن ذلك يعرف حال النقض المذكور ، فانَّ المجتهد يفترض تحقق الموضوع بالكامل فيشك في البقاء مبنياً على هذا الفرض ، وأين هذا من إجراء استصحاب الحكم بمجرد افتراض جزء الموضوع. وبكلمة أخرى : انَّ كفاية ثبوت المجعول على فرض وجود موضوعه في تصحيح استصحابه في نفس الفرض والتقدير شيء وكفاية الثبوت التقدير لنفس المجعول في تصحيح استصحابه دون تواجد تمام الموضوع لا خارجاً ولا تقديراً شيء آخر فلا ينبغي الخلط بينهما كما هو واضح.

٣ ـ ما قد يستفاد من بعض تعبيرات المحقق العراقي ( قده ) من انَّ العلم بالسببية والملازمة بين الغليان والحرمة يتولد منه علم مشروط بالحرمة الفعلية على تقدير الغليان ومعلقاً عليه ، وهذا علم منوط ومشروط يتبعه الشك المنوط حينما يصير العنب زبيباً فيجري استصحابه والتعبد ببقائه في فرض الزبيبية أيضاً.

ويلاحظ عليه : انه لا يوجد إلاّ علم واحد بالملازمة والسببية ، واما العلم بفعلية الجزاء ففرع العلم بالصغرى والكبرى معاً بل يستحيل العلم المنوط ، فانَّ الإناطة والاشتراط

__________________

(١) نهاية الأفكار ، قسم ١ من ج ٤ ، ص ١٦٣ ـ ١٦٨

٢٨٦

في عالم المفاهيم والتصور تعني التخصيص والتقييد ، وهذا غير معقول في المقام ، وفي عالم الحقائق والوجودات التصديقية تعني السببية والعلّيّة ومن الواضح انَّ العلم بالحرمة علّته وسببه دليله وبرهانه من العلم بالصغرى والكبرى لا الغليان لا بوجوده اللحاظي ولا الخارجي.

٤ ـ ما ذكره المحقق الأصفهاني ( قده ) في تفسير مراد أستاذه صاحب الكفاية ( قده ) من امره بالفهم : انَّ حرمة العنب المغلي مجعولة على نهج القضية الحقيقية لا الخارجية ، وهذا يعني انها مجعولة على الافراد المقدرة الوجود فالحرمة فعلية على العنب المغلي المقدر ، ولا يقصد بذلك ما تقدم في المناقشة الثانية من انَّ الشرط للحكم هو الوجود اللحاظي لا الخارجي بل هو يتكلم عن الغليان الخارجي والحرمة الجزئية الثابتة له لا الحرمة الكلية التي يجعلها المولى بمجرد لحاظ الغليان ، ولكنه يرى انَّ الغليان الخارجي كما تكون افراده المحققة مشمولة للحكم كذلك تكون افراده المقدرة مشمولة للحكم فلتستصحب تلك الحرمة الجزئية الثابتة بلحاظ الغليان المقدر الوجود.

ويلاحظ عليه : أولاً ـ انَّ معنى شمول الحكم في القضية الحقيقية للافراد المقدرة انَّ الحكم لو لوحظ بالحمل الأولي لا الشائع فيرى ثبوت الحرمة لكل ما يفرض انه عنب مغلي فتثبت حرمة جزئية لكل ما يفرض عنباً فعلياً ، إلاّ انَّ هذا انما يكون بعد فرض موضوع الحكم بتمام قيده في المنظور بهذا المنظار أي بعد فرض عنب مغلي فيكون المستصحب بقاء حرمة العنب المغلي بلحاظ ما بعد غليانه لو شك في ارتفاع الحرمة عنه لا أَن تستصحب بقاء الحرمة المعلقة على الغليان للزبيب الّذي هو امتداد لذات العنب لا للعنب المغلي فانه بهذا المنظار وفي هذا الأُفق لا يكون لذات العنب حرمة جزئية لكي تستصحب.

وثانياً ـ انَّ هذا التفسير لكلام صاحب الكفاية ( قده ) أساساً مما لا يرضى به صاحبه فانه قد ذكر بنفسه في حاشيته على الرسائل معنى آخر حاصله : انَّ حرمة العصير تارة يؤخذ فيها الغليان بنحو قيد الوجوب والتكليف ، وأخرى يؤخذ فيها الغليان بنحو قيد الواجب والمكلف به فتكون الحرمة فعلية ولكن الحرام هو الشرب الخاصّ وهو الشرب حال الغليان ، فانَّ قيود الحرمة يمكن أخذها في الحرام بدلاً عن الحرمة حتى إذا كانت غير اختيارية على خلاف باب الوجوب حيث لا بدَّ وأَن تؤخذ القيود

٢٨٧

غير الاختيارية في الوجوب لا الواجب ، وعليه فيجري استصحاب حرمة الشرب الخاصّ بعد جفاف العنب أيضاً إلاّ انه كما أشار بنفسه يكون من الاستصحاب التنجيزي لا التعليقي (١).

وهكذا يتضح انَّ تمام ما أثير حول مقالة المحقق النائيني ( قده ) واعتراضه على الاستصحاب التعليقي لا يرجع إلى محصل.

إلاّ انَّ التحقيق ـ مع ذلك هو التفصيل بين ما إذا كان كل قيود الموضوع مأخوذة في عرض واحد ، وبين ما إذا كان بعضها مأخوذاً في موضوع البعض الآخر فلا يجري الاستصحاب في الأول ويجري في الثاني.

توضيح ذلك : اننا وان كنا نوافق على ما أفاده المحقق النائيني ( قده ) من رجوع قيود الحكم كلها إلى الموضوع بمعنى ما يؤخذ مقدر الوجود في جعل الحكم بنحو القضية الحقيقية الا انه لا برهان يقتضي انَّ تلك القيود لا بدَّ وأَن تؤخذ جميعاً في عرض واحد مقدرة الوجود ، بل كما يمكن إناطة الحرمة مثلاً بخصوصية الغليان في عرض إناطتها بخصوصية العنبية كذلك يمكن أَن تكون إناطتها بالغليان مترتباً وطولياً بمعنى انَّ الحكم يقيد بالخصوصية الثانية وبما هو مقيد بها يناط بالخصوصية الأولى سواءً باستخدام قضية شرطية بأَن قيل ( العنب إذا غلى حرم ) أو قضية حملية ظاهرة في طولية القيدين بأَن قيل ( العنب يحرم المغلي منه ) فانَّ العنب هنا يكون موضوعاً للحرمة المنوطة بالغليان خلافاً لفرضية عرضية القيدين بأَن قيل ( العنب المغلي حرام ) حيث كان العنب المغلي بما هو كذلك موضوعاً للحرمة. ففي الحالة الأولى يتجه اعتراض المحقق النائيني ( قده ) ولا يجري الاستصحاب في القضية الشرطية لأنها امر منتزع عن الجعل وليست هي الحكم المجعول ، واما في الحالة الثانية فلا بأس بجريان الاستصحاب في نفس القضية الشرطية التي وقع العنب موضوعاً لها لأنها مجعولة من

__________________

(١) الا انه على هذا التقدير سوف تكون الحرمة غير مقيدة لا بوجود الغليان ولا بوجود العنب بل تكون فعليته قبل وجود العنب حيث يحرم شرب العنب المغلي ، وعندئذ لا يجري الاستصحاب لمحذور آخر هو انَّ الشك لا يكون في بقاء الحرمة بل في مقدارها وانَّ الحرام هل هو شرب العنب المغلي بالخصوص أو الأعم منه ومن ماء الزبيب المغلي وهذا من الشك في مقدار المجعول والّذي يجري فيه عدم جعل الحرمة الزائدة ، فالحاصل تصوير كون الشك في بقاء الحرمة بنحو الشبهة الحكمية في المقام مبني على فرض الحرمة صفة للعنب المغلي ومنوطاً به لكي يرى بمنظار الحمل الأولي الشك في بقائها تبعاً لبقاء العنب وجفافه فتدبر جيداً.

٢٨٨

قبل الشارع بما هي شرطية ومرتبة على عنوان العنب ، فالعنب موضوع للقضية الشرطية حدوثاً يقيناً ويشك في استمرار ذلك بقاءً فتستصحب تلك القضية الشرطية ويكون حالها حال الحرمة الفعلية المستصحبة في سائر الشبهات الحكمية من غير فرق بينِ أَن يكون جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية بمعنى استصحاب الحكم الجزئي بعد فعلية موضوعه في الخارج أو بمعنى استصحاب الحكم الكلي الّذي يفترضه المجتهد بافتراض موضوعه الكلي وإجراء الاستصحاب فيه ، وتمام فذلكة الموقف تتلخص في انَّ القضية الشرطية أو الحملية الطولية تصبح هي المجعولة والمترتبة شرعاً على الموضوع فيكون حالها حال الحرمة المترتبة على موضوعها عند الشك في بقائها من حيث تمامية أركان الاستصحاب فيها (١).

الاعتراض الثاني ـ انّا إذا سلمنا تواجد ركني الاستصحاب في القضية الشرطية فلا نسلم جريان الاستصحاب مع ذلك لأنه انما يثبت الحكم المشروط وهو لا يقبل التنجيز وامّا ما يقبل التنجيز فهو الحكم الفعلي فما لم يكن المجعول فعلياً لا يتنجز الحكم وإثبات فعلية المجعول عند وجود الشرط باستصحاب الحكم المشروط متعذر لأنَّ ترتب فعلية الجزاء عند فعلية الشرط في القضية الشرطية المستصحبة عقلي وليس شرعياً.

والجواب على هذا الاعتراض.

أولاً ـ انَّ دليل الاستصحاب إذا بنينا على تكلفله لجعل الحكم المماثل كان مفاده في المقام ثبوت حكم مشروط ظاهري ، وتحول هذا الحكم الظاهري إلى فعلي عند وجود شرطه لازم عقلي لنفس التعبد الظاهري المذكور لا للمستصحب ، وقد مرّ بنا سابقاً انَّ اللوازم العقلية لنفس الاستصحاب لا يكون من الأصل المثبت.

وثانياً ـ النقض بموارد استصحاب بقاء الجعل وعدم النسخ عند الشك فيه مع انَّ المستصحب فيه القضية الحقيقية الشرطية والتي لا تتحول إلى الحكم الفعلي عند وجود

__________________

(١) بعد أَن كان المنجز عقلاً وعرفاً هو المبرز بالخطاب والجعل لا نفس الخطاب والإنشاء وبعد وضوح انَّ تغيير كيفية التقييد بكل من الخصوصيّتين والقيدين لا يغير روح الحكم والإرادة المبرزة بالخطاب من حيث كونها إرادة منوطة بتحقق القيدين معاً ـ كما أفاد المحقق النائيني ( قده ) فلا يمكن تطبيق دليل الاستصحاب على القضية التعليقية في المقام لأنَّ دليل الاستصحاب لم يرد فيه ما يدل على النّظر إلى الصياغات الإنشائية للحكم وانَّما يدل على النهي عن النقض العملي لكل يقين تترتب عليه المنجزية والمعذرية والمفروض انَّ المنجزية والمعذرية انما تكون بلحاظ روح الحكم والإرادة التشريعية التي هي واحدة في الحالتين.

٢٨٩

شرطها إلاّ بناءً على الأصل المثبت.

وثالثاً ـ الحل ـ بأنَّ هذا الاعتراض نشأ من تصورات مدرسة المحقق النائيني ( قده ) من انَّ فعلية المجعول أمر يتحقق وراء مرحلة الجعل وانَّ المنجز عقلاً انَّما هو إحراز المجعول الفعلي مع انه قد تقدم انه لا واقع حقيقي وراء الجعل وانَّ مرحلة فعلية المجعول مرحلة وهمية تصورية تنشأ من ملاحظة الجعل بمنظار الحمل الأولي ، وانَّ التنجيز يكفي فيه إيصال الحكم المشروط مع إحراز الشرط لأنَّ وصول الكبرى والصغرى معاً كاف لحكم العقل بوجوب الامتثال فكلما كان أحدهما محرزاً صحّ إحراز الآخر بالتعبد لترتب التنجيز عليه بحسب الفرض (١).

المقام الثاني ـ انَّ استصحاب الحكم المعلق معارض باستصحاب الحكم المنجز ففي مثال العنب كما يعلم بالحرمة المعلقة على الغليان سابقاً كذلك يعلم بالحلية الفعلية المنجزة قبل الغليان فتستصحب ويتعارض الاستصحابان.

وقد وجد عند الاعلام اتجاهان للجواب على هذا الاعتراض :

الاتجاه الأول ـ ما ذكره صاحب الكفاية ( قده ) ووافقه عليه السيد الأستاذ من انه لا معارضة بين الاستصحابين إذ كما انَّ الحرمة كانت معلقة فتستصحب بما هي معلقة كذلك الحلية في العنب كانت مغياة بالغليان ومعلقة على عدمه فتستصحب بما هي مغياة ولا تنافي بين حلية مغياة وحرمة معلقة على الغاية إذ لا يلزم اجتماعهما في آن واحد ليقع بينهما المنافاة.

ونلاحظ على ذلك : انَّ الحلية التي نريد استصحابها هي ذات الحلية الثابتة بعد الجفاف وقبل الغليان ولا علم بأنها مغياة لاحتمال عدم الحرمة بالغليان بعد الجفاف ، وإن شئت قلت المستصحب هو الحلية التنجيزية لا المغياة.

__________________

(١) هذا الكلام انَّما يتم في إحراز الكبرى بمعنى الإرادة التشريعية التي هي روح الحكم المبرز بالخطاب وواضح انه في المقام لا توجد إرادة تشريعية أخرى بإزاء القضية الشرطية الاعتبارية وانما هناك إرادة واحدة منوطة بمجموع القيدين ، وامَّا القضية الشرطية فمحض صياغة في مرحلة الإثبات فإحرازها ليس إحرازاً للكبرى المنجزة عقلاً.

وبهذا ظهر الفرق بين استصحاب عدم النسخ وبقاء الجعل بمعنى الإرادة التشريعية وبين المقام فلا يتوجه النقض المذكور ، كما انه ظهر وجه اندفاع الجواب الأول فانَّ ثبوت قضية شرطية ظاهراً وان كان يستلزم فعلية جزائها عند تحقق الشرط إلاّ انَّ جعل الحكم المماثل في مورد فرع كون المشكوك منجزاً وقد عرفت انَّ القضية الشرطية في المقام ليست صالحة للتنجيز وان كانت اعتبارية وجعلية لعدم رجوعها إلى إرادة أخرى وراء الإرادة التشريعية المنوطة بمجموع القيدين.

٢٩٠

فان قيل : انَّ الحلية الثابتة قبل الجفاف نعلم بأنها كانت مغياة ونشك في تبدلها إلى الحلية غير المغياة بالجفاف فنستصحب تلك الحلية المغياة المعلومة قبل الجفاف.

كان الجواب : انَّ استصحابها لا يعين حال الحلية التنجيزية المعلومة بعد الجفاف ولا يثبت انها مغياة إلاّ بالملازمة للعلم بعدم إمكان وجود حليتين وما دامت الحلية المعلومة بعد الجفاف لا مثبت لكونها مغياة فبالإمكان استصحاب ذاتها إلى ما بعد الغليان.

الاتجاه الثاني ـ ما ذكره الشيخ الأنصاري ( قده ) وأوضحه المحقق النائيني ( قده ) بأنَّ الاستصحاب التعليقي حاكم على الاستصحاب التنجيزي لأنه يلغي الشك في الحكم التنجيزي فيكون حاكماً عليه ، وهذا الكلام لإجماله أصبح مورداً للنقد من قبل الاعلام فانه بعد أَن لم تكن نسبة الحكم التنجيزي إلى التعليقي نسبة الحكم إلى موضوعه والمسبب الشرعي إلى سببه فلما ذا يفترض حكومة الاستصحاب التعليقي على الاستصحاب التنجيزي.

ويمكن أَن يقال في توجيه مدعى المحقق النائيني ( قده ) : انَّ استصحاب القضية الشرطية للحكم امّا أَن يفترض انه يثبت فعلية الحكم عند تحقق الشرط واما أَن لا يثبت ذلك ، فان لم يثبت لم يجر في نفسه إذ أي أثر لإثبات حكم مشروط لا ينتهي إلى الفعلية ، وان أثبت ذلك تم الملاك لتقديم استصحاب الحكم المعلق على استصحاب الحكم المنجز وحكومته عليه وفقاً للقاعدة المشار إليها من انه كلما كان أحد الأصلين يعالج مورد الأصل الآخر دون العكس قدم الأصل الأول على الثاني فانَّ مورد الاستصحاب التنجيزي مرحلة الحكم الفعلي ومورد الاستصحاب التعليقي مرحلة الثبوت التقديري للحكم والمفروض انَّ استصحاب الحكم التعليقي يثبت الحرمة الفعلية وهو معنى نفي الحلية الفعلية ، وامّا استصحاب الحلية الفعلية فلا ينفي الحرمة التعليقية ولا يتعرض إلى الثبوت التقديري له.

ولكن هذا التوجيه لا يتم بناءً على ما هو الصحيح في تخريج الاستصحاب التعليقي ، حيث تقدم انَّ جريانه ليس بملاك إثبات الحكم الفعلي بالقضية المشروطة بل من أجل كفاية وصول الكبرى والصغرى في حكم العقل بوجوب الامتثال ، فانَّ استصحاب الحكم المعلق على هذا الأساس لا يعالج مورد الاستصحاب الآخر ليكون حاكماً عليه.

٢٩١

نعم لو قلنا بمسلك الجعل الحكم المماثل وهو القضية التعليقية ظاهراً في المقام كانت الحرمة الفعلية لازمة لنفس التعبد الاستصحابي فتكون من لوازم الأمارة فتتقدم على استصحاب الحلية ، إلاّ انَّ هذا المسلك أيضاً لم يكن هو المختار عندنا ، فهذا الاتجاه أيضاً لم يتم في دفع اعتراض المعارضة.

والتحقيقي في الإجابة على هذا الاعتراض أَن يقال : بأنَّ استصحاب الحكم التعليقي إذا جرى فلا يجري استصحاب الحلية التنجيزية عندئذ لا من جهة الحكومة أو عدم المنافاة بل لعدم تمامية أركان الاستصحاب بحسب هذا النّظر العرفي فيه حينئذ وذلك بنكتة تقدمت الإشارة إليها في بحث سابق. وتوضيح ذلك : انه متى ما كانت عندنا حالتان سابقتان لشيء واحد فان كانت إحداهما فقط تجمع أركان الاستصحاب فالاستصحاب يجري فيها دون الأخرى ، وان كانت كل منهما في حد ذاتها مستجمعة لأركانه فتارة تكون الحالتان في عرض واحد كما في موارد توارد الحالتين فالاستصحابان يتعارضان ، وإن كانتا طوليتين ونقصد بذلك انَّ إحداهما تكون حاكمة على الأخرى وناسخة له فهنا تكون الحالة الناسخة هي التي يجري فيها الاستصحاب لا الحالة المنسوخة ، وان شئتم قلتم : تكون الحالة السابقة مركبة بحسب الحقيقة وتكون للحلية السابقة حالة سابقة هي زوالها بالغليان فالحالة السابقة تكون هي الحرمة بالغليان لا الحلية ، نظير الأستاذ الّذي يدرس كل يوم في الساعة المحدودة فانه لو شك في انقطاعه عن الدرس كان المستصحب استمراره في التدريس ولم يكن ذلك معارضاً باستصحاب عدم التدريس الثابت بنحو القضية الفعلية يقيناً قبل ساعة الدرس لأنَّ دليل الاستصحاب لا بدَّ وان يصرف إلى الفهم العرفي والارتكازي لمفاد نقض اليقين بالشك والفهم الارتكازي يقتضي ما أشرنا إليه.

ويؤيد ذلك ما ارتكز لدى أكثر المحققين من جريان الاستصحاب التعليقي وارتكز لديهم كافة عدا المحقق العراقي عدم وجود معارض له على تقدير القول بجريانه وان اختلفوا في كيفية تخريجه وانه هل هو من جهة الحكومة أو عدم المنافاة ، فهم قد أصابوا في ارتكازهم عدم المعارضة وان أخطئوا في المحاولة الفنية لتخريج هذا الارتكاز.

وفي ختام البحث عن الاستصحاب التعليقي تجدر الإشارة إلى عدة أمور :

٢٩٢

الأول ـ ظهر ممّا ذكرنا انَّ الاستصحاب التعليقي على القول به انما يتم في الأحكام لا الموضوعات كما إذا شك في انَّ صومه الآن هل يكون في النهار أم لا وقيل بعدم جريان الاستصحاب في الزمان فأريد استبدال ذلك باستصحاب تعليقي مفاده انه لو كان قد صام قبل الآن كان صومه في النهار فالآن كذلك.

وعدم جريان الاستصحاب فيه واضح لأنَّ القضية التعليقية هنا تكوينية شرطاً وجزاء فلا منشأ لتوهم ترتب شرعي لكي يستصحب ، فلو أُريد استصحاب نفس. السببية بينهما فلا أثر عملي يترتب عليه ، وان أريد إثبات الجزء باستصحاب القضية التعليقية فهو من أوضح أنحاء الأصل المثبت ، ولا يرد هنا شيء من التخريجات المتقدمة للاستصحاب التعليقي من دعوى فعلية المجعول بنفس الجعل أو انَّ المجعول نفس القضية التعليقية وإحرازها كاف في التنجيز ، فانَّ ذلك كله مخصوص بما إذا كانت القضية التعليقية شرعية لا تكوينية كما لا يخفى. نعم لو تمّ ما تقدم في بعض الوجوه السابقة من تصور وجود علم بالجزاء منوط ومشروط بتحقق الشرط جرى هنا أيضاً ولكنه كان بمكان من الضعف (١).

الثاني ـ انَّ المثال المدرسي المعروف للاستصحاب التعليقي وهو العصير الزبيبي عليه ملاحظة فقهية حاصلها : انَّ الوارد في لسان الدليل حرمة العصير العنبي المغلي لا حرمة العنب المغلي ليتوهم ان الزبيب عنب أيضاً غاية الأمر انه قد جف والجفاف لا يضر بوحدة الموضوع عرفاً ، ومن الواضح ان العصير العنبي يعني الماء المتخذ من العنب بينما العصير الزبيبي ليس ماءً للزبيب وانما هو ماء خارجي يضاف إلى الزبيب فيغلي والتعدد بينه وبين العصير المتخذ من العنب واضح عقلاً وعرفاً فلا مجال للاستصحاب

__________________

(١) كما ويظهر من التأمل فيما سبق عدم جريان الاستصحاب التعليقي في الشبهة الموضوعية ، أعني الحكم الجزئي كما إذا شك في جفاف العنب وعدمه فلا يمكن استصحاب الحكم المعلق الجزئي بأَن يقال هذا العنب كان إذا غلى يحرم فالآن كذلك رغم انَّ القضية التعليقية مجعولة شرعاً. والوجه في ذلك انَّ الوجه المقبول لجريان الاستصحاب التعليقي كان أساسه كفاية إحراز نفس القضية الشرطية مع إحراز موضوعها للتنجيز ومن الواضح انَّ هذا انما يعقل في الشبهة الحكمية التي يشك فيها في نفس القضية الشرطية فيراد إحرازها بالاستصحاب ، وامَّا في المقام فلا شك في القضية الشرطية وانما الشك في صغراها ، واستصحاب المجعول الجزئي بمعنى القضية الشرطية الجزئية لا أثر له في التنجيز بناءً على هذا المسلك لأنَّ التنجيز لا يدور مدار المجعول الفعلي الوهمي فلا يجري استصحاب الحكم التعليقي في الشبهة الموضوعية أيضاً ، وسوف يأتي في بعض البحوث القادمة إشارة من السيد الأستاذ قدس‌سره يمكن أَن يستفاد منها هذا المعنى فانتظر.

٢٩٣

التعليقي فيه ولو سلمت كبراه.

الثالث ـ ذكر المحقق النائيني ( قده ) انَّ العقود التعليقية كالوصية المعلقة على موت الموصي والجعالة المعلقة على العمل المجعول عليه الجعل لو شك في لزومها وعدمه أمكن استصحاب اللزوم فيها من دون أَن يكون تعليقياً لأنَّ المستصحب عند الشك في الانفساخ نفس القرار المعاملي والمنشأ بالعقد لا النتيجة المترتبة خارجاً ليقال بأنه لم يمكن ثابتاً بالفعل بل كان معلقاً على تحقق شرط غير حاصل فيكون الاستصحاب تعليقياً.

وقد جاء في كلمات السيد الأستاذ انا نستصحب الحق الثابت قبل حصول المعلق عليه بأن يتملك الجعل مثلاً بالعمل فيترتب عليه النتيجة.

والتخريج الأول مبني على أَن يختار في باب اللزوم مبنى للمحقق النائيني من انَّ الالتزام العقدي له حدوث وبقاء وانَّ العاقد لا ينشئ مجرد التمليك بل ينشئ أيضاً التزاماً متبادلاً بين الطرفين بمقتضى الملكية يكون له دوام في نظر العرف والعقلاء ويكون منه اللزوم ويكون رد هذا الالتزام هو الخيار ، فانه بناءً على هذه التصورات يكون هناك منشأ اعتباري معاملي يمكن استصحابه ويكون حاله حال القضية التعليقية الشرعية ، وامّا إذا أنكرنا ذلك وقلنا بأنَّ الفسخ أخذ عدمه قيداً في الملكية المجعولة بالعقد لا انه رفع لذلك القرار الوضعي المعاملي فلا مجال للاستصحاب المذكور.

والتخريج الثاني مبني على افتراض استفادة إنشاء حق أَن يملك الجعل بالعمل مثلاً من الجعالة زائداً على إنشاء التمليك المشروط بأداء العمل ، وهو محل منع وانما هذا الحق امر منتزع من نفس القضية التعليقية المنشأة من قبل الجاعل.

٦ ـ استصحاب عدم النسخ :

والبحث تارة عن أصل جريان استصحاب عدم النسخ ، وأخرى عن استصحاب عدم النسخ حكم الشريعة السابقة ، فالبحث في مقامين :

المقام الأول ـ في جريان استصحاب عدم النسخ ، ولا إشكال في انَّ النسخ بمعناه الحقيقي مستحيل بالنسبة إلى مبادئ الحكم من الإرادة والكراهة لاستلزامه البداء المستحيل على الله سبحانه وتعالى ولكنه معقول بالنسبة إلى الحكم في عالم الجعل والاعتبار بأَن يعتبر الوجوب أو الحرمة ويكون لنفس هذا الاعتبار بقاء

٢٩٤

واستمرار ما لم يقرر خلافه ويلغى ، كما انه يمكن أَن يكون الجعل مقيداً بالزمان الأول أو مقيداً بعدم جعل الحكم المضاد ـ ولو بمعنى إنشائه أو إبرازه لئلا يلزم أخذ عدم أحد الضدين في موضوع الآخر ـ وعليه فالشك في النسخ يتصور بأحد أنحاء.

١ ـ أَن يشك في بقاء نفس الجعل وعدمه بمعنى احتمال إلغاء المولى له ، وهذا يكون قسماً مستقلاً من الشبهة غير الشبهة الحكمية ، لأنَّ الشك هنا في نفس بقاء الجعل حقيقة لا في سعة المجعول وحدوده.

٢ ـ أَن يشك في سعة المجعول وشموله من الناحية الزمانية بمعنى احتمال انَّ الجعل تعلق بالحكم المقيد بزمان قد انتهى أمده وبهذا يكون من الشبهة الحكمية في دائرة المجعول.

٣ ـ أَن يعلم بتقيد الجعل بعدم جعل الحكم المضاد أو انه مغيا به ويشك في تحقق الغاية فيكون من الشك في موضوع الحكم المجعول كسائر الشبهات الموضوعية وان كانت هذه الشبهة الموضوعية في حكم الشبهة الحكمية لأنَّ القيد المأخوذ في الحكم راجع إلى المولى وليست نسبة العبد والمولى إليه على حد واحد ، نعم جريان الاستصحاب في هذه الحالة أوضح وأسلم عن المناقشات لتمامية أركانه في القيد المشكوك حصوله فيجري استصحاب عدم تحقق القيد أو الغاية ويترتب عليه بقاء المجعول ترتب الحكم على موضوعه. وهكذا يتضح أن الشك في النسخ يرجع روحاً ولباً إلى أحد نحوين امّا الشك في بقاء نفس الجعل وإلغائه ، أو الشك في دائرة المجعول وسعته أو ضيقه.

وعلى هذا الأساس نقول : إذا كان الشك في النسخ بالنحو الثاني أي الشك في سعة المجعول جرى استصحاب بقاء المجعول الكلي على حد الاستصحاب في سائر الشبهات الحكمية ، وإذا كان الشك في النسخ بالنحو الأول أي الشك في بقاء نفس الجعل جرى استصحاب بقاء الجعل كأمر اعتباري ، ويوجد بإزاء كل من الاستصحابين مناقشات مختصة أو مشتركة بينهما.

اما الاستصحاب بصيغته الأولى فيمكن أَن يورد عليه :

أولا ـ معارضته مع استصحاب عدم الجعل الزائد للفترة الزمنية المحتمل فيها النسخ ، وهذا نفس إشكال المعارضة الّذي تقدم في استصحاب الحكم الكلي وقد

٢٩٥

عالجناه في محله من البحوث المتقدمة.

وثانياً ـ ما أثاره الشيخ ( قده ) في المقام من انَّ المتيقن ثبوت الحكم على المكلفين في الزمان الأول والمشكوك ثبوته على افراد آخرين وهم المكلفون الذين يعيشون في الزمان الثاني فمعروض الحكم متعدد إلاّ بالنسبة إلى شخص عاش كلا الزمانين بشخصه.

وهذا الإشكال يمكن علاجه تارة بأنَّ الحكم المشكوك في نسخة ليس مجعولاً على نهج القضية الخارجية التي تنصب على الافراد المحققة خارجا مباشرة ليحتمل تعدد الموضوع بل على نحو القضية الحقيقية التي تنصب فيها الحكم على الموضوع الكلي المقدر الوجود ، وفي هذه المرحلة لا فارق بين القضية المتيقنة والقضية المشكوكة موضوعا الا من ناحية الزمان وتأخر الموضوع للقضية المشكوكة زماناً عن الموضوع للقضية المتيقنة وهذا يكفي لانتزاع عنواني الحدوث والبقاء عرفا على نحو يعتبر الشك المفروض شكاً في بقاء ما كان فيجري الاستصحاب من دون فرق بين كون القضية المجعولة بنحو الإطلاق أو العموم بأَن لوحظ كل فرد فرد موضوعاً للحكم لأنَّ المفروض عدم خصوصية لكل فرد في قبال الافراد الأخرى في القضية الحقيقية.

وأخرى يعالج هذا الإشكال بالتعويض عن الاستصحاب المذكور التنجيزي باستصحاب تعليقي بأن يشار إلى الفرد المكلف المتأخر زماناً ويقال انَّ هذا كان حكمه كذا على تقدير وجوده ولا يزال كما كان ، وبذلك يتم التخلص عن مشكلة تعدد معروض الحكم ، إلاّ انَّ هذا الاستصحاب يتوقف على تمامية امرين :

١ ـ أَن تكون القضية المجعولة حقيقية لا خارجية وإلاّ لم يكن يحرز أَنّ هذا الفرد لو كان موجوداً قبل زمان النسخ كان حكمه نفس ذلك الحكم لأنَّ موضوعه الافراد الموجودين آنذاك بخصوصياتهم الخارجية لا الحقيقية.

٢ ـ أَن يستظهر من دليل جعل الحكم انَّ المجعول قضية شرطية تعليقية مفادها إن وجد مكلف في ذلك الزمان كان حكمه كذا ليمكن ان نستصحب القضية التعليقية ، واما إذا كان المجعول قضية حملية تنجيزية ينتزع منها عقلا قضية تعليقية لم يجر الاستصحاب فيه.

وثالثاً ـ انَّ استصحاب بقاء الحكم سواء بصيغته التنجيزية أو التعليقية معارض

٢٩٦

باستصحاب العدم المنجز الثابت لآحاد المكلفين الذين يعيشون في الزمان المحتمل وقوع النسخ فيه ، وهذا الاستصحاب يشبه الاعتراض على الاستصحاب التعليقي عموماً بمعارضته بالاستصحاب التنجيزي ، ويكون الجواب المتقدم هناك جواباً عليه في المقام أيضاً.

وهكذا يتضح جريان استصحاب عدم النسخ بصيغته الأولى الثابتة في تمام الشبهات الحكمية.

وامّا استصحاب عدم النسخ بصيغته الثانية أعني استصحاب بقاء نفس الجعل والقرار الشرعي ـ بناءً على استظهار ذلك من أدلة الأحكام المقررة شرعاً ـ فيمتاز الاستصحاب بهذه الصياغة على الصيغة السابقة انه في مورده لا يمكن التمسك بالأصل اللفظي أعني التمسك بإطلاق الدليل اللفظي لنفي النسخ بهذا المعنى ، لأنَّ هذا المعنى للنسخ لا يرجع إلى تقييد مفاد الدليل حتى يمكن نفيه بالإطلاق بل مفاد الدليل هو الجعل المطلق والمستمر وانما هو رفع لعالم الثبوت والمدلول لا تكذيب للدلالة بخلاف مورد الاستصحاب بالصيغة السابقة فانه كان يرجع إلى احتمال التقييد في مفاد الدليل.

كما انَّ هذا الاستصحاب لا يرد عليه المناقشتان الأولى والثانية من المناقشات الثلاثة المتقدمة ، إذ ليس المستصحب هو المجعول ليقال باستصحاب عدم جعل المقدار الزائد أو يقال بأن موضوع المجعول بقاء غيره حدوثاً ، وانما المستصحب نفس القرار والجعل الشرعي كأمر شخصي متيقن الحدوث ومشكوك البقاء فيستصحب.

ولكن يرد على هذا الاستصحاب.

أولا ـ المناقشة الثالثة المتقدمة على الصيغة الأولى وهي المعارضة مع استصحاب العدم المنجز الثابت لآحاد المكلفين الذين يعيشون زمن النسخ المحتمل فنحتاج هنا أيضاً إلى العلاج المتقدم لهذا الإشكال.

وثانياً ـ انَّ ترتب المجعول على الجعل بهذا المعنى ليس شرعياً بل عقلي فإثباته باستصحاب الجعل غير ممكن.

والجواب : انّا بعد أَن فرضنا وجود اعتبار عقلائي وصياغة عرفية للحكم بهذا النحو في مقام إيصال المولى لمراداته إلى المكلفين فلسنا بحاجة إلى إثبات شيء وراء نفس

٢٩٧

الجعل في مقام التنجيز لما تقدم من كفاية وصول الكبرى والصغرى في ترتب المنجزية والمعذرية (١).

وهكذا يظهر تمامية كلتا الصيغتين لاستصحاب عدم النسخ.

المقام الثاني ـ في استصحاب حكم الشريعة السابقة عند الشك في انتساخه بهذه الشريعة ، والبحث هنا بعد الفراغ عن تمامية أركان الاستصحاب في استصحاب عدم النسخ حيث يمكن أَن يستشكل في استصحاب عدم نسخ حكم الشرائع السابقة بأحد اعتراضين آخرين :

الاعتراض الأول ـ مانعية العلم الإجمالي بثبوت نسخ أحكام الشريعة السابقة. إجمالاً فتتعارض الاستصحابات وتتساقط.

وأُجيب عليه بانحلال العلم الإجمالي هذا بالعلم التفصيليّ بنسخ جملة من أحكامها بالاحكام المعلومة تفصيلاً من شريعتنا أو بالعلم الإجمالي الأصغر دائرة ـ كما هو الصحيح ـ.

والصحيح : انَّ هذا العلم الإجمالي حتى مع فرض عدم انحلاله لا أثر له في المقام ، لأنَّ تأثيره في إبطال استصحاب عدم النسخ منوط بأن تتم ثلاثة أمور :

١ ـ أَن يكون الحكم المراد استصحاب عدم نسخه ترخيصياً إذ لو كان إلزامياً فالاستصحاب منجز له والعلم الإجمالي بالترخيص لا يوجب سقوط الأصول الإلزامية في الأطراف كما حقق في محله.

__________________

(١) الاتصاف انَّ مجرد افتراض اعتبار العقلاء بقاء الحكم والجعل بهذا المعنى كما في التعهدات والقرارات العقلائية لا يكفي لجريان الاستصحاب لأنَّ ما هو موضوع لحكم العقل بالتنجيز ليس هو هذا الأمر الاعتباري الوضعي وانَّما المنجز واقع الحكم وروحه من الإرادة وما يضاهيها ودليل الاستصحاب لم يؤخذ في موضوعه الحكم أو الجعل الشرعي ليتمسك بإطلاقه وانما جاء بلسان النهي عن النقض العملي لليقين فلا بد من أن يكون اليقين متعلقا بما هو مصب التنجيز والوظيفة العملية كما تقدم في التعليق على الاستصحاب التعليقي فلا بد من إجراء الاستصحاب دائماً في الجعل بما هو كاشف عن روح الحكم ولو بالحمل الأولي فيرجع إلى الصيغة الأولى.

ولو فرضنا تنزيل دليل الاستصحاب على الحكم بهذا المعنى بحيث تكون المسامحة العرفية منقحة لظهور في دليل الاستصحاب في تطبيقه على الحكم بهذا المعنى وانه نحو إيصال لروح الحكم من خلال إيصال هذا الأمر الاعتباري ـ وان كان هذا بحاجة إلى ورود دليل الاستصحاب في الحكم بمعنى المجعول ـ مع ذلك قلنا بأنه وان كان استصحاب هذا الأمر الاعتباري جارياً ومنجزا للحكم بقاء لكنه يكون معارضاً مع استصحاب عدم الجعل الزائد بمعنى الإرادة التشريعية التي هي روح الحكم منظوراً إليه بالحمل الشائع لا الأولي ، فيكون إشكال المعارضة على تقدير تماميته وارداً على هذه الصيغة أيضاً.

٢٩٨

٢ ـ أَن يكون العلم الإجمالي بانتساخ جملة من الأحكام علماً إجمالياً بنسخ بعض الترخيصات بالخصوص وأما إذا علم إجمالاً بالنسخ في الدائرة الأوسع من الأحكام الترخيصية أو الإلزامية فلا أثر تنجيزي لمثل هذا العلم الإجمالي ليوجب تساقط الاستصحابات الترخيصية في أطرافه.

٣ ـ فعلية الشك والالتفات إلى أطراف العلم الإجمالي بنحو يترتب الأثر عليها ويجري الاستصحاب فيها جميعا فتتعارض الاستصحابات امّا إذا لم يكن يعلم من أحكام الشريعة السابقة إلاّ حكماً واحداً كالجعالة مثلاً المستفادة من قصة يوسف في القرآن الكريم من غير اطلاع على سائر أحكام شريعة يوسف فلا بأس بإجراء الاستصحاب فيه وان علم بنسخ أحكام تلك الشريعة إجمالاً.

الاعتراض الثاني ـ ما ذكره المحقق النائيني ( قده ) من أنّا تارة نفرض انَّ مجيء شريعة جديدة تعتبر بمثابة نسخ للشريعة السابقة بتمامها وانما تشرع الأحكام في تلك الشريعة والملة من جديد ، وأخرى يفرض انَّ الشريعة الجديدة ليست بمجردها نسخاً لتمام أحكام الشريعة السابقة وانما تنظر إليها لتمضي ما توافق عليه من أحكامها وتنسخ ما تنسخه منها ، فعلى الأول يكون من الواضح عدم جريان استصحاب عدم النسخ في شيء من أحكام الشريعة السابقة لعدم الشك في بقائها ، وعلى الثاني أيضاً لا فائدة في استصحاب عدم النسخ لأنَّ مجرد ثبوت حكم من أحكام الشريعة السابقة واستمراره لا يكون منجزاً علينا ما لم يحرز إمضائها من قبل الشريعة الجديدة وإثبات ذلك بالاستصحاب يكون تعويلاً على الأصل المثبت.

وأورد السيد الأستاذ على ذلك بأنَّ إمضاء الشارع لذلك الحكم في شريعتنا يثبت بنفس استصحابه لأنه حكم ظاهري من أحكام هذه الشريعة.

والظاهر ان مقصود المحقق النائيني ( قده ) اشتراط ثبوت الحكم والتكليف في كلّ ملّة بوصولها من قبل مولودية النبي المرسل لتلك الشريعة ومن الواضح ان مولوية موسى عليه‌السلام أو عيسى عليه‌السلام غير ثابتة في حقّنا حتى إذا أثبتنا بالاستصحاب أن جعلهما كان مطلقاً اللهم إلاّ بالملازمة العقلية ومن باب انَّ ثبوت الإطلاق في جعلهما يعني فعلية الملاك لجعله حتى في هذه الشريعة فلا دافع لهذا الاعتراض إلاّ بإنكار أصله الموضوعي وانَّ الاستصحاب لا يجري في حكم موسى أو عيسى وانما يجري في حكم الله الثابت

٢٩٩

مولويته ذاتاً سواء ثبت حكمه من خلال المرسل بشريعة أم لا فتكون أركان الاستصحاب تامة فيه حينئذ (١).

٧ ـ الاستصحاب في متعلقات الأحكام :

ارتكز في الذهن الأصولي انَّ المستصحب لا بدَّ وأَن يكون حكماً شرعياً أو موضوعاً لحكم شرعي ليكون امر جعله ورفعه بيد الشارع فيرجع التعبد به إلى جعل ذلك الحكم والأثر الشرعي ، وانطلاقاً من ذلك نلاحظ انَّ الاعلام كثيراً ما يناقشون في التمسك بالاستصحاب في بعض الموارد بانثلام هذا الشرط وانَّ المستصحب ليس حكماً ولا موضوعاً لحكم شرعي ، ومن جملة الموارد التي لوحظ عليها ذلك إجراء الاستصحاب في متعلقات الأحكام كاستصحاب الطهور أو الاستقبال أو غير ذلك فانها ليست موضوعاً للحكم الشرعي ولا حكماً شرعياً بل فعل خارجي يصدر من المكلف يتحقق به الامتثال.

وقد ذكر المحقق الخراسانيّ هذا الإشكال ضمن بحوث الأصل المثبت المتقدمة إلاّ انَّ الأجدر جعله بحثاً مستقلاً ، لأنَّ منشأ الإشكال في استصحاب متعلقات الأحكام ما أشرنا إليه وليست المثبتية على وجه التحديد كما سوف يظهر.

ويمكن أَن يستخلص من مجموع ما قيل أو يمكن أَن يقال في حل هذا الإشكال أجوبة ثلاثة :

الجواب الأول ـ ما أفاده المحقق الخراسانيّ ( قده ) من انَّ متعلقات الأحكام أيضاً تكون موضوعاً للأثر الشرعي ولكنه أثر وضعي هو الشرطية والجزئية والمانعية لا تكليفي ، ولا يقدح في ذلك كون الشرطية أو المانعية منتزعة عقلاً وليست مجعولة ابتداء وأصالة من قبل الشارع فانه يكفي كونها منتزعة من الحكم الشرعي فيكون أمر وضعها ورفعها بيد الشارع من خلال وضع أو رفع منشأ انتزاعها.

وقد يلاحظ على هذا الكلام بأنَّ متعلق الحكم كالقبلة مثلاً ليس موضوعاً للحكم الوضعي كالشرطية أيضاً ، فانَّ شرطية القبلة في الصلاة ثابتة لطبيعي الصلاة

__________________

(١) بالإمكان إيراد اعتراض آخر على استصحاب عدم نسخ حكم شريعة سابقة هي احتمال كون الحكم مجعولاً فيها على نهج القضايا الخارجية المحدودة بتلك الفترة والأمة والشريعة لأنَّ تلك الشرائع كانت مرحلية ولم تكن كشريعتنا خاتمة ودائمة ومعه لا يحرز وحدة الموضوع للحكم المستصحب على ما تقدم في تقريب أصل جريان استصحاب عدم النسخ.

٣٠٠