بحوث في علم الأصول - ج ٦

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٦

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٨

الوجه الثاني ـ ما أفاده صاحب الكفاية ( قده ) من انا نمنع أخذ اليقين بالحالة السابقة في الاستصحاب ، وعبارته لا تخلو من تشويش حيث انَّ صدرها ظاهر في عدم ركنية اليقين في الاستصحاب وانما الركن نفس الحدوث وهو يثبت بالأمارة ، وذيلها ظاهر في انَّ الحدوث أيضاً غير لازم في الاستصحاب وانما اللازم أَن يكون الشك في البقاء على تقدير الحدوث ، ومن هنا يوجد لمرامه احتمالان :

الأول ـ انَّ الحدوث ليس شرطاً بعنوانه في جريان الاستصحاب بل فرض ذلك لتحقيق الشك في البقاء باعتبار انه لا يتحقق إلاّ بعد الفراغ عن الحدوث فيكون الحدوث شرطاً لتصوير الشك في البقاء لا للاستصحاب.

الثاني ـ انَّ التعبد الاستصحابي تعبد بالحصة البقائية لا الحدوثية أو كليهما أي تعبد بإلغاء احتمال الانتقاض والعدم بعد الوجود.

وأصل مدعاه من عدم أخذ اليقين في موضوع الاستصحاب وان المأخوذ ثبوت الحالة السابقة وإن كان صحيحاً ولكنه لا بالتقريب الّذي أشار إليه في الكفاية من مرآتية اليقين إلى المتيقن فانَّ هذا مضافاً إلى كونه خلطاً بين مفهوم اليقين وواقعه وكونه خلاف ظاهر مقام الإثبات ـ كما اعترف به بنفسه في مباحث الاجتهاد والتقليد ـ لا ينسجم مع تفسيره لروايات نقض اليقين وكون النقض مسنداً إليه باعتبار الاستحكام الثابت فيه ، وانما الصحيح في إثبات ذلك ما أشرنا إليه من ظهور بعض أدلة الاستصحاب كصحيحة ابن سنان وروايات أصالة الحل والطهارة التي استفاد منها صاحب الكفاية الاستصحاب أيضاً في كفاية ثبوت الشيء سابقاً في الحكم ببقائه (١).

وامّا ما أضافه في الذيل من عدم أخذ الحدوث أيضاً في الاستصحاب بل يكفي الشك في البقاء على تقدير الحدوث فغير تام بكلا احتماليه.

امّا الاحتمال الأول ، فلأنَّ المقصود من الشك في البقاء اما أَن يكون مجموع

__________________

(١) وبناءً على هذا يجري الاستصحاب على تمام المسالك في حقيقية جعل الأمارية والحجية ، فما جاء في تقريرات المحقق العراقي ( قده ) ص ١٠٨ ج ٤ من عدم جدوى هذا الوجه على مبنى صاحب الكفاية القائل بأنَّ المجعول في الأمارة هي الحجية من دون إثبات انَّ المؤدى هو الواقع ولا إثبات العلم بالواقع غير تام لوضوح انَّ الأمارة على جميع تلك المباني تثبت المنجزية والمعذرية لآثار المؤدى وإلاّ لم يكن معنى لحجيتها ودليل الاستصحاب بناءً على هذا الوجه يجعل من جملة آثار المؤدى وأحكامه التعبد الظاهري بالبقاء فيثبت التنجيز أو التعذير بلحاظ مرحلة البقاء على الأمارة ببركة دليل التعبد الاستصحابي ولا يقصد بجريان الاستصحاب إلاّ هذا المعنى كما هو واضح.

٢٢١

احتمالين فقط وهما احتمال الوجود بعد الوجود والعدم بعد الوجود ، أو يكون مطلق احتمال الوجود بعد الوجود سواء كان معه احتمال العدم بعد العدم الّذي يعني عدم الحدوث أم لا. فان أُريد الأول كان من الواضح انه متوقف على اليقين بالحدوثِ ولا يكفي ثبوت الحدوث واقعاً في انتفاء احتمال العدم بعد العدم ولا تكون الأمارة على الحدوث رافعةً لهذا الاحتمال حقيقة ليجري الاستصحاب. وإن أُريد الثاني كان الشك في البقاء متوقفاً على احتمال الحدوث لا اليقين به ولا ثبوته واقعاً وهذا معناه جريان الاستصحاب بمجرد ذلك ولو لم تقم أمارة على الحدوث ، وهذا ما لا يحتمل أحد استفادته من دليل الاستصحاب ولا يلتزم به المحقق الخراسانيّ ( قده ) ولا غيره.

واما الاحتمال الثاني ، والّذي لعله هو الأقرب إلى عبارة صاحب الكفاية ( قده ) من انَّ دليل الاستصحاب يعبدنا بالبقاء على تقدير الحدوث فكأنه ينفي لنا احتمال الانتقاض والعدم بعد الحدوث ، فهذا المطلب يمكن تحليله بعدة صيغ :

الصيغة الأولى ـ أَن يكون المجعول هو التعبد بالبقاء على تقدير الحدوث.

وهذه الصياغة من الواضح كون الحدوث موضوعاً فيها للتعبد الاستصحابي كأي حكم واقعي أو ظاهري يجعل على تقدير حيث يكون ذلك التقدير شرطاً وموضوعاً لذلك الحكم بنحو قيد الوجوب لا قيد الواجب وإلاّ لانحل التعبد المذكور إلى التعبد بالحدوث أيضاً وهو خلف.

الصيغة الثانية ـ أَن يجعل ابتداء الملازمة بين الحدوث والبقاء ، والملازمة كالعلية لا تكون متوقفة على وجود طرفها.

وهذه الصياغة إن أُريد بها جعل الملازمة حقيقة بين الحدوث والبقاء الظاهري فمن الواضح انَّ الملازمة الواقعية كالسببية والشرطية لا تكون مجعولة الا بتبع جعل منشئها وهو البقاء الظاهري على تقدير الحدوث فيكون الحدوث موضوعاً لهذا التعبد لا محالة.

وإن أُريد بها جعل الملازمة بين الحدوث والبقاء ابتداءً بحيث يكون المجعول الاعتباري نفس عنوان الملازمة بين الحدوث والبقاء فهذا الجعل وإن كان معقولاً على مستوى عالم الاعتبار والتعبد الّذي هو سهل المئونة إلاّ انه لا بدَّ وأَن يكون المقصود من ورائه تنجيز البقاء على تقدير الحدوث وإلاّ كان لغواً إذ لا يترتب على جعل ذلك شيء عند تحقق طرف الملازمة الاعتبارية حتى ظاهراً بل لا بدَّ من تحقق طرف الملازمة

٢٢٢

الواقعية مع الحكم الظاهري والمنجزية والّذي يعني تحقق موضوعها.

لا يقال : كما يترتب بجعل العلمية والطريقية التنجيز والتأمين عقلاً لأنهما مترتبان على الأعم من العلم الوجداني والعلم التعبدي فلتكن الملازمة أيضاً كذلك.

فانه يقال ـ مضافاً إلى بطلان أصل هذا المنهج الّذي سارت عليه مدرسة المحقق النائيني ( قده ) وقد أوضحناه مفصلاً في البحوث المتعلقة بجعل الطريقية والعلمية. انَّ هذا الكلام لو كان له صورة ففي باب جعل العلمية لا المقام ، فانه هناك ولو باعتبار المغالطة التي كشفنا عنها في ذلك البحث قد يتوهم انَّ حكم العقل بالمنجزية والمعذرية يترتب على الأعم من العلم الحقيقي والتعبدي ، واما هنا فحيث انَّ المطلوب فعلية اللازم على تقدير فعلية الملزوم وهذا حكم عقلي نظري لا عملي فمن الواضح انه من دون ثبوت ملازمة واقعية بين الحدوث والبقاء ولو التعبدي الظاهري لا يتحقق اللازم لكي يثبت التنجيز والتعذير فتأمل جيداً. وبهذا يظهر انَّ ما جاء في بعض التقريرات من انَّ الملازمة الاعتبارية قابلة للجعل لا يعني الاستغناء عن موضوعية الحدوث للتعبد بالبقاء فيرجع إلى الصياغة السابقة.

الصيغة الثالثة ـ انَّ دليل الاستصحاب يلغي لنا احتمال الانتقاض والعدم بعدم الوجود لا أكثر ، وهذا لا يتوقف على الحدوث فضلاً من اليقين به ، فكلما كان هناك احتمال الانتقاض نفيناه ، تعبداً بدليل الاستصحاب ، واما احتمال عدم الحدوث وما يستلزمه من العدم بعد العدم فهو منفي بالأمارة فيترتب أثر الوجود بعد الوجود لا محالة وهو المقصود بالتعبد الاستصحابي.

وهذه الصياغة مضافاً إلى كونها لا تنسجم مع تصورات المحقق الخراسانيّ ( قده ) وانما تناسب تصورات مدرسة المحقق النائيني ( قده ) في جعل الطريقية وإلغاء الاحتمال ، لا بدَّ وأَن ترجع إلى الصياغة الأولى سواءً على تصورات هذه المدرسة أم على ما هو الصحيح المختار لدينا في حقيقة الحكم الظاهري ، امَّا بناءً على تصورات المحقق النائيني ( قده ) فلأنَّ مجرد إلغاء احتمال من احتمالات العدم لا يكفي لترتب المنجزية والمعذرية عند هذه المدرسة بل لا بدَّ من اعتبار العلمية وهذا لا يكون الا بأخذ الحدوث موضوعاً فيه وإلاّ كان التعبد بالبقاء مستبطناً للتعبد بالحدوث ضمناً ولم نكن بحاجة إلى إثباته حتى بالأمارة وهو واضح البطلان ، وامّا بناء على المختار فلأنَّ هذه

٢٢٣

الاعتبارات كلها صياغات لا أكثر ، وروح التعبد الاستصحابي انما هو الاهتمام بحفظ الأغراض والملاكات الواقعية المتزاحمة في مرحلة الحفظ على طبق الحالة السابقة فيكون الحدوث لا محالة موضوعاً وشرطاً في هذا الاهتمام لأنه متفرع عليه.

وهكذا يتضح انه لا محيص من أخذ الحدوث على الأقل شرطاً وركناً في التعبد الاستصحابي فتكون الأمارة على الحدوث بنفسها منجزة لأثر هذا التعبد الظاهري لأنها تنقح موضوعه بحسب الحقيقة.

ثم انَّ السيد الأستاذ في مقام الإيراد على مقالة صاحب الكفاية ذكر مطلباً غريباً حاصله : انه إن قصد من التعبد بالملازمة الواقعية بين الحدوث والبقاء بان يكون مفاد دليل الاستصحاب الاخبار عن الملازمة بينهما فهذا مع كونه مخالفاً للواقع يجعل الاستصحاب أمارة لا أصلاً عملياً إذ يكون في طول هذه الملازمة الأمارة الدالة على الملزوم وهو الحدوث دالة على اللازم وهو البقاء فيثبت البقاء بالأمارة لا بالأصل وان قصد الملازمة الظاهرية بين الحدوث والبقاء فلازمه الملازمة الظاهرية بين حدوث التنجيز وبقائه ولا يمكن الالتزام به ، إذ في موارد العلم الإجمالي بالحرمة مثلاً يكون التكليف منجزاً ثم لو قامت بينة على حرمة بعض الأطراف بخصوصه ينحل العلم الإجمالي وبانحلاله يرتفع التنجيز فانه تابع للمنجز وبقدره فلا ملازمة بين حدوث التنجيز وبقائه ولا يلتزم بها صاحب الكفاية أيضاً (١).

__________________

(١) مصباح الأصول ج ٣ ص ٩٨ ، جاء في تقريرات الدراسات للسيد الوالد ( قده ) المخطوط مضافاً إلى ما ذكر ( كما انه يلزم منه حجية قاعدة اليقين أعني الشك الساري ، وتوهم كون المراد بالملازمة التعبد ببقاء ما ثبت واقعاً تيقن به المكلف أو لم يتيقن فاسد فانَّ لازمه مضافاً إلى مخالفته لظاهر الأدلة وعدم إمكان اسناده إلى المحقق المزبور جريان الاستصحاب بمجرد احتمال البقاء في فرض الثبوت واقعاً ولو لم يعلم به المكلف فإذا شك في نجاسة شيء وجرى فيه قاعدة الطهارة ثم بعد مدة علم بأنه كان نجساً سابقاً قبل زمان الشك في نجاسته انكشف به نجاسته من حين الشك للاستصحاب وهذا ما لا يمكن الالتزام به ).

أقول : امَّا بالنسبة إلى النقض بلزوم حجية قاعدة اليقين فقد عرفت جوابه بما في المتن ، وامَّا ما ذكره من الإشكال في أَن يكون الحدوث الواقعي موضوعاً للتعبد بالبقاء من لزوم جريان الاستصحاب بمجرد احتمال البقاء في فرض الثبوت واقعاً ولو لم يعلم به المكلف ، فجوابه : انَّنا تارة نبني على انَّ الأحكام الظاهرية متقومة بالوصول ـ كما هو مختاره ـ وأخرى نبني على ثبوتها واقعاً كالأحكام الواقعية ـ كما هو المختار ـ فعلى الأول لا يلزم ما ذكر فانَّ حدوث النجاسة وإن كان ثابتاً في المثال إلاّ انَّ عدم وصوله مساوق لارتفاع التعبد الاستصحابي بالنجاسة حين الشك فتكون الطهارة الظاهرية جارية حقيقية ، وعلى الثاني يلتزم بجريان الأصل المؤمن الطولي أي بلحاظ الشك في الواقع وعدم وصول التعبد الاستصحابي بالنجاسة بناءً على ما تقدم في محله من جريان الأصل الطولي في مرتبة الشك في الحكم الظاهري ولو لم نقل بذلك فيلتزم بعدم جريان الأصل المؤمن واقعاً في المثال وانَّما تخيل جريانه ولا محذور في الالتزام به.

٢٢٤

ويلاحظ عليه : أولا : بالإمكان اختيار الشق الثاني ، ودعوى انَّ التلازم بين تنجز الحدوث وتنجز البقاء لا حدوث التنجز وبقاء التنجز وهذا يعني انه في كل آن انما يتنجز البقاء إذا كان الحدوث متنجزاً وبعد انحلال العلم الإجمالي في المثال يرتفع تنجز الحدوث فلا تنجز للبقاء أيضاً.

وثانياً ـ انَّ أصل هذا الإيراد غريب من نوعه ، فانَّ المدعى ليس هو الملازمة بين الحدوث والبقاء الواقعيين ولا بين التنجيز حدوثاً وبقاء وانما المدعى التعبد بالملازمة بين الوجود الواقعي للحدوث والوجود الظاهري للبقاء فلا يكون ثبوت البقاء بالأمارة بل بالأصل وهو الحكم الظاهري بالبقاء فلا تكون لوازمه حجة كما انَّه لا بد من إحراز الحدوث الواقعي وتنجيزه في كل آن لترتب البقاء الظاهري وتنجيزه بلحاظ ذلك الآن وهذا واضح.

ونستخلص من مجموع ما تقدم انَّ أصل هذا الوجه لتصحيح جريان الاستصحاب في موارد ثبوت الحالة السابقة بالأمارة تام حيث استفدنا من بعض أدلة الاستصحاب على الأقل كفاية ثبوت الحالة السابقة واقعاً في التعبد الظاهري بالبقاء فتكون الأمارة على الحدوث منقحة لموضوع الاستصحاب (١).

الوجه الثالث ـ ويتألف من مقدمتين :

الأولى ـ قد تقدم في محله انَّ حقيقة الحكم الظاهري على اختلاف صياغاته امر واحد وهو إبراز درجة اهتمام الشارع بملاكاته الواقعية المتزاحمة في مرحلة الحفظ ، وهذا امر ثبوتي محفوظ في موارد الحكم الظاهري وموضوع للتنجيز أو التعذير عند وصوله للمكلف على حد الملاكات والأحكام الواقعية.

الثانية ـ انَّ موارد قيام الأمارة على الحالة السابقة وان كان يعلم فيها بارتفاع موضوع الحكم الظاهري بقاءً حيث انَّ الأمارة تدل على الحدوث فقط ولا دلالة لها على البقاء إلاّ انَّ روح الحكم الظاهري وحقيقته وهو اهتمام الشارع بالحكم المتيقن

__________________

(١) وينبغي أَن يعلم بأنَّ هناك فرقاً أساسياً بين هذا العلاج وسائر الوجوه لعلاج الإشكال من حيث انَّ هذا الوجه يثبت نتيجة جريان الاستصحاب بنفس الأمارة وحجيتها لا بدليل الاستصحاب أي انَّ حكومة الأمارة وتنقيحها لموضوع التعبد بالبقاء ـ الّذي هو الاستصحاب ـ ظاهري هنا بخلافه بناءً على الوجوه الأخرى فاننا في تلك الوجوه جميعاً كما سوف يظهر نتمسك بإطلاق دليل الاستصحاب حقيقة ونثبت به التعبد بالبقاء بعد إحراز موضوع التعبد الاستصحابي حقيقة ولو في طول استفادة توسعته وإرادة ما يعم اليقين الوجداني والتبعدي منه فانَّ هذه التوسعة سواء كانت بالورود أو بالحكومة تكون واقعية لا ظاهرية فتأمل جيداً.

٢٢٥

حدوثاً مما يحتمل بقاؤه بشخصه ، لأنَّ قيام الأمارة ونحوه ليس إلاّ سبباً لشدة الاهتمام وليس موضوعاً له.

ويترتب على تمامية هذين الأمرين إمكان إجراء الاستصحاب في الحكم الظاهري بمعنى روح الحكم الظاهري وحقيقته لتمامية أركان الاستصحاب فيه حينئذ من اليقين بحدوثه والشك في بقائه بشخصه.

وهذا الوجه تام لو لا وجود حاكم على استصحاب شدة الاهتمام أعني استصحاب الحكم الظاهري اللزومي وهو يتمثل في دليل البراءة الشرعية الدالة على عدم الاهتمام فانَّ استصحاب شدة الاهتمام بحسب الحقيقة ينافي مدلول دليل البراءة الدال على عدم الاهتمام وهو أمارة مقدمة على الاستصحاب ففرق بين استصحاب الحكم الواقعي عند الشك فيه فانه لا ينافي مدلول دليل البراءة لأنَّ البراءة ليست أمارة على الواقع فيكون الاستصحاب والبراءة من هذه الناحية في عرض واحد فيؤخذ بالاستصحاب لتقدم دليله على دليلها وبين المقام الّذي يكون استصحاب شدة الاهتمام منافياً مع دليل البراءة ونافياً لما يدل عليه بالإطلاق من عدم الاهتمام فيتقدم عليه دليل البراءة لكونه أمارة.

وإن شئت قلت : انَّ المقام يدخل في كبرى دوران الأمر بين الرجوع إلى استصحاب حكم المخصص أو العموم الأزماني للعام ، لأن دليل البراءة دل على عدم الاهتمام في تمام الشبهات حدوثاً وبقاءً ودليل صدق العادل اخرج منه حالة قيام الأمارة على الإلزام فإذا قامت الأمارة على حدوث الإلزام خصص عموم دليل البراءة الدال على عدم الاهتمام بلحاظ الحدوث ، وامّا بلحاظ البقاء فالمفروض عدم دلالة الخبر عليه فبانتهاء المدة التي دلّ عليها الخبر تنتهي دلالة المخصص للعام وانما يراد إثبات شدة الاهتمام ـ لا الواقع ـ بالاستصحاب فيكون معارضاً مع العموم الأزماني للعام الدال على عدم الاهتمام في كل شبهة وهو مقدم على استصحاب حكم المخصص (١).

__________________

(١) لا يقال دليل البراءة وهو العام وفي المقام مخصص بحسب الفرض بأَن لا يكون على خلافه استصحاب فكيف يمكن التمسك به.

فانه يقال : البراءة عن كل حكم مشكوك مقيد بعدم وجود استصحاب مثبت لذلك الحكم لا لحكم آخر فلو كان الاستصحاب مثبتاً للحكم الواقعي تقدم على البراءة ولم يكن يصح التمسك بدليلها للتخصيص المذكور ، وامَّا إذا كان

٢٢٦

الوجه الرابع ـ ما اختاره جملة من المحققين من البناء على قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي وحيث انَّ اليقين قد أخذ موضوعاً للاستصحاب فتقوم الأمارة على الحدوث مقامه فيجري الاستصحاب بهذا الاعتبار.

وتقريب قيام الأمارة هنا مقام القطع الموضوعي المأخوذ في دليل الاستصحاب يكون بأحد نحوين :

الأول ـ دعوى قيامها مقامه بالورود ، لأنَّ دليل الاستصحاب قد أخذ فيه اليقين بالحدوث بما هو حجة ومنجز موضوعاً للتعبد بالبقاء ، والأمارة حجة كذلك فيتحقق موضوع التعبد الاستصحابي وجداناً وحقيقة وهو معنى الورود.

وفيه : أولا ـ انَّ اليقين في لسان أدلة الاستصحاب ظاهر في إرادة ذات اليقين لا مطلق المنجز كما لا يوجد اصطلاح شرعي أو عرفي لليقين بمعنى مطلق المنجز.

ودعوى : انَّ مقتضى الارتكاز العرفي عدم الفرق بين اليقين وغيره من المنجزات في لزوم الجري على ما كان يجري عليه الشخص حدوثاً.

مدفوعة : بالمنع عن وجود ارتكاز من هذا القبيل بل يحتمل اختصاص ارتكاز الجري على الحالة السابقة ولو ببعض مراتبه باليقين الّذي فيه استحكام مخصوص وقد تقدم انَّ أصل مركوزية الاستصحاب ليست على أساس محض الطريقية والكاشفية بل

__________________

الاستصحاب مثبتاً للحكم الظاهري وشدة الاهتمام كما هو المفروض في المقام فهذا الاستصحاب كما ذكر في المتن معارض مع مدلول دليل البراءة لا نفس البراءة ، ودليل البراءة أمارة على البراءة وعدم الاهتمام ، ودليل الاستصحاب مقيد بأَن لا يكون على خلاف المستصحب أمارة فتأمل جيداً.

ثم انه يمكن ان يمنع عن أصل جريان استصحاب شدة الاهتمام الّذي يعني استصحاب الحكم الظاهري بأحد وجهين :

الأول ـ دعوى انَّ شدة الاهتمام الّذي هو روح الحكم الظاهري مهما كانت صياغته متقوم عرفاً بالأمارة أي شدة اهتمام بالكاشفية وقوة الاحتمال مثلاً وهذا مقطوع الارتفاع بحيث لو فرض بقاء الاهتمام كان بملاك آخر فهو حكم ظاهري آخر واهتمام مباين مع الاهتمام الثابت بلحاظ الحدوث عرفاً ، والميزان في تطبيق دليل الاستصحاب وصدق البقاء لا بد وان يكون بالنظر العرفي.

الثاني ـ انَّ الحكم الظاهري وإن فرض غير متقوم بدرجة الكشف والاحتمال أو المحتمل ولكن لا إشكال في تقومه بالحكم الواقعي المشتبه الّذي يراد التأمين عنه أو تنجيزه ، ومن الواضح انَّ الحدوث المشكوك غير البقاء المشكوك والأمارة أو الأصل انَّما يؤمنان أو ينجزان عن حدوث الحكم المحتمل بحسب الفرض وامَّا بقاؤه أو انتقاضه بعد حدوثه فهو موضوع آخر للحكم الظاهري.

وان شئت قلت : انَّ الحكم الظاهري الثابت يعني التأمين أو التنجيز للحكم المحتمل من ناحية حدوثه وهذا مقطوع البقاء فانه في مرحلة البقاء أيضاً يقطع بالتأمين أو التنجيز عن الحدوث وانَّما الشك في طرو حكم آخر بقاءً وهو موضوع آخر غير ما يؤمن أو ينجز عنه الحكم الظاهري الأول.

٢٢٧

لعلها من أجل أنس الذهن ونزوع النّفس إلى الحكم بالبقاء مما يكون لليقين بما هو منشأ لسكون النّفس دخل فيه.

وثانياً ـ لو أُريد باليقين في دليل الاستصحاب مطلق المنجز فاما أَن يحمل الشك المأخوذ فيه على ما يقابل اليقين أو ما يقابل المنجز أي عدم المنجز ، فعلى الأول يلزم مخالفة ظهور السياق في انَّ المراد بالشك ما يقابل المراد باليقين ، وعلى الثاني يلزم تقدم كل منجز على الاستصحاب.

وان شئت قلت : يلزم أَن يكون مفاد الاستصحاب انَّ الحجة لا يرفع اليد عنها إلاّ بالحجة وهذه قاعدة عقلية محكومة لكل قاعدة تجعل شرعاً ، فيكون مفاد أدلة الاستصحاب الإرشاد إلى هذا الحكم العقلي لا جعل قاعدة شرعية ، وهو واضح البطلان ولا يقول به أحد.

الثاني ـ دعوى قيامها مقامه بالحكومة من باب انَّ مفاد دليل الأمارة بشكل عام قيامها مقام القطع الموضوعي والطريقي معاً. وتحقيق حال كبرى هذا البيان وما تستبطنه من مبان وافتراضات ثبوتية وإثباتية تقدم الحديث عنها في مباحث القطع ، وقد أثبتنا هناك عدم تماميتها إلاّ اننا نزيد هنا بان تلك الكبرى ولو فرضنا تماميتها في ساير موارد القطع الموضوعي فلا تتم هنا لاحتمال أَن يكون اليقين المأخوذ موضوعاً في دليل الاستصحاب قد لو حظت فيه جنبته الصفتية أيضاً مضافاً إلى كاشفيته لما أشرنا إليه من انَّ مفهوم اليقين يختلف عن العلم في انه مستبطن لمرتبة الاستحكام والاستقرار والثبات الموجودة في العلم الوجداني ، ومن هنا صحّ اسناد النقض إلى اليقين دون العلم ، وهذه وإن كانت نكتة بلاغية في مرحلة الاستعمال لا ثبوتية إلاّ انها توجب على الأقل احتمال أخذ اليقين ثبوتاً في موضوع التعبد بالبقاء بما له من خصوصية صفتية ، وأصحاب مسلك جعل الطريقية يقبلون بأنَّ الأمارات لا تقوم مقام القطع الموضوعي الملحوظ بنحو الصفتية.

تلخيص وتعميق :

قد يتصور انَّ هذا الإشكال المثار في هذه المسألة جار في جميع الموارد والحالات التي تثبت فيها الحالة السابقة بالأمارة ويحتمل انتقاضها بقاء فيحتاج في حل

٢٢٨

الإشكال إلى اختيار أحد الأجوبة المتقدمة.

إلاّ انَّ التحقيق عدم مواجهة الإشكال في أكثر الفروض واختصاصه ببعضها.

توضيح ذلك : انَّ الأمارة تارة تثبت الموضوع كالأمارة الدالة على حياة زيد ، وأخرى تثبت الحكم ، فإذا كانت الأمارة دالة على موضوع حدوثا وشك في بقائه على تقدير حدوثه ـ كما إذا احتمل موت زيد في المثال بعد حياته ـ جرى الإشكال المتقدم واحتجنا إلى أحد الأجوبة المتقدمة.

واما إذا كانت الأمارة دالة على الحكم الكلي أو الجزئي حدوثاً وشك في انتقاضه بقاءً لطرو الناقض الشرعي فهنا صور أربع :

١ ـ ان تكون الأمارة دالة على الحدوث بنحو الشبهة الموضوعية والشك في البقاء بنحو الشبهة الموضوعية أيضاً كما إذا كان الثوب متنجساً بالبول فقامت البينة على تطهيره ثم شك في تنجسه بالدم.

وفي هذه الصورة لا نحتاج إلى استصحاب الطهارة الثابتة حدوثاً بالأمارة ليقال بعدم اليقين بها بل يمكن ابتداءً استصحاب عدم الملاقاة مع الدم لنفي النجاسة الحاصلة منه ، وهذا استصحاب موضوعي.

وان شئت قلت : انَّ الأمارة كما تدل على الطهارة حدوثاً تدل بالالتزام على بقاء الطهارة المجعولة على تقدير عدم الملاقاة مع الدم ، وهذا المدلول الالتزامي للأمارة حكم ظاهري أيضاً أخذ في موضوعه عدم الملاقاة مع الدم فيتنقح باستصحاب عدمها المقطوع سابقاً.

٢ ـ أَن تكون الأمارة دالة على الحدوث بنحو الشبهة الحكمية كما إذا قامت الأمارة على كفاية غسل الثوب النجس مرة واحدة في تطهيره فغسلناه مرة ثم شككنا في ملاقاته مع نجاسة أخرى.

والكلام في هذه الصورة نفس الكلام السابق ، والسر في ذلك انه في هاتين الصورتين يكون منشأ الشك هو احتمال طرو حكم مناقض مع الحكم الثابت بالأمارة حدوثاً بطرو موضوعه فينفي لا محالة باستصحاب عدمه الموضوعي.

٣ ـ أَن تكون الأمارة دالة على الحكم حدوثاً بنحو الشبهة الموضوعية ولكن شك في بقائها بنحو الشبهة الحكمية كما إذا كان الماء المتغير نجساً وقامت أمارة على تغير هذا

٢٢٩

الماء ثم زال عنه تغيره وشك في انَّ زوال التغير هل يوجب زوال النجاسة الحاصلة به أم لا وهذه شبهة حكمية.

وقد يتصور انَّ هذه الصورة يتم فيها الإشكال بحيث نحتاج إلى أحد الأجوبة المتقدمة ، ولكن الصحيح اننا في هذه الصورة أيضاً نستغني عن الأجوبة المتقدمة ، فانَّ الشك في المقام بنحو الشبهة الحكمية وهذا يعني ان المجتهد من أول الأمر يجري استصحاب بقاء النجاسة في الماء المتغير بعد زوال تغيره وهو استصحاب للمجعول الكلي في الشبهة الحكمية فلا ينتظر فيه تحقق الموضوع له خارجاً ـ على ما تقدم شرحه مفصلاً ـ وتكون الأمارة على حدوث التغير في هذا الماء دالة بالالتزام على بقاء النجاسة المثبتة بالاستصحاب كحكم ظاهري كلي بعد زوال التغير أيضاً بلا حاجة إلى استصحاب النجاسة الجزئية الظاهرية الثابتة حدوثاً بالأمارة.

٤ ـ أَن تكون أمارة دالة على حدوث الحكم بنحو الشبهة الحكمية وشك في بقائها بنحو الشبهة الحكمية أيضاً كما إذا قامت الأمارة على وجوب صلاة الجمعة في عصر الحضور وشك في بقاء الوجوب في عصر الغيبة ، وهنا يجري الإشكال ويحتاج في دفعه إلى الرجوع إلى أحد الأجوبة المتقدمة.

هذا تمام الكلام في ثبوت الحالة السابقة بالأمارة.

المقام الثاني ـ فيما إذا ثبتت الحالة السابقة بالأصل العملي واحتمل انتقاضه بعد ذلك فأريد إبقاؤه بالاستصحاب ، والإشكال في جريان الاستصحاب في المقام تارة يكون بلحاظ الركن الأول من أركان الاستصحاب أي عدم اليقين بالحدوث ، وأخرى بلحاظ الركن الثاني وهو عدم الشك في البقاء.

اما الإشكال من الناحية الأولى فالكلام فيه ما تقدم في المقام السابق غاية الأمر لا بد من ملاحظة انَّ الأجوبة والمعالجات المتقدمة فيما إذا كانت الحالة السابقة ثابتة بالأمارة لا يجري هنا إلاّ إذا كان الأصل المثبت للحالة السابقة تنزيلياً بأَن يثبت الواقع وآثاره الشرعية أو يقوم مقام القطع الموضوعي المأخوذ في دليل الاستصحاب ليمكن إجراء الاستصحاب بلحاظ الحكم الواقعي. نعم إجراء استصحاب الحكم الظاهري الثابت بالأصل أو استصحاب الجامع بين الواقع والظاهر لا يتوقف على ذلك.

٢٣٠

وامّا الإشكال من الناحية الثانية فتقريبه : انَّ الأصل الجاري بلحاظ الشك في مرحلة الحدوث بنفسه يجري في الشك بلحاظ مرحلة البقاء أيضاً فلا شك في البقاء.

وهذا الإشكال انما يتجه فيما إذا أُريد استصحاب الحكم الظاهري أو الجامع بينه وبين الحكم الواقعي لا ما إذا أُريد استصحاب الحكم الواقعي الثابت بالأصل التنزيلي في مرحلة الحدوث كما هو واضح (١).

وقد أجاب المحقق النائيني ( قده ) عن هذا الإشكال بوجهين ارتضى أحدهما دون الآخر.

الوجه الأول ـ انَّ الاستصحاب في المقام مقدم على الأصل الجاري بلحاظ مرحلة البقاء فيما إذا كان غير تنزيلي كأصالة الطهارة أو الحل.

وأجاب عنه : بأنَّ حكومة الاستصحاب على القاعدة فرع جريانه الّذي هو فرع تحقق موضوعه ، والمفروض انَّ القاعدة ترفع موضوعه وهو الشك في البقاء.

وهذا الجواب وان كان يمكن إرجاعه إلى نكتة صحيحة في نفسها وذلك ببيان انَ

__________________

(١) لا يقال ـ بناءً على جريان استصحاب الحكم الواقعي بملاك قيام الأصل التنزيلي مقام القطع الموضوعي المأخوذ في دليل الاستصحاب كما يكون جريان الأصل التنزيلي حدوثاً محققاً لفرد من اليقين الّذي هو موضوع الاستصحاب كذلك جريانه بقاء ينفي الشك في الواقع فينتفي موضوع الاستصحاب.

فانه يقال ـ المفروض عدم حكومة الأصول التنزيلية بعضها على بعض لأخذ الشك في لسان أدلتها جميعاً وهذا يعني انها تثبت أثر اليقين السابق في مورد الشك ولا تنفي الشك ومن آثار اليقين التعبدي الثابت بالأصل الأول بقاؤه بعد الشك الثاني كما انه لا منافاة بين جريان الأصل التنزيلي بقاء وجريان الاستصحاب في الحكم الواقعي بالملاك المتقدم لأنهما متوافقان فيجزيان معاً.

لا يقال ـ دليل الأصل التنزيلي الأول إذا كان نفس الاستصحاب الجاري ثانياً بلحاظ اليقين الوجداني كان جريانه بلحاظ اليقين التعبدي لغواً لأنَّ التعبد الاستصحابي الأول بنفسه ثابت ما لم يعلم بانتقاض اليقين الوجداني فلا معنى لجعله موضوعاً لاستصحاب ثان. وهذا البيان لا يفرق فيه بين ان نقول بأن موضوع الاستصحاب هو اليقين بالحدوث ولكن يقوم الأصل التنزيلي مقامه أو نقول بأن موضوع الاستصحاب نفس الحدوث فيترتب بكل ما يحرز الحدوث.

فانه يقال ـ لو أريد ان إطلاق دليل الاستصحاب بلحاظ الانتقاض الأول المحتمل بنفسه يثبت البقاء بلحاظ احتمال الانتقاض الثاني فهذا غير صحيح إذ التعبد بالبقاء بلحاظ كل انتقاض محتمل غيره بلحاظ الانتقاض الآخر فيكون هناك إطلاقان في دليل الاستصحاب بلحاظ مرحلة الانحلال والفعلية بحسب الحقيقة فلا مانع من ان يكون أحد الإطلاقين يقع بنفسه موضوعاً للإطلاق الآخر أيضاً ، وان أريد ان ثبوت التعبد الاستصحابي بلحاظ الانتقاض الثاني المحتمل بعد أن كان بإطلاق في دليل الاستصحاب الاجتهادي فلا معنى لإثباته بالاستصحاب الّذي هو أصل عملي ، فالجواب : انَّ قيام الأصل التنزيلي مقام القطع الموضوعي حكومة واقعية لا ظاهرية بحيث يكون جريان الاستصحاب في مورد اليقين التعبدي بالحدوث بإطلاق في دليل الاستصحاب الاجتهادي أيضاً. على أنه قد تقدم منَّا مراراً عدم المنافاة بين الأصل والأمارة المتوافقين في المؤدى.

فالحاصل : إطلاق دليل الاستصحاب بلحاظ احتمال الانتقاض الأول يحقق موضوعاً لإطلاق آخر في دليل الاستصحاب عند احتمال الانتقاض الثاني وان كان اليقين الوجداني بنفسه موضوعا أيضاً للتعبد بالبقاء بلحاظ الانتقاض الثاني المحتمل فلا لغوية في البين لعرضية الإطلاقين كما إذا ثبت الحدوث بأمارتين أو أصلين محرزين وقيل بقيامهما مقام القطع الموضوعي.

٢٣١

أحد الدليلين إذا كان حاكماً على الآخر أي رافعاً لموضوعه تعبداً وكان الآخر رافعاً لموضوع الأول وجداناً أي وارداً عليه تقدم الثاني على الأول لا محالة ، وقد أوضحنا ذلك مفصلاً في بحوث التعارض والنسبة بين الدليلين ، إلاّ انَّ تطبيق هذه النكتة في المقام غير صحيح ، فانه لو أُريد بالاستصحاب الحاكم على القاعدة استصحاب الحكم الواقعي وهو الطهارة الواقعية في المثال فهذا لا يرتفع بالقاعدة لا وجداناً ولا تعبداً لأنها لا تثبت الواقع ولو فرض انها تثبت الواقع بأن كان تنزيلياً فلا وجه لتقدمها على الاستصحاب لكونه أيضاً تنزيلياً.

وان أريد استصحاب الحكم الظاهري فهو ليس بحاكم على القاعدة بل نسبته إلى دليلها تشبه نسبة الأصل إلى الدليل الاجتهادي لأنه يثبت الطهارة الظاهرية في كل شبهة فلا شك في عدم انتقاض الطهارة الظاهرية ، فكأنه وقع خلط بين استصحاب الحكم الواقعي واستصحاب الحكم الظاهري فعند ما حكم بتقدم الاستصحاب وحكومته على القاعدة لاحظ الأول وعند ما حكم بانتفاء الشك بقاء لاحظ الثاني فتدبر.

الوجه الثاني ـ انَّ الحكم الظاهري الثابت حدوثاً بالأصل ليس ثابتاً في مرحلة البقاء دائماً بل قد يكون مختصاً بمرحلة الحدوث كما إذا أجرينا أصالة الصحّة في تطهير الثوب بالماء عند الشك في وقوعه طبق الشرائط فحكمنا بطهارته حدوثا ثم شك في نجاسته من ناحية احتمال إصابة النجاسة به بعد ذلك فانَّ أصالة الصحة لا تنفي هذه النجاسة المحتملة بقاءً فلا بد من الاستصحاب.

وأضاف على ذلك السيد الأستاذ ببيان الضابط لكون الحكم الظاهري الثابت حدوثا مقطوع البقاء ، وحاصله : انَّ الأصل إذا كان جارياً في نفس مورد الشك كان مقطوع البقاء ما دام الشك باقياً ولم يعلم بالخلاف كما إذا شك في طهارة ثوب حدوثاً فحكمنا بطهارته بالقاعدة أو الاستصحاب ثم شككنا في بقاء طهارته فانه تجري القاعدة أو الاستصحاب بقاء أيضاً كالحدوث. وان كان الأصل جارياً في سبب المشكوك وموضوعه لا في مورد الشك نفسه لم يكن مقطوع البقاء كما إذا شككنا في طهارة ماء فحكمنا بطهارته بالقاعدة أو الاستصحاب ثم غسلنا به الثوب النجس فانه لو لا ذلك لكان مقتضى استصحاب بقاء نجاسة الثوب الحكم بنجاسته ولكنه حيث

٢٣٢

انه مسبب عن طهارة الماء فيجري الأصل في الماء ويكون حاكماً على الاستصحاب في مورد الشك إلاّ انَّ هذا الأصل الجاري في سبب المشكوك لا يدل على ثبوت الطهارة في الثوب بقاءً عند احتمال ملاقاته للدم مثلاً (١).

امّا الضابط المذكور فيمكن المناقشة فيه : بأنَّ الأصل قد يكون جارياً في السبب ومع ذلك يكون مقطوع البقاء كما انه قد لا يكون جارياً في السبب ومع ذلك لا يكون مقطوع البقاء. مثال الأول نفس المثال المذكور من قبل السيد الأستاذ فانَّ أصالة الطهارة إذا كانت جارية في الماء المشكوك فهو جار في الثوب أيضاً لعدم احتمال الفرق فتكون الطهارة الظاهرية مقطوعة البقاء فيه أيضاً.

وان شئت قلت : ان أُريد هنا استصحاب الطهارة الظاهرية الثابتة في الثوب حدوثاً بما هي حصة خاصة من الطهارة الظاهرية فلا يترتب الأثر على تلك الحصة من الطهارة ، وان أُريد استصحاب مطلق الطهارة الظاهرية فهو ليس مشكوكاً بقاءً بل يقطع به لجريان القاعدة بقاء في نفس الثوب ، لأن الطهارة الظاهرية لا يحتمل اختصاصها بالماء أو بمرحلة الحدوث ، وهذا يعني انَّ الطهارة الظاهرية لو كانت ثابتة حدوثاً في الثوب فهي ثابتة بقاءً أيضاً. نعم انما يتم هذا فيما إذا كان دليل الحكم الظاهري الثابت في مرحلة الحدوث غير ما في مورد الشك في البقاء كما في مثال أصالة الصحة المتقدم.

ومثال الثاني ما لو شك في صحة الصلاة بلحاظ جزء قد تجاوز محله فحكم بالصحّة بقاعدة التجاوز ثم شك في جزء آخر لم يتجاوزه بعد فانه يمكنه استصحاب بقاء الصحة الثابتة سابقاً بالقاعدة بناءً على جريانه لعدم القطع ببقائها لعدم جريان القاعدة في المحل رغم انَّ الشك ليس مسبباً (٢).

وامّا أصل كلام المحقق النائيني ( قده ) من انه قد لا يكون الأصل جارياً في الشك

__________________

(١) راجع مصباح الأصول ، ج ٣ ، ص ١٠١

(٢) الّذي يظهر من مراجعة التقريرات انه لا يقصد إعطاء ضابطة بقدر ما يقصد انَّ الأصل الجاري في مرحلة الحدوث لو كان جارياً في نفسه بلحاظ الشك في البقاء فلا معنى لإجراء الاستصحاب لثبوت الحكم بالأصل الثابت في مرحلة الحدوث بقاءً أيضاً وإلاّ فيبقى مجال لاستصحاب الحكم الثابت حدوثا فقط ، وحينئذ كان المناسب الاعتراض عليه بأنه لا مانع من إثبات الحكم بقاءً بأمرين دليل الأصل الجاري حدوثاً ودليل الاستصحاب إذا كان الأصل الجاري بلحاظ الحدوث تنزيلياً.

٢٣٣

في مرحلة البقاء فهذا صحيح بمعنى انه إذا لم يكن الأصل جارياً إلاّ بلحاظ الحدوث فهو يثبت الحكم الظاهري حدوثاً فعند الشك في بقائه يمكن استصحاب الحكم الظاهري المتيقن ثبوتاً ، إلاّ انَّ هذا ينبغي أَن يشترط فيه عدم القطع بارتفاع ذلك الحكم الظاهري.

وتوضيح ذلك : على ضوء ما تقدم من الصور الأربع في المقام السابق انَّ الشك في البقاء قد يكون بنحو الشبهة الموضوعية ، وأخرى يكون بنحو الشبهة الحكمية ، وعلى كل منهما تارة يكون ثبوت الحكم الظاهري حدوثاً وبأصل جار في الشبهة الموضوعية ، وأخرى يكون بأصل جار في الشبهة الحكمية ، وهذه هي الصور الأربع المتقدمة ويتصور فيها جميعاً استصحاب الحكم الظاهري.

امّا الصورة الأولى والثانية فكما إذا ثبتت الطهارة في الثوب المغسول بالماء المشكوك تارة في نجاسته بنحو الشبهة الموضوعية كما لو شك في إصابة عين النجس له ، وأخرى بنحو الشبهة الحكمية كما لو شك في انفعاله بملاقاته مع المتنجس فجرى فيه أصالة الطهارة وحكمنا بطهارة الثوب المغسول به ثم شك في ملاقاته مع الدم فانه يمكن إجراء استصحاب الطهارة الظاهرية الثابتة في الثوب بعد غسله بذلك الماء لأنه من الشك في انَّ الطهارة الحاصلة فيه بعد الغسل هل لا تزال مستمرة إلى الآن أم انها انتقضت فيجري استصحابها.

واما الصورة الثالثة والرابعة فكما إذا شك في ناقضية المذي للوضوء الّذي أثبتنا صحته من ناحية طهارة الماء المتوضأ به مثلاً تارة بقاعدة الفراغ وهذه شبهة موضوعية ، وأخرى بأصالة الطهارة وعدم انفعاله بالملاقاة مع النجس وهذه شبهة حكمية فانه يمكن في الصورتين إجراء استصحاب الطهارة الظاهرية من الحدث الثابتة حدوثا ، لأنه بخروج المذي كما يمكن إجراء استصحاب الطهارة الواقعية بتقريب تقدم في الصورة الثالثة في المقام السابق كذلك يمكن إجرائه في الطهارة الظاهرية لأنه يشك لا محالة في إطلاقها واستمرارها وعدمه فيجري الاستصحاب بهذا الاعتبار (١).

__________________

(١) يوجد هنا كلامان :

الأول ـ ما تقدم في تعليق سابق من عدم جريان الاستصحاب في الحكم الظاهري الثابت في مرحلة الحدوث لتبدل

٢٣٤

وقد يفرض القطع بارتفاع الحكم الظاهري فلا يجري استصحابه كما إذا شك في كرية الماء بعد نقصان شيء منه بمقدار قليل يتسامح فيه العرف فيجري استصحاب الكرية على المشهور ، فلو فرض استمرار النقصان حتى يبلغ درجة لا يتسامح فيها العرف بل يرى انَّ هذا الماء غير ذلك الماء الّذي كان كرّاً يقيناً فهنا لا يجري استصحاب الكرية الواقعية ولكنه قد يقال بجريان استصحاب الكرية الظاهرية الثابتة قبل قليل ـ ولو بمعنى أحكام الكرية المترتبة ظاهراً لأنَّ المقدار الناقص بلحاظ زمان الكرية الاستصحابية ليس فاحشاً فلا يوجب تبدل الموضوع عرفاً إذا لاحظنا موضوع الكرية الاستصحابية وإن كان بلحاظ موضوع الكرية الواقعية قد تبدل الموضوع فيجري استصحاب الكرية الظاهرية.

ولكن الصحيح عدم جريانه للقطع بارتفاع الكرية الظاهرية التي كانت ثابتة قبل دقائق ، إذ المفروض عدم جريان استصحاب الكرية الواقعية فما كان ثابتا بعنوان الكرية الاستصحابية لا يحتمل بقاؤه فكيف يستصحب (١).

٣ ـ استصحاب الكلي :

ويقصد به التعبد ببقاء الجامع بين فردين من الحكم أو الجامع بين شيئين خارجيين إذا كان له أثر عملي.

وقد وقع النقاش في جريان الاستصحاب فيه تارة في أصل جريانه ، وأخرى في

__________________

القضيتين بل لا بدَّ من إجراء الاستصحاب : لحاظ الحكم الواقعي الثابت حدوثاً وهذا يتوقف على أَن يكون الأصل الجاري بلحاظ الحدوث تنزيلياً ليترتب عليه التعبد الاستصحابي اما باعتبار انَّ موضوعه واقع الحدوث وقد أحرزه الأصل التنزيلي أو باعتبار قيامه مقام القطع الموضوعي والأصل السببي بلحاظ حكمه المسبب عنه تنزيلي لأنه يثبته بحسب الفرض. ولو فرضنا جريان الاستصحاب في الحكم الظاهري فلا فرق بين ثبوته في مرحلة الحدوث بالأمارة أو بالأصل في الصور الأربع فلا وجه للتفصيل بين المقامين.

الثاني ـ انَّ موارد الشك في البقاء بنحو الشبهة الموضوعية يجري فيها دائماً استصحاب موضوعي بلحاظ الحكم الواقعي وهو استصحاب عدم تحقق الموضوع الناقض كملاقاة الدم في المثال وأركان الاستصحاب من اليقين الوجداني بالحدوث والشك في البقاء تامة فيه.

(١) الكرية الاستصحابية الظاهرية بعنوان الكرية الاستصحابية للواقع وإن كان غير محتمل البقاء ولكنه بعنوان الكرية الظاهرية أعني مطلق الحكم الظاهري أو روحه محتمل البقاء والمفروض عدم تبدل الموضوع فيه فيجري الاستصحاب بناءً على جريانه في الحكم الظاهري.

٢٣٥

اقسامه وما يصح إجراء الاستصحاب فيه وما لا يصح ، ومرد البحث في كل ذلك إلى التشكيك في تمامية أركان الاستصحاب من تعلق اليقين والشك بشيء واحد أو ترتب أثر عملي عليه. ومن هنا نورد البحث في جهتين ، تارة في أصل جريان استصحاب الكلي ، وأخرى في اقسامه.

الجهة الأولى ـ في أصل إجراء استصحاب الكلي ، إذ قد يعترض على ذلك في باب الأحكام تارة ، وفي باب الموضوعات أخرى.

اما في باب الأحكام فالاعتراض ينشأ من المبنى القائل بأنَّ المجعول في دليل الاستصحاب هو الحكم المماثل للمستصحب حيث يقال انَّ المستصحب إذا كان هو الجامع بين الوجوب والاستصحاب أو بين وجوبين اقتضى ذلك جعل المماثل له بدليل الاستصحاب وهو باطل لأنَّ الجامع بحده لا يعقل جعله إذ يستحيل وجود الجامع إلاّ ضمن فرده ومع الخصوصية والجامع في ضمن أحد فرديه بالخصوص ليس محطاً للاستصحاب ولا تتم فيه أركانه ليكون مصباً للتعبد الاستصحابي ومشمولاً لدليله.

ومن الواضح انَّ هذا الاعتراض لا يرد بناءً على غير مبنى جعل الحكم المماثل من كونه إبقاءً لليقين وجعلاً للطريقية والعلمية بمقدار الجامع فيكون كالعلم الإجمالي بالجامع أو جعلاً للمنجزية والمعذرية بقدر الجامع أو إبرازاً لشدة اهتمام الشارع بمقداره ، فالإشكال مبني على أَن يكون مفاد دليل التعبد الاستصحابي جعل حكم يماثل الواقع المشكوك حيث يستحيل عندئذ جعل الجامع المماثل من دون جعل الخصوصية وجعله ضمن الخصوصية أكثر من محط الاستصحاب.

وقد يجاب على هذا الاعتراض بأحد وجوه :

الأول ـ ما ذكره المحقق الأصفهاني ( قده ) من انَّ المماثلة بين الحكم الظاهري والواقعي لا يعني بها المماثلة في كل شيء حتى في الملاك والإرادة بل مجرد التماثل في الإنشاء والطلب والوجوب والاستحباب وكذلك الحرمة والكراهة متماثلان في أصل الطلب فيكون جعل طلب الفعل في الجامع بين الاستحباب والوجوب وجعل طلب الترك أو الزجر عن الفعل في الجامع بين الكراهة والحرمة مماثلاً للجامع المشكوك على كل حال.

وفيه : أولاً لو فرض وحدة الطلب والمجعول في الاستصحاب والوجوب فما ذا يقال في

٢٣٦

استصحاب الجامع بين فردين من الوجوب أو الحرمة المختلفين من حيث المتعلق كالجمعة والظهر فانه لا يمكن أَن يجعل وجوب جامع بينهما كما انَّ وجوب الجامع بين الفعلين ليس مماثلاً كما لا يخفى.

وثانياً ـ لو فرض انَّ الوجوب والاستحباب وكذلك الحرمة والكراهة لا يختلفان في مرحلة الإنشاء والجعل وفرض انَّ المماثلة لا يشترط فيها إلاّ المماثلة بحسب مرحلة الجعل لا الملاك والإرادة فكيف يمكن إثبات الوجوب أو الحرمة باستصحابهما في موارد استصحاب الفرد فضلاً عن الكلي فلعل المجعول هو الطلب الاستصحابي أو الكراهة (١).

الثاني ـ أَن نبني على مبنى المحقق العراقي ( قده ) من تعلق العلم الإجمالي بالواقع لا الجامع وانما الإجمال في الصورة فيكون الاستصحاب من استصحاب الفرد بحسب روحه ، غاية الأمر الفرد المبهم المعلوم إجمالاً لا المعلوم تفصيلاً ، وهذا وإن لم يكن علاجاً لاستصحاب كلي الحكم أصوليا إلاّ انه يجري فقهياً في استصحاب الحكم في موارد العلم الإجمالي به.

وفيه : مضافاً إلى بطلان المبنى على ما تقدم في محله انَّ المعلوم بالإجمال ربما لا يكون له تعين حتى واقعاً فيرد المحذور.

الثالث ـ انَّ الكلي وان كان لا يوجد إلاّ ضمن الخصوصية والخصوصية ليست محطاً للاستصحاب الا انَّ الكلي محط للاستصحاب بحسب الفرض فيثبت ولو في ضمن خصوصية من باب الملازمة بين جعل الكلي المماثل وجعل الخصوصية ويكون هذا من لوازم الأمارة وهو دليل حجية الاستصحاب لا الأصل.

وفيه : انَّ دليل الاستصحاب لو كان وارداً في مورد استصحاب الجامع صح مثل هذا الكلام ولكنه ليس كذلك وانما يراد إثباته بإطلاق الخطاب والمفروض انَّ ما هو محط الاستصحاب وواجد لأركانه لا يمكن جعل الحكم المماثل الاستصحابي فيه وما يمكن جعله فيه لا تتم أركان الاستصحاب فيه فلا يشمله الخطاب.

وان شئت قلت : ان إطلاق الخطاب انما يثبت المقدار الممكن من مدلوله ، وما هو

__________________

(١) لو فرض البناء على مسلك المحقق النائيني ( قده ) من انَّ الوجوب والحرمة بحكم العقل عند عدم ثبوت الترخيص في الترك لارتفع هذا الإشكال فانه لو فرض ثبوت الاذن بالترك سابقاً جرى استصحابه أيضا فنثبت الاستصحاب وإلاّ ثبت الوجوب بنفس استصحاب الطلب أو هو مع استصحاب عدم الاذن في الترك.

٢٣٧

ممكن في المقام ليس مدلولا لخطاب الاستصحاب وما هو محطه ومدلوله لا يكون ممكناً فلا يتم الإطلاق.

الرابع ـ أَن يبنى على انَّ موضوع التعبد الاستصحابي ليس هو اليقين بالحدوث بل نفس الحدوث وحيث انَّ حدوث الجامع كان ضمن خصوصيته فيمكن التعبد ببقائه ظاهراً كحكم مماثل للحادث الّذي هو الجامع مع الخصوصية. فالحاصل : إذا كان اليقين موضوعاً للحكم المماثل فحيث انه لا علم بالخصوصية والجامع المعلوم بما هو جامع لا يمكن جعل مماثله فلا يشمله دليل الاستصحاب ، وامّا إذا كان الموضوع واقع الحدوث المعلوم فحيث انَّ الخصوصية موجودة واقعاً فيكون موضوع الحكم المماثل المجعول هو الجامع مع الخصوصية فيمكن جعله ويشمله دليل الاستصحاب لا محالة.

وفيه : انَّ المحذور وان ارتفع بلحاظ اليقين بالحدوث ولكنه يبقى على حاله بلحاظ الشك في البقاء إذ المفروض ان المحتمل بقاؤه انما هو الجامع لا الفرد فانه ربما يكون الفرد مردداً بين مقطوع البقاء ومقطوع الارتفاع ـ كما في استصحاب الكلي من القسم الثاني ـ فانه حينئذ يرد الإشكال بأنه لو أُريد جعل حكم مماثل طبق الفرد فهو غير مشكوك ، وان أُريد جعل جامع مماثل من دون خصوصية فهو غير معقول.

وهكذا يتضح انَّ الإشكال لا جواب عليه بناءً على قبول مبنى جعل الحكم المماثل وانما ينحصر حل الإشكال بإنكار أصل المبنى (١).

وامّا في باب الموضوعات فالاعتراض ينشأ من انَّ الأحكام الشرعية انما تترتب على الكلي بما هو مرآة وحاكٍ عن الخارج لا بما هو مفهوم في الذهن ، والمتحقق في الخارج انّما هو الافراد والمصاديق فلا بد وأَن يرجع الاستصحاب دائماً إلى استصحاب الفرد والمصداق الخارجي ولا معنى لاستصحاب الكلي.

وللإجابة على هذا الاعتراض يمكن أَن نورد تصورات ثلاثة :

التصور الأول ـ أَن يبنى على مسلك الرّجل الهمداني لوجود الكلي في الخارج ، أعني

__________________

(١) لو كان صاحب هذا المسلك يرى انَّ مدلول خطاب الاستصحاب هو جعل الحكم المماثل كان لهذا الإشكال مجال ، واما إذا افترضنا انَّ مدلول الخطاب هو التعبد ببقاء اليقين أو المتيقن في كل ما يكون له أثر عملي واما مسألة جعل الحكم المماثل فهي لمجرد علاج مشكلة الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي وتصحيح إمكان التعبد بغير العلم فسوف يكون الحكم المماثل المجعول في مورد التعبد بمثابة الملاك والإرادة التي لا يشترط تطابقها مع مدلول الخطاب في الخصوصيات ، فتأمل جيداً.

٢٣٨

دعوى التعدد في الواقع الخارجي وانَّ للكلي واقعاً سعياً منحازاً عن واقعيات الافراد تكون نسبته إليها نسبة الأب الواحد إلى الأبناء ، وهي طريقة الرّجل الهمداني في تصور الكلي الطبيعي.

وهذه الإجابة غير صحيحة لما ثبت في محله من انَّ الكلي موجود بعين وجود الافراد وانَّ نسبته إليها نسبة الآباء إلى الأبناء.

التصور الثاني ـ ما يظهر من كلمات المحقق العراقي ( قده ) من انَّ المستصحب في استصحاب الكلي انما هو الحصة ، فانَّ كل مصداق ووجود خارجي للفرد يشتمل على حصة من الكلي لا فرق فيها بين الافراد إلاّ من ناحية تعدد الوجود العيني وعلى مشخصات عرضية ، واستصحاب الكلي عبارة عن استصحاب ذات الحصة ، واستصحاب الفرد عبارة عن استصحاب الحصة مع المشخصات.

وهذه الإجابة أيضاً غير تامة ، فانَّ وجود الحصة غير وجود الكلي بمعنى انه أزيد منه ولهذا قد يكون الأثر مترتباً على الجامع بنحو صرف الوجود من دون دخالة خصوصية هذه الحصة أو تلك فيه.

التصور الثالث ـ انَّ الاستصحاب باعتباره تعبداً وحكماً شرعياً يجري في الجامع بما هو مرآة للخارج ولا معنى لجريانه في الخارج ابتداءً وبلا توسط عنوان من العناوين من دون فرق بين الكلي والجزئي فكما انَّ العنوان التفصيليّ يجري فيه الاستصحاب بما هو مرآة للخارج كذلك العنوان الإجمالي الكلي وهذا يعني انَّ أركان الاستصحاب ومصب التعبد إن تم في الواقع المرئي بعنوان تفصيلي مشير إليه فهذا استصحاب الفرد ، وان كان مصبه الواقع المرئي بعنوان جامع مشير إليه فهذا هو استصحاب الكلي على الرغم من وحدة الواقع المشار إليه بكلا العنوانين في مرحلة الوجود العيني ؛ والّذي يحدد إجراء الاستصحاب بهذا النحو أو بذاك كيفية أخذ الأثر الشرعي في لسان دليله.

وهكذا يتضح الجواب الفني على هذا الاعتراض من دون حاجة إلى دعوى التعدد في الواقع الخارجي أو إرجاع الكلي إلى الحصة ، وسوف يظهر فيما يأتي الثمرات المترتبة على كل واحد من هذه التصورات الثلاثة.

الجهة الثانية : في أقسام استصحاب الكلي ، ويمكن تقسيم الشك في بقاء الكلي إلى قسمين تحت كل قسم منهما توجد حالتان فيكون مجموع الأقسام أربعة. لأنَّ الشك في

٢٣٩

بقاء الكلي تارة لا يكون ناشئاً من جهة الشك في حدوث فرد ، وأخرى يكون من جهة الشك في حدوث الفرد ، وعلى كل من التقديرين تارة يكون الكلي معلوماً ضمن فرد تفصيلاً ، وأخرى يكون معلوماً ضمن أحد فردين إجمالاً. وفيما يلي نستعرض كل قسم من هذه الأقسام الأربعة.

القسم الأول ـ أَن يكون الكلي معلوماً ضمن فرد تفصيلا ويُشك في بقائه ضمن نفس الفرد ، كما لو علم بدخول الإنسان مثلاً ضمن زيد في المسجد وشك في خروجه فيستصحب الكلي إذا كان الأثر الشرعي مترتباً عليه كما يجري استصحاب الفرد إذا كان يترتب عليه الأثر لتمامية أركان الاستصحاب في كل منهما ، واستصحاب الكلي في هذه الحالة جار على كل حال سواء فسرنا استصحاب الكلي وفرقنا بينه وبين استصحاب الفرد على أساس كون المستصحب هو الوجود السعي للكلي على طريقة الرّجل الهمداني ـ التصور الأول ـ أو الحصة ـ التصور الثاني ـ أم الخارج بمقدار مرآتية العنوان الكلي ـ التصور الثالث ـ إذ على كل هذه الوجوه تعتبر أركان الاستصحاب تامة.

القسم الثاني ـ ان يكون الكلي معلوماً إجمالاً ضمن أحد فردين ويشك في بقائه على كلا تقديريه ، كما ذا علم بوجود زيد أو خالد في المسجد ويشك في بقائه سواء كان زيداً أم خالداً. والحديث عن هذا القسم يقع ضمن نقاط :

النقطة الأولى ـ في جريان استصحاب الكلي في هذا القسم على التصورات الثلاثة المتقدمة ، ولا إشكال في جريانه بناء على التصور الأول والثالث لتمامية أركان الاستصحاب من اليقين بالحدوث والشك في البقاء في الكلي بناء على إرجاعه إلى استصحاب الوجود السعي أو استصحاب الواقع بمقدار مرآتية العنوان الإجمالي. واما بناءً على التصور الثاني الّذي كان يرجع استصحاب الكلي إلى استصحاب الحصة فلا يمكن إجراء استصحاب الكلي ، لأنه لا يقين بحدوث أي واحدة من الحصتين وانما يعلم بالجامع بينهما فكيف يجري استصحابها (١) اللهم إلاّ ان تلغى ركنية اليقين

__________________

(١) الحصة من الإنسان الموجودة ضمن زيد أو الموجودة ضمن خالد وان لم يكن هناك يقين بها تفصيلاً إلاّ ان الحصة من الإنسان يعلم بتحققها تفصيلاً في المسجد لأنَّ الحصة لا تزداد على الكلي بقيد مفهومي ، وتمايز الحصص ليس بذلك بل باختلاف طرف الإشارة إلى الوجودات العينية الخارجية فاليقين بحدوث حصة من الإنسان في المسجد تام أيضا.

٢٤٠